الشّيخ بدر الدّين الحسني المحدّث الأكبر علّامة الشّام وشيخ علمائها في عصره

sfghfh1007.jpg

   هو الشيخ العالم المحدث بدر الدين الحسني من أبرز علماء الحديث في بلاد الشام، وهو والد الشيخ تاج الدين الحسني ثاني رئيس لسورية في عهد الاحتلال الفرنسي .

اسمه،وولادته، ونسبه:

هو الشيخ المحدث محمّد بن يوسف بن عبد الرّحمن بن عبد الوهّاب بن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الغني المغربي المراكشي البيباني، وينتهي نسبه إلى الشّيخ الجزولي صاحب كتاب (دلائل الخيرات) الذي ينتهي نسبه إلى سيدنا الحسن سبط النّبي صلّى الله عليه وسلّم.

المولد، والنشأة:

ولد الشّيخ بدر الدّين الحسني رحمه الله تعالى في دمشق سنة 1267هـ، وكانت ولادته في داره الملاصقة لدار الحديث الأشرفية التي كانت مقرّه ومقرّ أئمة الحديث الشّريف من قبله، وولادته هذه من أبوين فاضلين تقيين ورعين.

مشايخه رحمه الله تعالى:

والده الشّيخ يوسف المتوفى سنة 1279هـ، والشّيخ عبد القادر بن صالح بن عبد الرّحيم الخطيب الدّمشقي المتوفى سنة 1288هـ، والشّيخ أبو الخير الخطيب بن الشّيخ عبد القادر الخطيب المتقدم المتوفى سنة 1311هـ، والشّيخ إبراهيم السّقا المصري المتوفّى سنة 1298هـ، وغيرهم.

حياته العلميّة:

انقسمت الحياة العلميّة للشّيخ بدر الدّين إلى ثلاثة أقسام:

القسم الأول:

تعهده والده بالرّعاية والتّهذيب والتّعليم، فتعلّم عليه مبادئ العلوم والكتابة والحساب، وأتمَّ حفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، ثمّ رغب والده في إلحاقه بدار الخلافة في إستانبول للدّراسة العالية ليكون من رجال الدّولة في كبره، ثمّ أحجم عن ذلك، ولما توفّي والده كان له من العمر اثنتا عشرة سنة فتولّت والدته وخاله الشّيخ صالح الكزبري رعايته، ومكث في غرفة والده بدار الحديث، يطالع الكتب الّتي خلَّفها والده بهمّة عظيمة، وحفظ من المتون المختلفة ما يقرب من اثني عشر ألف بيت بتوجيه من شيخه الشّيخ أبي الخير الخطيب رحمه الله تعالى، ثمّ اشتغل بقراءة شروحها وفهمها، يساعده على ذلك ذكاء وقّاد، وحافظة عجيبة، ممّا حدا بأستاذه إلى أن يجيزه في التّدريس العام، ولكن لحداثة سنّه ولأسباب أخرى ترك التّدريس العام وانقطع إلى العلم والعبادة في غرفته بدار الحديث.

القسم الثاني:

اعتزل في غرفته في مدرسة دار الحديث الأشرفية، وأكبّ على المطالعة والحفظ، وأقبل بكلّيّته على علم الحديث، حتّى صار فيه الحجّة البالغة والمرجع الأوحد للعامّ والخاصّ، ودامت خلوته هذه قرابة عشر سنين، حتّى حفظ الصّحيحين بأسانيدهما، وطائفة كبيرة من كتب الأسانيد والسنن.

القسم الثّالث:

وهي من ابتداء درسه في الجامع الأموي، وذلك بعد انتهاء خلوته الّتي أشرنا إليها، شرع الشّيخ في الدّرس العام في جامع السّادات، فقرأ درسا عامّاً عن ظهر قلبه من صحيح البخاري، وقد أعجبت النّاس بفصاحته وعلمه، فلمّا كثر الخلق عليه وضاق بهم الجامع انتقل الى جامع سنان باشا، فكان يقرأ ليلة الجمعة والاثنين من المغرب إلى العشاء، فلمّا ضاق المسجد بالنّاس انتقل الى الجامع الأموي، وابتدأ فيه درسه الأوّل بالحديث الأوّل من صحيح البخاري، فأجاد وأفاد حتّى أخذ بمجامع قلوب السّامعين من ولاة وحكّام وعلماء وخطباء وأدباء وحكماء وعامّة النّاس.

دروسه:

انقسمت دروسه إلى عدّة أنواع:

النّوع الأوّل: كان يدرّس في دار الحديث العلوم الرّياضيّة على اختلاف فروعها، مثل عمليات الحساب، ونظريات الهندسة المسطحة والمجسّمة (الفراغيّة) ومعادلات الجبر، كما كان يدرّس الحديث، والتّفسير وغيرهما من العلوم الشّرعية والعربيّة، وكان يضع إلى جانب المجلدات الضّخمة عدداً من الأشكال الهندسيّة، كالكرة، والأسطوانة، والمخروط، والموشور، وسواها من الأدوات.

النّوع الثّاني: هو درسه في المسجد الأموي تحت قبّة النّسر كلّ يوم جمعة، من بعد صلاة الجمعة إلى العصر، وقد كان هذا الدّرس آية الآيات، وأعجوبة الأعاجيب في تنوّع موضوعاته، وتشعّب أغراضه، وتسلسل أحاديثه، وغزارة مادته، وجليل فوائده، كان الشّيخ يستفتحه بحديث يسرده بسنده ومتنه، ثمّ يشرحه، ويبيّن هدفه وما يستنبط منه من الأحكام، وما يتّصل به من شتَّى الموضوعات، مستنداً في كلّ ما يورده من المعاني والأفكار والأحكام إلى الأحاديث الّتي يعزوها إلى مراجعها، مع ذكر سندها ورواتها، وهو في كلّ ذلك لا يعتمد على ورقة أو كتاب، مع فصاحة وبلاغة وحسن بيان، بصوت جهوري يملأ فضاء الأموي، وتتردد أصداؤه في جنباته، فيسمعه ويعيه سائر مستمعيه، وقد كان الشّيخ يذكر في هذا الدّرس ما يتصل بأحوال النّاس وما يشغل بالهم، وما يرى وجوب تنبيههم إليه، فيجمع في درسه بين العلم والتّوجيه، بأسلوب يفهمه العامّي ويعجب به أهل العلم والاختصاص.

النّوع الثّالث: يكون في داره الواسعة الّتي تُفتح لقاصدي درسه من بعد صلاة المغرب، فيدخلها من شاء، ليجلس أنّى شاء، ثمّ يأتي الشّيخ ويجلس إلى جانب الباب، ولا يسمح بقيام أحد لمجيئه، ثمّ يأمر المعيد بالقراءة، فيقرأ إلى أن يشير إليه الشّيخ بالتّوقّف، أو تشكل على أحد مشكلة، فيقف ليسمعوا جميعاً حلّ الإشكال، بإيجاز أو إسهاب، وربما أفاض الشّيخ في الكلام، وقد تُوجَّه إليه أسئلة كثيرة، فيجيب عليها، وربما أعرض عن بعضها، وخاصة إذا كان خارج الموضوع الذي هو فيه، وربما أجاب بقوله: لا أعلم، وهذا الجواب من أعظم ميّزاتـه، ودليل على تواضعه وصراحته.

نموذج يومه:

لبث سبعين سنة يستيقظ للتهجّد، فيصلّي ما شاء الله أن يصلي، ثمّ يمضي إلى الجامع الأموي فيصلّي الصّبح مع الجماعة، فإذا قضيت الصّلاة عاد إلى غرفته ليتمّ بقية أوراده ثمّ يصلي صلاة الضّحى ثمّ يغفي إغفاءة وبعدها يبدأ دروسه الّتي تمتد إلى المغرب، فإذا صلّى المغرب جماعة أفطر ثمّ جلس للدّرس في بيته ويؤخّر صلاة العشاء لأجله، فإذا صلّاها مع الجماعة ذهب فوراً إلى مضجعه من غير أن يكلّم بعدها أحداً، فينام وهو ذاكر لله تعالى، ثمّ يقوم للتهجّد حتّى يقرب الفجر فيأتي الجامع الأموي فيصلّي فيه الفجر، لا يخالف هذا السّير ولا يتركه، وكان من برامجه تفقد أحوال النّاس، وتقديم ما يستطيع لهم من مساعدة وإعانة لمحتاج أو شفاعة لدى حاكم أو نصيحة له، وترحيب بزائر وصلة للأرحام وعيادة للمرضى ودعوة إلى الله تعالى، وكان يرغب كثيراً في زيارة الطّاعنين في السّن وإن نأت بهم الدّار وبعد بهم المزار طالباً الدّعاء من الجميع.

أخلاقه وصفاته:

كان رحمه الله تعالى له الباع الطّويل والقدم الرّاسخة في كافّة العلوم، وكان مع ذلك عظيماً في تواضعه، لا يرى لنفسه فضلاً على أحد، في علم أو صلاح أو غير ذلك، وكان يقول: (التّواضع أن ترى نفسك دون كلّ جليس) وكان لا يسمح لأحد أن يقبّل يده، وكان كريم النّفس حسن الأخلاق سهل المقابلة ليّن الجانب، لم يكن يشتم رجلاً أو يغتابه، ولم يكن يدع أحداً يغتاب في مجلسه، وكان غاية تأنيبه إذا غضب أن يقول: (يابا -وكانت تلك كلمته -لماذا أنتم هكذا؟) وكان مع أهله كما قال الرّسول العظيم صلّى الله عليه وسلّم: «خيركم خيركم لأهله» يرشدهم برفق ولين، ويأكل ممّا يشتهون، ويوسّع عليهم، ويلبّي رغباتهم، وإذا غضب لشيء قطّب جبينه، وبيّن رأي الشّرع في ذلك الأمر، دون ضرب أو شتم، أو صياح.

وكان رحمه الله تعالى صاحب ورع كبير، ومن ورعه عدم الفتيا بل يحيلها على أحد العلماء في مدرسته أو على المفتي العام، وإذا ثمّة مسألة مشكلة ولم يفد أحد عنها من أهل العلم أمر أحد طلّابه أن يكتب جوابها وهو يملي على الكاتب عن ظهر قلب مع استيفاء أدلّتها، وقد يحيل بعض ما في المسألة إلى محالّها فيقول: هي في كتاب كذا في صفحة كذا، ومن ورعه: لا يؤم في صلاة، ومن ورعه: أنّه إذا كان في المسجد لا يكلّم أحداً فيه، ومن ورعه: أنّه كان يكره أن يقرأ التّلميذ أمامه عبارة رد بعض العلماء على غيرهم بما يفهم التّنقيص كقولهم: (ذكر فلان كذا وقد أخطأ) بل يقول: (انظر إليها ولا تقرأها) وكان رحمه الله صاحب رحمة كبيرة بخلق الله تعالى، فقد كان يتوجّه لزيارة الفقراء ويزور مدارس الأولاد الصّغار، ويطلب الدّعاء منهم ومن معلميهم، ويمسح رؤوس الأيتام منهم، ويأتي السّجون فيسلّم عليهم وينصحهم ويتلطّف معهم ويطلب دعاءهم، وكان رحمه الله تعالى كثير الصّوم وكثير الذّكر فلا يفتر لسانه عن ذكر الله والصّلاة على النّبي صلّى الله عليه وسلّم، وكان لا يرفع لقمة الى فيه إلّا قال: (بسم الله) ولا أساغها إلّا قال: (الحمد الله) متمسّكاً بكافّة السّنن المحمّدية، مصلّياً أوقاته كلّها مع الجماعة، مكثراً لتلاوة كتاب الله تعالى، وكان عظيم الاعتناء بالمواظبة على جميع السّنن الرّواتب والوتر والضّحى وصلاة التّسابيح ونحوها من سائر النوافل.

مكانته:

احتلّ الشّيخ مكانة عالية لدى العامّة والخاصّة من المشايخ والعلماء والوجهاء، وكانت له هيبة في نفوس الحكّام، فكانوا يقبلون عليه وهو زاهد بهم، لا يسعى إليهم، ولا يرغب في زيارتهم إيّاه، وإذا دعوه ليكرموه اعتذر وأبى، وكان يكاتب الملوك والأمراء والحكّام في سائر الأقطار العربيّة والإسلاميّة، يحثّهم على العدل، وإحقاق الحقّ، ويبيّن لهم سوء العاقبة بترك الشريعة، واتّباع الأهواء، والظّلم.

شهادة العلماء فيه:

كثيراً ما كان يحضر دروسه أجلّة علماء دمشق، ومَن يزورها من علماء الأقطار الإسلاميّة الأخرى، فكانوا يخرجون معجبين به:

قال الشّيخ رشيد رضا من علماء الأزهر يصف درس الشّيخ بدر الدّين:(إنّه دائرة معارف).

قال الشّيخ محمود العطّار أحد كبار علماء دمشق وتلميذ الشّيخ: (لو كُتب درسه بالحرف الواحد لبلغ جزءً لطيفاً بلا شك).

قال الشّيخ محمّد بخيت مفتي مصر عن الشّيخ بدر الدّين: (لو كان عندنا في مصر لم تحمله العلماء إلّا فوق رؤوسهم).

وقال السّيد الكتّاني المغربي عنه: (إنّه منذ خمسمائة سنة لم يوجد له نظير.)

وقال المحدث الكبير الشّيخ عبد الواسع اليماني عنه: (السّيد العلّامة المحدّث علّامة الدّنيا، إمام التّحقيق والتّدقيق، وروح جسم العبادة وحليف التّقوى والزّهادة، لقد سمعت المدرّسين والوعّاظ في بلدان كثيرة، فما رأيت مثله قطّ، محققاً في جميع العلوم العقليّة والنّقليّة).

قال الشّيخ محمّد عبد الجواد القاياني المصري عنه: (الشيخ بدر الدّين بن الشّيخ يوسف المغربي هو من نوادر هذا الزّمان).

وقال عنه شيخ الإسلام في الأستانة موسى كاظم أفندي: (إنّه قطب العالم الإسلامي).

قال عنه الشّيخ عليّ الطّنطاوي رحمه الله: (آخر علماء السّلف الصّالح رضي الله عنهم، سرّ قوّة دمشق، رمز العصور الذّهبية الأولى، وصفحة حيّة من تاريخ المجد الإسلامي، نسيج وحده في هذا العصر، وآية من آيات الله قامت في هذه الأيّام المظلمة لتنيرها بنور الصّدر الأول، كما ينير البدر اللّيل الدّاجي بنور الشّمس المشرقة، ولكن ذاك بدر الدّنيا، وهذا (بدر الدّين)!

من كراماته:

إنّ أعظم الكرامات وأجلّها هي الاستقامة على الشّريعة، ولو لم يكن للشّيخ شيء من الكرامات إلّا كرامة استقامته على الشّريعة وحفظ مجالسه حتّى من لغو الكلام لكفاه، وينقل لنا الشّيخ محمود الرنكوسي رحمه الله الكثير من كرامات الشّيخ بدر الدين الحسني رحمه الله ومنها أنّ الشيخ كان يقول لهم: أتسمعون ردّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في التّشهد حينما تقولون: السّلام عليك أيّها النّبيّ ورحمة الله وبركاته؟

فقال الشّيخ محمود: وهل أحد يسمع ذلك!؟

فيجيب: (هناك أناس لو غاب عنهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لحظة لماتوا).

ويقول الشّيخ محمود: كنت مع آخرين نقرأ شرح الرضي على الكافية في النّحو: فقال لي بعض الأساتذة قل للشّيخ هذا الكتاب طويل ولا ينتهي فليبدله لنا بغيره أخصر-وإنما قال لي: قل للشيخ، لأنّني كنت أصغرهم سناً ولي دالة عليه-فقلت له: يا مولانا هذا الكتاب نموت ولا ينتهي، لو بدلته لنا بغيره، فقال: من قال لك هذا؟ فقلت: فلاناً، فأجاب بقوله: ((أنا آخر من يُقرىء هذا الكتاب في الدّنيا، وأنت يا محمود آخر من يتمّه علي)) وقد صدق الشّيخ في كلامه فأنا الوحيد الّذي أتممت قراءة هذا الكتاب على الشّيخ في مدّة أربع سنوات.

من تلاميذه:

أمّا تلاميذه، فيتعذّر إحصاء مشاهيرهم فضلاً عن جميعهم ونذكر منهم: الشّيخ عبد القادر القصّاب، الشّيخ طاهر الأتاسي، والشّيخ محمد المبارك، ومسند حلب الشّيخ محمّد كامل الهبراوي، والشّيخ محمّد رضا الزّعيم، والشّيخ محمّد راغب الطّباخ، والشّيخ محمّد بن جعفر الكتّاني الكبير، والشّيخ جمال الدّين القاسمي، والشّيخ عليّ الدّقر، والشّيخ هاشم الخطيب، والشّيخ محمود العطّار، والشّيخ أمين سويد، والشّيخ بهجة البيطار والشّيخ محمود الرّنكوسي، والشّيخ عبد الرّزّاق الحمصي، والشّيخ حسن حبنكة الميداني، والشّيخ مكي الكتّاني والشّيخ عبد الكريم الرّفاعي وغيرهم كثير رحمهم الله تعالى.

مؤلّفاته:

يقول عنه الزّركلي في الأعلام: " كان يأبى الإفتاء ولا يرغب في التّصنيف، فلم نعرف له غير رسالتين مطبوعتين:

إحداهما في سنده لصحيح البخاري، والثّانية في شرح قصيدة (غرامي صحيح) في مصطلح الحديث، وله ثالثة مخطوطة سمّاها (الدّرر البهية في شرح المنظومة البيقونيّة) خ في خزانة الرّباط (1295 كتاني) جاء اسمه عليها (محمّد بدر الدّين بن يوسف بن بدر الدّين) -وقد طبع هذا الكتاب- ويقول من قرأوا عليه مدّة طويلة: إنّه ألّف نحو أربعين كتاباً قبل أن يبلغ الثّلاثين من عمره، ولا أعلم أين ذهبت! كتبتُ إلى السّيّد محمّد سعيد الحمزاوي، نقيب الأشراف في دمشق، أسأله في تأليف الشّيخ بدر الدّين، فبعث إليّ بقصيدة من نظم الشّيخ طاهر الأتاسي، يمدح فيها الشّيخ، ويذكر كتبه منها:

له تـآلـيـف فـي نـهـج الـهـدايـة قـد     أضحت من الفضل تتلو أبلغ السّور

عـلـى الـجلالين في التفسير حاشية   أرقّ من دمع صب لـج في السّـحر

ومـعـرب جـاء لـلـقــرآن، تــبـيـنـة       عـلـيـك فـيـه ولـيـس الـخـبر كالخبر

ثمّ يعدّد من تآليفه:

(شرح البخاري) و(شرح الشّمائل) و(شرح الشّفا) و(شرح البيقونيّة) في المصطلح، وحاشية على (شرح مختصر ابن الحاجب) في الأصول، وحاشية على (عقائد النسفي)، وشرح (نظم السنوسية) وشرح (الخلاصة) في الحساب، وحواشي على شرح الشّذور والقطر والجامي في النحو، و(شرح مغني اللبيب) و (شرح لامية الأفعال)، و(شرح السلَّم) في المنطق، و(حاشية على المطول) وكتباً أخرى."

من أسرار نجاح الشّيخ:

الفضل أوّلاً وأخيراً من الله تعالى، وقد جعل الله لكلّ شيء سبباً، ومن أسباب نجاح الشيخ بدر الدّين رحمه الله تعالىإيمانه العظيم وحسن ظنّه بالله تعالى، ومراقبته له في كلّ أمر من أموره.

همّته العالية وتنظيمه الدّقيق فكان يداوم على جميع ما يفعله بنظام دقيق وكأنّه ساعة لا تتوقف فقد لبث سبعين سنة على خطة معروفة وسُنّة مألوفة، ما تبدّلت يوماً ولا تغيّرت، إلّا لمرض مقعد، أو أمر قاهر، أو سفر لازم، فهو منظم؛ ينظّم عمله، ويرتّب أوقاته، فلا يغيّر منها شيئاً، ولا يقدّم ولا يؤخّر، فكان من الممكن معرفة الوقت الّذي يمّر به من الطّريق الفلاني، والوقت الّذي ينزل فيه من غرفته في أثناء النّهار، وهكذا سائر أعماله وأوقاته.

خدمته للخلق، والسّعي في حاجات النّاس، واهتمامه بالشّأن العام، وكان يقول:(قضاء حاجات النّاس لا يجوز التّأخّر فيها).

تواضعه:

لا يرى لنفسه فضلاً على أحد في علم أو خلق، وكان يقول «أقرب أبواب الوصول إلى الله: التواضع» و «من رأى نفسه خيراً من أحد، فليس بمتخلّص من الكِبْر».

جهاده:

عاصر الشّيخ أواخر العهد العثماني، وعندما تغلّب الفرنسيون على البلاد، واحتلوها، أعلن الشّيخ الجهاد المقدّس، حتّى جلاء آخر جندي فرنسي عن البلاد، وحضّ النّاس على عدم دفع الضّرائب للفرنسيين، وعدم التّعامل معهم، وكان يعلن في دروسه العامّة فضلاً عن الخاصّة أنّ الجهاد صار فرض عين على كلّ من يستطيع حمل السّلاح واستعماله.

واجتمع الشّيخ بعلماء الشّام وتمّ التّنسيق معهم على أمر الثّورة على الفرنسيين وقد ذكر ذلك الشّيخ محمود الرّنكوسي فقال: "وممّا حدّثني به الشّيخ يوسف حيدر (مفتي القلمون) أنّه قال: أرسل إليّ الشّيخ بدر الدّين بأن أحضر إلى دمشق إلى مدرسة دار الحديث النّبوي الشّريف الّتي هي مقرّ الشّيخ فحضرت، وإذا بالمدرسة جميع مفاتي سوريا، فجعل يسأل بعضنا بعضاً أتدري لماذا طلبنا الشّيخ؟ فيقول كلّ للآخر لا أدري! ثمّ دعا الشّيخ كلّ مفت منّا إلى غرفته على انفراد، ولمّا دعاني قال لي: يا شيخ يوسف، كم عدد الفرنسيين في جبل القلمون عندكم؟

فقلت له: لا يتجاوزون المئة، فقال: كم عدد نفوس الجبل عندكم؟ فقلت له: كثير يتجاوزون المئة ألف، فقال الشّيخ: هذا العدد الكثير ألا يستطيع قتل الفرنسيين المئة الّذين عندكم! ثمّ قال لي: أيّ مكان عندكم يصلح لقيام الثّوار فيه؟ فجعلت أذكر له بعض الأمكنة، والشّيخ لا يرضى بها، ويقول لي: لا تصلح، ثمّ شرع الشّيخ يصف لي جبلاً هناك، وقال بأنّه يصلح لهذا الغرض، وكأنّ الشّيخ قد عاش في ذلك المكان ويعرفه أكثر منّي ومن أهل يبرود."

وسافر الشّيخ في حملة «جهاديّة ضد الفرنسيين»، وجاب الولايات الشّامية من الشمال إلى الجنوب، ومن الغرب إلى الشّرق، برفقة تلميذيه العالمين القديرين الشّيخ عليّ الدّقر، والشّيخ هاشم الخطيب، داعياً إلى الثّورة على الاحتلال ومحرّضاً على الجهاد والقتال، بحماس منقطع النّظير، فما لبث أن اندلعت الثّورة السّورية الكبرى، والّتي اعتبر منذ ذلك الوقت أباها.

كان الشّيخ كثير الاهتمام بالثّورة والمجاهدين، ودائم الاتّصال بزعمائهم، إذ كان المجاهدان حسن الخرَّاط، والشّيخ محمّد الأشمر (من أشهر قادة المجاهدين) يأتيان كلّ صباح قبيل الفجر ليقابلا الشّيخ بدار الحديث، فيوجّههما التّوجيه المفيد، ويربط قلبيهما بالله، فيزدادان ثقة بالله واتّكالاً عليه، وكان الشّيخ يمدّهما بالذّخيرة والمؤن، وما يحتاجان إليه عن طريق بعض طلّابه المخلصين، وقد جعل الشّيخ من يكون همزة وصل بينه وبين الثّوار فيقدّم له بياناً يوميّاً عن الثّورة ومعارك الثّوار.كانت رمزيّة الشّيخ بدر الدّين وحضوره عند الثّوار عظيماً، ومن ذلك كانت المحكمة العسكرية الّتي يقيمها حسن الخرّاط من علماء مجاهدين لكي يقضي بالشريعة يُصدِّر حكمها باسم إمام المسلمين المحدِّث الشّيخ محمّد بدر الدّين الحسني.أثارت دعوة الشّيخ للجهاد نقمة الفرنسيين، فجاؤوا إلى دار الحديث ممثَّلين بالمندوب السّامي الفرنسي ليثنوه عن دعوته، فقال الشّيخ له: لا تهدأ هذه الثّورة إلاّ بخروجكم. فغضب المندوب السّامي وخرج.

وصيّته قبل الوفاة:

توفي الشّيخ مريضاً قبل أن يتمّ طرد آخر جندي فرنسي محتلّ من سوريا وقبل أن يكحل عينه بيوم الجلاء.

وقبيل وفاته حضر علماء الشّام ومحبّوه إلى بيت الشّيخ، فأوصاهم قائلاً:«السّلام على أمّة النّبي صلّى الله عليه وسلّم، ونستغفر الله ما صدر منّا حال وجودنا في الدّنيا مع الأمّة الإسلامية من التّقصير في حقّهم والإساءة إليهم، بل في حقّ عموم الخلق، ونسأل الله أن يستعملهم فيما يرضيه، ويصرف عنهم كيد الأشرار والفجار، ونستودعهم الله عزّ وجلّ في دينهم ودنياهم، ونسأل الله تعالى أن يعينهم على أمر دينهم ودنياهم، ونسأل الله تعالى أن يعينهم على أمر دينهم الذي فيه صلاحهم، وعلى دنياهم الّتي فيها معاشهم، وعلى آخرتهم التي فيها معادهم ومصيرهم، وأوصيهم بالانكباب على طلب العلم لصيانته من الضّياع، واحترام العلماء، والسّلام على أهل السّلام وكافة النّاس من أوّلهم إلى آخرهم».

وفاته رحمه الله تعالى:

بعد أن صلّى الشّيخ صلاة الضّحى، وفي السّاعة التّاسعة صباح يوم الجمعة توفي رحمه الله تعالى، وكان ذلك في 27 من شهر ربيع الأوّل سنة 1354هـ الموافق 28 من شهر حزيران سنة 1935م وقد أعلن المؤذنون وفاته بجميع المآذن فارتاعت المدينة ارتياعاً عجيباً، وحزنت حزناً شديداً على وفاته، وأقبلت النّاس إلى بيت الشّيخ وكانت الطرق تعجّ بهم، ثم خرجت جنازته إلى الجامع الأموي، وتعددت الصّلاة عليه لكثرة النّاس، ثمّ دفن في مقبرة الباب الصّغير رحمه الله تعالى.

(1267- 1354 هـ)

بدر الدين الحسني الشافعي الأشعري، هو محمد بدر الدين بن يوسف بن بدر الدين بن عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن عبد الله بن عبد الملك بن عبد الغني الحسني، المغربي، المراكشي، السبتي من ذرية الشيخ الجزولي.

ولادته:

ولد بدر الدين الحسني في دمشق سنة 1267هـ الموافق لـ لسنة 1850 م، وكانت ولادته في داره الملاصقة لدار الحديث الأشرفية التي كانت مقره ومقر علماء الحديث، وولادته هذه من أبوين فاضلين.

فوالدته السيدة عائشة بنت إبراهيم الشهير بالكزبري هي من عوائل دمشق المعروفة بالعلم، خصوصًا علم الحديث الشريف الذي انتهت رئاسته إليها، وهي عائلة آل الكزبري، وقد اعتنت رحمها الله بولدها، وسلمته إلى شيوخ العصر، ومن اعتنائها به أنها كانت لاترضعه إلا وهي على طهارة كاملة وكانت في شهر رمضان لاترضعه نهارًا. وقد رأت أمه رسول الله ﷺ وقد وضع تمرة في فمه فاستيقظت من منامها والتمرة في فمه يمضغها.

ووالده هو الشيخ يوسف بن الشيخ بدر الدين المراكشي السبتي الحسني الشافعي مذهبًا الدمشقي وفاة ينتهي نسبه إلى الولي الشيخ عبد العزيز التباع أستاذ الولي الشيخ الجزولي، والشيخ عبد العزيز المذكور ينتهي نسبه إلى الحسن السبط، والشيخ يوسف المذكور هاجر من مراكش إلى مصر ودخل الجامع الأزهر وأخذ عن الشيخ حسن العطار والشيخ الصاوي والفضالي والأمير الصغير والشيخ فتح الله وغيرهم من مشايخ العصر. ومن رفاقه في طلب العلم العلامة الأشموني والباجوري وغيرهما وأجيز من الشيخ المحدث عبد الرحمن الكزبري الدمشقي وله ما ينوف عن ماية مؤلف في سائر الفنون خصوصا الأدب.

نشأ في حجر والده وقد أتم حفظ القرآن الكريم وتعلم الكتابة وهو ابن سبع سنين ثم أخذ في مبادئ العلوم، ولما توفي والده كان له من العمر اثنتا عشرة سنة فجلس في غرفة والده في دار الحديث الأشرفية يطالع الكتب ويحفظ المتون بأنواع الفنون وقد حفظ عشرين ألف بيت من متون العلم المختلفة، وكان الإمام يحفظ غيبًا صحيحي البخاري ومسلم بأسانيدهما وموطأ مالك ومسند أحمد وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي وابن ماجه وكان يحفظ أسماء رجال الحديث وماقيل فيهم من جرح وتعديل ويحفظ سني وفاتهم ويجيبك عما شئت منها.

مذهبه الفقهي:

كان شافعي المذهب كأبيه. وقد صرح بذلك في قصة مشهورة نقل عنه تلاميذه أنه ترك القصر في سفر قائلا أنه شافعي وفي مذهب إمامه أبي عبد الله الشافعي السفر الذي تقصر فيه الصلاة هو سفر الطاعة لا سفر المعصية، وأنه ليس سفر طاعة بسبب دين عليه. «كان لا يقصر وإنما يُتم الصلاة، فيُصلي الظهر أربعاً والعصر أربعاً والعشاء أربعاً ولا يقصر، فقال تلاميذه الذين رافقوه «فنقول له يا مولانا أليس مذهبك القصر؟»، يقول «بلى»، فيقولون له «إذن لماذا لا تفعل؟ أليس الأحب إلى الله أن تقصر؟» فيقول «بلى، ولكن أنا شافعي وفي مذهب إمامي أبي عبد الله الشافعي السفر الذي تُقصَر فيه الصلاة سفر الطاعة لا سفر المعصية»، فقالوا «يا مولانا وأنت في معصية؟»، أي إلى أين تذهب أنت؟ هل أنت في معصية؟ فقال «أنا مدين يا باه، أنا ما زال علىّ دَين ولم أُسدِّد كامل ديني يا باه، فهذا السفر ليس سفر طاعة»، ويُتِم الصلاة، الله أكبر، أرأيتم الورع الصادق؟ أرأيتم كيف تُستخدَم الشريعة في تهذيب النفس وزمها وخطمها والتضييق عليها، ولا تُوظَّف الشريعة للتلاعب لإنجاز الأهواء والأميال النفسانية وتغوّل حقوق الناس الأدبية والمعنوية والمادية؟!»

مؤلفاته:

ومؤلفاته تنوف الأربعين، ولم يجاوز العشرين من عمره وله الباع الطويل والقدم الراسخة في كافة العلوم حتى الرياضيات العالية، والحكمة، والفلسفة، والطب، والهيئة، والجغرافية، والهندسة، وكان إذا ذكر حديثًا جلس ساعة يتكلم في شرحه وما يستنبط منه حتى يقول الحاضرون لم يبق شيء يستنبط من هذا الحديث، ثم يقول الشيخ: ويؤخذ من هذا الحديث كذا وكذا ويؤخذ منه كذا وكذا الخ.

وفي يوم الجمعة يجلس بعد صلاتها إلى صلاة العصر في شرح حديث واحد في جامع بني أمية وكان يقرئ الطلاب في الجامع الأموي النحو، والصرف، والبلاغة، والمنطق، والفقه، وغيرها. وكان يقرئ تفسير البيضاوي عن ظهر قلبه بدون أن يحمل كراسة، ولما أحس أنه قد ألم بنفوس العلماء بعض القلق حيث أقبل الناس على درسه، اعتزل في غرفته في مدرسة دار الحديث الأشرفية ولم يخرج منها مدة عشر سنين وكان يصلي الجمعة في حجرته الملاصقة للمسجد من جهة الشرق وكان في حجرته نافذة إلى بيته يذهب ويأتي منها وفي مدة اعتزاله أكب على المطالعة والحفظ وأقبل بكليته على علم الحديث حتى صار فيه الحجة البالغة والمرجع الأوحد للعام والخاص.

ولما جاوز الثلاثين من عمره شرع في الدرس العام في جامع السادات بدلا من درسه السابق في مسجد بني أمية إرضاءً للمدرسين فيه، فقرأ درسا عاما عن ظهر قلبه من صحيح البخاري وقد أعجبت الناس فصاحته وتكلم على الحديث الواحد من علوم شتى لم تعرف بديار الشام كالحكمة والطب والرياضيات وغيرهما فلما كثر الخلق عليه وضاق بهم الجامع انتقل إلى جامع سنان باشا فكان يقرأ ليلة الجمعة والأثنين من المغرب إلى العشاء، فلما ضاق المسجد بالناس انتقل إلى الجامع الأموي وابتدأ فيه درسه الأول بالحديث الأول من صحيح البخاري فأجاد وأفاد حتى أخذ بمجامع قلوب السامعين من ولاة وحكام وعلماء وخطباء وأدباء وحكماء وعامة الناس، وذلك في سنة 1292هـ فما رأى الناس مثل هذا الدرس، وقد ذكر سند الحديث العالي ومشايخه وأتى على مقدمة قيمة في علم الحديث ولم يترك علما من العلوم المعقولة والمنقولة إلا وذكر شيئا منها ثم ختم الدرس بالدعاء بإصلاح الأمة والتوفيق لولاة الأمور وذلك بنظم سلس من إنشائه وارتجاله ثم داوم بعد ذلك على هذا الدرس في كل يوم جمعة من بعد صلاتها إلى أذان العصر فيقرأ حديثا من صحيح البخاري بسنده المتصل ويبين مابني عليه من الأحكام الشرعية على اختلاف مذاهب المجتهدين مع مأخذهم وأدلتهم ويرجح الأقوى منها ويأتي بما يناسب المقام من سائر العلوم وقد تبلغ الأحاديث التي يذكرها استشهادا لحديث الباب منه مئة حديث ويذكر تلك الأحاديث بأسانيدها المتصلة ويقرر المسألة الواحدة على المذاهب الأربعة مع أدلتها ويطبق عليها علم الأصول وآداب البحث والبلاغة والتفسير والتوحيد والآلات كلها حتى الحكمة والفلسفة والطب والهيئة والهندسة. وكثيرا ما يحضر درسه من لهم اختصاص بالطب والرياضيات فيذعنون للأستاذ بأنه صاحب اليد العليا في هذه الفنون ويقولون أفنينا العمر وما وصلنا إلى ما وصل اليه الأستاذ، وكثيرًا ما يحضر درسه الحكام والقضاة وغيرهم فيجلسون إلى جانبه والناس حوله والواقفون أكثر من الجالسين وصوت الأستاذ يبلغ الجميع يهدر هدير الحمام وهو لايتوقف ولايتلعثم في حديث أو تمثيل أو عبارة مع حسن الإلقاء وكلما أطال الدرس أجاد، وينتقل من البحث الذي هو فيه إلى بحث آخر بأدنى مناسبة ويلتفت إلى الحاضرين بوجهه وهم طبقات شتى يذكر الأحاديث المخوفة ويشدد الأمر عليهم خصوصا ولاة الأمور حتى يبكيهم، ثم يعود بالمناسبة ويذكر الأحاديث الدالة على الرجاء وثواب من يتولى أمور الخلق فيعدل بينهم ويقوم بالحق ويؤدي الأمانات إلى أهلها، وهكذا شأنه، الترغيب والترهيب، شأن الأطباء الذين يجسون النبض ويضعون العلاج بحيث لايمل السامع من حديثه ووعظه مهما طال ثم يختم درسه بالحديث المبدوء به مع انسجام غريب يحير الألباب وقد يذكر حديثا من المسلسلات باسناده ورجاله وربما تزيد عن الثلاثين ولو كتب درسه الواحد بالحرف لبلغ جزءا لطيفا بلا شك ولا ريب، وكان أكثر طلابه ومستمعيه يكتب بسرعة الأحاديث التي يذكرها بالمناسبات وإذا فاتهم شيء من ذلك يتمونها منه خارج الدرس.

ومع هذه السرعة يفهم الحاضرون كلامه حتى العامة منهم وينقلون كلامه إلى البيوت وإلى الشوارع وما ذلك إلا بسبب إخلاص المربي الكبير. وهكذا نشر علمه بين الناس فبمثل هذا فليعمل العاملون.

وفاته:

توفي الشيخ بدر الدين الحسني يوم الجمعة الواقع في 27 ربيع الأول سنة 1354هـ الموافق لسنة 1935 م في دمشق وقد دفن في مقبرة الباب الصغير، وخرج نعشه مجللا بغطاء إبيض بسيط ـ حسب وصيته ـ ومشت دمشق وراءه بموكب رسمي وشعبي، فصلي عليه في الجامع الأموي في الساعة الرابعة والنصف، وصلي عليه غير مرة، ثم قرئت وصيته، ولم يصل الموكب إلى مقبرة الباب الصغير إلا في الساعة السابعة مساء لشدة الزحام.

تلاميذه:

وبقي من تلامذته ومجازيه شيوخ معمرون كالشيخ محمد سليم حمامي الميداني، والشيخ محمد فؤاد طه.

ومن أشهر حاملي إجازة الشيخ بدر الدين: الشيخ مكي الكتاني، وعبد الكريم الرفاعي، ومحمد صالح الفرفور، والشيخ محمود بن محمد السيد الحسني الحنبلي ومحمد حسن حبنكة، ومحمد سعيد برهاني، و(محمود الشقفة الحموي)، و(عبد الحكيم كفتارو) كما ورد في «موسوعة الأسر الدمشقية» للدكتور محمد شريف الصواف، المدير العام لمجمع الشيخ أحمد كفتارو بدمشق، حيث نشر صورة عن الإجازة البدرية الممنوحة للشيخ (عبد الحكيم ابن الشيخ محمد صالح كفتارو).

مجلة الرسالة - العدد 105

ومن تلاميذه: الشيخ محمود الرنكوسي الذي كتب رسالة عنه.

ومنهم الأستاذ محمد عبد القادر المبارك عميد كلية الشريعة في جامعة دمشق.

مات الشيخ بدر الدين!

بتاريخ: 08 - 07 - 1935

كتب الأستاذ على الطنطاوي مقالة عن وفاة الشيخ الحسني نشرها في مجلة الرسالة، وهي منشورة في كتابه رجال من التاريخ:

اليوم انقطعت رواية الحديث:

قال رسول الله ﷺ:

إن الله لا يقبض العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يبق عالماً اتخذ الناس رؤساء جهالا، فسئلوا فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا

أخرجه البخاري ومسلم والترمذي

كان أقل مزايا الشيخ بدر الدين الحسني أنه يحفظ صحيحي البخاري ومسلم بأسانيدهما، وموطأ مالك، ومسند أحمد، وسنن الترمذي وأبي داود والنسائي وأبن ماجة، ويروي لك منها ما تشاء كأنه ينظر في كتاب؛ وأنه يحفظ أسماء رجال الحديث وما قيل فيهم، وسني وفاتهم، ويجيبك عما شئته منها، وأنه يحفظ عشرين ألف بيت من متون العلوم المختلفة كالألفية والزبد والشاطبية والطيبة الخ. . . وأنه ألف نحواً من خمسين مؤلفاً قبل أن يتجاوز عمره الثلاثين؛ وأن له إطلاعاً في كافة العلوم حتى الرضيات العالية فقد أقرأها لطلاب شعبة الرياضيات في المدرسة التجهيزية فأدهشهم وأدهش بإطلاعه معلميهم؛ وأنه ما انقطع عن الدرس والتدريس يوماً واحداً منذ سبعين سنة على زهادة عجيبة، وورع نادر، وترفع عن الدنيا ولذاذاتها مع الغنى الواسع والمال الكثير، وهو على الجملة آخر علماء السلف الصالح رضي الله عنهم

مر على دمشق في هذه السنين العشرين، من جليل الحوادث وفادح الخطوب، ما لو مر على الشامخات الرواسي لجعلها دكاً، أو وقع على الجلاميد الصم لصيرها هباء. فأعدت له الإيمان الذي لا يزلزله رزء، والثبات الذي لا تزيله مصيبة، وصبرت عليه (صبر العظيم على العظيم). . . . حتى تعودت مس الضر، وألفت قوارع الدهر

(وصارت أن أصابتها) سهام ... تكسرت النِّصال على النصال

وغدا أبناؤها لطول ما رأوا من البلاء، وما راضوا نفوسهم عليه من الصبر، لا يألمون لمصيبة، ولا يجزعون لنائبة، ويهتفون بالزمان كلما تعب من مساءتهم، فأقلع عن إيذائهم:

إن كان عندك يا زمان مصيبة ... مما تسوء به الكرام فهاته نكبت دمشق الحرب، فقلت الأقوات، حتى أكل الناس العشب. . . وباد الرجال: من لم يمت منهم برصاص الإنكليز والفرنسيين، ومن لم يمت من الجوع، مات على مشانق جمال باشا، حتى لم يبقى في دمشق إلا شيوخ ركع، ونساء جوع، وأطفال رضع. . .

فشيعت دمشق من مات، وحدبت على من بقى، ما خارت ولا جزعت. . . (وصبرت دمشق)!

ثم كانت (ميسلون) فذبح (العمروط الأفاق) رب البيت، واستباح الحمى، وأراد أن يعدو على سليلة الشرف، وبنت الأكرمين، فصدته أروع صد، فأتى على الديار فجعلها حصيداً، كأن لم تغن بالأمس؛ وعادت دمشق من ميسلون، فإذا كل شيء قد انهار، وإذا الدار قواء، كأنما لم يشد فيها ملك، ولم تقم فيها دولة، ولم يكن لها استقلال. . .

فدفنت دمشق بيدها أبناءها، وأقسمت على قبورهم (القسم الأحمر) وما بكت ولا شكت. . . (وصبرت دمشق)!

ثم كانت الثورة فهبت دمشق تعلن في أبنائها بأن قد جاء (الامتحان الأول) فاروني ماذا حفظتم من الدرس. . .

وكان الامتحان في دق الباب

فدقه الأبطال من أبناء دمشق دقاً ضوضى على جوانب السين، فثار الناس فزعون يقولون: ماذا؟

قيل: بردى يشتعل!. . . قالوا: أطفئوه بالنار!

فكانت المعركة بين الماء والنار. . . بين الدم والحديد. . . فرد الفتية العزل الجيش اللجب، فوقف سنتين دون نهر تورا لا يجتازه، وما عرضه بأكثر من (ستة أمتار)

ثم انتهى الامتحان، فدفنت دمشق أبناءها، وقامت دمشق المفجوعة على أنقاض دمشق المحرقة المهدمة فجددت القسم، وكانت ميسلون فصارتا ميسلون والغوطة. . . . . . (وصبرت دمشق)!

ثم كان يوم (20) كانون، فأعلنت دمشق أن قد جاء الامتحان الثاني، وكان الامتحان في فتح الصندوق

فقالت القوة: لا! وقال الحق: نعم! فكانت المعركة بين القوة والحق، فانتصرت نعم، وكسر الصندوق، ودفنت دمشق أبناءها، وجددت القسم، وصرن ثلاثة: ميسلون والغوطة والمرجة! (وصبرت دمشق)!

صبرت دمشق، ولم تجزع ولم تضطرب، ولم تقلقها هذه الحادثات ولم تبكها؛ ولكن كلمة واحدة سرت أمس في دمشق، فتقلقلت لها دمشق واضطربت، وخفت منها الأحلام، وضل عنها الصبر، فلم تعد تطيق صبراً، فانفجرت تبكي في نكبة اليوم النكبات كلها!

تلك هي الكلمة الرهيبة: مات الشيخ بدر الدين. . . .

كان الشيخ سر قوة دمشق، تلجأ إليه كلما دهمتها الخطوب، فتفئ منه إلى جنة وارفة الظلال، وتفزع إليه كلما حاق بها اليأس، فتجد عنده الأمل الباسم الذي يشق طريقاً للحياة وسط شعاب الموت، والثقة بالله التي تسمو بصاحبها حتى يجتاز العقبات كلها طائراً بجناحين من الشجاعة والثبات

وكانت كلمات الشيخ كأنما هي السحر، ينصب في أعصاب الشاميين إذ يسمعونها، فيقدمون لا يهابون شيئاً، كذلك الذي شرب ماء الحياة فلا يبالي - وهو لن يموت! - أي أودية الموت سلك!

وكان الشيخ رمز العصور الذهبية الأولى، وصفحة حية من تاريخ المجد الإسلامي، وآية من آيات الله قامت في هذه الأيام المظلمة لتنيرها بنور الصدر الأول، كما ينير البدر الليل الداجي بنور الشمس المشرقة، ولكن ذاك بدر الدنيا، وهذا (بدر الدين)!

وكانت غرفة الشيخ في دار الحديث حمى قد حماه الله بهيبة العلم، وحجبه بجلال الإخلاص، فهي من دمشق الأموية أو العباسية، أو دمشق صلاح الدين، لا من دمشق (القرن العشرين)، وقفت عند عتبتها سطوة جمال باشا، وقوة الانتداب فلم يجتزها منهما شيء؛ وكان يجيبئها أبداً العتاة الجبارون الذين يخشاهم البلد، ويجري حكمهم لا يرده أحد، فكانوا جميعاً من بشاوات وموسيوات. . . يخلعون نعالهم بأيديهم، ثم يدخلون مطأطئي رءوسهم حتى يجلسوا على ركبهم بين يدي الشيخ، خاشعة أبصارهم، ترهقهم ذلة، ثم لا يتكلمون إلا أن يسألهم، أو يأذن لهم بالكلام، وربما أعرض عنهم، وربما وعظهم أو علمهم، ولا يقول لهم إلا كلمة الحق، ولا يكلمهم إلا بلسان عالم من دمشق صلاح الدين!

فكان الشاميون حين يرون هذا لا يبالون، وفي دار الحديث هذا الجيش، بما كان في دمشق من جيوش ودبابات وطيارات. . أفليس عجيباً أن هذا الشيخ ألهم أبن التسعين، قد:

سدّ الطريق على الزما ... ن وقام في وجه الخطوب!

والشيخ لا جرم نسيج وحده في هذا العصر، وهو بقية من المحدثين الأولين الذين ألفوا بسيرهم تاريخ المسلمين العلمي، أجل تاريخ علمي كتب أو يكتب إلى يوم القيامة. فقد لبث سبعين سنة، يشتغل بالدرس والتدريس والتقوى والعبادة، على خطة معروفة، وسنة مألوفة، ما تبدلت يوماً ولا تغيرت، إلا لمرض مقعد، أو أمر قاهر، أو سفر لازم؛ وقد بلغ من ثبات الشيخ وحسن ظنه بالله عز وجل أنه كان مرة في قطار الحجاز فوقف القطار في عرض البادية لشيء طرأ عليه، (وقد رأينا هذه البادية فإذا هي رمال ملتهبة، وشمس محرقة، ولا شيء سواهما) فنزل بعض القوم يصلون، ونزل الشيخ، فلما أحرموا بالصلاة وكادوا يركعون، صفر القطار، فانفضوا إليه فتعلقوا به وتركوا الشيخ قائماً. وسار القطار؛ (قال الراوي) فنظرت إليه فلا والله ما ألتفت ولا تحرك، فكدت والله أُجَنَّ، وأقبلت على من بيدهم أمر القطار فرجوتهم أن يقفوه فأبوا، فسقطت على قدمي كبيرهم حتى لان فأمر بالقطار فتقهقر حتى وقف على الشيخ فإذا هو جالس لم يسلم، فلما سلم قام فركب، وما يبالي بانقطاعه في البادية، ولا بالموت الذي يحوم حوله، ما دام قائماً بين يدي رب الأرض والسموات، ومن بيده الموت والحياة.

لبث سبعين سنة يفيق إذا عسعس الليل، فيصلي ما شاء الله أن يصلي، فيشعر بلذة العبادة، ويحس حلاوة الإيمان، ويسمو بنفسه عن الدنيا ولذاذتها حتى يحقرها وتهون عليه، فيصبح وهو يطير بنفسه في سموات الجنان والناس يمشون في حضيض الأرض

ثم يمضي إلى الجامع الأموي فيصلي الصبح مع الجماعة، في مكانه الذي لم ينقطع عنه ثلاثة أرباع القرن، وربما ثبت عليه أكثر من ذلك، فقد جاوز رحمه الله التسعين، فإذا قضيت الصلاة عاد إلى غرفته، فلبث يقرأ ويقرئ إلى ما بعد العتمة، إلا أن يكون يوم الجمعة فيجلس للدرس العام يحدث الناس تحت قبة النسر من الظهر إلى العصر، لا يسكت ولا يتنحنح ولا يقف؛ يبدأ بحديث فيرويه مسنداً، ويستقري طرقه كلها، ويتحدث عن رواته، ثم يذكر شواهده من الكتاب والسنة، فلا يروي حديثاً إلا رفعه، ولا كلمة إلا عزاها، ثم يذكر ما أخذه منه الفقهاء من الأحكام ويوازن بينها، ويبسط الكلام فيما يتصل بذلك من الفلسفة والتصوف والعلوم، وكان الشيخ في الفلسفة الإسلامية منقطع النظير

وطالما حضر هذا الدرس جلة علماء دمشق ومن يزورها من علماء الأقطار، فخرجوا معجبين مُكْبرين؛ وطالما حضره الأطباء والمحامون وأهل الفلسفة والطبيعة، فخرج كل وقد امتلأ وطابه من وسائل الفن الذي يشتغل به، أو العلم الذي انقطع إليه

وكان يمضي الدرسان والثلاثة ولم يتعد الشيخ شرح حديث واحد

ولم يكن يرد سائلاً، أو طالب علم؛ وكان يوليه ما شاء من وقته ووجهه؛ وكان إذا استفتى قال للسائل، أنظر كتاب كذا، وكتاب كذا؛ وربما دله على الصفحة التي يجد فيها المسألة، لا يحب أن يفتيه هو

وكان يصوم الدهر، فإذا كان المساء أكل ما قدم إليه، ولم يعرف عنه في سفر ولا حضر أنه اشتهى طعاماً أو كرهه إلا مرة كان في سفر، فقيل له: ما نطبخ؟ فقال: ما شئتم!

قالوا: عندنا بامياء وفول وعدس. . . .

قال: هل قلتم إن عنكم فولاً؟

ففهموا أنه يشتهيه، ولم يرو عنه في هذا الباب أكثر من هذا. ولم يكن يشتم رجلاً أو يغتابه، ولم يكن يدع أحداً يغتاب في مجلسه وكان غاية تأنيبه إذا غضب أن يقول:

- (يابا - وكانت تلك كلمته - لماذا أنتم هكذا؟)

تواضع لله، فأناله الله رفعة ما أنالها سلطاناً ولا ملكا، وانصرف عن الدنيا فأقبلت عليه الدنيا، ودر عليه المال فما مسه ولا مد إليه يداً، واعتزل الناس ورغب عن الجاه، فأقبل عليه الناس، ورغب فيه الجاه، فما غيره ولا أقام للجاه وزناً، وابتعد عن الحكام، فتزلف إليه الحكام، ووضعوا بين أيديه دنياهم فما حاد عن دينه ولا رزأهم دنيا، ولا كتمهم نصحاً. . .

عاش فكانت حياته أعظم حياة، ومات فكان موته أفخم موت. وكيف لا يكون فخما، وقد كان الشيخ دولة وحده، وقد كان تاريخاً، وقد كان مجموعة كاملة من الفضائل كلها، تأكل وتشرب وتمشي؟

رحمك الله يا أيها الإمام العالم العظيم، ورزق دمشق الصبر على فقدك، وعوض منك المسلمين خيراً. . . .

فقد كنت تدراً للديانة مشرقاً ... وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر

مصادر الترجمة:

١- رجال من التاريخ للطنطاوي.

٢- ذكريات علي الطنطاوي.

٣- الموسوعة التاريخية الحرة.

٤- كتاب الشيخ بدر الدين الحسني: علي الرضا الحسيني.

٥- كتاب الشيخ بدر الدين الحسني: محمد عبد الرحيم.

٦- الشيخ بدر الدين الحسني: محمد عنان كاتبي .

٧- مواقع الكترونية أخرى.

الشيخ محمد بدر الدين الحسني والإسلام الشامي

حسام جزماتي

لا يكفي كتاب واحد لرسم صورة من عدّته البيئة الدينية ودارسوها «شيخ الشام» في الثلث الأول للقرن العشرين، خاصة إذا سلك هذا الكتاب نهج التأليف المشيخي التقليدي في التراجم والسيَر بتفخيم اللغة على حساب التحليل، وبالتمركز حول الروايات الشفوية المبنية على نقل «الثقات».

غير أن كتاب «المحدِّث الأكبر وإمام العصر» يظل من أهم ما كُتب عن حياة محمد بدر الدين الحسني (1851 – 1935)، ولا سيما أن مؤلفه، الشيخ محمد صالح الفرفور، كان من التلامذة المباشرين للشيخ صاحب السيرة، ولذلك ينهي عنوانه الطويل بعبارة «كما عرفته».

   لا يوجد من مشايخ دمشق، في المئة سنة الأخيرة، من ليس للشيخ الحسني فضل عليه، سواء مباشرة أو عبر شيوخه .

يتحدّر الحسني من أصل مراكشي غير بعيد عندما هاجر أحد أسلافه من المغرب إلى مصر، مسقط رأس والده الشيخ يوسف، الذي تنقل في البلدان حتى حط في دمشق حيث استقر به المقام وتزوج من آل الكزبري، مخلّفاً ذكرين سيشتهر منهما محمد بدر الدين الذي كان في الثانية عشرة فقط حين توفي والده وتولت المشيخة الشامية، وعلى رأسها أبو الخير الخطيب، متابعة تنشئته حتى صار أبرز المؤثرين فيها هي بالذات، مجدداً إياها وباعثاً لما تسميه «نهضتها العلمية». حتى ذاع فيها القول إنه لا يوجد من مشايخ دمشق، في المئة سنة الأخيرة، من ليس للشيخ الحسني فضل عليه، سواء مباشرة أو عبر شيوخه.

كانت أبرز ميزات الحسني تبحره في علم الحديث، حفظاً لكتبه المشتهرة ولأسانيدها ورواية لها بالتسلسل. فكان الحديث محور الدرس العام الذي اشتهر به ودأب على إلقائه لأكثر من نصف قرن، بعد صلاة الجمعة، في الجامع الأموي «تحت قبة النسر» كما جرت العبارة على الفخر. وقد صار شيخ البلاد تدريجياً عبر السنوات الطويلة التي واظب فيها على إلقاء هذا الدرس الذي عمد الولاة العثمانيون، وبعدهم بعض كبار موظفي الانتداب الفرنسي، إلى حضوره بين الفينة والأخرى، مجاملة للشيخ ولشعبيته وللوسط الديني، لا سيما مع تباعده المعروف عن المسؤولين وتجنبه زيارتهم في غالب الأوقات. بخلاف حال ولده محمد تاج الدين الذي تولى رئاسة الوزارة مرتين، ثم رئاسة الجمهورية، في ظل الانتداب. ورغم أن «الشيخ تاج» لم ينقصه التأهيل لشغل هذه المناصب، فإن كونه ابن «الشيخ البدر» أسهم في وصوله إليها. وذلك على الرغم من الموقف الصارم للأب من الحكم الفرنسي ودعوته إلى الجهاد ضده، ورعايته ثوار الغوطة مادياً ومعنوياً، ودعوته تلاميذه إلى الانضمام إليهم، حتى كان قضاة المحكمة الثورية التي أنشأها حسن الخراط، لضبط تجاوزات «الثوار المجاهدين»، يصدرون أحكامهم الشرعية باسم «إمام المسلمين المحدِّث الأكبر الشيخ محمد بدر الدين الحسني».

بالاقتراب أكثر من الدائرة اللصيقة بالشيخ لعب الدرس اليومي الذي كان يلقيه في منزله، بين المغرب والعشاء، ويحضره مدعوون منتقون؛ دوراً أكثر دقة في إعداد شريحة من المشايخ والوجهاء والدارسين، كان يختار منهم عدداً محدداً من «طلاب العلم» الشبان ليتعهدهم بدروس خاصة في العلوم الشرعية تشغل يومه الحافل، وتستمر لسنوات يتخرج بعدها هؤلاء ليؤسسوا معاهد شرعية وجمعيات عملت على تعزيز التعليم الديني في وجه نشأة المدارس الحديثة وبالتوازي معها، وعلى شد أواصر مجتمع دمشق في مجموعات تضامن داعمة. ومن هؤلاء نقرأ أسماء أبرز من أسهم في «النهضة» التي شكّلت الحالة الدينية المشتهرة بوصف «الإسلام الشامي»، كعلي الدقر ومحمد هاشم الخطيب وعبد الكريم الرفاعي ومحمد سهيل الخطيب ومحمد صالح الفرفور، مؤلف هذا الكتاب، وكثيرين سواهم من منشئي المؤسسات الدينية الأهلية.

رعى أسلمة عميقة وهادئة للمجتمع، دؤوبة وغير متعالية، تعتمد الاجتذاب لا المحاكمة والزعامة الحقيقية لا القيادة المطوِّعة.

والحق أن التركيبة التي كان عليها الحسني رسمت برهافة طريق من بعده. فقد أتت عنايته بعلم الحديث في الوقت المناسب لنهضة الإسلام العالِم بعد قرون من الإسلام الشعبي في عهد العثمانيين، بالضبط قبل وصول التأثيرات السلفية التي كانت لتتخذ من علم السند ركناً مكيناً لولا أن سبقها الحسني إلى إشاعته في إطار من التصوف غير الطرقي الذي اتسم به، وتجلى في زهده الواضح وورعه وتواضع كبير بدا في تجنبه إمامة الصلاة وتقديم أي من الموجودين، وكراهية تقبيل يده، معتبراً أن الخير في الناس جميعاً وليس فقط في رموزهم المشيخية التي لا تعلم «بماذا يُختَم لها». وهكذا رعى أسلمة عميقة وهادئة للمجتمع، دؤوبة وغير متعالية، تعتمد الاجتذاب لا المحاكمة والزعامة الحقيقية لا القيادة المطوِّعة.

ففي رمضان كان يرسل مع واحد من أخص تلاميذه نقوداً إلى حي تقطنه البغايا، يوزعها عليهن وينصحهن بالتوبة ويطلب منهن، باسم الشيخ الحسني «أن يدعون لنا بالمغفرة، فعسى أن يستجيب الله لهن». وكذلك في أول أيام عيدَي الفطر والأضحى، حين كان يعمد إلى اصطحاب تلاميذه وزيارة الموقوفين في سجن القلعة، واعظاً وموصياً بالصبر، وطالباً الدعاء.

وسوم: العدد 1007