صاحب كتاب الأعلام خير الدين الزركلي

clip_image002_b0b23.jpg

يندر أن تجد باحثا في الثقافة العربية لم يرجع إلى كتاب الأعلام لخير الدين الزركلي، ليرشده إلى ترجمة عَلَم من القديم أو الحديث، ويأخذ بيده إلى المظان التي يمكن أن يعود إليها إن أراد المزيد من التفاصيل عن الشخصية التي يبحث عنها.

ولم يأخذ هذا الكتاب مكانته بين الباحثين وأهل العلم إلا عن جدارة واستحقاق؛ فهو يجمع بين الدقة في تحرير الترجمة، والعناية بإبراز أهم ملامح المترجم له، مع الأمانة والموضوعية والإيجاز غير المخل.

وقد أنفق الزركلي السنوات الطوال في تأليف كتابه، وإعادة تحريره أكثر من مرة، مستعينا بعمله الدبلوماسي الذي هيأ له السفر والانتقال بما ساعده في أن يطالع المكتبات العامة في كثير من دول العالم، حتى خرج على الصورة التي نراها الآن: 8 مجلدات كبيرة، ومن عجب الأقدار أن المؤلف لم يعش حتى يرى الطبعة الأخيرة الأنيقة من كتابه التي صدرت بعد وفاته.

وأكسب هذا الكتاب مؤلفه شهرة واسعة، وبوّأ صاحبه منزلة كبيرة بين مؤرخي هذا الفن من أصحاب كتب التراجم، وأخفى أيضا جانبا من مواهب الزركلي فلا يعلم كثيرون أنه كان شاعرًا مجيدًا، له ديوان من الشعر العذب.

وفي هذه الفترة المبكرة من حياته أصدر مجلة أسبوعية بعنوان "الأصمعي" نشر فيها عصارة فكره المتقد، ونافح عن أمجاد العرب والعروبة، وكانت الشام آنذاك مسرحا لصراعات قومية بين العرب والترك، ولم تستمر المجلة فقد صادرتها الحكومة العثمانية، واضطر الزركلي إلى السفر إلى بيروت والتحق بمدرسة "اللاييك" أستاذا للتاريخ والأدب العربي وهو دون الخامسة والعشرين، وفي الوقت نفسه كان تلميذا بها يهوى دراسة الفرنسية.

ثم عاد إلى دمشق وأصدر سنة (1337هـ= 1918م) جريدة يومية باسم "المفيد"، وفي أثناء ذلك كان ينظم القصائد الحماسية التي تتغنى بأمجاد الوطن، ويتعلق بآمال الحرية والاستقلال حتى دخل الفرنسيون دمشق، وأطاحوا بحكومة الملك فيصل وقضوا على أماني سوريا في الاستقلال في (8 من ذي القعدة 1338هـ= 24 من يونيو 1920م) بعد أن استشهد كثير من شباب سوريا في معركة ميسلون الخالدة، وتم إعلان الانتداب الفرنسي، فغادر خير الدين الزركلي دمشق إلى عمان.

وبعد مغادرته البلاد قرر المجلس العسكري التابع للفرقة الثانية في الجيش الفرنسي الحكم غيابيًا إعدام خير الدين ومصادرة أملاكه؛ لأنه جاهر بعداء الفرنسيين في جريدته "المفيد" ونعتهم بالغدر والخيانة، ودعا أهل وطنه إلى مقاومتهم، وأشار إلى ذلك في إحدى قصائده بقوله:

نذروا دمي حنقا علي، وفاتهم ... أن الشقي بما لقيت سعيد

الله شاء لي الحياة، وحاولوا ... ما لم يشأ، ولحكمه التأييد

لم تشغله أعماله الدبلوماسية عن الكتابة والتأليف وإن كف عن نظم الشعر، ولم تنقطع صلته بزيارة المكتبات ودور الكتب في أماكن مختلفة من العالم، وأثمرت جهوده عن عدة مؤلفات منها:

- ما رأيت وما سمعت، وهو عن رحلته الأولى من دمشق إلى فلسطين فالحجاز، وطُبع سنة 1923م.

- عامان في عمان، تناول فيه مذكراته عن عامين قضاهما في مدينة عمان.

- الملك عبد العزيز في ذمة التاريخ.

- صفحة مجهولة من تاريخ سوريا في العهد الفيصلي.

غير أن أهم إنتاجه هو كتابه الفذ "الأعلام"، وهو يعد من أعظم الكتب العربية التي ظهرت في القرن الرابع عشر الهجري، ترجم فيه لنحو 13435 علما من القديم والجديد، معتمدا على ما يزيد عن ألف وبضع مئات من المصادر والمراجع المطبوعة والخطية، فضلا عن مئات الصحف والدوريات.

والمنهج الذي التزمه لاختيار من يترجم لهم هو "أن يكون لصاحب الترجمة عِلم تشهد به تصانيفه أو خلافة أو ملك أو إمارة أو منصب رفيع كوزارة أو قضاء كان له فيه أثر بارز أو رئاسة مذهب، أو فن تميز به، أو أثر في العمران يذكر له، أو شعر أو مكانة يتردد بها اسمه، أو رواية كثيرة، أو أن يكون أصل نسب أو مضرب مثل".

غير أن هذا النهج لم يلتزمه مع خلفاء الدولة العثمانية وكثير من أمرائها وولاتها، فأعرض عن الترجمة لهم؛ متأثرًا بنزعته القومية العربية وعدم ميله إلى الأتراك، وكان قد عاصر الصراع الذي شب في الشام بين حكّام الأتراك ورعاياهم من العرب، هذا في الوقت الذي عُني فيه بالترجمة لكبار المستشرقين.

وانتهج في كتابه الترتيب الألفبائي وإيراد الترجمة تحت اسم العلم الحقيقي لا تحت اسم شهرته؛ فترجمة المتنبي تحت اسمه (أحمد بن الحسين) لا تحت اسم شهرته، مع الإشارة تحت اسم الشهرة إلى الإحالة إلى موضع الترجمة تسهيلا للبحث، فحين يرد اسم المتنبي في حرف الميم يشير إلى اسمه الحقيقي الذي ترد فيه الترجمة. وحرص المؤلف على أن يلحق بالمترجم صورة له إن كان ذلك موجودًا أو نموذجا من خطه وتوقيعه.

وقد لقي الكتاب حفاوة وإقبالا من القراء والباحثين لأهميته، وتحريره المادة العلمية بدقة، وإرشاده إلى مراجع إضافية للمزيد، مع الدقة والإيجاز، ولم يعد يستغني عنه باحث أو تغفل اقتناءه مكتبة.

وسوم: العدد 846