الشيخ الداعية عباس حسن السيسي

sfsfdsdrw10221.jpg

(1918- 2004م)

الشيخ الداعية عباس حسن السيسي، عضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين الأسبق، وأحد أشهر دعاة الجماعة الذين كتبوا في الذوق والسلوكيات الدعوية، تميز بأسلوبه الدعوي المرح الذي جعله قبلة لخطابات المئات من شباب الإخوان المسلمين حول العالم والتي قدمها في كتابه «الحب في الله».

المولد، والنشأة:

ولد الشيخ عباس بن حسن السيسي يوم 28-11-1918م في مدينة رشيد بالبحيرة. ونشأ في أسرة مسلمة ملتزمة تحب العلم، وتحترم العلماء.

الدراسة، والتكوين:

حصل عباس السيسي على دبلوم المدارس الثانوية الصناعية سنة 1939.وتطوَّع بمدرسة الصناعات الحربية، بتوجيه من فضيلة المرشد العام الإمام حسن البنا، والتحق بورش سلاح الصيانة بعد التخرج.

عمل بصناعة الألبان وتجارتها في رشيد لمدة عشرين عامًا وقد بدأ تجارته شريكاً مع صديقه المهندس يوسف ندا.

التجربة الدعوية:

تعرَّف الشيخ عباس السيسي على دعوة الإخوان المسلمين سنة 1936م، وبايع الإمام البنا على الالتزام بمنهج الدعوة والجهاد في سبيل الله.

اعتقل سنة 1948م بعد اغتيال الإمام البنا لمدة ستة أشهر في معتقل الهاكستيب الصحراوي.

ثم اعتقل مرة ثانية في سنة 1954م لمدة عامين، وفُصل من الخدمة سنة 1956م.

ثم اعتقل مجدداً سنة 1965م، وخرج بعد تسع سنوات عام 1974م.

   كان الأستاذ عباس السيسي من دعاة الإخوان الأفذاذ، فقد كان يصل إلى قلوب الناس بحسن خلقه، وبشاشة وجهه، وجمال أسلوبه الدعوي، بالترفق بالناس، وإدخال السرور إلى قلوبهم، ومشاركتهم في مشكلاتهم، وتعميق العلاقة بهم، وإقامة أواصر الحب معهم، والتلطف بالصغير، والصبر على الجاهل، وتمتين الصلات الاجتماعية معهم، عن طريق التزاور، ومشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم.

وهو بسيط في مظهره، باسم الثغر، واسع الصدر، حليم على من يسيء إليه، ودود لإخوانه، رفيق بجيرانه وزملائه، وكان خفيف الظل، لا يُرى إلا مبتسماً، كثير الدعاية لإدخال السرور على من حوله، ولكن بأدب الإسلام، يروي القصص بأسلوب مشوق جميل، ويهدف من كل ذلك إلى استمالة قلوب المدعوين إلى دعوة الحق، ومنهج الحق، ودين الحق، صبَرَ في كل المحن التي تعرض لها.

له إسهام كبير في نشر الدعوة داخل مصر وخارجها، وله محبون وتلامذة في أكثر أنحاء العالم العربي، وفي الغرب.

والأستاذ السيسي من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين الذين حملوا رسالة الدعوة، وثبتوا على حملها، والتصدي لكل قوى الظلم والجور التي سعت لتعطيل المسيرة، أو إيقاف القافلة.

كان يستوعب الشباب وحماسهم، ويوجه هذا الحماس لخير الأمة والدعوة، وكان يعالج تطرف أفكارهم بالحب واللين، ويقول: سنقاتل أعداءنا بالحب.

ومن طرائفه: أنه كان يركب "الترام" مرة، فداس على قدم رجل من الركاب، فقال له الرجل: أنت حمار؟ فكان جواب الحاج عباس بمنتهى اللطف: لا أنا سيسي، فضحك الرجل، وكانت أحاديث دعوية بينهما.

ويُجمع الذين زاملوه في السجن، أو شاهدوه في حال المرض، أنه كان دائم الابتسام مع القريب والبعيد، والعدو والصديق، حتى مع السجانين الذين كانوا يعذبّونه وإخوانه في السجون، وكانوا يطلقون عليه: معلم الحب والذوق، ويعتبرون مدرسته الدعوية، مدرسة الحب في الله، لأنه صاحب البسمة والقلب الكبير، ولأنه لا يؤمن بالعنف.

وكان له دور كبير في سبعينيات القرن الماضي، في التأثير على شباب الجامعات، في الابتعاد عن العنف ونبذه منهجاً وطريقاً في الدعوة إلى الله.

وكان له أكبر الأثر في اعتدال المزاج والسلوك والإسلامي، خاصة في مدينة الإسكندرية، حيث كان يحرص على التواصل مع الشباب، ويكثر من اللقاءات بهم، من خلال الندوات والمحاضرات، فكانت جهوده هذه فتحاً كبيراً للدعوة الإسلامية في أوساط الشباب وغيرهم.

ولقد أكرم الله الكثير من شباب الجامعات المصرية في الإسكندرية والقاهرة وغيرها، بالالتزام بهذا المنهج الوسط، والبعد عن التشدد والتزمت، والانخراط في صفوف الإخوان المسلمين، باعتبارهم الجماعة التي تلتزم بمنهج الكتاب والسنة، وما أجمع عليه سلف الأمة، بعيداً عن التزمت أو التفلت، ومن غير إفراط ولا تفريط، ولا جمود ولا تطرف: وكذلك جعلناكم أمة وسطا (البقرة:143).

جهاده:

شارك في مظاهرات 1936 المطالبة بإعادة دستور 1923.

حضر معارك الحرب العالمية الثانية 1940م في الصحراء الغربية.

تعرف على دعوة الإخوان المسلمين عام 1936م، وتقابل مع حسن البنا في نفس العام.

اعتقل عام 1948م لانتمائه لجماعة الإخوان المسلمين لمدة ستة أشهر، ثم اعتقل عام 1954 لمدة عامين.

فصل من الخدمة عام 1956م.

اعتقل مجددًا عام 1965 إلى عام 1974م.

* حضر معارك الحرب العالمية الثانية سنة 1940 في الصحراء الغربية من النصابة إلى العالمية.

* اعتقل عام 1948 لمدة شهرين.

* ثم اعتقل مرة ثانية في عام 1954 ولمدة عامين.

* فصل من الخدمة عام 1956 لانتمائه لدعوة الإخوان المسلمين.

* تجدد اعتقاله في عام 1965 وحتى عام 1974.

يُعد عباس السيسي أحد من أسهموا في إحياء جماعة الإخوان وبعثها من جديد بعد خروجه من المعتقل في السبعينيات.

كان عضواً بمكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين لسنوات طويلة، وقد قرر الاعتذار عن موقعه ليترك فرصة لمن يأتي بعده ليجدد، ويطور فسجل بذلك موقفاً غير مسبوق في تاريخ الجماعة .

ساهم بدور بارز وفعَّال في نشر فكر الجماعة خارج مصر، وقد تواصل معه آلاف الشباب حول العالم وقد نشر رسائلهم إليه في كتاباته المختلفة .

أسس دار القبس للنشر والتي اتخذت مقرها بشارع جواد حسني بمنطقة الإبراهيمية بالإسكندرية وكان مكتبه هناك قبلة لقيادات العمل الإسلامي من كل بقاع الأرض .

نزل به البلاء ممثلاً في مرضه الشديد الذي أصابه، وكان من يذهب ليعوده في بيته برشيد أو بمنطقة ميامي بالإسكندرية أثناء مرضه الأخير لا يجده إلا باسماً لا تغيب عنه حماسته وبريق عينيه .

من أقواله:

ومن أشهر مقولاته:

الدعوة إلي الله حب، والحياة في سبيل الله أشق من الموت في سبيل الله ألف مرة.

الدعوة إلي الله فن والصبر عليها جهاد.

هذا الدين لم يبدأ باستعمال العضلات، ولا خشونة الكلمات، ولا بالتصدي والتحدي، ولكن بالكلمة الطيبة، والنظرة الحانية، قال تعالى: (وقولوا للناس حسناً)

إن الجهاد بالحب في الله، هو الفرصة المتاحة، والسياسة المباحة، التي لا تعوقها حدود ولا يصادرها قانون، لأنها نبض وهواتف ومشاعر وأحاسيس.. والحب في الله هو السبيل الذي ليس له نظير ولا مثيل.

الإسلام ذوق، والإسلام لطائف، والإسلام أحاسيس ومشاعر، هذا الدين يتعامل مع النفس البشرية، يتعامل مع القلوب والأرواح.

لما كانت رسالة الإسلام موجهة إلى عامة الناس على الأرض، كان من الضروري أن يتصدر لهذا المجتمع الواسع دعاة على مستوى من العلم والقدرة والقدوة، والدراية بأسرار النفس البشرية، يتحلون بالصبر، وانشراح الصدر، والفراسة، والبصيرة: " قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن تبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين" (108 يوسف)، ولا بد من استنهاض إمكانات الحواس الربانية في جذب القلوب، وتآلف الأرواح والمعايشة في رحاب حركة الدعوة ومجالاتها الواسعة، وهذا يكون بالكلمة الطيبة، والدعوة بالحسنى، والجدل إن اقتضى الأمر بالتي هي أحسن، والقدوة الصالحة، ذلك أن طهارة الهدف تستلزم في عرفنا طهارة الأسلوب في تحقيقها، ونبل الغاية يقتضي نبل الوسيلة حتماً، فالدعوة تقتضي فهماً دقيقاً لكل مراحلها، وأهدافها، وما تريد في المستقبل، وما طريقها في تحقيق أهدافها.

لقد ظلت العبادات عند كثير من المسلمين محصورة في شكل بدون روح، فالمسلم يؤدي عبادته، ويتقوقع في ذاته وخصوصيته، دون الاهتمام بأن الإسلام رسالة ودعوة، وبهذا انكمش دور المسلم الاجتماعي والحركي، فلم يمتد إلى جميع قطاعات المجتمع، لينقله ويصبغه بصبغة الإسلام حقيقة وعملاً، مشاعر وشعائر، لبناء الأمة الإسلامية، وتحقيق الآمال".

مؤلفاته:

وقد وفقه الله إلى إصدار العديد من الكتب والرسائل التي تؤرخ للدعوة، وتتحدث عن أحداثها وشخصية قائدها الإمام الشهيد حسن البنا، ووسائل التربية والدعوة إلى الله، وكيفية مخاطبة القلوب، ودعوة الناس إلى الخير، وقد أسس "دار القبس" للنشر بمدينة الإسكندرية.

وجميع كتبه في فقه الدعوة، وأسلوبها، نذكر منها:

1-من المذبحة إلى ساحة الدعوة

2-الدعوة إلى الله حب: 5 أجزاء صغيرة، قدم له الشيخ سعيد حوى.

3-حسن البنا مواقف في الدعوة والتربية.

4-جمال عبد الناصر وحادثة المنشية بالإسكندرية.

5-الطريق إلى القلوب.

6-حكايات الإخوان: 3 أجزاء.

7-الذوق سلوك الروح.

8-الحب في الله.

9-في قافلة الإخوان المسلمين: 4 أجزاء.

10-رشيد المدينة الباسلة.

11-دعوة الإخوان حب.

12- أم معاذ في السجن الحربي.

   وبالإضافة إلى هذه المؤلفات، كانت له اهتمامات بتسجيل تاريخ الجماعة عن طريق إجراء الحوارات والمقابلات مع الإخوان القدامى، بالصوت والصورة في دار القبس بالإسكندرية، ونرجو إخواننا في الإسكندرية وأبناء الفقيد أن يحرصوا على أن تخرج هذه المقابلات المسجلة، ليستفيد منها جمهور الإخوان الدعاة في كل مكان، فهي علم ينتفع به.

قالوا عنه:

يقول فضيلة المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ محمد مهدي عاكف: "إن الجماعة فقدت برحيل الأستاذ عباس السيسي واحداً من القلوب التي كانت تنبض بحب الدعوة، وتحيا لها، مسخرة كل طاقاتها لله عز وجل.

"عزاؤنا أن الله اختاره إلى جواره في أيام الشهر الكريم شهر رمضان المبارك، واختصَّه بيوم عيد للمسلمين هو يوم الجمعة، ولئن كان قد رحل عن دنيانا، فإن سيرته تحيا ما بقيت دعوة الله، وتنبض حياته في قلب كل قارئ لكتبه التي أثرت مكتبة الدعوة، فاللهم تقبّله في الصالحين، وأنزله منازل الشهداء والصديقين، وأكرم ضيافته يا أكرم الأكرمين".

   ويقول د. محمد حبيب النائب الأول للمرشد العام: "لقد غاب عنا الحاج عباس السيسي بجسده، ولكنه لم يغب عنا بروحه وخفة ظله، فقد ألف الكثير من الكتابات، ومنها: "الذوق سلوك الروح" فكان رحمه الله روحاً متألقة.

طلبتُ منه مرة أن يصف لنا الأستاذ الإمام حسن البنا بكلمة واحدة، فقال: أقول كلمة قالها الكاتب الصحفي أحمد بهجت، واصفاً الإمام الشهيد: "إنه الرجل المتوهج".

ومن وهج الإمام البنا، استمد الحاج عباس السيسي تألقه وتوهجه، وما أحوجنا إلى هذا الصنف الفذ من الرجال الذي لم تفارقه البسمة أبداً حتى في أوقات الشدة، فكان رحمه الله يحن علينا، ويضعنا تحت جناحيه، ويملأنا بعطفه، رغم ما عاناه في السجون والمحن التي لم تزده إلا صلابة وقوة وعمقاً ورسوخاً، ثم جاءه المرض في هذا السن، فصبر صبراً جميلاً، ما وهن وما فتر، وكان حزنه الشديد وألمه أنه لا يستطيع الحركة حتى يطل بنظراته على الإخوان المسلمين.

لقد كان نقطة مضيئة في دعوة الإخوان المسلمين، وهب حياته للإخوان ولدعوة الإخوان، وكان كريماً معها".

ويقول المهندس خيرت الشاطر النائب الثاني للمرشد العام: "ودعنا رجلاً من رجالات دعوة الإخوان المسلمين البارزين، الذي كان وسيظل معلماً بارزاً في مسيرة دعوتنا، حيث كان له دور متميز في داخل هذه الدعوة المباركة، سواء في مرحلة التأسيس، وحتى مطلع الخمسينيات، أو في مرحلة المحن والسجون من الخمسينيات وحتى مطلع السبعينيات، ثم في مرحلة استئناف وإعادة التأسيس منذ السبعينيات وحتى مرضه في السنوات الأخيرة، وليس فقط على مستوى الإسكندرية، ولا على مستوى مصر بأسرها، بل مستوى العالم العربي والعالم كله، ولقد ترك آثاراً واضحة وبصمات في كل مكان ذهب إليه وارتبط اسمه بالحب والبشر".

ويقول الأستاذ جمعة أمين عبد العزيز: "ننعى اليوم رجلاً من رجالات الدعوة، ربى رجالاً عدة، ولو أردنا أن نكتب تاريخه، ما وسعنا سفر من الأسفار، عشنا معه عمراً، فلم نر فيه حقيقة إلا قول الله عز وجل:

   "من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى" نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا" (23 الأحزاب). فكان نعم الرجل، ونعم المربي، ونعم المجاهد، تعرفه مجالس الإخوان في مصر، ويعرفه من عاش معه في أوروبا وأمريكا، ويشهد له رجال وشباب قابلهم من كل بقاع الدنيا، وله بصمة في نفوسهم.

لقد رحل عنَّا أخ حبيب، ومعلم وأستاذ، عشت معه، وكنا معاً كما قال ربنا: "أشدد به أزري 31 وأشركه في أمري" 32 (طه)، فكان نعم الرجل والأستاذ والمربي، إنه رجل لا يموت، لأن تاريخه باق فينا وأثره. لقد صُبَّ عليه البلاء صباً، وأصابه المرض فترة طويلة، ولكنه كان نعم الرجل الصابر المحتسب، كنا نزوره في مرضه، فنجد لسانه قد أثقل عليه في الكلام، ولكنه بمجرد لقاء إخوانه وجلوسهم معه فترة، نجد لسانه وقد انطلق لمجرد رؤيته لإخوانه، كان يفيض حباً، وكان بمثابة الماء الذي يروي نبت الدعوة وزرعها، لقد كان كتاباً صفحاته مضيئة.. علمنا فيها أن الدعوة حب، وعلمنا أنه لا عنف في دعوتنا، كتبها في كتبه، وبثَّها إلينا، وربَّانا عليها، وعلقها في بيته ليراها كل زائر، سلوانا أنه ترك لبنات ولبنات يشتد بها البناء ويعلو بإذن الله.

لا نملك إلا أن نرفع أكف الضراعة إلى الله في هذه المصيبة، كما وصفها الله تعالى، مصيبة الموت، مؤكدين "إنا لله وإنا إليه راجعون" وإن كان غاب عنَّا الأستاذ عباس السيسي، فقد ترك خلفه تلاميذ ملء السمع والبصر، نسأل الله أن يتقبله في الصالحين، وأن يثبتنا على الحق ويلحقنا به على خير".

ويقول عنه الشيخ سعيد حوى: "الأخ عباس السيسي ممن عايش الأستاذ البنا، ونهل من معينه العذب، فتجسدت فيه معاني هذه الدعوة في صفاء ورواء، ومن أعلى ما تجسد فيه:

خُلق الإخاء، فهو صافي المودة، كثير العطاء، حيثما توجه نشر من عبير روحه الحب، فلا يكاد يجتمع مع أخ حتى يشعل في قلبه نور الإخاء في الله حاراً متوقداً منيراً، لأنه هو كذلك، فتراه يغرف منه الصغير،

ويرتشف منه الكبير، وهو بطبيعته شفاف النفس، حسّاس الوجدان، مع تأمل عميق، وفراسة صادقة، وفطرة صافية، وقدرة كبيرة على أن يحيط الكبار والصغار بعطفه، وأن يتجاوز عن الأخطاء، ويغضّ الطرف عن الزلات، ويتحمّل في الله المصيبات،

مما جعل الكثيرين من شبابنا يتعلقون به بمجرد أن يعرفوه، لأنهم يجدون عنده حباً بلا مصلحة، وأبوّة بلا مطالب شخصية، وأخوة تتقارب في أجوائها فوارق السن والقدر، بسبب من تواضع لا يعرف إلا الحدود الشرعية".

ونعته حركة حمس في الجزائر، فقالت: ببالغ الحزن والأسى، وبقلوب راضية بقضاء الله وقدره تلقينا في حركة مجتمع السلم (الجزائر) نبأ وفاة الشيخ والداعية المجاهد عباس السيسي رحمه الله، هذا الرجل الذي نعتبره أكبر من عالم خبا نجمه، وأكبر من فارس ترجّل، فهو عالم ربّاني، وداعية مقتدر، ومربٍّ حاذق، ومصلح اجتماعي كبير. فالكثير منّا في الجزائر تتلمذ على كتاباته، واستأنس بتوجيهاته وتعلق بأسلوبه التربوي الرّوحاني المتميز، الذي يبقى منارة للأجيال من بعده ومعالم يستضاء بها على هذا الدرب النير ضمن هذه السلسة من الحلقات الذهبية التي لا يخبو نورها مع وفاة أي عالم، فتلك سنة الله في كونه وذلك قضاء الله، بل تزداد نورا وحياة ويزداد التفاف الأجيال حولها...رحمه الله رحمة واسعة.

وفاته:

   توفي الشيخ الداعية عباس السيسي يوم الجمعة الثامن من شهر رمضان عقب صلاة التراويح سنة 1425هـ / الموافق 22-10-2004م،.بعد مرض طويل، ولكنه كان الصابر المحتسب حتى لقي ربه، وقد صُلِّي عليه في "مسجد الحق" بمدينة رشيد عقب صلاة العصر، وحضر تشييع الجنازة أكثر من خمسة وعشرين ألفاً، في مقدمتهم المرشد العام محمد مهدي عاكف الذي أمّ المصلين في صلاة الجنازة، ودُفن في مقابر مدينة رشيد.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين، والصديقين، والشهداء، والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

الإخوان يشيعون جثمان فقيد الدعوة الحاج عباس السيسي:

شيَّع آلاف الإخوان عصر السبت 23/10/2004م بمدينة رشيد "شمال العاصمة القاهرة" جثمان فقيد الدعوة الحاج عباس السيسي أحد رجال الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين الذين عاصروا ولازموا الإمام الشهيد حسن البنا.

تقدم المشيعين الأستاذ محمد مهدي عاكف- المرشد العام للإخوان المسلمين- والدكتور محمد حبيب النائب الأول للمرشد العام، والمهندس خيرت الشاطر النائب الثاني للمرشد العام، والأستاذ جمعة أمين، والأستاذ صبري عرفة، والدكتور محمد بديع، والدكتور محمد علي بشر، والدكتور محمد مرسي، والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، أعضاء مكتب إرشاد الجماعة.

شارك في تشييع الجنازة- التي أمَّ المصلين فيها فضيلة المرشد العام- العديدُ من قيادات الإخوان من محافظات مصر المختلفة، كان منهم الأستاذ مسعود السبحي- سكرتير المرشد العام، والداعية الإسلامي الكبير محمد حسين، والحاج علي نويتو أحد قيادات الإخوان، والأستاذ محفوظ حلمي عضو مجلس الشعب، والأستاذ سيد نزيلي أحد قيادات الإخوان في محافظة الجيزة.

سارت الجنازة وسط آلاف المشيعين الذين حضروا من محافظات مصر المختلفة، إضافة إلى أبناء المدينة الذين ودعوا فقيد دعوة الإخوان، ويتقدمهم عشرات الأطفال الذين ارتدوا قمصانًا تحمل شعار جماعة الإخوان المسلمين.

وألقى بعض قادة الإخوان كلمات في رثاء الفقيد- تغمده الله برحمته- كان من بينهم الدكتور محمد حبيب، الذي قال في كلمته: "لقد غاب عنَّا الحاج عباس السيسي بجسده ولكنه لم يغب عنا بروحه وخفة ظله، فقد ألَّف الكثير من الكتابات المثيرة، لكن هناك رسالة صغيرة جدًا لكنها عظيمة للغاية هذه الرسالة التي كتبها ودوَّن فيها مشاهداته للإخوان ولغير الإخوان عنوانها "الذوق سلوك الروح"، فكان رحمه الله روحًا متألقة.

طلبتُ منه يومًا أن يصف لنا الأستاذ البنا في كلمة واحدة، فقال أقول كلمة قالها الكاتب الصحفي أحمد بهجت واصفًا الإمام الشهيد: "إنه الرجل المُتوهِّج"، وأضاف حبيب: ومن وهج الإمام البنا استمد حواري الإمام البنا "الحاج عباس السيسي" تألقه وتوهجه، وقال ما أحوجنا إلى هذا الصنف الفذ الذي لم تفارقه البسمة أبدًا حتى في أوقات الشدة، فكان رحمه الله يحنُّ علينا، ويضعنا تحت جناحيه ويملأنا بعطفه رغم ما عاناه في السجون والمحن التي لم تزده إلا صلابةً وقوةً وعمقًا ورسوخًا، ثم جاءه المرض في هذا السن فصبر صبرًا جميلاً، ما وهن وما فتر، وكان حزنه الشديد وألمه أنه لا يستطيع الحركة حتى يطل بنظراته على الإخوان.

وأضاف أنَّ الحاج عباس- رحمه الله- كان نقطة مضيئة في دعوة الإخوان وهب حياته للإخوان ولدعوة الإخوان، وكان كريمًا معها، فبهذا النموذج تحيا دعوة الإخوان كما أنها تحيا بهذا الحب الفياض الذي لو علم الملوك حقيقته لقاتلونا عليه، وهم كذلك بالفعل فهم يحسدوننا على هذه المحبة التي دفعت هذا الجمع أن يتحمل مشقة السير خلف جثمان الفقيد.

وشدد حبيب على أن دعوة الإخوان موجودة، بل هي من أعظم القوى على الإطلاق الموجودة في الساحة العالمية، ولا ينكرها إلا جاحد أو إنسان فاقد لعقله وللمنطق، وقال هذه الدعوة سوف تظل إلى ما شاء الله لا تقف أمامها الحواجز ولن تعيقها المصائب بل تزيدها المصائب قوةً وقدرةً على الحركة والانطلاق، وأضاف سوف تنتصر دعوتنا بإذن الله في أرضه اليوم أو غدًا وإن غدًا لناظره لقريب.

وبدأ الموكب مسيرته من الإسكندرية بعد صلاة الظهر في المسجد المجاور لمستشفى إبراهيم عبيد والتي فارق بها الشيخ الحياة، وعقب صلاة الظهر قال الأستاذ جمعه أمين عضو مكتب الارشاد: لقد رحل عنا أخ حبيب ومعلم وأستاذ، عشتُ معه وكنا معًا كما قال ربنا ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)﴾ (طه) فكان نعم الرجل والأستاذ والمربي، إنه رجل لا يموت؛ لأن تاريخه باقٍ فينا وأثره، لقد صُبَّ عليه البلاء صبًّا وأصابه المرض فترة طويلة، ولكنه كان نعم الرجل الصابر المحتسب، كنَّا نزوره في مرضه فنجد لسانه قد أثقل عليه في الكلام ولكنه بمجرد لقاء إخوانه وجلوسهم معه فترة نجد لسانه وقد انطلق لمجرد رؤيته لإخوانه، كان يفيض حبًا، وكان بمثابة الماء الذي يُروى به نبت الدعوة وزرعها، لقد كان كتابًا صفحاته مضيئة علمنا فيها أن الدعوة حب، وعلمنا أنه لا عنف في دعوتنا، كتبها في كتبه، وبثها إلينا وربانا عليها، وعلقها في بيته ليراها كل زائر، سلوانا أنه ترك لبناتٍ ولبناتٍ يشتد بها البناء ويعلو.

ثم كانت كلمة قصيرة من الدكتور إبراهيم الزعفراني قال فيها: لقد كان أستاذنا الراحل أستاذ الحب ومعلم الناس الحب.

وانطلق الموكب متوجهًا إلى مدينة رشيد الباسلة التي نشأ وترعرع فيها الشيخ رحمه الله، وفي مسجد الحق المجاور لمنزل الفقيد بدأ الدكتور إبراهيم الزعفراني كلمته في عزاء الفقيد رحمه الله فقال: نودع اليوم رجل الحب: حب الخير وحب الناس، نودع رجل البسمة صاحب القلب الكبير الذي استقبل به المحن والشدائد بالحب، وكان شعاره "الدعوة إلى الله حب"، وهو أحد رجالات قافلة الإخوان المسلمين، وهو أستاذ الذوق في كل شيء في ملبسه ومأكله وكلماته التي سطرها للصغير والكبير.

وتحدث الدكتور محمد بديع- عضو مكتب الإرشاد- فقال: عزاؤنا في شهادتكم لجنازته؛ فهي شهادة موثقة عبر عِشرة طويلة ليس في وقت الرخاء بل في وقت الشدة والبلاء والضنك والضيق، فقد كان فقيدنا لا تفارقه الابتسامة، وكان يُوزعها علينا، ونحسب أنه ينطبق عليه قول الرسول: "من أدخل السرور على أهل بيت من المسلمين لم يجد له جزاءً إلا الجنة"، لقد خلَّف الفقيد الثلاثة التي ذكرها الحديث "صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له".

وصلى الإخوان صلاة العصر في مسجد الحق المجاور لمنزل الشيخ بمدينة رشيد، وقد أمَّ فضيلةُ المرشد العام الأستاذُ محمد مهدي عاكف المصلين في صلاة الجنازة، وشارك في الجنازة من مكتب الإرشاد كل من الدكتور محمد حبيب والأستاذ جمعة أمين والدكتور محمد بديع والمهندس خيرت الشاطر والدكتور عبد المنعم أبو الفتوح، والأستاذ سيف الإسلام حسن البنا" ثُمَّ توجه الموكب إلى مقابر المدينة.

ثُمَّ كانت كلمة الأستاذ محمد عبد المنعم، والتي قال فيها: عرفنا أستاذنا منذ 50 عامًا وتعلمنا منه كيف يكون التجرد، وكيف تكون الجندية، وكيف تكون الطاعة وكيف تكون الثبات.. يا شيخنا نم هادئًا هانئًا حيث العدالة الإلهية.

وتشاء رحمة الله أن يتوفى منا أخٌ حبيب آخر وهو الأخ أبو الحمد ربيع، ومن رحمته بهذه الدعوة أن يتوفى الله رجالَ هذه الدعوة من أمثال الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ مصطفى مشهور والأستاذ عباس السيسي في شهر رمضان المبارك.

وتحدث الأستاذ سيف الإسلام حسن البنا، فقال: يعز علينا فراق أخينا، ولكن عزاؤنا أنه أمضى حياته في الجهاد والدعوة والتضحية والإقدام، لقد كانت حياة الرجل نذرًا لدين الله.

ثم ألقى الأستاذ السيد نزيلي كلمةً قال فيها: لقد تعلمنا من شيخنا الكثير والكثير، تعلمنا منه كيف نضع آراءنا الشخصية تحت أقدامنا فداءً لدعوتنا، تعلمنا منه الجندية الحقة، وتعلمنا منه القيادة الأبوية العظيمة لا قيادة الإرغام، وخُتِمَ اللقاءُ على المقابرِ بدعاءٍ لشيخنا بالرحمة والمغفرة والثبات عند السؤال.

الأستاذ عباس السيسي في رحاب الله:

انتقل إلى جوار ربه عقب صلاة تراويح الجمعة الثامن من رمضان الداعية الكبير الأستاذ عباس السيسي، أحد رجالات الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين، بعد حياةٍ حافلة بالدعوة والجهاد والمحن.

ومن ناحيته ينقل فضيلة المرشد العام- الأستاذ محمد مهدي عاكف- عبر موقع إخوان أون لاين تعازيه لجموع الإخوان المسلمين في كل العالم، مؤكدًا أن الجماعة فقدت برحيل الأستاذ السيسي واحدًا من القلوب التي كانت تنبض بحب الدعوة، وتحيا لها، مُسَخرةً كل طاقاتها لله عز وجل.

وأضاف عاكف، عزاؤنا أن السيسي اختاره ربه إلى جواره في أيام شهر رمضان المباركة، واختصه بيوم عيدٍ للمسلمين وهو يوم الجمعة، ولئن كان قد رحل عن دنيانا فإن سيرته تحيا ما بقيت دعوة الله، وتنبض حياته في قلوب كل قارئٍ لكتبه التي أثْرت مكتبة الدعوة، فاللهم تقبله في الصالحين، وأنزله منازل الشهداء والصديقين، وأكرم ضيفته يا أكرم مضيف.

هذا ومن المقرر أن يتم تشييع جنازة الفقيد عقب صلاة العصر بمسجد الحق بمدينة رشيد- مسقط رأسه، وعلى الإخوة القادمين من القاهرة السير في الطريق الزراعي حتى مدينة كفر الدوار، وبعدها يسلكوا الطريق الدولي حتى الوصول إلى مخرج رشيد يمين، وستكون هناك- إن شاء الله- لوحات إرشادية للوصول إلى المسجد، ولله ما أخذ وله ما أعطى، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أصداء الرحيل:

   sfsfdsdrw10222.jpg

   عباس السيسي.. داعية الحب والذوق:

   وكتب محمد عبد اللطيف يقول: في الثامن من رمضان 1425هِ الموافق 22 من أكتوبر 2004 شيعت الدعوة الإسلامية بمصر الشيخ عباس السيسي -رحمه الله- أحد أبرز رموزها في العقود الثلاثة الأخيرة، صاحب مدرسة خاصة به في الدعوة عرفت بمدرسة الحب وعرف صاحبها واشتهر برجل الحب، ورجل البسمة، وصاحب القلب الكبير، وهو أحد القلائل الذين لم يتأثر فكرهم بالمحن والشدائد التي أصابت الدعوة في مصر، بل استقبلها بالحب وكان شعاره الأثير "الدعوة إلى الله حب" والذي صار عنوانًا لمدرسة دعوية كاملة، تعلمت فيها أجيال كثيرة أن الدعوة حب وأنه لا عنف في دعوة الإسلام.

ولم يكن من المستغرب أن يكون أكثر مشيعيه -25 ألفًا أو يزيد- من الشباب الذين أحبوه وتربوا في مدرسته وعلى مفاهيمه التربوية التي سبقت وقتها والتي غابت عن كثير من جيل الرعيل الأول الذين تربوا على العسكرية ومعاني الجندية المطلقة والذين قضوا زهرة شبابهم في السجون والمعتقلاتº فتأثر فكر كثير منهم ومنهجه في الدعوة بما لاقاه من عنت وشدة.

أما هو فقد خرج من معتقله أكثر شبابًا من الشباب وأكثر تسامحًا حتى مع جلاديه، فازدهرت على يديه الدعوة الإسلامية، وخاصة بين شباب "الجماعة الإسلامية" في الجامعات المصرية، فكان منهجه ومدرسته سببًا في انضمام معظمهم لجماعة الإخوان المسلمين في السبعينيات من القرن الماضي، من أمثال إبراهيم الزعفراني وخالد داود في الإسكندرية، وعبد المنعم أبو الفتوح وحلمي الجزار في القاهرة، وأبو العلا ماضي في الصعيد.

معلم الشباب الحب والذوق:

كان لاتصال الحاج عباس السيسي بالشباب الإسلامي إبان اشتعال جذوة الصحوة الإسلامية في السبعينيات أكبر الأثر في ابتعاد القطاع الأكبر منهم عن العنف ونبذه منهجًا وطريقًا في الدعوة إلى الله، وكان للرجل أكبر الأثر في اعتدال المزاج والسلوك الإسلامي خاصة في مدينة الإسكندرية إحدى معاقل الصحوة التي كانت ميدانًا فسيحًا لدعوته، وربما كان من الدعاة القلائل الذين احتفوا بقواعد الذوق في السلوك والتعامل حتى عُرف تلطفًا بين الشباب بداعية الذوقº إذ ما أكثر ما تحدث عنه وكتب فيه وحث عليه حتى اقترن به.

وكان الحاج عباس السيسي (1918 - 2004) واحدًا من أكثر دعاة الجيل الأول في الحركة الإسلامية حرصًا على التواصل مع الشباب وتركيزًا على دعوتهم، وعايش معهم فترات المد والانحسار وكان له في كل مرحلة دروسه المؤثرة، فقد شهد الرجل المد الإسلامي في حقبة الثمانينيات والذي اكتسح الجامعات المصرية في كل أنحاء القطر، وكان أحد أبرز دعاة هذه الفترة حتى بلغ عدد الندوات التي حاضر فيها في جامعة الإسكندرية وحدها عام 1984، سبعًا وعشرين ندوة، وكان الرجل يحرص فيها جميعًا على بث روح الاعتدال والتواضع في الشباب، والتخفيف من تأثير نشوة النصر التي يزداد خطرها حين تلازم فورة الشباب.

وأيضًا كانت لمحاضراته في الإسكندرية عقب بدء حركة الانحسار في الجامعات المصرية عقب الصدام بين الحركة والسلطة ومصادرة وتأميم الاتحادات الطلابية والجمعيات الخيرية والمساجد، أكبر الأثر في تهدئة النفوس الثائرة وكبح جماح التطرف، وذلك من خلال لقائه بهم في محاضرات حديث الثلاثاء.

وكان لا يألو جهدًا في تلبية رغبات الشباب في لقائه بهم حرصًا على غرس روح الحب والأخوة بينهم، وكان لا يفوته ذلك أبدًا، يقول:

"دعيت لزيارة مجموعة من الشباب، واستغرق السفر إليهم ثلاث ساعات!، وحين وصلت إليهم، وجدتهم قد استقبلوني وهم جلوس! ووجوههم جامدة، ومشاعرهم خامدة، وعيونهم ميتة، قدمني إليهم كبيرهم، فتحدثت إليهم بلا قلب، ولا روح، حتى إذا انتهيت من حديثي، شكرني، وخرجت كأنني كنت أعزي في ميت!! وعدت من حيث أتيت حزينًا لما شاهدت ورأيت!.

ومضت الأيام والأسابيع، وجاءني الأخ نفسه الذي دعاني أول مرة، جاء يدعوني لأكرر الزيارة مرة أخرى.

فقلت له: إلى أين؟

قال: إلى الإخوة.

قلت له: أهؤلاء إخوة؟ قال: نعم.

قلت: مستحيل أن يكون هؤلاء عندهم تذوق لمعنى الأخوة، كيف يكونون إخوة.. وقد جاءهم ضيف قطع إليهم مسافرًا أكثر من ثلاث ساعات، جاء إليهم بأشواق متلهفة، وعواطف مشتعلة، ونفس منشرحة؟ فيتلقونه بمشاعر جامدة، وهم جلوس كأنهم تلاميذ في مدرسة، لا تربطني بهم سوى علاقة المدرس في الفصل، فإذا أنهى الدرس خرج لا يلوي على شيء، لا عواطف ولا مشاعر ولا دعوة تجمع بينهم!!

لقد تركتكم كاسف البال، أتحسر على جمود العواطف، وفقدان يقظة القلوب، وحياة المشاعر التي هي سر وجودنا وحيويتنا وانتعاشنا.

أصاب أخي الخجل والحيرة، ثم بادرني يقول:.. إذا كان الإخوة قد فاتهم هذا المعنى في أول مرة، فسوف أقوم بالتنبيه عليهم، حتى يتداركوه المرة القادمة.

فنظرت إليه، وقلت: يا سيدي إن هذه المواهب الروحية، واللمسات العاطفية، والأريحية، واللطائف النفسية، والذوق، لا تنهض بها توجيهات أو أوامر، وإنما تنهض بها: موحيات قلوب معطرة بالحب، مشتاقة تواقة إلى توأمها في العقيدة التي تتأجج بها القلوب.

واعتذرت لأخي عن الزيارة، رغم أني مشتاق إليهم، ومشفق عليهم".

فلم يكن مستغربًا أن يكون من مؤلفاته الدعوة إلى الله حب، والذوق سلوك الروح، والطريق إلى القلوب، وحسن البنا مواقف في الدعوة والتربية، ورسالة الحب في الله.

ولم يكن مستغربًا أن يعرفه الشباب في أوربا وأمريكا وكل العالم الإسلامي، قبل عام زاره أحد الشباب، وقال: شاهدت عند الشيخ إخوة من الإخوان المسلمين من أمريكا وألمانيا والصين واليابان جاءوا خصيصًا لزيارة الشيخ حبًّا له.

وربما كان الرجل أول من عرفته يجعل الحب جهادًا حين قال:

"واستيقظ شباب الأمة الإسلامية وشاباتها على (الحب في الله) الذي هو الأصل الطاهر النظيف العفيف. وكشف الغطاء عن هذا المخطط الخبيث الذي يعمل على تدنيس الحب وإفساد الأخلاق وإظلام القلوب وإطفاء نور الإيمان".

إن الجهاد بالحب في الله هو الفرصة المتاحة والسياسة المباحة التي لا تعوقها حدودا أو يصادرها قانونº لأنها نبض وهواتف ومشاعر وأحاسيس. والحب في الله هو السبيل الذي ليس له نظير ولا مثيل.

وكان هذا هو الإسلام عند الرجل، حين أراد أن يعلم الشباب الذوق الرفيع في تعاملاتهم مع بعضهم البعض، يقول: "الإسلام ذوق، الإسلام لطائف، الإسلام أحاسيس ومشاعر، هذا الدين يتعامل مع النفس البشرية يتعامل مع القلوب والأرواح، يتعامل مع الأنفاس، هذا الدين لم يبدأ باستعمال العضلات ولا خشونة الكلمات، ولا بالتصدي والتحدي، ولكن بالكلمة الطيبة والنظرة الحانية، قال تعالى: "وقولوا للناس حُسنًا".

السيسي وكتابة التاريخ:

ومما سبق به زمانه اهتمامه بكتابة تاريخ حركة الإخوان المسلمين، وإزالة الشبهات حول الفترة التي سبقت دخولهم السجون والمعتقلات، فكان جهده الكبير في كتبه (في قافلة الإخوان، وجمال عبد الناصر وحادث المنشية، ومن المذبحة إلى ساحة الدعوة، وحكايات عن الإخوان، ورشيد المدينة الباسلة).

وليس ذلك فقط بل، اهتمامه بتسجيل تاريخ الجماعة عن طريق إجراء الحوارات والمقابلات مع الإخوان القدامى بالصوت والصورة في دار القبس بالإسكندرية، وقد حضرت أكثر من مرة تلك المقابلات مع بعض الإخوان من داخل وخارج القطر، ولعل هذه المقابلات تخرج في حينها.

فلم يرضَ الرجل أن تنتهي حياته وقد تجاوز التسعين، دون أن يؤدي أمانة تسجيل ذلك التاريخ الطويل للإخوان ومشاركتهم في صناعة الحياة بمختلف جوانبها السياسية والاجتماعية، في أهم فترة لتاريخ مصر في العصر الحديث، وحتى الأحداث العسكرية، وذلك بمشاركتهم في حرب فلسطين والانتصارات التي حققوها على اليهود، وكانت مكافأتهم استدعاؤهم وإيداعهم معتقل الطور بسيناء.

ومع كل ذلك الجهد في كتابة تاريخ الإخوان نرى الكثير من رجال الإخوان الكبار الذين رفضوا أن يبوحوا بأسرار وتاريخ تلك الفترة المهمة من تاريخ البلاد، تحت زعم أنهم لا يريدون أن يتعرضوا لأحداث تعذيبهم في السجون احتسابًا لذلك عند الله.

لقد كان الرجل يرى أنه لا ذنب للأجيال الجديدة في عدم معرفتهم بتاريخ تلك الفترة من تاريخ البلاد، لذلك كانت مبادرة الحاج عباس -رحمه الله- من أعظم ما قدم للحركة من نفع، يقول:

"حينما كنا في الطريق إلى سماع الأحكام في مبنى مجلس قيادة الثورة نستمع إلى حديث مختصر من الأستاذ سيد قطب، حيث قال: إننا مستعدون بكل اطمئنان إلى كل ما يقدره الله لنا، ولا يريد الله لنا إلا الخير، ولعلنا لا نلتقي فلا تجزعوا.. وعلينا أن نستفيد من أخطائنا حتى يتداركها الجيل القادم".

وكان مما قاله في الدعوة ومهمة الدعاة: "إن مهمتنا إيقاظ الشعب المسلم الذي نام طويلاً، ونحن في حاجة إلى هزة روحية جبارة لتحريك وعي عقله الذي نام لفترة، وضميره الذي تحلل من أثر عوامل الظلم والقهر.

وجوب التأهيل للدعاة والمتصدرين:

ومما كان يؤمن به، ويدل منه على الفهم الصحيح والراقي للإسلام وأصول دعوته، وجوب أن يكون المتصدر للدعوة إلى الإسلام، مؤهلاً تأهيلاً يسمح له بذلك التصدر، والتعبير عن مفاهيم تلك الدعوة تعبيرًا ليس فيه لبس ولا غموض، يقول:

"ولما كانت رسالة الإسلام موجهة إلى عامة الناس على الأرض، كان من الضروري أن يتصدر لهذا المجتمع الواسع دعاة على مستوى من العلم والقدرة والقدوة، ودراية بأسرار النفس البشرية، يتحلون بالصبر، وانشراح الصدر، وفراسة وبصيرة (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) يوسف 108، واستنهاض إمكانيات الحواس الربانية، في جذب القلوب، وتآلف الأرواح، والمعايشة في رحاب حركة الدعوة ومجالاتها الواسعة، وهذا يكون بالكلمة الطيبة، والدعوة بالحسنى، والجدال -إن اقتضى الأمر- بالتي هي أحسن، والقدوة الصالحة، ذلك أن طهارة الهدف تستلزم -في عرفنا- طهارة الأسلوب في تحقيقها، وقبل الغاية يقتضي نبل الوسيلة حتما".

وقال: "فالدعوة تقتضي فهمًا دقيقًا لكل مراحلها وأهدافها، وما تريد في المستقبل، وما طريقها في تحقيق أهدافها".

ومن هذا الفهم الراقي عند هذا الرجل -رحمه الله- توجيه الشباب للاتصال بالمجتمع، وعدم الانفصال عنه، وتعليم الناس الفهم الصحيح للإسلام، يقول:

"فقد ظلت العبادات عند كثير من المسلمين محصورة في شكل بدون روح، فالمسلم يؤدي عبادته ويتقوقع في ذاته وخصوصياته، دون الاهتمام بأن الإسلام رسالة ودعوة.

وبهذا انكمش دور المسلم الاجتماعي والحركي، فلم يمتد إلى جميع قطاعات المجتمع، لينقله ويصبغه بصبغة الإسلام، حقيقة وعملا، مشاعر وشعائر وشرائع، لبناء الأمة الإسلامية، وتحقيق الآمال".

متى يتقدم الرجل، ومتى يتأخر؟

ولنرفع لهذا الرجل القبعات احترامًا وتقديرًا وإجلالاً، حين نعلم أنه قد طلب إعفاءه من عضوية مكتب الإرشاد عن قطاع الإسكندرية والبحيرة ومطروح، وهو أعلى منصب في قيادة الجماعة من الممكن أن يصل إليه فرد في الإخوان، بعد منصب المرشد العام، وذلك لأنه لا يستطيع -في رأيه- أن يؤدي دورًا كبيرًا للجماعة وهو في هذه السن المتقدمة، مفسحًا المجال أمام الأقل عمرًا الذين يستطيعون أن يعطوا لجماعة الإخوان أكثر، وخلفه الأستاذ جمعة أمين في عضوية المكتب.

ويحكي، فيقول: "في عام 1951 عدت من منفاي في أسيوط للعمل في الإسكندرية، وذلك حين عادت الجماعة رسميًّا بعد محنة 1948. ومن تقاليد الإخوان في مراكزهم أن يقوم على باب المركز أخ يسمى مراقب الدار مهمته حسن استقبال الوافدين والزوار والإخوان، وفوجئت أن الأخ القديم المكلف (أصيب في حادث حريق) وعنده بعض التشوهات، ومع هذا أرجعه الإخوان إلى مهمته، فقلت للإخوة: إن هذا الأخ كلنا نحبه، ولكن ليس هذا مكانه، فالرسول r كان يتخير لمراسلاته من سفرائه من كان من شروطه حسن السمت، وهذا رسولنا لكل قادم جديد، وإنه بقدر ما نحب بعضنا في الله فعلينا أن نضع الرجل المناسب في المكان المناسب".

عباس السيسي.. بسمة المحن:

وكتب جمال ماضي يقول: في يوم السبت ونحن في مستشفى قصر العيني جاءنا خبر وفاة الحاج عباس السيسي الذي توفاه الله عقب صلاة قيام يوم الجمعة في شهر رمضان المبارك الموافق 22/10/2004م، وعلى الفور ومن تليفون زوجتي المحمول اتصلتُ برشيد لنقل تعازي مجموعة الشهيد أكرم زهيري، وقد أرسلت الزوجة مشكورةً تلغرافات تعزية بأسمائنا إلى أسرته الكريمة.

وفي داخل السجن طلب الإخوان مني أن أتحدث ما بين الركعات في صلاة القيام عن شخصية الحاج عباس السيسي، خاصةً أنني بعد حضوري من المستشفى لجأت إلى قلمي وكتبت مشاعري تحت عنوان: (عباس السيسي.. بسمة المحن)؛ التي سأنقلها لكم كما خطَّتها نبضاتُ قلبي، وكما انطلق بها لساني:

محطات من حياته:

1- من مواليد 1918م برشيد، التحق بالتعليم الصناعي، ثم تطوَّع في الجيش بمباركة الإمام الشهيد حسن البنا الذي استحسن له هذا الأمر، رغم أنه كان يشتكي من إحدى عينيه، لكنه في الكشف الطبي يكتب له قدرُ الله القبول.

2- بمجرد أن عرض عليه الأستاذ محمود عبد الحليم دعوة الإخوان المسلمين علم أن هذا الطريق هو حياته، وعلى إثرها ظل يقدِّم كل ما يملك لدعوته.

3- وفي رشيد استطاع في شعبة الإخوان أن ينشر دعوة الإخوان، معتمدًا على صفاته الفطرية التي وهبها الله إياها من البساطة والعبادة والفكاهة وأَسْر القلوب وملك المشاعر والانخراط في مشاكل الناس ومساعدتهم بخلق رفيع وذوق عالٍ.

4- تعرض لمحنة 54؛ حيث حوكم عسكريًّا وصدر عليه حكمٌ بالإعدام خُفِّف فيما بعد إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.

5- وكان في داخل السجن هو (بسمة المحن) من كثرة ما كان يلقاه الإخوان من نكاته وفكاهاته.. حكى لي الأستاذ العريشي الذي صحبه في الزنزانة أنهم اشترطوا عليه (نكتة في كل يوم فقط)؛ إلا أنه جاء يومًا ليستأذن في عرض نكتة سلف من حساب الغد!.

6- فرضٌ على كل من يقابله الابتسامة، حتى ولو كان الشخص لا يعرفها، حتى على قائده الإمام الشهيد حسن البنا.. يحكى في إحدى زياراته لرشيد أنه كان هناك تعارف بين الجالسين من عائلات: سردينة وزيتون وسمك فقال الإمام: سفرة دائمة.

7- عقب خروجه من السجن مباشرةً رفع شعار (الدعوة إلى الله حب، والصبر عليها جهاد)، حتى إنه كتبها في مدخل شقته بالإسكندرية بميامي، وكان مثالاً حيًّا في ترجمة هذا الشعار على ثلاثة محاور:

محور الإخوان القدامى:

سواء الذين تعرَّضوا للمحن أو الذين لم يتعرضوا، وجمعهم في أنشطة وبرامج ونشر بينهم جوَّا لطيفًا، حتى ظنوا أنهم فقط هم الذين يمثلون الإخوان بالإسكندرية.

محور شباب الإخوان:

ومع أنه قد تجاوز في سنوات السجن زمن الشباب إلا أنه في أوساط الشباب كان شابًّا؛ تحمل عيناه الود، ويقدِّم قلبه الحب في حيويةٍ تقودهم برفق وفن وفي حماس يشعل فيهم لهيب الحماس، فالتف حوله الشباب، وكانت لرسائله العاطفية والرقيقة معهم إحياءً لمعنى جديد عملي هو الحب.

محور العمل الإخواني:

حيث أخذ ينظم العمل بالإسكندرية ويعيد أنشطة الإخوان في قيادة حازمة وريادة حكيمة، في نظام سلس وأسلوب مبدع، فأخذت دعوة الإخوان في الانتشار منذ أوائل السبعينيات، سواءٌ كانت في المناطق أو الجامعة.

- وبعد تأسيسه العمل الإخواني من جديد أسَّس ما عرفت آنذاك في الجماعة بمعسكرات رشيد، وكانت مجالاً تربويًّا عميقًا في التعارف وتلاقي الأفكار على مستوى القطر، ثم أعقب ذلك بمعسكرات (أبو يوسف) بالإسكندرية التي خرَّجت جيلاً من الإخوان هم اليوم الذين يتولَّون قيادة الجماعة على مستوى القطر أو في المحافظات كافة.

- عقب أحداث سبتمبر 81 سافر إلى ألمانيا، ومنها سافر إلى معظم دول العالم، وكان له دور فعَّال في إخوان العالم خارج مصر؛ حيث إنه ما حلَّ في مكان إلا وأصبحت له ذكرى لا تُنسى.

- عاد في بداية عام 85 ليستكمل المسيرة الإخوانية، وكان لي شرف العمل معه في تأسيس دار الصوتيات والمرئيات، والتي عُرفت فيما بعد باسم (اقرأ)، وفي عام 86 سافرت للعمل بالسعودية فشعرت بوحشة الغربة والابتعاد عن الحاج عباس، حتى جاءتني رسالته القلبية وكتب لي فيها: "تركت إخوانًا تحبهم ويحبونك إلى إخوان تعانقهم ويعانقونك"، فأزالت وحشتي ودفعتني إلى العمل والانطلاق والدعوة بلا توقف.

عدت في عام 92 إلى الإسكندرية، أو بالأحرى إلى الحاج عباس بنفس الروح الفتيَّة التي كان يشعل جذوتها في كياني بين الحين والآخر، وسعدت بصحبته في أعمال وأنشطة الإخوان بالإسكندرية حتى عام 1995م؛ حيث رحلت إلى المحكمة العسكرية بدءًا من يناير أول السنة، وقد تزامن ذلك باعتذاره عن المضي في مزاولة عمله كعضو مكتب الإرشاد لجماعة الإخوان المسلمين؛ نظرًا لأحواله الصحية؛ ليضرب المثل بإتاحة الفرص للشباب للعطاء والعمل، في حين ظلت دعوة إفطار الإخوان بالإسكندرية توجَّه باسمه، وكان الإفطار يزداد بهاءً بحضوره وتشريفه، رغم معاناته الصحية، والتي كانت وقودًا للإخوان وزادًا للناشطين بالإسكندرية على كافة ألوانهم الفكرية والحزبية والثقافية، ولم يكن هذا خيالاً؛ بل هذا ما كنت أشعر به وأراه أثناء تقديمي لحفلات إفطار الإخوان.

- وفي عصر يوم الإثنين زارنا بالسجن الأستاذ حسين إسماعيل الذي قام بتغسيله، وحكى لي كيف كان الحاج عباس هزيلاً وهو تحت جهاز التنفس الصناعي، وبمجرد أن وافته المنية ردَّت إليه صحته وسمن وجهه وقويَ جسمه واشتدت يداه، وكانت تعلوه بسمة سحرية، ويضيف الأستاذ حسين إسماعيل أنه كان ضحوكًا بشوشًا وهو يودعنا ويستقبل الآخرة!! عليه رحمة الله وجمعنا وإياه في جنته.. اللهم آمين.

مواقف لا تنسى:

1- تعليم الجندية:

لا أنسى هذا الموقف مع الحاج عباس في معسكر أبي يوسف، وكان حريصًا على الحضور الدائم بين أفراد المعسكر؛ فقد جاء الحاج أبو قنينة مسئول البحيرة ومعه الحاج شمعة مسئول المحمودية آنذاك ليصطحبا الأستاذ جمعة أمين ليلقيَ كلمة إخوان الإسكندرية في حفلٍ كبيرٍ بالمحمودية، ولكنه اعتذر لوعكةٍ ألمَّت به، وفوجئت بأن الحاج عباس يكلفني بهذه المهمة قائلاً لي: "يللا يا عسكري قم بالمهمة"، ولكنه اشترط عليَّ أن أكون بالمعسكر قبل صلاة الفجر، وبالفعل ذهبت إلى المحمودية، وكان حفلاً مشهودًا، ولم أتصور أنهم يقدمونني لإلقاء كلمة إخوان الإسكندرية؛ فقد ظننت أن الدعوة لغيري حتى سمعت اسمي؛ فقد كنت حينذاك شابًّا في بداية العشرين من عمره، وأتْممت المهمة على خير، وكانت كلمة شبابية حماسية لاقت استحسان الحاضرين؛ حتى إنهم التفُّوا حولي بعد الحفل يتسابقون في ضيافتي ولم يكن في رُوعي وتفكيري إلا شيء واحد هو سرعة رجوعي لأكون بالمعسكر قبل صلاة الفجر، وكان رجوعي بالمواصلات العادية، وكان الطريق إلى المعسكر وعرًا، وليس مثل اليوم معبَّدًا، وكانت سعادتي القصوى حينما أخذت أبحث عن الحاج عباس، حتى كنت بجواره وهو يتوضأ لصلاة الفجر قائلاً له: "السلام عليكم"، فقال لي: "إنت جيت يا عسكري؟".

إلى هنا قد يكون الموقف عاديًّا، إلا أنني لم أفهمه إلا بعد زمن حينما أدركت ما غرسه في نفسي وما زرعه في عقلي من أن الجندية هي أساس نجاح الأعمال، مهما كان موقع الإنسان أو تمكن الداعية.

2- الحكمة:

ربما نسمع عن الحكمة أو نقرأ عنها أو نروي بعض أقوال الحكماء، ولكن أن ترى الحكمة وهي شاخصة بلحمها وعظمها أمام عينيك؛ فهذا ما لا تنساه أبدًا.

بعد أن مُنِع فضيلة الشيخ المحلاوي من الخطابة بمسجد القائد إبراهيم، وأصرَّ الشباب وروَّاد المسجد والإسكندرية على أن يخطب بالمسجد، وكان يومًا زلزل أرجاء الإسكندرية الذين جاءوا من كل حدب وصوب ليشهدوا هذا اليوم، وعقب الخطبة التي ألهبت الحاضرين كاد الناس أن يخرجوا عن صوابهم؛ بحيث لا يستطيع أحد أن يسيطر على الموقف، وكنت على مقربة من الحاج عباس الذي حاولت أن أساعده وهو يصعد فجأةً على سقف سيارة، فلم أستطع من سرعة قفزته واعتلائه السيارة مخاطبًا الجموع بلا ميكرفون:

أيها الإخوة..

لقد أديتم ما جئتم من أجله، فانصرفوا راشدين.

فما هي إلا لحظات وقد خلا المكان تمامًا من الناس، وما ذلك إلا لحكمته باختيار الوقت المناسب والأسلوب المناسب في المكان المناسب بالابتكار المناسب من الرجل المناسب، فرأيت الحكمة بعيني وغرست معانيها في نفسي.

3- التفويض:

في الأعمال الفردية التفويض يكون سهلاُ، ولكن حينما يكون التفويض أمام جموع من البشر في مؤتمر يجمع كل الإسكندرية فالتفويض يكون مغامرةً، ولكن لثقة القائد في جنوده والتفاهم المتناغم بينهما النابع من صفاء الدعوة التي تعلمها التلميذ من أستاذه يمر التفويض طبيعيًّا.

هذا ما كان في مؤتمر ميدان المساجد بأبي العباس ببحري؛ حيث كانت تجتمع الحشود سنويًّا في حفل المولد النبوي، وكان يشرِّف الحفل الأستاذ عمر التلمساني المرشد العام للإخوان آنذاك، وكنت مكلفًا بالهتافات من على المنصة، فجاءني شاب قوي البنية، وقال لي أريد أن أهتف فقلت له: "استأذن من الجالس في الصف الأول"، وأشرت إلى الحاج عباس الذي أرسل لي رسالةً مع طالب الهتاف كتب فيها: "اسمع هتافه، وإن رأيته مناسبًا فردِّده أنت"، وشعرت بفداحة القرار، وسمعت منه هتافه الذي أخذ يردِّده على مسامعي بصوت جهوري قائلاً: "أنا لا روسي ولا أمريكاني.. أنا ورا التلمساني".

وعلى الفور أدركت أن دعوتنا لا نتبع فيها أشخاصًا، بل إن هذا يُغضب الأستاذ التلمساني الذي كان يرفض الهتافات أثناء حديثه، وتعلمت من الموقف كيف تفوّض ومتى تفوّض ومن تفوّض وما السبل التي تُنجح التفويض، أرأيت كيف كان بموقفٍ يتكلم بين يديك؟!

4- الإتقان:

"إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه" فماذا لو كان العمل لا يخص الشخص بل يخص الجماعة، بالطبع سيكون الإتقان على درجة أكبر، وهذا ما لمسته حينما التهبت الإسكندرية لزيارة بيجين رئيس وزراء الكيان الصهيوني لأول مرة، وكان لا بد من الاستنكار وإظهار الغضبة لهذه الزيارة الكريهة، وقد اتخذ الإخوان قرارهم بإعلان استنكارهم عمليًّا بالانطلاق بعد خطبة حماسية للشيخ المحلاوي من مسجد عمر بن الخطاب؛ حيث كان ما زال ممنوعًا من الخطابة بمسجد القائد إبراهيم، وكلفني الإخوان بإلقاء بيان الإخوان عقب الخطبة بأسلوب ناري دافعٍ لهم إلى الخروج وإظهار الغضبة بقوة، وكان ارتجاليًّا غير مقروء لضمان الحماسة والدافعية.

ولا أنسى ليلتها؛ فقد استدعاني الحاج عباس، وكان بصحبته الأستاذ أحمد حيدر وكيل المكتب الإداري آنذاك، وأخذ الحاج عباس يمثِّل لي طريقة الإلقاء وكيفية الوقفات ومواطن إشعال الحماس، وكان حريصًا على السماع مني؛ فإن خرجت كلمةٌ مني زائدة ردَّني إلى النص، فأدركت كيف حرصه على بيان الإخوان أن يكون منضبطًا ومسئولاً ومحقَّقًا الهدف؛ فليس الأمر حماسة وغضبة بقدر ما هي خطة وهدف وحرص، وهذا هو الإتقان؛ ليس إتقان عمل فردي يتحمله صاحبه، بل إتقان عمل لجماعة ينم عن حرص القائد ومسئوليته العظيمة.

5- الإبداع الدعوي:

الجمود عدو الحركة، والإبداع ضرورة دعوية اليوم للتأثير في النفوس والقلوب.. أتذكر حينما شرعنا تحت- إشراف الأستاذ محمد عبد المنعم- في عمل مسرحية (أصحاب الأخدود) واقترب موعد العرض اعترضتنا عقبات كثيرة كادت تودي بالعرض بعد تعبِ وتحملِ الفرقة التي ظلت ثابتةً رغم الصعاب، فذهبت مهمومًا إلى الحاج عباس، وكان ذلك بعد عودته من رحلة ألمانيا مباشرةً، وبمجرد ما عرف الموقف تحمَّس للمسرحية أكثر منا، وكان يتابعها بنفسه يوميًّا رغم مشاغله، وكم ذلل لنا الكثير من الوسائل المالية والفنية والإدارية حتى تم العرض على أعلى مستوى لم نكن نتخيله!، ولا أنساه في البروفة الأخيرة مصطحبًا الحاج حسن جودة مسئول قسم نشر الدعوة آنذاك، وقام الحاج عباس بالتسليم والتحية على كل أفراد الفرقة والفنيين والمعاونين؛ مما كان سببًا مباشرًا في إنجاح المسرحية التي شهدت أربعة عروض بمسرح الشبان المسلمين بالشاطبي؛ منها عرض للنساء فقط، وما زلت أتذكر الكلمة البليغة التي ألقاها الأستاذ محمد عبد المنعم في الحفل الذي أقامه الحاج عباس في مكتبه تكريمًا للقائمين على العمل، وما زلت إلى اليوم أحتفظ بهديته التي لا تقدر بثمن.

ملامح الشخصية من حياته:

1- الإيمان العميق بالقدر:

جاءت حكايات الحاج عباس عن السجون كلها عن (جميل الأقدار الإلهية) والتأمل الإيماني في حكمة الله تعالى في تصريف الأيام والساعات واللحظات.

مثال: وقوفه أمام شمس بدران، ثم وهو في طريقه إلى العيادة بعد التعذيب لإخفاء آثار التعذيب يقول له العسكري: "قف" ليجد نفسه أمام زنزانة نفس الأخ الذي كان الحديث عنه، فيخبره بما يقوله وينجو الأخ من التعذيب، وكان تعليق الحاج عباس على هذا الموقف: ﴿وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ﴾ (الأنفال: من الآية 42).

مثال: حملة تفتيشية مفاجئة، وقد تخلص الإخوان من الممنوعات وفق قانون السجون، ولكن بقيت "شنطة" كانت بعيدة في حجرة الحقائب، وكان المسئول عنها الأخ محمد سليم الذي قال: "إن هذه دعوة الله، وهو صاحب الشأن؛ فإن شاء يفعل ما يشاء"، يقول الحاج عباس: "وبالفعل تفتش كل الحقائب إلا هذه الحقيبة".

مثال: حينما فوجئ بالتفتيش وكانت الأوراق في يده وأمامه الضابط فقام بتمزيق الأوراق ورميها أمام الضابط، ولم يتصرف منهم أحد بأي تصرف، وقضي الأمر!، ومرة أخرى يفاجأ وكان معه بحث مكتوب فوضعه في صدره ولم يحاسبه أحد.

2- الشعور بآيات الله:

في حديثه عن رحلة الحج مع الحاجة أم معاذ، وقد أصيب الحاج بالذبحة وظل في مستشفى المدينة المنورة، وذهبت الحاجة بمفردها في حالة نفسية صعبة، وفجأةً تجد في الطواف أبا معاذ وأكملت الرحلة.

ثم تاهت الحاجة عن معاذ فوجدت شخصًا يشبه (عبد الله حماد) فنادته: "يا حاج عبد الله.. هل تعلم أين الحاج عباس؟" فقال لها: في مستشفى المدينة المنورة، ولكني لست عبد الله حماد، أنا من إخوان الصعيد، وأوصلها إلى المطوف.

يقول الحاج عباس عن هذا الموقف: "وهكذا ترى وتسمع بأذنيك وعينيك آيات الله تعالى تترا علينا في كل طرف، وفي كل مكان، وبهذه الآيات تثبت القلوب المؤمنة، وتحيا دائمًا في رحاب الله تعالى".

3- ذكر جوانب العظمة في الناس:

الذين أيَّدوا في عام 54 كان عددهم مائة أطلق عليهم الإخوان "المائة المبشرون بالجنة"؛ لأن الحكومة اعتقلتهم في الستينيات، بل وزَّعتهم على العنابر للطعن في فكر الإخوان، وأقامت ندوة ليتكلموا، ولكن خاب ظنهم، يقول الحاج: "وكانت إرادة الله أن يدافعوا بكل جهدهم، فأحرجوا المباحث وفشلت الوقيعة بين الإخوان".

4- الإدارة بالعواطف بين القائد والجند:

مثال: في لقاء مع الإمام حسن البنا في منزل الأستاذ مصطفى مشهور وحديث عن الآمال والآلام ودور الشباب يقول الحاج عباس: "وتعانقنا، وكان الوداع والدموع تتساقط من عين الإمام حسن البنا، يا لها من لحظات أنبتت الإيمان وأزهرت القيم!".

مثال: بعد نقل الحاج عباس إلى غزة من مطروح ليشارك في الحرب يقول الحاج عباس: "جلس معي الإمام حسن البنا منفردًا، وقال بعاطفة جياشة: نأخذ بعض المعلومات عنك لنشرها إذا استشهدت في المعركة، يقول الحاج عباس واصفًا هذا المشهد: "ثم وقف يودعني بحرارة وعاطفة وظل يراقبني حتى غبت عن ناظريه، تلك هي القيادة التي تحب الجنود، وهؤلاء هم الجنود الذين يحبون القيادة".

5- كان مولعًا بجميل العلاقات الإنسانية:

مثال: كتب لنا تحت عنوان "كيف يتحدث الوجه" متسائلاً: "هل يعتبر الوجه ثروةً لصاحبه، فيمنح الذين يتكلمون أملاً ويجعلهم يتمتعون بقدر كبير من الثقة؟!".

مثال: ماتت أمه وهو ابن ثلاث سنوات, وتزوج الأب، يقول الحاج عباس أنه في صباه لم يسمع ولم يَرَ منها ما يوحي بأنها زوجة أبيه، ثم يعلِّق: "رأيت أن أسجِّلها لأنه غاية في المثالية، رغم أنها واقعية حكمة الوالد وفطنته ورعايته لأولاده رعاية تقوم على الحفظ والحرص والعناية".

6- أخوة الروح:

يحكي قائلاً: في عام 47 خرجت من المكتب الإداري واتصلت تليفونيًّا لمتابعة الأمور فإذا بشخص يقول لي: من أنت؟

فقلت: أخوك عباس السيسي.

ثم قلت: من أنت؟

فقال: لا أعطيك اسمي، وابتسم ضاحكًا.

فقلت له: طيب.. إنت لابس إيه؟

فقال: يا أخ عباس.. الرجل يعرف بروحه وحسه لا يُعرف بلبسه.

فقلت له: يظهر أنك رجل روحي قوي.

قال: أنا روحك، وأنت روحي.. أنا حسن البنا.

ثم يعلق الحاج عباس: "فألقيت السماعة على المكتب وهتفت: الله أكبر ولله الحمد، وأنا أعمل تعظيم سلام؛ حيث كانت مفاجأة".

7- السيسي.. الكاتب المتمكن:

يقول: "اغرس بذرة.. اغرس فكرة.. اترك كلمة في قلب من تلقاه؛ فلا تدري في أي القلوب يكون الخير".

ويقول: "افتح للكلمة نوافذ الهواء ونوافذ الحرية لتسمع وتقرأ، وارْوِها بالري، وريُّ القلوب هو الحب".

ويقول: "وتابعها بالعناية والاهتمام في السراء والضراء؛ فذلك هو السماد وهو الغذاء".

8- قطار الدعوة:

- أنا كراكب قطار الدعوة، وسائقه قائدها.

- قائد الدعوة كقائد القطار؛ يعيش دائمًا بين الغاز والزيت والنار.

- صفير القطار هو الآذان أو النداء.

- شريط السكة الحديد هو طريق الدعوة المرسوم ومنهاجها المعلوم.

- للقطار محطات، وللإخوان طاقات؛ فمنهم من يغادر في منتصف الطريق، ومنهم يبقى ومنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.

- ومن يتعبه الطريق فقد أعطانا جهد المقل فلا يُلام؛ فعساه يومًا يعود ويجود ما بقي بيننا وبينه صلة وقلب وود.

- توقيت القطار معلوم؛ فالذي يتأخر يفوته القطار، ولا تنفعه الأعذار.

عباس السيسي.. الدعوة إلى الله حب وفن أيضًا:

كتب د. عمرو الشيخ، يقول: كان تلميذًا نجيبًا لمؤسس هذه الحركة المباركة، حركة الإخوان المسلمين، وإمامها الشهيد حسن البنا رحمه الله، ومربيًا حكيمًا، سديدَ الرأي، ثاقبَ النظرة، مرهفَ الحسّ، دقيقَ الشعور، حاضرَ البديهة، يقود أبناءه وإخوانه بحكمة الشيوخ، حتى وهو في شرخ شبابه، صاحب عاطفة متدفِّقة يحيط بها كلُّ مَن يلقاه، ويبادرُه بالتعرف عليه، ويعقدُ بينه صلةً قلبيةً، تترك أثرَها وصداها في نفسه لا تبارحه، ولا عجبَ؛ فالدعوة كانت عنده حبًّا ملأ شغاف قلبه.

وكيف لا وهو الذي كتب رسالته الدافئة (الدعوة إلى الله حب)، يصل إلى قلوب الناس بحسن خلقه، وبشاشة وجهه، وجمال أسلوبه الدعوي، يترفق بالناس، يُدخل السرور على قلوبهم، يشاركهم في مشكلاتهم، ويعمِّق العلاقة بهم، يُقيم أواصر الحب معهم، يتلطَّف بالصغير، ويصبر على الجاهل، ويمتِّن الصلات الاجتماعية معهم، عن طريق التزاور، ومشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم!!.

وهو بسيطٌ في مظهره، باسمُ الثغر، واسعُ الصدر، حليمٌ على من يُسيء إليه، ودودٌ لإخوانه، رفيقٌ بجيرانه وزملائه، خفيفُ الظل، لا يُرى إلا مبتسمًا، كثيرُ الدعابة لإدخال السرور على مَن حوله، ولكن بأدب الإسلام، يَروي القصص بأسلوب مشوِّق جميل، ويهدف من كل ذلك إلى استمالة قلوب المدعوين إلى دعوة الحق، ومنهج الحق، ودين الحق، صبَرَ في كل المحن التي تعرض لها، له إسهامٌ كبيرٌ في نشر الدعوة داخل مصر وخارجها، وله محبُّون وتلاميذ في أكثر أنحاء العالم العربي وفي الغرب.

يصفه المستشار عبد الله العقيل، فيقول: "والأستاذ من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين، الذين حملوا رسالة الدعوة، وثبتوا على حملها، والتصدي لكل قوى الظلم والجور التي سعت لتعطيل المسيرة، أو إيقاف القافلة".

كان يستوعب الشباب وحماسهم، ويوجه هذا الحماس لخير الأمة والدعوة، وكان يعالج تطرف أفكارهم بالحب واللين، ويقول: "سنقاتل أعداءنا بالحب"، فمن هو هذا الأستاذ الذي سيقاتل الناس بالحب؟! من هو هذا الإنسان الذي كان منهجه أن "الدعوة إلى الله حبٌّ، والحياة في سبيل الله أشقُّ من الموت في سبيل الله ألف مرة"؟ من هو الإنسان الرقيق الذي كان شعاره: "الذوق سلوك الروح"؟!

إنه صاحب الشخصية الفريدة التي كانت تحيا بالدعوة طيلة حياتها، وخاضت في سبيل غايتها غمار المحن، من اعتقال وسجن وتعذيب، فما لانت لها قناةٌ، ولا فترت بين جوانحها عزيمةٌ، بل مضت تسجِّل في دأب يغبطها عليه أولو العزم من حملة الأقلام، مضت تسجل ذكرياتها وخواطرها مع أستاذها الإمام البنا، ذلك الذي ما غاب عنها طيفُه، ولا غاب عن مجلسها استدعاء كلماته ورسائله، فتتحول هذه الخواطر كتبًا تعلم وترشد وتضيء الطريق لسالكيه بما حوَت من ذكريات ومواقف وأحداث، منها: (حسن البنا.. مواقف في الدعوة والتربية)، و(من المذبحة إلى ساحة الدعوة)، و(في قافلة الإخوان المسلمين)، و(حكايات عن الإخوان)، ومع العاطفة الجياشة في (الدعوة إلى الله حب)، ومع الحسّ المرهف ذلك الذي يسميه سياسةً فإذا بها تسجّل في قطرات مستخلصة من هذه السياسة مواقف تربوية نقدية في كتابها الرقيق (الذوق سلوك الروح) نبراسًا لمن أراد أن يسلك إلى القلوب طريقًا (الطريق إلى القلوب).. إنه عباس السيسي- رحمه الله- ونحن نصغي السمع إلى وصاياه وتعاليمه..

يا شباب، إن "الدعوة إلى الله فنّ، والصبر عليها جهاد.. والدعوة إلى الله حبّ، والحياة في سبيل الله أشقُّ من الموت في سبيل الله ألف مرة".

يا شباب، إن "الإسلام ذوق، والإسلام لطائف، والإسلام أحاسيس ومشاعر، هذا الدين يتعامل مع النفس البشرية، يتعامل مع القلوب والأرواح.. هذا الدين لم يبدأ باستعمال العضلات، ولا خشونة الكلمات، ولا بالتصدي والتحدي، ولكن بالكلمة الطيبة، والنظرة الحانية، قال تعالى: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ (البقرة: من الآية 83)".

دعوة تحيا فينا، ونحيا بها:

كان نقطةً مضيئةً في دعوة الإخوان، وهب حياته للإخوان ولدعوة الإخوان، ولنصغى إليه، وهو يكتب لنا وصفة نجاح الداعية في مهمته: "الذي يتصدى للدعوة يجب أن يكون مدفوعًا من الأعماق بأهمية وقيمة توالُد أجيال الدعوة؛ حتى لا تتوقف مسيرة الدعوة في الوجود لنصرة الإسلام؛ فالداعية الذي يتأجَّج بالألم العبقري الذي يعيش في وجدانه لما أصاب ويصيب عالم المسلمين.. يدفعه ذلك الألم بيقظة وقوة على أن يكون للدعوة على الدوام أزهار وثمار.

ولا ينجح الداعية في مهمته حتى يتعبَّد بالإخلاص والتجرد ﴿وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ﴾ (هود: من الآية 88) ﴿ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنْ اللَّهِ﴾ (النساء: من الآية 70)، ولا ينسى قصة الصحابي الداعية "مصعب بن عمير" حين ابتعثه رسول الله- صلى الله عليه وسلم- داعيةً إلى الطائف، وجاء "سعد بن عبادة" متصديًا؛ فقال له "أسعد بن زرارة": يا مصعب.. هذا سيد قومه قد جاءك.. فاصدق الله فيه.

وتبدو نتيجة هذا العمل الخالص المخلص في الأخلاق من أهم وأعظم وسائل الدعوة، وهي:

الدعوة الصامتة.. وهي التي تتمثل في (القدوة الحسنة)، فالقدوة الحسنة دعوة شاملة لا تحتاج إلى شرح أو مناقشة؛ فهي أقصر طريق؛ لأن الإيمان بالدعوة في هذه الحالة سيكون إيمانًا بالعين والصورة، والواقع الحي الناطق، وهو أقرب إلى التصديق والاقتناع، وقد قال الإمام البنا- رحمه الله: الكتاب يوضع في المكتبة قلما يقرأه أحد، ولكن المسلم الصادق كتاب مفتوح يقرأه الناس، وهو أينما سار فهو دعوة متحركة ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: من الآية 21).

يحكي الباحث محمد عبد اللطيف عن تجربة الداعية عباس السيسي الدعوية فيقول: ومما كان يؤمن به، ويدل منه على الفهم الصحيح والراقي للإسلام وأصول دعوته، وجوب أن يكون المتصدر للدعوة إلى الإسلام، مؤهَّلاً تأهيلاً يسمح له بذلك التصدُّر، والتعبير عن مفاهيم تلك الدعوة تعبيرًا ليس فيه لبس ولا غموض، يقول: "ولما كانت رسالة الإسلام موجهةً إلى عامة الناس على الأرض، كان من الضروري أن يتصدَّر لهذا المجتمع الواسع دعاةٌ على مستوى من العلم والقدرة والقدوة، ودراية بأسرار النفس البشرية، يتحلَّون بالصبر، وانشراح الصدر ﴿قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25)﴾ (طه)، وفراسة وبصيرة ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ (108)﴾ (يوسف)، وفي الحديث: "اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله"، واستنهاض إمكانات الحواس الربانية، في جذب القلوب، وتآلف الأرواح، والمعايشة في رحاب حركة الدعوة ومجالاتها الواسعة، وهذا يكون بالكلمة الطيبة، والدعوة بالحسنى، والجدال- إن اقتضى الأمر- بالتي هي أحسن، والقدوة الصالحة، ذلك أن طهارة الهدف تستلزم- في عرفنا- طهارة الأسلوب في تحقيقها، وقبل الغاية يقتضي نبل الوسيلة حتمًا".

ومن هذا الفهم الراقي عند هذا الرجل- رحمه الله- توجيه الشباب للاتصال بالمجتمع، وعدم الانفصال عنه، وتعليم الناس الفهم الصحيح للإسلام، يقول: "فقد ظلت العبادات عند كثير من المسلمين محصورةً في شكل بدون روح، فالمسلم يؤدي عبادته ويتقوقع في ذاته وخصوصياته، دون الاهتمام بأن الإسلام رسالة ودعوة، وبهذا انكمش دور المسلم الاجتماعي والحركي، فلم يمتد إلى جميع قطاعات المجتمع، لينقله ويصبغه بصبغة الإسلام، حقيقةً وعملاً، مشاعر وشعائر وشرائع، لبناء الأمة الإسلامية، وتحقيق الآمال".

اكتب وروح القدس يؤيدك:

الإمام الشهيد حسن البنا:

كتابات السيسي يمكن أن تنفذ بسهولة إلى جوانب مجهولة من شخصية المرشد المؤسس حسن البنا، وأن تعرِّف به كإنسان قبل أن تعرِّف بسياسته ورؤيته ومنهجه في القيادة والدعوة، والعلاقة التي كانت تربطه بأتباعه وأنصاره: كيف كان يجتذبهم ويربطهم به كالكواكب التي لا تستطيع خروجًا عن فلكها، وكيف كان يتعامل معهم، وكيف كان يتذكَّرهم ويحرص على حفظ أسمائهم، وأي موهبة تلك التي ساعدته على ذلك، كيف كان يُدير الخلاف ويحافظ على وحدة التنظيم، وكيف صار قلب التنظيم وروحه.

كتاباته أيضًا تُتيح للباحث أو القارئ أن يلِجَ الفناء الداخلي للحركة الإسلامية؛ فتضع يده على المفاتيح الأساسية، وتدله على الأبواب الحقيقية لفهم دروبها.

بعضًا من مواقفه:

* حُكي أنه صلى في أحد المساجد، فوجد بجواره في الصف بعد السلام شابًّا أسمر اللون، وأحب الحاج عباس أن يجذب انتباهه إليه فسأله: الأخ منين من الشام؟! فضحك الشاب، وقال: هل صاحب لون البشرة هذه يمكن أن يكون شاميًّا؟! فبادله الحاج بابتسامة، أنا بتكلم عن لون القلب، وتعارَفَا وصارت صداقة.

* يحكي الحاج عباس رحمه الله فيقول: "دُعيت لزيارة مجموعة من الشباب، واستغرق السفر إليهم ثلاث ساعات!! وحين وصلت إليهم، وجدتُّهم قد استقبلوني وهم جلوس! ووجوههم جامدة، ومشاعرهم خامدة، وعيونهم ميّتة، قدمني إليهم كبيرهم، فتحدثت إليهم بلا قلب ولا روح، حتى إذا انتهيت من حديثي شكرني، وخرجت كأنني كنت أعزِّي في ميت!! وعدت من حيث أتيت حزينًا لما شاهدت ورأيت!!.

ومضت الأيام والأسابيع، وجاءني الأخ نفسه الذي دعاني أول مرة، جاء يدعوني لأكرِّر الزيارة مرةً أخرى؛ فقلت له: إلى أين؟

قال: إلى الإخوة.

قلت له: أهؤلاء إخوة؟

قال: نعم.

قلت: مستحيل أن يكون هؤلاء عندهم تذوُّق لمعنى الأخوَّة، كيف يكونون إخوة وقد جاءهم ضيف قطع إليهم مسافرًا أكثر من ثلاث ساعات، جاء إليهم بأشواق متلهِّفة، وعواطف مشتعلة، ونفس منشرحة؟ فيتلقَّونه بمشاعر جامدة، وهم جلوس كأنهم تلاميذ في مدرسة، لا تربطني بهم سوى علاقة المدرس في الفصل، فإذا أنهَى الدرس خرج لا يلوي على شيء، لا عواطف ولا مشاعر ولا دعوة تجمع بينهم!!.

لقد تركتكم كاسفَ البالِ، أتحسَّر على جمودِ العواطف، وفقدانِ يقظة القلوب، وحياة المشاعر التي هي سرُّ وجودنا وحيويتنا وانتعاشنا.

أصاب أخي الخجل والحيرة، ثم بادرني يقول: إذا كان الإخوة قد فاتهم هذا المعنى في أول مرة، فسوف أقوم بالتنبيه عليهم، حتى يتداركوه المرة القادمة.

فنظرت إليه، وقلت: يا سيدي، إن هذه المواهب الروحية، واللمسات العاطفية، والأريحية، واللطائف النفسية، والذوق، لا تنهض بها توجيهاتٌ أو أوامر، وإنما تنهض بها موحيات قلوب معطَّرة بالحب، مشتاقة توَّاقة إلى توأمها في العقيدة التي تتأجج بها القلوب.

واعتذرتُ لأخي عن الزيارة، رغم أني مشتاق إليهم، ومشفق عليهم".

كلام من القلب إلى القلب

"إن في هذه الأمة مناجمَ من قلوب، لا يحجبهما عنكم إلا غبار الزمن، وظهور الباطل على الحق".

"إن مهمتنا إيقاظ الشعب المسلم الذي نام طويلاً! ونحن في حاجة إلى هزَّة روحية جبَّارة لتحريك وعي عقله الذي نام لفترة، وضميره الذي تحلَّل من أثر عوامل الظلم والقهر".

"نحن لا نجد لنا من سعادة إلا في محاضن القلوب، وشواطئ ونعيم المشاعر التي نحسُّ فيها ببرد العواطف النبيلة الحانية".

"الذوق هو الأخلاق حين تتألق في إنسان، وتتجلى في أحاديثه وتعاملاته؛ فالذوق هو الإنسان في أبهى صورة، وأرقى حضارة، وصدق الله حين عظَّم شأن رسوله- صلى الله عليه وسلم- بالثناء على أخلاقه: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)﴾ (القلم).

قالوا عنه:

* "سيظل مَعْلَمًا بارزًا في مسيرة دعوتنا؛ حيث كان له دور متميز في داخل هذه الدعوة المباركة، سواءٌ في مرحلة التأسيس، وحتى مطلع الخمسينيات، أو في مرحلة المحن والسجون من الخمسينيات وحتى مطلع السبعينيات، ثم في مرحلة استئناف وإعادة التأسيس منذ السبعينيات وحتى مرضه في السنوات الأخيرة، وليس فقط على مستوى الإسكندرية، ولا على مستوى مصر بأسرها، بل مستوى العالم العربي والعالم كله، ولقد ترَكَ آثارًا واضحةً وبصماتٍ في كل مكان ذهب إليه وارتبط اسمه بالحب والبشر" (المهندس خيرت الشاطر- فكَّ الله أسره- النائب الثاني للمرشد العام).

* كتب الشيخ سعيد حوى- رحمه الله- في تقديمه لكتاب (الدعوة إلى الله حب): "والأخ عباس السيسي ممن عايش الأستاذ البنا، ونهل من معينه العذب، فتجسَّدت فيه معاني هذه الدعوة في صفاء ورواء، ومن أعلى ما تجسَّد فيه خلق الإخاء، فهو صافي المودة، كثير العطاء، حيثما توجه نشر من عبير روحه الحبّ، فلا يكاد يجتمع مع أخٍ حتى يشعل في قلبه نور الإخاء في الله، حارًّا متوقِّدًا منيرًا؛ لأنه هو كذلك، فتراه يغرف منه الصغير ويرتشف منه الكبير، وهو بطبيعته شفاف النفس، حساس الوجدان، مع تأمل عميق، وفراسة صادقة، وفطرة صافية، وقدرة كبيرة على أن يحيط الكبار والصغار بعطفه، وأن يتجاوز عن الأخطاء، ويغضَّ الطرف عن الزلاَّت، ويتحمَّل في الله المصيبات؛ مما جعل الكثيرين من شبابنا يتعلقون به بمجرد أن يعرفوه؛ لأنهم يجدون عنده حبًّا بلا مصلحة، وأُبوَّة بلا مطالب شخصية، وأخوَّة تتقارب في أجوائها فوارق السن والقدر بسبب من تواضع لا يعرف إلا الحدود الشرعية".

* أما الاخ أبو جرة سلطاني- رئيس حركة حمس بالجزائر- فيقول: "الشيخ والداعية المجاهد عباس السيسي- رحمه الله- عالم ربَّاني، وداعية مقتدر، ومربٍّ حاذق، ومصلح اجتماعي كبير؛ فالكثير منَّا في الجزائر تتلمذ على كتاباته، واستأنس بتوجيهاته، وتعلق بأسلوبه التربوي الرُّوحاني المتميز، الذي يبقى منارةً للأجيال من بعده، ومعلمًا يستضاء به على هذا الدرب النيِّر، ضمن هذه السلسلة من الحلقات الذهبية التي لا يخبو نورها، بل تزداد نورًا وحياةً، ويزداد التفاف الأجيال حولها".

* وها هو تلميذه النجيب الدكتور إبراهيم الزعفراني يصفه فيقول: "رجل الحب، حب الخير، وحب الناس، رجل البسمة، صاحب القلب الكبير، الذي استقبل به المحن والشدائد بالحب، وكان شعاره "الدعوة الى الله حب"، وهو أحد رجالات قافلة الإخوان المسلمين، وهو أستاذ الذوق في كل شيء، في ملبسه ومأكله وكلماته التي سطَّرها للصغير والكبير".

* "من وهج الإمام البنا استمدَّ حواري الإمام البنا الحاج عباس السيسي تألقه وتوهجه، وقال ما أحوجَنا إلى هذا الصنف الفذّ الذي لم تفارقه البسمة أبدًا حتى في أوقات الشدة، فكان رحمه الله يحنُّ علينا، ويضعنا تحت جناحيه ويملأنا بعطفه رغم ما عاناه في السجون والمحن التي لم تزده إلا صلابةً وقوةً وعمقًا ورسوخًا، ثم جاءه المرض في هذه السن، فصبر صبرًا جميلاً، ما وهن وما فتر، وكان حزنه الشديد وألمه أنه لا يستطيع الحركة حتى يطلَّ بنظراته على الإخوان.

كان نقطةً مضيئةً في دعوة الإخوان، وهب حياته للإخوان ولدعوة الإخوان، وكان كريمًا معها، فبهذا النموذج تحيا دعوة الإخوان، كما أنها تحيا بهذا الحب الفياض الذي لو علم الملوك حقيقته لقاتلونا عليه" (الدكتور محمد حبيب النائب الأول للمرشد العام).

الأستاذ جمعة أمين:

* أما رفيق دربه وصديق عمره الأستاذ جمعة أمين، فيقول: "أخ حبيب ومعلم وأستاذ، عشتُ معه وكنا معًا كما قال ربنا ﴿اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32)﴾ (طه)، فكان نِعْمَ الرجل والأستاذ والمربي، إنه رجل لا يموت؛ لأن تاريخه باقٍ فينا وأثره، لقد صُبَّ عليه البلاء صبًّا وأصابه المرض فترة طويلة، ولكنه كان نعم الرجل الصابر المحتسب، كنَّا نزوره في مرضه فنجد لسانه قد أثقل عليه في الكلام، ولكنه بمجرد لقاء إخوانه، وجلوسهم معه فترةً نجد لسانه، وقد انطلق لمجرد رؤيته لإخوانه، كان يفيض حبًّا، وكان بمثابة الماء الذي يُروى به نبتُ الدعوة وزرعُها، لقد كان كتابًا صفحاته مضيئة علمنا فيها أن الدعوة حب، وعلمنا أنه لا عنف في دعوتنا، كتبها في كتبه، وبثَّها إلينا وربَّانا عليها، وعلَّقها في بيته ليراها كل زائر، سلوانًا أنه ترك لَبِنَاتٍ ولَبِنَاتٍ يشتد بها البناء ويعلو.

وقبل الوداع:

فضيلة المرشد العام وقيادات الإخوان شيعوا جنازة عباس السيسي

يا شباب هذه الدعوة المباركة..

يا شباب يا ثمرة هذه الشجرة الطيبة..

هؤلاء هم القدوات..

فلنُعِدْ للإخوة رونقَها..

ولْنُعِد للحب في الله بهاءه..

ولنُعِدْ للذوقيات مكانها..

وما أجمل أن نختم..

ونحن نصغي خاشعين لهذه الوصية الخالدة

يا شباب، إن الجهاد بالحب في الله، هو الفرصة المتاحة، والسياسة المباحة، التي لا تعوقها حدود، ولا يصادرها قانون؛ لأنها نبض وهواتف ومشاعر وأحاسيس، والحب في الله هو السبيل الذي ليس له نظير ولا مثيل.

تعلَّم الحب والذوق من هذه الشخصية الفريدة..

* المدير التنفيذي لمؤسسة (نور) للتنمية البشرية.

أخي عباس السيسي:

بقلم أ.د. محمد رشاد البيومي

حالت ظروف مرضية أن أكون في وداعك: وها هي لمحة شعرية تعبِّر عن ما يكنُّه لك القلب من الحب والإعزاز والتوقير.. رحمك الله رحمة واسعة.. وأجزل لك العطاء.. وعوضنا فيك خيرًا.

رحلت عن دنيا لا أمان لها ورحت تسعى لدار الخلد رضوانا

تركت علمًا وفير الخير منفعة  وذاك فضل يزيد المرء إحسانا

وكنت فينا زكي النفس مدرسة وعشت دومًا كريم الروح إنسانا

جزاك الله عنا بكل الخير مكرمة   ودام ذكرك للعرفان عنوانا

ركن الدعوة.. في رثاء الحاج عباس السيسي:

نودع اليوم رجلاً من رجالات دعوة الإخوان البارزين، الذي كان وسيظل معلمًا بارزًا في مسيرة دعوتنا؛ حيث كان له دور متميز في داخل هذه الدعوة المباركة سواء في مرحلة التأسيس وحتى مطلع الخمسينيات، أو في مرحلة المحن والسجون من الخمسينيات وحتى مطلع السبعينيات، ثم في مرحلة استئناف وإعادة التأسيس منذ السبعينيات وحتى مرضه في السنوات الأخيرة.

وليس فقط على مستوى الإسكندرية بل على مستوى مصر بأسرها وعلى مستوى العالم العربي والعالم كله، وترك آثارًا واضحة وترك بصمات في كل مكان ذهب إليه وارتبط اسمه بالحب والبشر.

فرحمة الله عليه، والله نسأل أن يعوضنا فيه خيرًا وأن يدخله فسيح جناته.

م. خيرت الشاطر- النائب الثاني للمرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين

إذا أردت أن تعرف الحاج عباس السيسي فتعرف عليه من قوله: "الدعوة إلى الله فن، والصبر عليها جهاد" فهو داعٍ إلى الله من طراز فريد، وكان يقول أيضًا: "الدعوة إلى الله حب"، يُسمع العالم جميعه، حبيبه وعدوه، القريب والبعيد، وهكذا كان يعيش لله.

ويقول: "الحياة في سبيل الله أشق من الموت في سبيل الله ألف مرة" هذه كلمات نذكرها له ونتذكر معها قول القائل:

الناس صنفان موتى في حياتهم وآخرون ببطن الأرض أحياء

رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته

كمال فهيم- المحامي

إلى أستاذي ومعلمي وقدوتي على الطريق، إلى من كنا ننظر إليه في السجن الحربي وفي أشد أوقات المحنة والعذاب والإيذاء والسب والتنكيل بالإنسانية فننظر إلى عينيه الوضاءة المشعة بالإيمان واليقين فيما عند الله فكنا نقرأ فيها كل معاني الصبر والصدق والثبات حتى الممات.

حمد البحيري- من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين

نودع اليوم في هذا الشهر المبارك شهر القرآن والغفران رجلاً من رجالات الدعوة الإسلامية، تعرفنا على طريق الحق على يديه، فله الفضل بعد الله سبحانه علينا؛ فقد عرفنا الطريق الصحيح للدعوة إلى الله وسقانا من نبع المصطفى صلى الله عليه وسلم.

نسأل الله أن يأجر والدنا الفاضل خير الجزاء على جهاده في نشر دعوة الله، وأسكنه الله فسيح جناته، وألهم أهله وإخوانه الصبر والسلوان.

م. زراعي سامي الشيخ- مصنع أعلاف رشيد

الحاج عباس السيسي هو أول من تفتحت عيناي على صورته في طريقي إلى الدعوة الحاج عباس.. القلب الحاني.. الأفق الواسع.. صاحب الرؤية، الذي عالج تطرف أفكارنا في السبعينيات بالحب، وتوضيح رسالة الإخوان المسلمين.

الحاج عباس الذي أظن أنه ما في بقعة من الأرض إلا وترك فيها أثرًا، الحاج عباس الذي علمنا كيف نقاتل الناس بالحب.

دائمًا كان يستوعب الشباب وحماسه، ويوجه حماس الشباب لخير الأمة والدعوة، رحم الله الرجل العظيم الذي يندر الزمان أن يجود بمثله.

م. علي عبد الفتاح- أمين اللجنة الشعبية لمناصرة فلسطين

الحاج عباس ..المبتسم بأمر الله

رحم الله الحاج عباس السيسي، صاحب الوجه النضر المبتسم، والله ما رأيته إلا مبتسمًا فلقد كان يؤمن بهذا القول الجليل: "سنقاتل أعداءنا بالحب"، أرأيت إلى هذا القلب.. أعداؤه الذين ظلموه، الذين غيبوه في السجون ومع ذلك قلب عامر بالحب يقول هذا.

كان في السجن مبتسمًا، صاحب روح طيبة، كان يبتسم ابتسامة السعيد وهو مريض حين يرى الإخوان، وكان يقول: "راحتي في لقاء الإخوان"، حتى أنه حينما ركب الترام يومًا وداس على قدم رجل، فقال له الرجل: أنت حمار؟، فقال له الحاج عباس: لا أنا سيسي، وهكذا كانت الدعوة في روحه، في نفسه، في قلبه، فكان يتصرف مع الجميع على أنه صاحب الدعوة، ما عرف قلبه كرهاً لأحد أو بغضًا لأحد، فنسأل الله أن تطل البسمة على وجهه في الآخرة من فرحه بلقاء ربه، اللهم آمين.

"حواري الإمام " .. حيث الحب منهج حياة:

من وهج الشهيد حسن البنا-رحمه الله- استمد "حواريٌ الإمام" -كما لقبه الدكتور حبيب- تألقه وتوهجه، فقد كان تلميذا نجيبا لمؤسس هذه الحركة المباركة-حركة الإخوان المسلمين- وإمامها الشهيد حسن البنا رحمه الله، ومربيا حكيما سديد الرأي ثاقب النظرة مرهف الحس دقيق الشعور حاضر البديهة يقود أبناءه وإخوانه بحكمة الشيوخ حتى وهو في شرخ شبابه.

- صاحب عاطفة متدفقة يحيط بها كل من يلقاه ويبادره بالتعرف عليه ويعقد بينه وبينه صلة قلبية تترك أثرها وصداها في نفسه لا تبارحه.

ولا عجب فالدعوة كانت عنده حباً ملأ شغاف قلبه، وكيف لا؟؟!

وهو الذي كتب رسالته الدافئة ( الدعوة إلى الله حب )

- يصل إلى قلوب الناس بحسن خلقه، وبشاشة وجهه، وجمال أسلوبه الدعوي، يترفق بالناس، يدخل السرور إلى قلوبهم، يشاركهم في مشكلاتهم، ويعمق العلاقة بهم، يقيم أواصر الحب معهم، يتلطف بالصغير، ويصبر على الجاهل، ويمتن الصلات الاجتماعية معهم، عن طريق التزاور، ومشاركة الناس في أفراحهم وأتراحهم.

وهو بسيط في مظهره، باسم الثغر، واسع الصدر، حليم على من يسيء إليه، ودود لإخوانه، رفيق بجيرانه وزملائه، وكان خفيف الظل، لا يُرى إلا مبتسماً، كثير الدعابة لإدخال السرور على من حوله، ولكن بأدب الإسلام، يروي القصص بأسلوب مشوق جميل، ويهدف من كل ذلك إلى استمالة قلوب المدعوين إلى دعوة الحق، ومنهج الحق، ودين الحق، صبَرَ في كل المحن التي تعرض لها.

له إسهام كبير في نشر الدعوة داخل مصر وخارجها، وله محبون وتلامذة في أكثر أنحاء العالم العربي، وفي الغرب.

يصفه المستشار عبد الله العقيل، فيقول: "والأستاذ من الرعيل الأول لجماعة الإخوان المسلمين الذين حملوا رسالة الدعوة، وثبتوا على حملها، والتصدي لكل قوى الظلم والجور التي سعت لتعطيل المسيرة، أو إيقاف القافلة.

كان يستوعب الشباب وحماسهم، ويوجه هذا الحماس لخير الأمة والدعوة، وكان يعالج تطرف أفكارهم بالحب واللين، ويقول: سنقاتل أعداءنا بالحب."

فمن هو هذا الأستاذ الذى سيقاتل الناس بالحب؟؟

من هو هذا الإنسان الذى كان منهجه أن" الدعوة إلى الله حب، والحياة في سبيل الله أشق من الموت في سبيل الله ألف مرة"؟؟!

من هو الإنسان الرقيق الذى كان شعاره" الذوق سلوك الروح "؟؟!

هيا بنا نقترب من هذه الشخصية الفريدة التي كانت تحيا بالدعوة طيلة حياتها ،و خاضت في سبيل غايتها غمار المحن من اعتقال وسجن وتعذيب ، فما لانت لها قناة ولا فترت بين جوانحها عزيمة ، بل مضت تسجل في دأب يغبطها عليه أولو العزم من حملة الأقلام مضت تسجل ذكرياتها وخواطرها مع أستاذها الإمام البنا ، ذلك الذي ما غاب عنها طيفه ، ولا غاب عن مجلسها استدعاء كلماته ورسائله ، فتتحول هذه الخواطر كتبا تعلم وترشد وتضئ الطريق لسالكيه بما حوت من ذكريات ومواقف وأحداث منها ( حسن البنا مواقف في الدعوة والتربية ) (و من المذبحة إلى ساحة الدعوة ) و ( في قافلة الإخوان المسلمين ) و( حكايات عن الإخوان ) ومع العاطفة الجياشة في ( الدعوة إلى الله حب ) ومع الحس المرهف ذلك الذي يسميه سياسة فإذا بها تسجل في قطرات مستخلصة من هذه السياسة مواقف تربوية نقدية في كتابها الرقيق ( الذوق سلوك الروح ) نبراسا لمن أراد أن يسلك إلى القلوب طريقا ( الطريق إلى القلوب )

هيا بنا نقترب من الحاج عباس السيسى –رحمه الله- ونحن نصغى السمع إلى وصاياه وتعاليمه :

ياشباب إن :

"الدعوة إلى الله فن، والصبر عليها جهاد.

والدعوة إلى الله حب، والحياة في سبيل الله أشق من الموت في سبيل الله ألف مرة.

يا شباب إن:

"الإسلام ذوق، والإسلام لطائف، والإسلام أحاسيس ومشاعر، هذا الدين يتعامل مع النفس البشرية، يتعامل مع القلوب والأرواح.

هذا الدين لم يبدأ باستعمال العضلات، ولا خشونة الكلمات، ولا بالتصدي والتحدي، ولكن بالكلمة الطيبة، والنظرة الحانية، قال تعالى: (وقولوا للناس حسنا)"

الدعوة الصامتة:

وهى التي تتمثل في ( القدوة الحسنة ) فالقدوة الحسنة دعوة شاملة لا تحتاج إلى شرح أو مناقشة، فهي أقصر طريق، لأن الإيمان بالدعوة فى هذه الحالة سيكون إيمانا بالعين والصورة، والواقع الحى الناطق، وهو أقرب إلى التصديق والاقتناع، وقد قال الإمام البنا- رحمه الله-:

الكتاب يوضع في المكتبة قلما يقرؤه أحد، ولكن المسلم الصادق كتاب مفتوح يقرؤه الناس، وهو أينما سار فهو دعوة متحركة (لقد كان لكم في رسول الله اسوة حسنة)

يحكى الباحث محمد عبد اللطيف عن تجربة الحاج عباس الدعوية فيقول :

ومما كان يؤمن به، ويدل منه على الفهم الصحيح والراقي للإسلام وأصول دعوته، وجوب أن يكون المتصدر للدعوة إلى الإسلام، مؤهلاً تأهيلاً يسمح له بذلك التصدر، والتعبير عن مفاهيم تلك الدعوة تعبيرًا ليس فيه لبس ولا غموض، يقول:

" ولما كانت رسالة الإسلام موجهة إلى عامة الناس على الأرض، كان من الضروري أن يتصدر لهذا المجتمع الواسع دعاة على مستوى من العلم والقدرة والقدوة، ودراية بأسرار النفس البشرية، يتحلون بالصبر، وانشراح الصدر (قال رب اشرح لي صدري) طه: 25، وفراسة وبصيرة (قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين) يوسف: 108، وفى الحديث: " اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله "، واستنهاض إمكانات الحواس الربانية، في جذب القلوب، وتآلف الأرواح، والمعايشة فى رحاب حركة الدعوة ومجالاتها الواسعة، وهذا يكون بالكلمة الطيبة، والدعوة بالحسنى، والجدال- إن اقتضى الأمر- بالتي هي أحسن، والقدوة الصالحة، ذلك أن طهارة الهدف تستلزم- في عرفنا- طهارة الأسلوب في تحقيقها، وقبل الغاية يقتضى نبل الوسيلة حتما.

ومن هذا الفهم الراقي عند هذا الرجل -رحمه الله- توجيه الشباب للاتصال بالمجتمع، وعدم الانفصال عنه، وتعليم الناس الفهم الصحيح للإسلام، يقول:

"فقد ظلت العبادات عند كثير من المسلمين محصورة في شكل بدون روح، فالمسلم يؤدي عبادته ويتقوقع في ذاته وخصوصياته، دون الاهتمام بأن الإسلام رسالة ودعوة.

وبهذا انكمش دور المسلم الاجتماعي والحركي، فلم يمتد إلى جميع قطاعات المجتمع، لينقله ويصبغه بصبغة الإسلام، حقيقة وعملا، مشاعر وشعائر وشرائع، لبناء الأمة الإسلامية، وتحقيق الآمال".

أما رئيس حركة حمس بالجزائر أبو جـرة سلطاني، فيقول:

"الشيخ والداعية المجاهد عباس السيسي رحمه الله، عالم ربّاني، وداعية مقتدر، ومربّي حاذق، ومصلح اجتماعي كبير. فالكثير منّا في الجزائر تتلمذ على كتاباته، واستأنس بتوجيهاته وتعلق بأسلوبه التربوي الرّوحاني المتميز، الذي يبقى منارة للأجيال من بعده ومعالم يستضاء بها على هذا الدرب النير ضمن هذه السلسة من الحلقات الذهبية التي لا يخبو نورها بل تزداد نورا وحياة ويزداد التفاف الأجيال حولها".

وها هو تلميذه النجيب الدكتور إبراهيم الزعفراني يصفه، فيقول:

"رجل الحب حب الخير وحب الناس، رجل البسمة صاحب القلب الكبير الذي استقبل به المحن والشدائد بالحب وكان شعاره الدعوة الى الله حب، وهو أحد رجالات قافلة الاخوان المسلمين، وهو استاذ الذوق في كل شئ في ملبسه ومأكله وكلماته التي سطرها للصغير والكبير "

"من وهج الإمام البنا استمد حواري الإمام البنا "الحاج عباس السيسي" تألقه وتوهجه، وقال ما أحوجنا إلى هذا الصنف الفذ الذي لم تفارقه البسمة أبدًا حتى في أوقات الشدة، فكان رحمه الله يحنُّ علينا، ويضعنا تحت جناحيه ويملأنا بعطفه رغم ما عاناه في السجون والمحن التي لم تزده إلا صلابةً وقوةً وعمقًا ورسوخًا، ثم جاءه المرض في هذا السن فصبر صبرًا جميلاً، ما وهن وما فتر، وكان حزنه الشديد وألمه أنه لا يستطيع الحركة حتى يطل بنظراته على الإخوان.

كان نقطة مضيئة في دعوة الإخوان وهب حياته للإخوان ولدعوة الإخوان، وكان كريمًا معها، فبهذا النموذج تحيا دعوة الإخوان كما أنها تحيا بهذا الحب الفياض الذي لو علم الملوك حقيقته لقاتلونا عليه،"

الدكتور محمد حبيب النائب الأول للمرشد العام:

أما رفيق دربه وصديق عمره الأستاذ جمعة أمين، فيقول:

"أخ حبيب ومعلم وأستاذ، عشتُ معه وكنا معًا كما قال ربنا ( اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي )

فكان نعم الرجل والأستاذ والمربي، إنه رجل لا يموت؛ لأن تاريخه باقٍ فينا وأثره، لقد صُبَّ عليه البلاء صبًّا وأصابه المرض فترة طويلة، ولكنه كان نعم الرجل الصابر المحتسب، كنَّا نزوره في مرضه فنجد لسانه قد أثقل عليه في الكلام ولكنه بمجرد لقاء إخوانه وجلوسهم معه فترة نجد لسانه وقد انطلق لمجرد رؤيته لإخوانه، كان يفيض حبًا، وكان بمثابة الماء الذي يُروى به نبت الدعوة وزرعها، لقد كان كتابًا صفحاته مضيئة علمنا فيها أن الدعوة حب، وعلمنا أنه لا عنف في دعوتنا، كتبها في كتبه، وبثها إلينا وربانا عليها، وعلقها في بيته ليراها كل زائر، سلوانا أنه ترك لبناتٍ ولبناتٍ يشتد بها البناء ويعلو.

وقبل الوداع

يا شباب هذه الدعوة المباركة

يا شباب يا ثمرة هذه الشجرة الطيبة

هؤلاء هم القدوات

فلنعد للإخوة رونقها

و لنعد للحب فى الله بهاؤه

ولنعد للذوقيات مكانها

وما أجمل أن نختم

ونحن نصغي خاشعين لهذه الوصية الخالدة

يا شباب إن: الجهاد بالحب في الله، هو الفرصة المتاحة، والسياسة المباحة، التي لا تعوقها حدود ولا يصادرها قانون، لأنها نبض وهواتف ومشاعر وأحاسيس.. والحب في الله هو السبيل الذي ليس له نظير ولا مثيل.

تعلم الحب والذوق من هذه الشخصية الفريدة.

تاريخ السيسي لا يسعه سفر من الأسفار:

وكتب جمعة أمين عبد العزيز يقول: نعى الأستاذ جمعة أمين- عضو مكتب الإرشاد- جموع الإخوان المسلمين لوفاة الداعية الكبير الأستاذ عباس السيسي، مُفتتحًا كلامه بقوله: إنا لله وإنا إليه راجعون، ولله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدارـ اللهم آجرنا في مصيبتنا واخلفنا خيرًا منها.

ننعي اليوم رجلاً من رجالات الدعوة ربى رجالاً عدة، ولو أردنا أن نكتب تاريخه ما وسعنا سفرًا من الأسفار، تحيا رغم مفارقته لنا بجسده آيات بلائه وكلماته وخطبه وتربيته، عشنا معه عمرًا فلم نر فيه حقيقةً إلا قول الله عز وجل: ﴿مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب).

فكان نعم الرجل ونعم المربي ونعم المجاهد، وإن كنت أتكلم اليوم عن الأستاذ عباس السيسي فهو غني عن التعريف؛ تعرفه مجالس الإخوان في مصر، ويعرفه من عاش معه في أوروبا بالثمانينيات، ومن عايشه في أمريكا، ويشهد له رجال وشباب قابلهم من كل بقاع الدنيا وله بصمة في نفوسهم.

وأضاف أمين لا نملك إلا أن نرفع أكف الضراعة إلى الله في هذه المصيبة كما وصفها الله تعالى مصيبة الموت، مؤكدين أننا لله وأننا إليه راجعون، وإن كان غاب عنا الأستاذ عباس السيسي فقد ترك خلفه تلاميذًا ملء السمع والبصر.

عزاؤنا قوله صلى الله عليه وسلم: "عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به"، نسأل الله أن يتقبل جهاده في الصالحين، وأن يثبتنا على الحق ويلحقنا به على خير.

الحاج عباس السيسي ودوره في تأسيس فرقة الهدي:

الحاج عباس السيسي من أوائل من انتبهوا مبكرا لأهمية الفن في الدعوة وضرورة عمل مصالحة بين الرؤية الفقهية للحركة الإسلامية والفنون المختلفة، ليس فقط لأهميتها كوسائل دعوية وإنما لحاجة النفس الإنسانية لها.

كان الحاج عباس السيسي عضوا بمكتب الإرشاد بالجماعة ومسئولا عن التنظيم في مدينة الإسكندرية حين اتخذ القرار (في نهاية الثمانينيات من القرن الماضي) بتأسيس أول لجنة فنية بالجماعة تكونت على إثرها وتحت رعايته فرقة الهدى للفن الإسلامي أول فرقة للغناء الإسلامي (أو الإنشاد بمصطلح وقتها)، على الرغم من اعتراضات الجناح المحافظ في الجماعة والانتقادات العنيفة التي أثارتها التيارات السلفية وهي تيارات كانت المدينة معقلها الأول والأكبر.

وقد تطور نشاط هذه الفرقة حتى اتجهت إلى الاحتراف وكان لها تأثير بالغ الأهمية في تأسيس فرق مشابهة في بقية محافظات البلاد حتى صارت ملمحا أساسيا من ملامح الدعوة الإسلامية في مصر.

وأتذكر أن أحد المشروعات التي كان يطمح لها الرجل -وقد زرته مرارا في مقر دار القبس للنشر التي أسسها- أن يتمكن من إنتاج فيلم سينمائي عن الإمام الشهيد حسن البنا، وهو حلم قلما راود خيال الإخوان حتى من الأجيال الجديدة على أهميته ووجاهته.

كان الحاج عباس لا يكتم ولعه بالفن وتصالحه مع نفسه فيما يخص العلاقة بالفن، فلم يكن يتكتم مشاهدته للأعمال الفنية وحبه لها، ولم يكن يرى عيبا في أن يعلن ذلك ولا يجد فيه إنقاصا من قدره ومكانته في قلوب شباب الصحوة الذين غلبت عليهم روح التشدد والتحريم في حقبتي السبعينيات والثمانينيات، وروى لي عبد المنعم أبو الفتوح -وكان من أكثر أبناء جيل السبعينيات تأثرا بالرجل- أنه كان إذا نزل مدينة القاهرة لحضور جلسات مكتب الإرشاد تجول بين دور السينما حتى ينتقي أفضل أفلامها وأكثرها احتراما فيحجز لنفسه في آخر العروض، وما إن ينتهي من جلسات مكتب الإرشاد حتى يمر على السينما ويحضر العرض قبل أن يقفل راجعا إلى مدينته!.

لقد كانت هذه فرادة بل جرأة من الرجل لا يمكن فهمها إلا إذا وضعت في سياقها التاريخي، فقد حدثت في وقت من عمر الحركة الإسلامية كان الفن من أمور الجرح والتعديل وكان موقفا كهذا كافيا للقضاء على سمعة الرجل ومكانته ومقامه بين الجماهير، وهو ما لم يعبأ به السيسي الذي فضل -كعادته- أن يمارس ما اعتبره دورا تنويريا بين الشباب عن أن يغازل روح التشدد والتطرف فيهم.

ذكرى الحاج عباس السيسي:

وكتب الشاعر د. جابر قميحة يقول:

وقد فارق الدنيا يوم الجمعة - 8 من رمضان 1426 - الموافق : 22 من أكتوبر 2004 ) .

قبل أن أستهل قصيدتي في هذا الرجل العظيم أسوق هذه الكلمة التي عرضتها قبل أن يلقى الله بعام ، و بعض عام

" هذا الرجل العظيم... عاش أمةً في خدمة الدعوة وقضية فلسطين, مسكونا بهموم المسلمين. إنه واحد من الرعيل الأول الذين تخرجوا في دار الأرقم سيماهم في وجوههم وأقلامهم, ولسان مقالهم, ولسان حالهم.

في يوم خميس زارني الأخ السكندري أحمد الشوربجي بادرني قائلا: ادع للحاج عباس.

ومعروف أنه من مدينة رشيد بمحافظة البحيرة بمصر وكان رأسا من رءوس القيادة الإخوانية .

تحولنا إلي ألسنة وقلوب تلهج بالدعاء له, وأخذت أعطر لساني بذكر بعض مواقفه التي قد تكون مجهولة عند كثيرين. منها أنني في الأسبوع الأخيرمن ديسمبر سنة 1981 - التقيت به في مؤتمر الشباب المسلم العربي.. كان عدد المشتركين في المؤتمر قرابة عشرة آلاف موحد أغلبهم من الشباب. وكان المؤتمر في مدينة «سبرنج فيلد» بولاية الينوي بالولايات المتحدة. جاء جلوسي في الغداء بجانبه. وكان الشباب هم الذين يقومون بكل شيء: تقديم الطعام... رفع الأطباق, تنظيم إجلاس القاصدين... إلخ في نظام يعجز اللسان عن وصفه. قال الحاج عباس: إني أري صورة مصغرة «للدولة الإسلامية» إن هذه الدقة لأكبر دليل علي إمكان قيام الدولة الإسلامية في العصر الحديث.

ورأيته يحفظ كثيرا من كلمات الإمام الشهيد حسن البنا -رحمه الله- فحكيت له نكتة «عملية» قصّها عليّ الحاج عبد الرزاق هريدي خلاصتها: أنه ركب «حنطورا» مع الإمام الشهيد ومعهما ثالث قاصدين إحدى القري المجاورة لبنها لا تقصدها السيارات لضيق الطريق، وكان الجو باردا عاصفاً, فطلب الإمام رفع غطاء الحنطور إلي الخلف لأن وضعه الحالي يزيد من مقاومة الحصان للهواء فيتعبه.

قال الحاج عبد الرزاق: بل نتركه يا فضيلة المرشد لأن الجو بارد.

ولا ضير فصاحب الحنطور من الإخوان.

فصاح الإمام: سبحان الله يا أخي!!! لكن الحصان مش من الإخوان.

ضحك الحاج عباس طويلاً، ولكن في هدوء, ورأيته يخرج من جيبه نوتة سجل فيها النكتة،، أضحك الله سنك، وشفاك يا أخانا وأستاذنا العظيم "

وأرى الناسَ قد سعَوْا من بعيد          من أقاصي الصعيد حتي رشيدِ

وكأني   بأهل   مصرَ   جميعا             في   وفود   تسعى   وراءَ   وفود

عشراتِ   الألافِ   كانوا كبحرٍ           زاخر   الموج ما له من حدود

في جناز ِالعباس بالطهر يمضي           للقاءِ     اللهِ   العزيز   الحميدِ

إيهِ   عباسُ   والوداع   جليل             حين     غادرتنا   بيوم   مجيد

إنه   يومُ   جمعة   في   صيام             هو في الأرض والسما يومُ عيدِ

وكأنى   أرى   الملائكة   الأب           رارَ في استقبال النزيل الجديد

ينشدون   النشيد   تِلوَ   النشيد         فانظر الفجرَ   زاحفا   من   بعيد

لنعيم     يفوق     كلَّ     نعيم          وجمال   بفوق   سحرَ   الوجود

وهُمُو       يحملونه       للخلود               ببيان   يفوق   كلَّ   قصيد   :

حيثُ يلقى محمدا وابنَ مسعو         دٍ   وسعدا   وخالدَ   بنَ   الوليد

والمثنى   وحمزةً   وعليا               وشهيدا   في   الله   إثر   شهيد    

*             *             *

عشتَ   للحب داعيا في يقين         ناهلا   من   سَنا الإمام الشهيد

فألنْتَ   القلوبَ بالحب والذو         ق     وَرِفق   وبَسْمة   كالورود

ونشلتَ الشبابَ من حمَأةٍ ضلَّ          تْ   إلى   درب   نيِّر وسديدِ

فاستجابوا لصوتك الحق بالإيـــ   مان   والصدق والتقَى والصمود

إنه الحبُّ كم بنى مِن صروح       شامخاتٍ     بالحق     والتوحيد

إنه   الحب   والأخوَّة   في   الل       هِ     وتقوَى     إلهنا   المعبود

والجهادُ   المريرُ   خيرُ  سبيل       لتردَّ   الشعوبُ   ظلمَ   الكنُود

ثم   أسمى   الآمال موتٌ نبيل      بدماءٍ     تعيد   مجدَ   الجدود

فالعزيزُ   الجليل مَن عزَّ بالل         ه   وعزم يفوقُ صُلبَ الحديد

والذليل الحقير يرضَى بعيش         وحياةٍ     كما     حياة     العبيد

تلك كانت مبادئً الحق صيغتْ       بجهادِ   الإخوان   دونَ   قعود

*             *             *

عشتَ في ظلمةِ السجون صبورا         شامخَ   النفس   في   إباءٍ عتيد

لم تلِنْ أو تهن ولم تُحنِ رأسا           وتدرعْتَ     بالصمود     العنيد

لا   يهونُ   الذي مضى بيقين           وهْو   يأوي   لركنِ ربي الشديد

وتحليتَ   بالسماحةِ   والعف                  وِبلا   نقمةٍ   ودونَ   حُقود

*             *             *

ويحَ قلبي لم تعد مصرُ مصرا         فهْيَ تحيا في ظل شرِّ العهود

منسرٌ     يحكمونها     بسجون         عاتياتٍ       تزاحمتْ     وقيود

والنفاقُ الخسيسُ أضحَى طريقا         للوصولِيِّ     الخائنِ     العربيد

والسياساتُ   في   أكفِّ   بُغاةٍ         من   أمِرْكان   والكلابِ   اليهود

وابنُ مصرٍ في أرض مصرَغريب       تائهُ   الخَطو   في   ظلام مَريد

عاد   فرعونُ   والجنودُ   ليَطغَوْا       بالسجون     السوداءِ     والتهديد

وَثنٌ     داعرٌ     عتل     زنيمٌ           والرعايا     يسوقهم     كالعبيد

غيرَ   أني أقول بالأمل الدفْ           فاق والإيمان الصدوق الأكيد :

إيهِ   عباسُ   نمْ سعيدا هنيئا           في   رحابٍ   من السنا والخلود

فمصيرُ   الطغاةِ   شرُّ   مصير         مثل   عادٍ   في   إفكِهم   وثمود

دولة   الظلم   ساعة   ثم تهوي           بخطوبٍ   ما   بَعدها من مزيد

هاتفا   بالوجودِ   كلِّ   الوجودِ         في   سطوع   مباركٍ   وصعود

أشرقتْ   دولة   الحقيقةِ   والحق         ق     بنصرٍ     مؤزَّر   موعود          

أيها   المؤمنون   للحق   كونوا         برباطِ   الإيمان   خيرَ   جنود    

ترْخُصُ   النفسُ   والنفيسُ لدينٍ        جاء   للكون   بالهُدَى   والسُّعود

رحم الله الشيخ الداعية عباس حسن السيسي، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً.

مصادر:

1-عباس السيسي.. داعية الحب والذوق، الشبكة الدعوية نسخة محفوظة 28 يناير 2018 على موقع واي باك مشين.

2-الشبكة الدعوية

3- رابطة أدباء الشام.

4- الموسوعة التاريخية الحرة.

5- الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين.

6- تقرير: "حواري الإمام "حيث الحب منهج حياة موقع اخوان الدقهلية.

7- تقرير: ركن الدعوة.. في رثاء الحاج عباس السيسي موقع اخوان اون لاين.

8- مقال: الحاج عباس السيسي ودوره في تأسيس فرقة الهدي مدونة فرقة الهدي الإسكندرية.

9- موقع إخوان أون لاين.

10- مجلة المجتمع الصادرة في الكويت.

وسوم: العدد 1022