عبد الغني الطنطاوي نابغة علم الرياضيات
(١٩١٩_ ٢٠٠٥م)
هو الأستاذ النابغة عبد الغني بن مصطفى، بن أحمد، بن مصطفى الطنطاوي (1919 ـ 2005) رحمه الله - كان نابغة متخصصا بعلوم الرياضيات، ومن شيوخ أساتذتها الألمعيين في سوريا، وأول من حمل شهادة دكتوراه فيها.
كان من الأذكياء، اشتُهر بالزهد وشدَّة التواضع، وإنكار الذات، وإيثار العزلة، وإنفاق كل ما يكسبه على من حوله. نال حظًّا وافرًا من علوم الدين والعربية.
المولد، والنشأة:
ولد عبد الغني بن مصطفى الطنطاوي بدمشق، وفيها تعلم، وظهر نبوغه في وقت مبكر. درس الرياضيات في الجامعة السورية، وتخرج سنة 1938م، وكان الأول في جميع مراحل دراسته، وأوفد إلى فرنسا لنيل شهادة الدكتوراه، فدرس في السوربون، وأفاد من جِلة أساتذتها.
ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية حال دون إكماله الدراسة؛ إذ كان في إجازة بدمشق، ولم يستطع العودة إلى باريس.
فتولَّى تدريس الرياضيات في حمص، ثم عيِّن مفتشًا لمادة الرياضيات في وزارة المعارف السورية.
وابتُعث مرة أخرى إلى مصر، فنال منها شهادتي الماجستير ، فالدكتوراه سنة 1952م، فكان أول من يحمل الدكتوراه في هذا التخصص في الشام. وبعد عودته إلى دمشق درَّس في جامعتها، وأُعير إلى الجامعة الليبية من 1960-1963م.
ثم قدم السعودية أستاذًا بجامعة أم القرى في مكة المكرمة من 1978-1987م.
وانتقل إلى جامعة الملك عبد العزيز بجُدَّة، وبقي يدرِّس فيها إلى سنة 1996م.
مؤلفاته:
له كتاب:
(مبادئ التحليل الرياضي).
وقد أتقن ثلاث لغات هي: الفرنسية، والإنكليزية، والألمانية.
وصفه أخوه الأكبر العالم الأديب الشيخ علي الطنطاوي بقوله: كان في باريس مثلاً مضروبًا للطالب المسلم، وفي التدريس نموذجًا للمدرِّس المبدع.
ووصفه العلامة المربي عبدالرحمن الباني، فقال:
هو من أذكياء الدنيا، مع استقامة ونزاهة تامَّة، وثبات على الحقِّ، استُدرج في دمشق لتنجيح بعض أبناء الذوات، فأبى بشدَّة، وآثر الهجرة.
رسالة من أخ لأخيه:
رسالة من الشيخ علي الطنطاوي إلى أخيه عبد الغني الطنطاوي الذي ذهب ابتعث إلى باريس وكان الشيخ عبد الغني رحمه الله من عباقرة الرياضيات، المشهود لهم وكان له فيها مساهمات وانجازات، وهو أول من حمل لقب دكتور في الرياضيات ببلاد الشام كلها..
كان مما قال الشيخ علي الطنطاوي في رسالته لأخيه:
يا أخي: إنك تمشي إلى بلد مسحور والعوذ بالله، الذاهب إليه لا يؤوب إلا أن يؤوب مخلوقا جديدا وإنسانا آخر غير الذي ذهب، يتبدل دماغه الذي في رأسه وقلبه الذي في صدره ولسانه الذي في فيه، وقد يتبدل أولاده الذين هم في ظهره إذا حملهم في بطن أنثى جاء بها من هناك!
إي والله ياأخي، هذا حال أكثر من رأينا وعرفنا (إلا من عصم ربك) يذهبون أبناءنا وإخواننا وأحباءنا، ويعودون عداة لنا دعاة لعدونا جندا لاستعمارنا. لا أعني استعمار البلاد فهو هين لين، ثم إننا قد شفينا منه بحمد الله أو كدنا، وإنما أعني استعمار الرؤوس بالعلم الزائف، والقلوب بالفن الداعر، والألسنة باللغة الأخرى، وما يتبع ذلك من الأرتستات والسينمات وتلك الطامات، من المخدرات والخمور وهاتيك الشرور.
فانتبه لنفسك واستعن بالله، فإنك ستقدم على قوم لا يبالي أكثرهم بالعفاف ولايحفل بالعرض. سترى النساء في الطرقات والسوح والمعابر يعرضن أنفسهن عرض السلعة،قد أذلتهن مدنية الغرب وأفسدتهن وهبطت بهن إلى الحضيض،فلا يأكلن خبزهن إلا مغموسا بدم الشرف، وأنت لا تعرف من النساء إلا أهلك مخدرات معصومات كالدر المكنون، شأن نساء الشرق المسلم،حيث المرأة عزيزة مكرمة محجوبة مخدرة،ملكة في بيتها، ليست من تلك الحطة والمذلة في كل شيء، فإياك أن تفتنك امرأة منهن عن عفتك ودينك،أو يذهب بلبك جمال لها مزور أو ظاهر خداع؛ هي والله الحية: ملمس ناعم وجلد لامع ونقش بارع، ولكن في أنيابها السم، وإياك والسم!
علي الطنطاوي - صور وخواطر - إلى أخي النازح إلى باريس - نشرت سنة 1937م.
الأستاذ النابغة د.عبد الغني الطنطاوي
(1337-1426هـ/ 1919-2005م)
وكتب الأستاذ أيمن بن أحمد ذو الغنى عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية يقول:
هو عبد الغني بن مصطفى، بن أحمد، بن مصطفى الطنطاوي: نابغة متخصص بعلوم الرياضيات، ومن شيوخ أساتذتها الألمعيين في سوريا، وأول من حمل شهادة دكتوراه فيها.
من الأذكياء، اشتُهر بالزهد وشدَّة التواضع، وإنكار الذات، وإيثار العزلة، وإنفاق كل ما يكسبه على من حوله. نال حظًّا وافرًا من علوم الدين والعربية.
ولد بدمشق، وفيها تعلم، وظهر نبوغه في وقت مبكر.
درس الرياضيات في الجامعة السورية، وتخرج سنة 1938م، وكان الأول في جميع مراحل دراسته, وأوفد إلى فرنسا لنيل شهادة الدكتوراه، فدرس في السوربون، وأفاد من جِلة أساتذتها، ولكن نشوب الحرب العالمية الثانية حال دون إكماله الدراسة؛ إذ كان في إجازة بدمشق ولم يستطع العودة إلى باريس. فتولَّى تدريس الرياضيات في حمص، ثم عيِّن مفتشًا لمادة الرياضيات في وزارة المعارف السورية.
وابتُعث مرة أخرى إلى مصر، فنال منها شهادتي الماجستير فالدكتوراه سنة 1952م، فكان أول من يحمل الدكتوراه في هذا التخصص في الشام.
وبعد عودته إلى دمشق درَّس في جامعتها، وأُعير إلى الجامعة الليبية من 1960-1963م، ثم قدم السعودية أستاذًا بجامعة أم القرى في مكة المكرمة من 1978-1987م، وانتقل إلى جامعة الملك عبد العزيز بجُدَّة وبقي يدرِّس فيها إلى سنة 1996م.
له كتاب: (مبادئ التحليل الرياضي). وقد أتقن ثلاث لغات هي: الفرنسية، والإنكليزية، والألمانية.
وصفه أخوه الأكبر العالم الأديب الشيخ علي الطنطاوي بقوله: كان في باريس مثلاً مضروبًا للطالب المسلم، وفي التدريس نموذجًا للمدرِّس المبدع.
ووصفه العلامة المربي عبد الرحمن الباني، فقال: هو من أذكياء الدنيا، مع استقامة ونزاهة تامَّة، وثبات على الحقِّ، استُدرج في دمشق لتنجيح بعض أبناء الذوات، فأبى بشدَّة، وآثر الهجرة.
وكتب الشاعر الإسلامي المعاصر محمد جميل جانودي سلسلة من ذكرياته تحت عنوان (قضايا في طريق التربية (89)):
الدكتور عبد الغني الطنطاوي :
في السنة الأولى الجامعية، كنت كأي طالب أتوق، مستحثًا الأيام، لأن تمر منهيًا السنة بنجاح متخلصًا من تبعات عشرة مواد ثقال، ففي السنة الثانية يُختصر عدد المواد ليصبح ستًا، فلا وجود للكيمياء، ولا لمادتي المجتمع واللغة الإنجليزية. لكن الذي زادني شوقًا إلى السنة الثانية، فضلًا عن النجاح، هو ما سمعته من زملاء كثيرين، عن الدكتور عبد الغني الطنطاوي، الذي استأثر بتدريسه طلاب السنوات الجامعية الثلاث الباقية، وكان لهم نصيب كبير في التلقي عنه، وأصبحت في العام 1965/1966 في السنة الثانية، وتحققت رغبتي الشديدة في أن أجلس على مقعد الدراسة لأتلقى عن هذا العلامة الفذ... وإذ بي أفاجأ بأن جميع الذين حدثوني عنه من قبل، وشوقوني لنعمة التتلمذ على يديه لم يكونوا موفين حقه بما يستحقه...ولم يكن هذا رأيي فحسب، بل يكاد يوجد إجماع على ذلك من قِبل جميع من درسوا عليه...
في السنة الثانية، كان يدرسنا مادتين أساسيتين في الرياضيات هما: (التفاضل والتكامل)،والتي كان يُطلق عليها (تحليل1) و (تحليل2) وكذلك (الجبر والسلاسل، وهذه الأخيرة كان يتقاسمها مع الدكتور صلاح الأحمد، فكان الدكتور صلاح يدرسنا (الجبر) والدكتور عبد الغني يدرسنا (السلاسل)، و(السلاسل الطنطاوية) مشهورة، وقد تفرد بها، وكان يدرسنا إياها، إلى جانب السلاسل الأخرى المشهورة مثل سلسلة ماكلوران، وسلسلة تايلور، وسلسلة فورييه، وغيرها، وذكر لي أحد الزملاء أن أحد الطلاب سأله مرة، ألا يوجد سلسلة تدعى "سلسلة طنطاوي" فابتسم، ولم يُجبه، يمنعه من ذلك حياؤه الجم وتواضعه، وفي يوم آخر أعاد عليه السؤال نفسه، فقال له: يا أخي لو قرأت عن أولئك الذين ذكرت بأسمائهم السلاسل أو النظريات لوجدت أن ذلك قد تم بعد موتهم بفترة، فكثير منهم في حياتهم كانوا غير مرغوبين بل ومحاربين من قبل مَن بأيديهم القرار والسلطة، فتضيق صدور هؤلاء بتتويج تلك النظريات بأسماء أصحابها، فإن بقيتَ حيًا فقد تسمع لي ولغيري...والحقيقة كانت هناك نظريات وسلاسل يُدرسنا إياها وهي ذات قيمة علمية عالية، ولم يُطلق عليها اسم... قال لي أحد الزملاء تلك النظريات والسلاسل هي له، وسمعت من أكثر من جهة أن بلادًا عدة في أوروبا وغيرها يُدرسونها ويعزونها إليه. كما أنه كان يطور بعض النظريات، ويضيف إليها نتائج أو حالات خاصة.
مع أهمية ذلك، وأهمية الإشارة إلى نبوغه في الرياضيات وندرة النظراء له، فسأقف عند سمات وخصائص أخرى لهذا الرجل الذي كان فيه ذوو السلطة والنفوذ من الزاهدين، وفيما أعلمه أن مسؤولي حزب البعث، بقومييهم وقُطْرييهم، قد استكْثروا أن يُسَمُّوا مدرجًا أو قاعة أو مركز بحث علمي باسمه، كما حصل ذلك لغيره!!! وهذا لا يزيده في نظر الشرفاء إلا رفعة وسموا.
إن صح التشبيه، فقد كانت نسبة كبيرة من الطلاب الذين درسوا عليه، يعتبرون العلاقة بينهم وبينه علاقة روحية، كعلاقة المريد مع شيخه، كانوا يحترمونه، ويلتزمون بما يحب، فضلًا عما يطلب أو يكلف. يتلهفون إلى درسه تلهف الظمآن إلى الماء، وكان يتميز، رحمه الله، ببعض الميزات التي قلما تكون مجتمعة في غيره:
أولًا: الإصرار على إضفاء السمة العربية على دروسه، فعلى الرغم من شيوع استخدام الرموز والمصطلحات الأجنبية، فقد كان، في محاضراته، يستخدم رموزًا عربية مقابلة ومناسبة، منها على سبيل المثال: تفاس ( أي تفاضل س) التي تقابل باللغات الأخرى: dx واستخدم الرمز مج المقابل للرمز الذي اسمه (سيجما) واستخدم الرمز هـ المقابل للحرف e المشهور في الرياضيات، والرمز (يه) و (عه) وغيرهما تعبيرًا عن اسم الزاوية المرموز لها في اللغات الأخرى بـ (إلفا) و (بيتا) و (ثيتا) وغيرها. لكنه لم يكن متشنجًا من إيراد بعض الرموز الدولية التي شاع استخدمها، ويعلم أن في ذلك تسهيلًا على الطلاب... بل كان مرنًا في ذلك فقد استخدم الرموز: (أوميجا)بشكليها الكبير والصغير:، وكذلك: (دلتا) بشكليها الكبير والصغير، وغيرهما... وكان يتكلم العربية الفصحى من غير تقعر أو تمحل، فتستسيغها الأذن، وترتاح لها النفس...وتكون صياغته لنصوص النظريات، بها، رصينة ومتينة.
ثانيًا: قلما، بل ومن النادر أن يخطر على بال الطالب سؤال ويتمكن من طرحه للدكتور؛ لأن الدكتور يفاجئه بالسؤال والجواب عنه، قبل أن يطرحه، وكان يحرص على أن يُفَصِّل بالشرح، حتى ولو كان لمعلومات يُفترض أن الطالب يعرفها بسبب دراسته لها في مناهج سابقة.
ثالثًا: كان، أحيانًا، يأتي بأمثلة فيزيائية، كتطبيق لنظرية شرحها، فكثيراً ما كانت تتوضح المسألة الفيزيائية في أذهاننا بصورة أشد جلاء من وقت شرحها السابق
رابعًا: كنا نتعلم منه وسائل تربوية في الإلقاء، والإصغاء، والإجابات عن الأسئلة، ومعالجة الأمور الطارئة، وخفض الصوت أو رفعه، ومعرفة الهام من الأقل أهمية، وكيفية التعامل مع كل منهما. كما كان يستثمر أي مناسبة لتنبيهنا إلى ما يمكن أن نتعرض له في مسيرتنا التربوية التي تنتظرنا من مشكلات علمية أو مواجهات سلوكية.
خامسًا: كان، أحيانًا، يضمن محاضراته بعض الطرائف الماتعة والمفيدة، فيجدد النشاط والحيوية في نفوس الطلاب
سادسًا: كان متواضعًا، يبتسم لمن يلقاه من الطلاب، ويلقي عليهم السلام، أو يرد عليهم التحية بأحسن منها.
ومن الجدير بالذكر أن الطلاب كانوا يتلقون عنه مشافهة، فهو يقوم بتدوين ما يلفظه من نظريات وبراهين وأمثلة وتطبيقات وحلول، على السبورة بخط جميل، وبزمن قياسي، والطلاب يدونون ذلك في مذكراتهم، ومنهم من يستطيع المتابعة بفهم وتدوين معًا، ومنهم من يتوقف عن التدوين، ويتابع فقط، ثم يستعير دفتر أحد زملائه.. لينقل المحاضرة إلى دفتره...
وأذكر أنه لم تكن له كتب قد تبناها بنفسه، وأثبت عليها اسمه على أنه قد ألفها، إلا أن بعض الطلاب الأقدم منا في الكلية، وضعوا ما أخذوا عنه في كتاب أو كتب، وأطلعوه عليها، ثم طبعوها بإشارة منه بالموافقة، لتكون معينًا للطلاب، فقط، وليس لأي هدف ربحي.....
معركة أخلاق وقيم:
دخل الدكتور عبد الغني الطنطاوي يومًا إلى القاعة، لإلقاء المحاضرة المقررة في برنامج المحاضرات في كلية العلوم... ففاجأه منظر غير مألوف، فضلًا عن أنه مخالف للعرف العام في ذلك الوقت، رأي مجموعة من الطلاب ملتفين حول إحدى الطالبات، أذكر أنها كانت مغربية، يتضاحكون بصوت مرتفع ويتزاحمون أيهم يكون الأقرب إليها وهي تبادلهم ذلك، ولما رأوه استقروا في المقاعد التي كانوا واقفين إزاءها، وتوسطتهم الفتاة، وما زال تبادل النظرات فيما بينهم قائمًا بطريقة مثيرة...
بدا وجه الدكتور ممتقعًا، وتغيرت قسماته، وكانت نظراته تشير إلى غضب عارم يمور في صدره، لكنه ملك نفسه، من أن ينجم عن سورة الغضب تلك بعض التصرفات القولية أو الفعلية التي يُمكن أن تُحسب عليه لا له، ولا سيما في دولة يُهيمن عليها حزب البعث!!! ثم أمر، بحزم وثبات، أنه بدءًا من المحاضرة التالية يخصص الصفان الأول والثاني الأيمنان من المقاعد للبنات، فقط، واستأنف المحاضرة... أخذ بعضهم يطلقون همسات استنكارية، لكنهم كانوا قلة... فألقى نظرة ذات مغزى تجاههم، وأكمل المحاضرة بشيء من الانزعاج..
بعد الفراغ من المحاضرة مباشرة أخذت الهمسات التي أشرت إليها ترتفع قليلًا ليتضح أن أصحابها القليلين، يدعون إلى الاحتجاج على ما أمر به الدكتور، زاعمين أنهم يعيشون في ظل دولة من أولويات شعاراتها الحرية، وأنهم ليسوا في القرون الوسطى...ووصل إلى أسماع الطلاب أن أولئك سوف يُضربون عن دخول المحاضرة التالية للدكتور عبد الغني..
في هذه الأثناء، ومن غير إبطاء، أسرع الزميلان محمد رضوان عجاج، وعبد العليم حنون في أثر الدكتور، وهو متجه إلى قسم الرياضيات، ولما أدركوه قبيل الدخول إلى القسم، وبطريقة غير ملفتة للنظر؛ استأذنوا منه راجين زيارته، ولما سألهما عن السبب، قالا: من أجل ما تم اليوم في المحاضرة، فرحب بهما وحدد لهما موعدًا.
وفي الموعد المحدد، أطلعاه على أن بعض الطلاب قرروا أن يخرجوا من المحاضرة القادمة خروج استنكار واحتجاج، إن هو أصر على تنفيذ ما طلب...فسألهم: كم عددهم على وجه التقريب؟ أجاباه: من عشرة إلى اثني عشر طالبًا فسألهما: هل أنتما متأكدان من أن العدد لا يتجاوز ما ذكرتما؟ فأكدا له ذلك.. عندئذ ضحك وقال: الأمر يسير إن شاء الله..
وفي المحاضرة التالية، دخل الدكتور إلى القاعة، وبنظرة سريعة عرف أن ما طلبه لم يُستجب إليه، فنظر إلى الطلاب وقال: ما لي أرى أن ما اتفقنا عليه لم يُستجب له...ثم أمر بتنفيذه على الفور، فلبى الطلاب رغبته، وتم له ما أراد، لكن أولئك الذين كادوا أن يتميزوا من الغيظ، أخذوا يغادرون القاعة، حسبما تواصوا فيما بينهم من قبل.. كان عددهم، بالضبط، اثني عشر طالبًا، وبخروج آخرهم؛ صمت الدكتور برهة وهو يجيل بصره في الحاضرين، وكأن لسان حاله يقول: الفرصة متاحة لمن يريد أن يلحق بالخارجين... لكن القاعة كانت هادئة، ووجوه الطلاب مرتاحة لما تم... عندئذٍ طفح وجهه بالبشر، وابتسم ابتسامة خفيفة، وبدأ المحاضرة بطمأنينة وهدوء...
جرت الأمور كالمعتاد في الأيام القادمة، وعاد أولئك الخارجون للحضور بانتظام والقاعة منضبطة بما رسم لها الدكتور عبد الغني...
فهمت فيما بعد، أن الدكتور عبد الغني قد سأل الدكتور موفق دعبول عن الطالبين اللذين طلبا زيارته، لأن الدكتور موفق كان في سن الشباب، وكان أكثر التصاقًا بالطلاب، ومعرفة بهم، فزكاهما له، واطمئن إلى إتمام الزيارة.......ولو تبين له خلاف ذلك لما أعجزه إلغاء الزيارة بطريقة وأخرى ..
أولًا: نبوغه في الحسابات الفلكية:
في أثناء دراستي الجامعية، سمعت من أكثر من جهة، أنه كان يهتم بحساب عدد السنين والشهور والمواقيت، وأنه عمل تقويمًا يبين فيه مواعيد الصلوات اليومية لمدينة دمشق، بحسابات دقيقة، وفق هدي النبي صلى الله عليه وسلم في ذلك. وكذلك فيما يتعلق بالقمر وأطواره ومواعيدها، وأمور أخرى.
ثانيًا: امتلاء السبورة في المحاضرة:
في إحدى المحاضرات للدكتور عبد الغني الطنطاوي، رأى أن السبورة أوشكت على الامتلاء، ومن عادته أنه يرتب السبورة، ولا يدع أي جزء منها يضيع هدرًا، وكان لا يمسح ما كتبه، معطيًا بذلك فرصة للطلاب أن يدونوا ما كتبه على السبورة في دفاترهم، ولما رأى أن السبورة ستمتلئ، أخذ يصغر خطه، ويقرب بين السطور، فاعترض أحد الطلاب عليه قائلًا بنبرة احتجاجية: على مهلك كي نستطيع المتابعة، ثم الخط غير مقروء...والطالب هذا من ذوي الأخلاق الحميدة، ويتابع بشكل مستمر...فتوقف الدكتور، ووضع قطعة الطباشير من يده، وقال: يا أخي، هذه الحياة تحتاج إلى صبر في مواجهة العقبات والمشكلات، ولا تُحل أي مشكلة بالضجر والتذمر، ومن طبيعة المؤمن التحلي بالصبر...وينال على ذلك الأجر الجزيل، إن لم يكن في هذه الدنيا ففي الآخرة، أما غير المؤمن فما له وهذه الدنيا التي ليس فيها إلا التعب والكدح... فخير له أن يفكر بطريقة للخلاص منها.... ثم نظر إلى الطالب المتحدث... وقال مبتسمًا: أدركْ ما تستطيع إدراكه... وأكمل الباقي مستعينًا بدفاتر زملاء آخرين، وينتهي الأمر ولا حاجة لهذا التوتر والانفعال...وعاد ليستأنف المحاضرة...
ثالثًا: إعادة توزيع الأسئلة نفسها في دورتين متتاليتين:
ومرة فوجئ الطلاب الذين لم ينجحوا بمادته في الدورة الأولى (دورة حزيران)، فوجئوا حين حضروا امتحان المادة التي رسبوا فيها في الدورة الثانية (دورة أيلول) وأخذ المراقبون يوزعون الأسئلة، وما هي إلا لحظات حتى عم قاعة الامتحان صخب واحتجاجات مسموعة، والقصة أن الطلاب، أخذوا يطلعون على الأسئلة بعد توزيعها، فوجدوا أن الأسئلة الموزعة عليهم هي أسئلة الدورة السابقة (دورة حزيران)، التي لم ينجحوا فيها!! وعلت أصوات الطلاب في القاعة بعبارة: وزعتم الأسئلة بالخطأ...فنظر المراقبون في بيانات الأسئلة في أعلى الورقة فوجدوا، فعلًا، مكتوب عليها " دورة حزيران" والواقع الراهن هو (دورة أيلول) فانطلق أحد مراقبي القاعة إلى الدكتور عبد الغني الطنطاوي، وكان في قسم الرياضيات، وأخبره بما حصل، وأراه ورقة الأسئلة، فأخذ الدكتور الورقة من يد الموظف ومشى بهدوء إلى وسط القاعة، وفي يده قلم، وقال للطلاب: اشطبوا بالقلم على كلمة (الأولى) واكتبوا مكانها (الثانية) واشطبوا على كلمة (حزيران) واكتبوا مكانها (أيلول) وفعل ذلك أمامهم...ثم قال: أجيبوا وفقكم الله...فأُسقط في أيدي الطلاب المحتجين...وفي نهاية الاختبار تحلقوا حول الدكتور منزعجين، بأنهم خُدعوا، إذ ما كان في حسبانهم أن تتكرر بعض أسئلة الدورة الأولى، في الدورة الثانية فضلًا عن كلها، فقال لهم بهدوء: أردت خيرًا فحسبتموه شرًا... قلت في نفسي: بالتأكيد بعد أن سلم الطلاب الأوراق في الدورة السابقة، كما هي عادتهم أخذوا يسألون بعضهم عن كيفية حل السؤال الفلاني والسؤال الفلاني، وصارت عندهم فكرة عن الإجابات.. فقلت: مساعدة للطلاب نكرر الأسئلة نفسها.. وكان عندنا فائض من الأسئلة في الدورة الأولى فوزعناها عليكم...فأسقط في أيديهم مرة أخرى ورجعوا خائبين...وربما قصد الدكتور عبد الغني بهذا أن يقلل من شأن التوقعات، وأن يحث الطلاب على الدراسة الشاملة للمنهج.
رابعًا: وضع طاقية الرأس ليست من السنة:
كان الدكتور عبد الغني، حين يُتاح له، يصلي الأوقات جماعة في مسجد الجامعة، وذات يوم دنا منه أحد الطلاب وقال له: دكتور.. أليس من الأفضل أن تلبس طاقية وقت الصلاة، فقال له: ما وجه الأفضلية؟ أجاب الطالب: إنها من السنة.. فقال له الدكتور: لا دليل ثابتًا على ما تقول...ولا يصح أيٌّ مما يتداوله الناس في هذا الشأن...وبعد فترة وبعد أن تحرى الطالب عن الموضوع تبين له صحة ما قاله الدكتور، فالتزم به، وأخذ يدعو إليه.
خامسًا: هداية سببها الدكتور عبد الغني الطنطاوي:
روى لي الزميل عبد العليم حنون، أنه رأى زميلًا اسمه أحمد شعيب في مسجد الجامعة، ولم يكن معهودا عنه الصلاة والذهاب إلى المسجد، بل إنه يحمل أفكارًا مختلفة...فتعجب الزميل عبد العليم منه، وحين سأله عن السر، قال الطالب، وكان من الجيدين في الدراسة:
يا أخي، أنا معجب، جدًا، بالدكتور عبد الغني الطنطاوي، وبعبقريته العلمية في الرياضيات وغيرها، فقلت في نفسي: لو لم يكن الالتزام بدين الإسلام ومبادئه حقًا وصوابًا لما تمسك به الدكتور عبد الغني.. بل وأصبح قدوة صالحة فيه...وقادني هذا التساؤل إلى ما تراه بي من هداية ولله الحمد.
رحم الله الدكتور عبد الغني، الذي يجدر بنا أن نذكر بأنه أول من حصل في سورية على شهادة الدكتوراة في الرياضيات، وكان ذكره عطرًا على لسان زملائه في الجامعة، فقد سمعت من الدكتور صلاح الأحمد ثناء خاصًا عليه، وكذلك من الدكتور موفق دعبول، ولا يخفى من سيرته أنه كان شديد الحب لعائلته عامة، ولاسيما لأخيه الكبير العلامة الأديب الشيخ علي الطنطاوي، الحب المقترن بالاحترام والتوقير، وبالمقابل في أوقات عدة، كنت أسمع الشيخ الكبير علي يورد ذكره في محاضراته، مستشهدا به على موضوعات مختلفة....وأنه ابتلي فصبر، منحه الله وسام الهجرة، وهيأ له فيها مراغمًا كثيرًا وسعة.
نسأل الله أن يجعل ثواب جميع ما قدم مستمرًا، ودائم النفع. وليت الذين عندهم صلة أكثر به ولديهم معلومات أكثر عنه، ليتهم يتفضلون بإهدائها إلى الأجيال، لعلّ ذلك يسهم في صحوة الأمة ونهضتها من كبوتها.
مصادر الترجمة:
([1]) اعتمدت في إنشاء الترجمة على ((ذيل الأعلام)) للأخ الصديق الأستاذ أحمد العلاونة، الجزء الرابع (مخطوط).
(٢)_ و(ذكريات) الشيخ علي الطنطاوي 1/289، 2/113، 4/84 وما بعدها، 6/119، 8/113
(٣)_ و(معجم المؤلفين السوريين) لعبد القادر عياش، ص320.
( ٤)_ ومشافهة الشيخ أيمن ذو الغنى مع العلامة المربي عبدالرحمن الباني.
(٥)_ الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين في مصر.
(٦)_ رابطة أدباء الشام.
(٧)_ صفحة محمد جميل جانودي.
(٨)_ مواقع إلكترونية أخرى.
وسوم: العدد 1103