سطور من حياة المجاهدة زينب الغزالي (3)

أسرار عدم مهاجمتها الاتحاد النسائي المصري وهدى شعراوي طـوال حياتها

علاقة متميزة مع علماء الأزهـر ساعدتها في بناء جمعية السيدات المسلمات

بدر محمد بدر

[email protected]

 تأثرت زعيمة الاتحاد النسائي بقرار زينب الغزالي بالاستقالة؛ فقد كانت تتمنى أن تستمر معها في الاتحاد, وأن تقترب منها أكثر, فربما جاء اليوم الذي حلت فيه زينب محلها في قيادة الاتحاد النسائي المصري, لكنها في النهاية قبلت القرار بالاستقالة, وتمنت لها التوفيق في خطواتها الجديدة, وطلبت منها أن تقطع على نفسها عهداً ألا تهاجم الاتحاد النسائي, وأن تكون علاقتها طيبة وطبيعية به, بل إنها طلبت منها ألا تنقطع عنها وأن تزورها بين الحين والحين, وهذا ما التزمت به زينب الغزالي طوال حياتها, ألا تهاجم الاتحاد النسائي وألا تتحدث بسوء عن السيدة هدى شعراوي وفاء لهذا العهد.

لم يكن هذا الالتزام الذي قطعته السيدة زينب على نفسها هو الذي يمنعها فقط من مهاجمة الاتحاد النسائي أو انتقاد السيدة هدى شعراوي, بل كانت على قناعة كبيرة بأن الاتحاد النسائي لم يكن يخالف المفاهيم الإسلامية في قضايا المرأة أو في غيرها عن علم, وأن ثقافة العاملات فيه كانت لسبب أو لآخر بعيدة عن الثقافة الإسلامية الأصيلة, ولو وجد الاتحاد من يمد له يد المساعدة, ويتحاور معه ويعاونه على الاقتراب من المفاهيم الإسلامية الصحيحة لتغيرت وجهته.

أما موقفها من السيدة هدى هانم شعراوي فكان أكثر عمقاً ووضوحاً؛ فقد كانت تعلم أنها من بيت كريم, وأن صفاتها الشخصية تؤهلها للزعامة, وأنها لم تكن علمانية بمعنى رفضها للدين وكراهيتها له بل ومحاربته, بل كانت متدينة التدين الفطري العادي, وأنها لم تكن تدعو لفسق أو انحراف أو خروج على الدين, وربما وجدت هدى شعراوي في زينب الغزالي الجانب الديني الذي تحتاجه وترتاح إليه.

واصلت زينب علاقتها بالسيدة هدى شعراوي حتى مرضت الأخيرة مرض الموت, فطلبت أن تراها, وحضرت زينب الغزالي اللحظات الأخيرة في حياة زعيمة الاتحاد النسائي, حيث فاضت روحها وهي تمسك بيد زينب, وكان ذلك في أواخر الأربعينيات ( 13 من ديسمبر عام 1947 ) .. رحمهما الله رحمة واسعة.

وفي الثاني عشر من ربيع الأول عام 1356 هـ ( ذكرى المولد النبوي الشريف ) عام 1937م ذهبت زينب الغزالي إلى مبنى كلية الشريعة التابعة لجامعة الأزهر الشريف ـ في حي عابدين بالقاهرة آنذاك ـ وأعلنت عن تأسيس أول جمعية إسلامية نسائية باسم " جمعية السيدات المسلمات ", وشارك في هذا الاحتفال التاريخي عميد كلية الشريعة ولفيف من العلماء الكبار في الأزهر الشريف, وبدأت الخطوات الأولى في حياة هذه الجمعية التي كان لها الأثر الكبير في مجال الدعوة إلى الله بين النساء المسلمات في مصر, وتركت تراثاً كبيراً من العمل الدعوي والاجتماعي والأخلاقي والإنساني.

كانت جمعية " السيدات المسلمات " حلماً من أحلام زينب الغزالي, وأملاً من آمالها في الدعوة إلى الله, فأعطت لها كل وقتها وحياتها, وبذلت كل ما في وسعها لدعمها ونجاحها.. كانت الجمعية هي السفينة التي استقرت عليها طموحاتها بعد فترة من البحث والصراع النفسي, وتأسست في شارع " نور الظلام " في حي الحلمية الجديدة بالقاهرة, قريباً من دار الإخوان المسلمين بعد ذلك, وبدأت أولى خطواتها من خلال المحاضرات الدينية في المناسبات الإسلامية, وكانت تقوم رئيسة الجمعية الآنسة زينب الغزالي ـ كما كان يطلق عليها ـ بإلقاء هذه المحاضرات, ثم انتقلت إلى مساجد القاهرة القديمة: الجامع الأزهر ـ مسجد الحسين ـ مسجد أحمد بن طولون ـ مسجد الإمام الشافعي ـ مسجد السلطان حسن.. وغيرها من المساجد, بعد أن توطدت علاقتها بعدد كبير من علماء وشيوخ الأزهر الشريف, وعلى رأسهم الشيخ الجليل محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر والشيخ مأمون الشناوي عميد كلية الشريعة والشيخ محمود أبو العيون والشيخ مصطفى عبد الرازق والشيخ محمد سليمان النجار والشيخ عبد ربه مفتاح..

هذه العلاقة الفكرية والعلمية والإنسانية مع هؤلاء العلماء والشيوخ الأجلاء, شكلت رافداً ثقافياً ومعرفياً زاد من طموحها الدعوي وقدرتها على العمل والحركة, وبدأت تقرأ أكثر وتحفظ من القرآن الكريم ومن الأحاديث النبوية الشريفة, وتتأمل في السيرة النبوية, وتدرس الفقه وعلم الحديث وغيرها من العلوم الضرورية للداعية.

وأدركت حاجتها إلى من يساعدها ويقوم معها بعبء الدعوة إلى الله من النساء, فأسست معهد الواعظات, تدرس فيه الفتاة أو السيدة المرشحة للوعظ والدعوة لمدة ستة أشهر, العلوم الأساسية من تفسير وحديث وفقه وسيرة ولغة عربية..الخ, ويقام بعد ذلك حفل التخرج, تكون فيه الواعظة قد تأهلت لإلقاء الدروس الدينية في المساجد.

وكانت السيدة زينب الغزالي تلتقي بالواعظات وتختبرهن وتوافق على اعتمادهن .. وقد تخرج في هذا المعهد العشرات من الواعظات اللاتي ساعدن كثيرا في نشر الدعوة والفقه والتدين الصحيح في المجتمع المصري.. كما أسست الجمعية مشغلاً للفتيات وداراً لليتيمات, وانتشرت فروعها في أحياء القاهرة, وفي عدد كبير من المحافظات المصرية, خصوصا في الوجه البحري.

تعلقت زينب الغزالي بجمعية السيدات المسلمات أيما تعلق, ورأت فيها حلمها وحلم والدها الذي غرسه فيها, وأصبحت الجمعية هي كل حياتها, تذهب إليها في الصباح ولا تغادرها إلا في نهاية اليوم, وتقضي معظم وقتها في الاستقبالات وحل المشكلات الزوجية, والعمل الدعوي والوعظي والإداري, وكتابة المقالات للصحف والمجلات, وزيارة بعض الشخصيات المهمة من العلماء والمسئولين.. الخ.

ولأن الجمعية أخذت من زينب الغزالي هذه المكانة, لم تنجح محاولة الإمام الشهيد حسن البنا في بادئ الأمر, في إقناعها بالعمل مع الإخوان المسلمين وتولى مسئولية قسم الأخوات المسلمات, ففي عام 1937 ـ وهو نفس العام الذي تأسست فيه السيدات المسلمات ـ أرسل  حسن البنا العالم الجليل الشيخ عبد اللطيف الشعشاعي برسالة إلى الآنسة زينب الغزالي ـ لم تكن قد تزوجت بعد ـ يطلب فيها أن يعملا معاً من خلال اندماجها في قسم الأخوات المسلمات, لكنها لم توافق على الاندماج, ورحبت في نفس الوقت بالتعاون مع الإخوان المسلمين في الدعوة إلى الله.

لم يكتف الإمام الشهيد حسن البنا بتكليف الشيخ الشعشاعي بتوصيل الرسالة إلى الآنسة زينب الغزالي, لكنه التقى بها لنفس الهدف.. تقول الداعية المجاهدة في كتابها " أيام من حياتي " عن هذا اللقاء: " بعد ما يقرب من ستة أشهر على تأسيس جماعة السيدات المسلمات, كان أول لقاء لي مع الإمام الشهيد حسن البنا, كان ذلك عقب محاضرة ألقيتها على الأخوات المسلمات في دار الإخوان المسلمين, وكانت يومئذ في العتبة.. كان الإمام المرشد في سبيله لتكوين قسم للأخوات المسلمات, وبعد مقدمة عن ضرورة وحدة صفوف المسلمين, واتفاق كلمتهم.. دعاني إلى رئاسة قسم الأخوات المسلمات, وكان هذا يعني دمج الوليد الجديد الذي أعتز به " جماعة السيدات المسلمات " واعتباره جزءاً من حركة الإخوان المسلمين, ولم أعده بأكثر من مناقشة الأمر مع الجمعية العمومية للسيدات المسلمات, التي رفضت الاقتراح وإن حبذت وجود تعاون وثيق بين الهيئتين, وتكررت اللقاءات مع تمسك كل منا برأيه, وتأسست الأخوات المسلمات, ولم يغير ذلك في علاقتنا الإسلامية شيئاً, وحاولت في آخر لقاء لنا في دار السيدات المسلمات, أن أخفف من غضبه بعهد آخذه على نفسي أن تكون السيدات المسلمات لبنة من لبنات الإخوان المسلمين, على أن تظل باسمها وباستقلالها, بما يعود على الدعوة بفائدة أكبر, على أن هذا أيضاً لم يرضه عن الاندماج بديلاً..".

وفي عام 1940 استمعت زينب إلى حسن البنا في إحدى محاضراته في دار الإخوان المسلمين في ميدان العتبة بوسط القاهرة, وتأثرت به كثيراً, وبدأت تقتنع بوحدة طريق العاملين للإسلام وبأهمية العمل المشترك, لكن تنفيذ ذلك تأخر لأسباب كثيرة, حتى اقترب موعد رحيل الإمام البنا عن الحياة, وقبل نهاية عام 1948 بايعت زينب الغزالي حسن البنا على العمل في سبيل الله لإعلاء كلمة الله في إطار دعوة الإخوان المسلمين.. ولم تمض بضعة أشهر حتى استشهد حسن البنا في 12 من فبراير عام 1949, لتبدأ مرحلة جديدة من حياة الداعية زينب الغزالي في علاقتها بالإخوان المسلمين.

وحدث أمر غير من موقف الداعية الشابة زينب الغزالي تقول عنه: " في صبيحة اليوم التالي لحل جماعة الإخوان ( قرار الحل صدر في الثامن من ديسمبر عام 1948 ) كنت بمكتبي في دار السيدات المسلمات, وفي نفس الحجرة التي كان بها آخر اجتماع بالمرشد الإمام, وجدت نفسي أجلس إلى مكتبي وأضع رأسي بين يدي, وأبكي بكاء شديداً, فقد أحسست أن حسن البنا كان على حق, فهو الإمام الذي يجب أن يبايع من المسلمين جميعاً على الجهاد لعودة المسلمين إلى مقعد مسئوليتهم, وإلى وجودهم الحقيقي الذي يجب أن يكونوا فيه, وهو مكان الذروة في العالم يقودونه إلى حيث أراد الله, ويحكمونه بما أنزل الله.. "

" ..وأحسست أن حسن البنا كان أقوى مني, وأكثر صراحة في نشر الحقيقة وإعلانها, وأن هذه الشجاعة والجرأة هي الرداء الذي يجب أن يرتديه كل مسلم, وقد ارتداه حسن البنا ودعا إليه.. ثم وجدت نفسي أهتف بالسكرتير ليوصلني بالأخ عبد الحفيظ الصيفي ـ الذي كلفته سابقا بنقل رسالة شفوية للإمام البنا ـ يذكره فيها بعهدي له في آخر لقاء لنا, وحين عاد لي بتحيته ودعائه, استدعيت شقيقي محمد الغزالي الجبيلي وكلفته بإيصال وريقة صغيرة بواسطته أو بواسطة زوجته إلى الإمام المرشد, وكان في الوريقة: سيدي الإمام حسن البنا.. زينب الغزالي الجبيلي تتقدم إليك اليوم, وهي أمة عارية من كل شيء إلا من عبوديتها لله, وتعبيد نفسها لخدمة دعوة الله, وأنت اليوم الإنسان الوحيد الذي يستطيع أن يبيع هذه الأمة بالثمن الذي يرضيه لدعوة الله تعالى.. في انتظار أوامرك وتعليماتك سيدي الإمام..".