الشيخ محمد علي الطنطاوي

الشيخ محمد علي الطنطاوي

الشيخ محمد علي الطنطاوي

بقلم: محمد المجذوب

لا أدري كيف أبدأ الحديث عنه ، فهل أنا بحاجة إلى تعريفه للقارئ ، وهو الذي أصبح بالنسبة إلى قراء العربية وهواة إعلامها بمثابة الذهب في عالم المعادن لا يكاد يجهله أحد .. ومع ذلك فلابد من تقديمه إلى قراء هذا الكتاب ، وبينهم من هو أوسع معرفة به مني ، جرياً مع الطريقة التقليدية التي لا مندوحة عنها في كتابة التراجم .

لقد اشتهر باسم علي الطنطاوي ، وهو في السجلات الرسمية محمد علي بن مصطفى الطنطاوي ، نسبة إلى طنطا التي منها وفد جده لأبيه وعمه ، وقد عرفا بأنهما من كبار علماء الشام ، وقد ترجم لوالده صاحب كتاب (الحدائق الوردية) وعرف به الشيخان بهجة البيطار وجميل الشطي في كتابين لهما عن أعلام القرن الثالث عشر.

وكان جده لأبيه إمام طابور بالعسكر، أما والده فقد تولى أمانة الفتوى بالشام كما تولى في بعض الفترات إدارة إحدى الثانويات الأهلية بدمشق ، إلى جانب اهتمامه بعلوم الفلك والرياضيات .

وكان مولد الأستاذ في العام سبعة وعشرين وثلاثمائة وألف للهجرة في بيت أبرز معالمه العناية بالعلم وتوافد طلبته عليه من كبار مشيخة دمشق .. وهو يحدث عن تلك البيئة فيقول :

منذ وعيت على الدنيا وجدتني على صلة بالعلماء ، وكان من عادة والدي أن يكلفني مناولته الكتاب الذي يحتاج إليه وأراه يلقي دروسه على هؤلاء المشايخ ، فأحضرها معهم سواء في البيت أو في جامع التوبة مع مواظبتي على دروس المدرسة ..

وقد تلقى تعليمه النظامي في العديد من المدارس ، خلال فترات من ثلاثة الععهود : العثماني ، ثم الشريفي ، ثم الفرنسي ، حتى استقر أخيراً في مكتب عنبر الذي كان هو الثانوية الوحيدة بدمشق .. ولكن هذا الاستقرار لم يتوافر له إلا بعد كثير من المتاعب ، اضطر معها إلى ترك الدراسة أكثر من مرة ، حيث جرب حظه في التجارة وعمل في بعض المحال كاتباً أو محاسباً فأخطأه التوفيق ، فأعيد إلى طريق الدراسة حتى حصل على الثانوية .. ومن هناك اتجه إلى مصر ليلتحق بدار العلوم ، وفيها تعرف الأديب الإسلامي الكبير سيد قطب رحمه الله ، وتوثقت صلته بالرسالة التي أسهم في تغذيتها بالعديد من بواكير كتاباته ..

على أن الشوق إلى مراتع صباه سرعان ما غلبه فعاد إلى دمشق قبل أن يتم عامه في دار العلوم ، وعلى الرغم من سبق قبوله في كلية الحقوق لم يكتب له دخولها لفوات الوقت ، فكان عليه أن يبحث عن عمل يشغل به فراغه بقية العام ، فلم يلبث أن وجده في الصحافة ، وبدأ ذلك في جريدة (فتى العرب) التي كان يصدرها الأديب المعروف الأستاذ معروف الأرناؤط ، وهي صحيفة يومية معنية بالأدب إلى جانب اهتمامها بالسياسة وكذلك وجد عملاً صحفياً آخر في تحرير (أف باء) مع صاحبها الكاتب الفلسطيني الأستاذ يوسف العيسى ، وقد هيأه ذلك للانضمام فيما بعد إلى أسرة التحرير في كبرى الجرائد الوطنية ، التي أصدرتها الكتلة الوطنية باسم (الأيام) ومع ذلك لم يهمل رغبته في دراسة الحقوق ، فما إن حان موعد القبول للعام التالي حتى التحق بها ، وطبيعي ألا تصرفه دراسة الحقوق عن أي شغل آخر ، فجمع بين الدراسة والعمل ..

وللأستاذ في جريدة (الأيام) تجربة غنية ، إذ جمعته بخليط من المحررين يمثلون مختلف الاتجاهات الفكرية والتيارات المذهبية ، من الشيوعي إلى القومي إلى الإلحادي إلى الإسلامي ـ ممثلاً في شخصية الأستاذ ـ وكلهم مبعثون لخدمة القضية في ظل الكتلة الوطنية ! . مما يعطي القارئ صورة عميقة الدلالة لنوعية المبادئ التي كانت تمثلها تلك الكتلة ، فلا يستغرب أن ينتهي عهد حكمها أخيراً إلى كل الزلازل ، التي أسلمت زمام البلاد إلى أعاصير الانقلابات ..

وكان طبيعياً أن يضيق المستعمر بحرية الكلمة التي تمثلها تلك الجريدة فتعطل عملها . ويعتقل رئيس تحريرها ، الأستاذ عارف الكندي صاحب المميزات الرجولية العالية ..

وهنا يقص فضيلته علينا حديث الأزمة التي واجهها بسبب هذه الهجمة الاستعمارية الشرسة ، إذ أغلقت بوجهه كوة الراتب الذي كان يتقاضاه من الجريدة ، فانقطع بذلك مورد أسرة ليس فيها كاسب سواه ، إذ كان أخوته كلهم صغاراً في مرحلة الدراسة .. ولكن رحمه الله ما لبثت أن أدركته من حيث لا يحتسب ، وكان ذلك على يد رجل لم يعرفه من قبل ، ومع ذلك فقد كان السبب المباشر في حصوله على وظيفة معلم في السلمية .

تلك هي إطلالة سريعة على مطالع حياة الشيخ ، ولكن رجلاً من طراز الطنطاوي لا يغني في تعريفه أن تقف معه عند الدراسة النظامية ، التي لا تعدو كونها مجموعة من الدورات التدريبية ، تتلقى خلالها التوجيهات التي تمكنك من معرفة الطريق إلى آفاق المعرفة ، فإما أن تواصل المسيرة بنفسك فتراجع وتنقب ، وتتعلم من تجاربك اليومية كيف تستنبط الأحكام وكيف تحل المشكلات .. وإما أن تجمد عند حدود العمل الذي يوصلك إليه المؤهل الدراسي ، فتنسى كل ما تعلمت ، وتتحول إلى لولب في جهاز ، أو رقم في جدول ، ومن هنا كان على الشيخ أن يتم ما بدأ من عرض لمصادر ثقافته ، التي جعلت منه في النهاية ذلك المحدث الموسوعي الذي ترهف إليه الأسماع ، وتترقب أحاديثه الآلاف بل الملايين ، وتتداول إجاباته الألسن في مختلف الأوساط الاجتماعية والثقافية .

والحق أن في ما أسلفه الشيخ عن نشأته في ذلك البيت ، المتواضع في بنائه ، الشامخ جداً في موحياته لدليلاً على ما وراءه من تلك الروافد ، التي توافرت للعديد من ذلك الجيل ، سواء في دمشق أو القاهرة ، أو بغداد أو الحرمين أو إسلانبول ، أو دهلي ، أو تونس والرباط ، وما إليهن من معاقل التراث الإسلامي ، فأخرجت للناس عمالقة في الفقه والأدب واللغة ، استطاعوا أن يحفظوا على شعوبهم المغزوة طابعها العريق بما أتاحوا لها من عناصر الاعتزاز بمشخصاتها الذاتية ، حتى أوشكت بقايا ذلك الجيل أن تتوارى عن مسرح الحياة ، ليحل محلها جيل آخر اختلط فيه الدخيل بالأصيل ، وكثر فيه المتنكرون لأقداس ذلك التراث ..

ويقول الشيخ : لقد اتصلت بكثير من العلماء ولازمت الكثير منهم عملاً بأمر والدي ، ومن هؤلاء الشيخ صالح التونسي ، والد الأستاذ عبد الرحمن مدير مدارس الثغر في جدة ، ولكنه لم يلبث أن هاجر من دمشق إلى المدينة ، فلزمت الشيخ أبا الخير الميداني ، الذي قرأت عليه من كتب النحو الشيخ خالداً والأزهرية والقطر والشذور .. إلى جانب الدروس العامة التي كنت أواظب على حضورها في الجامع الأموي ، ويذكر من هؤلاء المؤثرين في ذهنيته الشيخ عبد الرحمن سلام البيروتي ، فيقول : إنه أطلق من عرفت لساناً ، خطيب متدفق ، صاحب بيان ، يرتجل الشعر ، يسأل التلميذ عن اسمه فيسلكه في منظومة ليست كقصائد المتنبي أو شعر محمد المجذوب ، غير أنه كلام مقبول من شأنه أن يطبع أثره في نفسي . وثاني هؤلاء المرحوم الشيخ عبد القادر المبارك ، الذي درسنا .. وكان درسه أكثر ما عرفت حيوية في حياتي . ثم سليم الجندي ، والشيخ الداوودي ، وكان رجلاً مسناً يأتي المدرسة ـ مكتب عنبر ـ على حماره كشأن العلماء الأولين .. ثم يقف ليحدثنا في إسهاب عن أحد هؤلاء الذين تركوا بصماتهم عميقة في فكره وفي تاريخ حياته ..

يقول فضيلته : إنه نشأ أول أمره في وسط صوفي ، إذ كان والده نقشبندياً مثل أكثر المشايخ ، فتعلم منه كره ابن تيمية والوهابية ، حتى إذا شخص إلى مصر ، وصحب خاله المرحوم الأستاذ محب الدين الخطيب ، بدأ ينظر إلى ذلك الموضوع بروح جديدة دفعته إلى إعادة النظر في أمر القوم .. بيد أنه لم ينته إلى الاستقرار إلا بعد اتصاله بالشيخ بهجة البيطار ، فمن هناك بدأت استقامته على الطريقة والتزام الجادة ، وكان من أثر ذلك كتاباه اللذان أخرجهما عن حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب .. إلا أن هذا الاستقرار لم يأت بالمجان بل كلفه وأخاه عبد الغني ـ كما يقول ـ طويلاً من النقاش مع الشيخ بهجة ، غفر الله لنا وله ، فقد دخلا معه في معركة جدال حادة ، بلغت بهما حد إغضابه ، وهو المعروف بوقار العلم وسعة الصدر، والبعد عن التعصب ، حتى لم يعد لهما حجة يصح الاعتداد بها بعد أن اتضحت معالم الحق في أجلى بيان ..

وللأحداث شخصيتها وفاعليتها في النفوس وبخاصة النفوس المميزة برهافة الحس وبعد الموهبة ، ولم تكن هذه الأحداث قليلة العدد والأثر في ذات الشيخ علي ، وإن تفاوتت في حجمها ومدى عمقها .. فهناك مشاهد الحرب العالمية الأولى من حيث انعكاساتها على محيطه ، وأثرها في تفكيره ، وهو يحدثنا عن بعض هذه المشاهد فيقول : إنه كان في السادسة من سنيه عندما أطبقت تلك الفاجعة على الناس ، وقد رأى من مظاهرها ما لا يستطاع نسيانه ، لقد كان الباعة يتنافسون في عرض الخبز مثلاً ، فما إن انطلق نذير الحرب حتى غاب منظر الخبز عن الأعين ، إلا من خلال طاقة صغيرة من كل فرن ، وقد ازدحم عليها الناس بانتظار نوبتهم . ويقول : رأيت الناس ينبشون المزابل ليستخرجوا من ركامها ما يضعونه في أفواههم ، ورأيت الرعب يملأ القلوب من اسم جمال باشا ..

وسرعان ما أيقظت هذه الصورة أشباهاً لها كانت نائمة في ذاكرتي فإذا أنا أشهد من وراء السنين أناساً يتسابقون للحصول على ما يستطيعون من جيفة حمار، وأسمع من صديق لي خبر ذلك القروي الذي رآه بعينه ينهش يد أمه القروية وهي آخر ما بقي له منها .

ويتابع الأستاذ : لقد استمرت هذه المحن حتى إذا دخل الشريف فيصل بين الحسين دمشق تبدلت الحال ، وقضينا سنتين كأنهما أعياد وأعراس ، وكانت الأحياء تعبر عن فرحتها الغامرة بالتظاهرات الشعبية التي تتصاعد فيها الأهازيج ، وتردد خلالها أنشودة تلك الأيام :

أيها المولي العظيم فخر كل العرب

فتتجاوب بها الجموع من الجانبين .. ولكن شاء الله ألا تستمر هذه الفرحة طويلاً ، فإذا الجيوش الفرنسية تقتحم دمشق بعد معركة ميسلون غير المتكافئة ، وبذلك انتهى عهد الأهازيج والأفراح ، ليبدأ عهد التعسف الاستعماري الذي قوبل بالثورات والتظاهرات في كل مكان .

ويحدثنا عن بعض هذه التظاهرات التي تسربت إلى المدارس قائلاً :

لقد أراد الطلاب في مدرستنا أن يحتفلوا بمناسبة ليلة النصف من شعبان ، فمنعهم المسئولون وطردوا بعض الزملاء من المحضرين للحفل ، وكان ذلك منطلق الشرارة التي ألهبت حماسة التلاميذ ، فما إن قرع جرس الدخول حتى علوت أحد المقاعد وبدأ فمي بالكلام على غير عادتي المعهودة ، إذ كنت معروفاً بالعزلة حتى لا أكاد أكلم أحداً ، فما هو إلا أن سمع الطلاب دعوتي للإضراب والاحتجاج حتى سرت الحمية في أعصابهم .. وقد ساعد على ذلك جو البلد المشحون بالتوتر ، فالطلاب ينتظرون أي سبب للإضراب .. وتعذر على إدارة المدرسة أن تجد من يستجيب لها بالدخول إلى الفصول ، فاتصلت بالشرطة .. ولما صار هؤلاء داخل الفناء وجهت إليهم الكلام قائلاً : أنتم أبناء هذا الوطن وجنوده ، فيجب أن تقاتلوا أعداء البلاد لا أبناءكم وإخوانكم .. فما لبثوا أن انسحبوا مستحيين ..

وتدفق الطلبة ورائي إلى الخارج ، فما بلغنا شارع مدحت باشا حتى أسرع إلى الإغلاق ، وكذلك حدث في سوق الحميدية ، حتى انتهينا إلى ساحة المرجة ، وقد قارب الجمهور ربع سكان دمشق .

وأطل علينا رئيس الوزراء من أعلى شرفة السراي ، واستمع إلى خطبنا المطالبة برد الزملاء المطرودين ، فأجاب عليها بالوعود المعسولة .. ومن ثم تفرقت الجموع ، ولكن لم نكد نبتعد قليلاً حتى القي القبض عليّ ، وقذف بي في حجرة مظلمة لا تتجاوز سعتها المتر المربع ..

يقول الشيخ : وهنا أطرقت أفكر : في الصباح كنت نكرة ما يعرفني في البلد أحد ، والآن صرت ملء الأبصار والأسماع والجموع كلها ورائي ، ثم ها أنذا أنبذ وحيداً في هذا الجحر!. إذن والله إن طريق السياسة لشائك .. وعلي ألا أقحم نفسي في غمارها أبداً ..

على أن هذه التجربة لم تستطع فصل الأستاذ عن أحداث بلده ، بل دفعته طائعاً أو مختاراً إلى الإيغال في النشاط الوطني في أوساط الطلاب .

يقول فضيلته : لقد كنا ـ طلبة عنبر ـ قبل تظاهرة شعبان في موقف المشاهد لحركة الأحداث ، ثم تحولت المشاهدة إلى عمل ، فتألفت لجنة عليا لطلاب سورية .. وكانت سرية لا يعرف من أعضائها في الظاهر إلا الطنطاوي ، لأني أنا الذي أعلو المنبر وأخاطب الناس . والحقيقة أن الذي كان يرسم الخطط ويحدد طرق العمل هو صبري القباني ، بمساعدة مدحت البيطار ، فهما المخططان وأنا المنفذ. وكان علي بوصفي رئيساً للجنة الطلاب أن أشارك في كل تحرك وطني ، وكان منطلق العمل بل شرارته الأولى أن نخاطب الناس عقيب الصلاة من على سدة الجامع الأموي ، ولم يكن ثمة مكبرات ، فكنت أنادي الناس ذات اليمين والشمال .. إلي إلي عباد الله ، فأسمع المسجد كله .. ثم تكون التظاهرات والإضرابات .. وقد كان لنشاط الطلاب هذا أثره الفعال حتى لقد استطاعوا تعطيل الانتخابات المزورة أيام صبحي بركات سنة إحدى وثلاثين ، وذلك بالتعاون مع الكتلة الوطنية .. وكنت أنا الفاصل بين رجال الكتلة وحركة الطلاب فلا أدعهم يتصلون بهم أبداً ، على الرغم من محاولاتهم الدائبة ، وبذلك ضبطنا مسيرة الطلاب وحفظناها من المؤثرات الخارجية ..

رحلته في التعليم :

والعلم هو الركيزة الأساسية في آل الطنطاوي دون استثناء ، وإذن لا مندوحة من محاورة الشيخ في جانبي حياته العلمية ، ولقد حدثنا عن دراسته ومصادرها النظامية والمنزلية متعلماً ، فليحدثنا الآن عن رحلته خلالها معلماً ..

والظاهر من حديثه المسجل أنه بدأ عمله في نطاق التعليم قبل استكمال دراسته ، وكان الباعث على ذلك الوضع المادي الذي واجهته الأسرة عقيب وفاة والده ، فقد فقد ذلك الوالد ولما يتجاوز الصف الثامن ، وفجأة وجدوا أنفسهم تلقاء أثقال من الديون اضطرتهم إلى بيع الكثير من تركته ، ثم أكرهتهم على مغادرة ذلك البيت المتواضع إلى آخر صغير بائس .. ويفهم من بعض عباراته أنه بدأ عمله في التعليم الحكومي ، ثم انتقل منه إلى المدرسة التجارية مشاركة في مجهود جماعة النهضة (لمقاومة الاتجاه المحدث في التعليم الإلزامي) إلا أنه لم يلبث أن اختلف مع إدارة المدرسة عندما أرادوه على ترك جدوله في الصق الرابع ليتحول إلى الصف الثالث ، فما كان منه إلا أن ترك التعليم غضبان ليعمل محاسباً في أحد المحال التجارية ، ثم رأى أنه يعمل في التجارة مع أحد رفاقه غير أنهما سرعان ما انتهيا إلى الإفلاس ..

وعلى طريقة الشيخ أسمح لنفسي بالاستطراد إلى تعقيب صغير لعله يساعد على توضيح بعض الجوانب من شخصيته : ذلك أن لجوءه إلى التجارة لم يكن في تصوري إلا انسياقاً مع الاتجاه العام ، الذي يحبب إلى الدمشقيين تلك المهنة منذ الصغر، فالتلميذ منهم لا يكاد يغادر المدرسة لإجازة الصيف حتى يجد في البحث عن عمل له في أحد المتاجر، أو يستلف بعض منوعات السلع اللازمة للسواح ، فيحملها على صفيحة من الخشب يعلقها على رقبته ويعرضها بين يديه ، فيمر بها على المقاهي وفي الشوارع ، فلا ينقضي الصيف حتى يكون قد حصل على رأس مال صغير يحفزه إلى عمل أكبر.. وأعرف بعض إخواني الدمشقيين لا يشغلهم عملهم في التدريس على تعاطي التجارة طوال العام ، فيوظفون ما معهم في شراء مقادير من الزيت أو السمن ونحوهما .. وهكذا تمور دمشق بالحركة والنشاط وكثيراً ما يؤدي ذلك إلى تأليف شركات صغيرة ، لا تلبث أن تأخذ سبيلها إلى النمو حتى تصير إلى أعلى المستويات .. ولكن لكل قاعدة شواذ ، ومن شواذها إخفاق الفتى الطنطاوي في تجارته ، وإنما أتى الفتى من تدبير القدر الذي يريده لغير هذه المسالك . ونحن لا نستطيع أن نتصور مدى خسارة الفكر والفقه والأدب الإسلامي لو وجد فتانا بدل الخسارة ربحاً جذبه إلى التمادي في تجميع المال !. وحسبنا من ذلك تخيل الشيخ الطنطاوي ، وقد أصبح من أصحاب الملايين ، وانتقل من ذلك المنزل المتواضع الضائع بين البيت والإسطبل كما يصفه إلى بيئة القصور ، التي لا يرضيه منها يومئذ أن يكون في دمشق قصر يضاهي دارته .. وما إن يخلد إلى أحلامه في ذلك النعيم حتى تأتيه جائحة الاشتراكية ، لتجرده من ملايينه التي ستزعم أنه انتهبها من عرق الكادحين ، وإذا هو يحاول العودة إلى ذلك المنزل (الضائع) فلا يجد سبيلاً إليه ، وقد أفقده عارض الثروة ومرائر ضياعها كل صلة بالأدب والفكر والفقه .. فراح يضرب في المتاهات التي لا نستطيع تصورها !..

ويالها يومئذ خسارة للأدب والفقه والفكر.. لا نعرف أحداً في دنيا العرب مستعداً لتعويضها .. فالحمد لله ثم الحمد لله على ذلك الإفلاس الذي أنقذ أخانا من ذلك البأس ، وحفظه متعة وموسعة وثروة لا تنضب للناس ..

ويتابع فضيلته : وكادت السنة الدراسية تضيع علي لولا أن جاء عمي الشيخ عبد القادر الفلكي ، واستعان بمحمد علي بك الجزائري فأعادوني إلى التجهيز ـ الثانوية ـ لأستدرك ما فاتني . وبعد ذلك استمر عملي في التعليم بالمدارس الأهلية مع المواظبة على الدراسة . ومن المدارس التي عملت بها (الأمينية) وكان مديرها ابن خالتي الشيخ شريف الخطيب ، ثم عملت مع الشيخ عيد السفر جلاني لمدة سنتين أيام حكم الشريف فيصل ، وكذلك عملت في المدرسة الكمالية للشيخ كامل القصاب ، ومع أن اشتغالي بالتعليم كان باعثه طلب الرزق ، فقد ظل مردودي منه قليلاً محدوداً .

وحتى الآن كاد يقتصر عمله التعليمي على هذه المدارس الأهلية حتى قيض الله فيما بعد أن يحصل على وظيفة معلم في مدارس الحكومة ، وقد بدأ تعليمه في سلمية ـ من ضواحي حماه ، عام 1931 ثم وافاه الحظ بالنقل إلى دمشق .

ويقول الشيخ : لقد كنا ثلة من الأصدقاء ، منهم جميل سلطان وأنور العطار وسعيد الأفغاني وحلمي اللحام ، وهم الذين عرفوا بين كبار أدباء الشام ، وقد احتواهم جميعاً التعليم الابتدائي بدمشق ، وذلك غاية ما يتمناه كل منهم .. بيد أن وجود الأستاذ في ذلك السلك كان ـ على حد تعبيره ـ مزعجة للمدارس التي عمل فيها ، إذ كان كثير المعارضة إلى درجة قضت بنقله ثمان عشرة مرة خلال فترة قصيرة ، هي سجل خدماته ، حتى لم يعد هناك مدير ابتدائية يقبل أن يعمل عنده !.

ثم جاءت فترة اتصل بعدها بالكلية العلمية ، وهي مدرسة أهلية ، فعمل فيها مدرساً للأدب العربي في صف الشهادة الثانوية ، وأثنائذ ألف كتابه عن بشار بن برد وطبع باسمه وبلقب (مدرس الأدب العربي في الكلية الوطنية) ويصف الشيخ اليوم ذلك الكتاب بأنه سخيف لا يرضى عنه .

إلى العراق :

والآن نبدأ مع فضيلته شوطاً جديداً في حلبة التعليم ، وقد حدث هذا عام 1936 يوم جاءه الشيخ بهجة الأثري يحسن له العمل في العراق ، وتم الاتفاق بينهما للتدريس في الثانوية المركزية في بغداد .. بيد أنه لم يلبث أن اصطدم مع أحد المفتشين المصريين هناك فكان ذلك سبباً في نقله إلى البصرة ثم حدث خلاف جديد أدى به إلى الانسحاب من العراق ، واتخذ سبيله إلى بيروت حيث عمل مدرساً للأدب العربي في الكلية الشرعية التي صار اسمها (أزهر بيروت) ولكنه لم يستمر هناك غير سنة واحدة 1937 ..

وبعد هذه السنة اليتيمة استدعاه الأستاذ الأثري إلى بغداد كرة ثانية ، فما لبث أن عاد ليستأنف دروسه في الثانوية المركزية ، ويضيف إليها دروساً أخرى في معهد العلوم الشرعية الذي يسمى (مدرسة الإمام الأعظم) وفي هذا المعهد وجد الكثير من الأنس بفضلاء الأساتذة ، الذين كان منهم العلامة المعروف الشيخ أمجد الزهاوي ، ويعترف لهم بالكثير من الخير الذي أفاده منهم طوال العام .. غير أن الوضع العام سرعان ما تبدل إذ عصفت الفتنة القومية بالعراق أيام سامي شوكة ، الذي عرف بنزعته المناوئة للفكرة الإسلامية وكانت فتنة ـ يقول الشيخ ـ إنه لم يثبت أمامها من الوسط التعليمي ـ ولعله يريد وسط المتعاقدين ـ سوى ثلاثة : أحمد مظهر العظمة رحمه الله ، والأستاذ عبد المنعم خلاف ، وعلي الطنطاوي .. فكان من نتيجة هذا الثبات أن تقرر نقلهم إلى مناطق الأكراد الشمالية ..

وهنا قصة جديدة يطرفنا بها الأستاذ فيقول :

طلبت من مدير المدرسة التي أحلت إليها في كركوك الاطلاع على جدول العمل ومواقيت الدروس، فكان يؤخر الإجابة يوماً بعد يوم ، ولما طال المطال قلت له : إذا لم تريدوا درسي فأخبروني أرجع أو أستقل ، فقال : والله أريدك ولكني أخاف عليك ! . وسألته مم تخاف علي ؟.. أجاب : هؤلاء الطلاب أكراد ومتعصبون ، وهم متمردون ينزعون في الليل لباس الفتوة ، ويرتدون ألبستهم القومية ، الشال العريض وفيه الخنجر ، وهم كما ترى ذوو أجسام وقامات ، كلما جاءهم مدرس للعربية استقبلوه بالضرب حتى يخرج محطماً ..

وهنا أدرك الشيخ سر التردد في موقف المدير.. فلم يرد عليه بشيء ، ولكنه انتهز غفلة منه ليدخل الفصل على الطلاب ، فإذا هم على ما وصف من التحفز والاستعداد للشر..

وبلهجة ملؤها الصدق والحنان أخذ يخاطبهم بقوله : يا أولادي .. العرب كانوا من أضل الأمم فهداهم الله بالإسلام .. وأنا جئت لأعلمكم العربية لا من أجل أهل بغداد ولا من أجل العرب ، بل من أجل القرآن العربي الذي تقرؤونه ، ومحمد العربي الذي تحبونه وتتبعونه ، وامتثالاً لأمر الله الذي جعل تعلم العربية من الدين ..

فقولوا لي يا أبنائي : أتحبون أن تتعلموا العربية أم لا ؟..

يقول الشيخ : ووالله إني لعاجز عن تصوير الموقف .. لقد تغلبوا علي وحملوني برغمي على الأعناق ..

وكان المدير قد استدعى الشرطة تحسباً للخطر، ولم يطمئن قلبه حتى رآني على هذه الحال ، ومنذ ذلك اليوم بات درس العربية أحب الدروس لهؤلاء الأكراد ..

قلت : ذلك لأن الشيخ دخل على قلوبهم من نافذة الدين .. على حين كان مدرسو العربية قبله يواجهونهم باسم العنصرية ، التي تقسم البشر زمراً دموية ، فكان المحصول تنفيرهم من العربية وكل ما له بالعرب ، حتى ينتهي الأمر بهم إلى الضرب والتحطيم ، بدلاً من التقدير والتكريم .. وقديماً قال حكيم عربي :

لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه

وينهي فضيلته هذه الفقرة بإعلامنا أنه عاد إلى دمشق بعد ذلك ، ليعين أستاذاً معاوناً في التجهيز الجديدة ، فحل بذلك محل أستاذه الشيخ عبد القادر المبارك ، ولكن حادثاً طارئاً تعرض له فأدى إلى نقله لدير الزور..

وكان عمله في مدينة الدير عقيب سقوط باريس تحت كابوس الألمان ، حيث كان الفرح يملأ صدور (المسلمين) وبدؤوا يتجرؤون على الفرنسيين في مختلف المناسبات ، واتفق أن كان الشيخ على أهبة العودة إلى دمشق لقضاء أيام الإجازة النصفية ، ولكن شاء الله أن يؤخر سفره لحضور صلاة الجمعة ، وهناك ألح عليه بعض أعيان الدير وعلمائها أن يلقي خطبتها .

يقول الشيخ : وصعدت المنبر وأنا مثل القنبلة المسدودة بقشة ، وانطلقت بها خطبة فظيعة ، وكان مما قلته للناس يومئذ : لا تخافوا الفرنسيين فإن نارهم لا تحرق ورصاصهم لا يدفع ، ولو كان فيهم بقية من الخير لما وطئتهم نعال الألمان ..

ولم يحتج المصلون لأكثر من هذه الإثارة فإذا هم يتدفقون ـ عقب الصلاة ـ في تظاهرة هائلة هاجموا خلالها دار الحكومة ، وحطموا كل ما أصابوا ..

وطبيعي ألا تمر هذه الحادثة دون مردود ، فقد سبقته أخبار الخطبة والتظاهرة إلى دمشق ، وكانت النتيجة أن حيل بينه وبين العودة إلى الدير، وأعطي إجازة مرضية .. تركته في فراغ ثقيل لم يعتد مثله من قبل .. ولا ندري كم استغرق من الزمن ، ولكنا نعلم من حديث الشريط أنه لم ينقطع عن التعليم إلا فترات محدودة ، تولى بعدها تعليم البنات في ثانوية ابن خلدون لمدة سنتين تركها بعدهما ، ثم عاد إلى تعليم البنات كرة ثانية ، ثم عمل في المعهد العربي الخاص الذي أنشأته الجماعة الإسلامية عقيب الاستقلال ، ولما أقيمت كلية الشريعة في جامعة دمشق تولى فيها تدريس فقه السيرة ، ولم يتركها إلا بعد أن فتحت أبوابها لقبول الطالبات ..

في كلية الشريعة :

وهنا أيضاً طرفة لا يحسن أن نغفلها ، لما لها من علاقة وثيقة بطبيعة المترجم : يقول حفظه الله : لقد اجتمع مجلس الكلية لمناقشة موقفي من قبول الطالبات ، وكان مؤلفاً من الدكتور مصطفى السباعي والشيخ مصطفى الزرقاء ، والشيخ بهجة البيطار ، والأستاذ محمد المبارك والدكتور معروف الدواليبي .. وقد وقفوا جميعاً في الطرف المضاد لرأيي ، فقلت للدكتور معروف : في الحديث الشريف أنه يأتي زمان على الناس يصبح المعروف منكراً والمنكر معروفاً ، فها نحن أولاء نواجه ذلك الزمن .. وقلت للأساتذة أنا مستعد أن أعيد الدرس مجاناً للبنات وحدهن ، فقال الدكتور السباعي وإذا أتينك محجبات ؟.. فقلت له : أنت تقول هذا ؟! . وقد رأيت كيف تطور الأمر بالبنات حتى خرجن من الحجاب إلى التكشف !. وبعد يومين دخلت الصف فتاة حلبية محجبة فأمرتها بالخروج فلم تفعل . وأطرقت برأسها إلى الأرض . فقلت لها : لو كان مكانك شاب لأمسكته وألقيته في الخارج ، أما أنت فلا أملك معك حيلة سوى أن أخرج أنا ، وخرجت ثم لم أعد ..

والآن ليسمح لي فضيلة الشيخ أن أعلن له انحيازي إلى الصف المضاد لموقفه ذاك .. فأنا مثله حريص على الحجاب ، وقد درست طويلاً في صفوف الإناث ، وقد أقنعتهن وفيهن غير المسلمات أن يغطين رؤوسهن أثناء درسي ..

ومضى الأمر على ذلك ، وانتهى إلى كثير من الخير، إذ أتيح لهن أن يسمعن كلمة الإسلام ، فتركت في قلوب الكثيرات منهن آثاراً لا تمحى بفضل الله .

ثم هل نسي الشيخ حفظه الله أن كلية الشريعة كانت أيامئذ كالمسجد والطالب فيها كالمعتكف ، ولم يكن ثمة من متنفس جامعي للإسلام سواها ، وقد ضمت بين مدرسيها صفوة من رجال الدعوة والفكر الإسلامي في سورية ، فهي بهم مركز إشعاع ينتظر أن يكون له مردوده الكبير، فحرمان بنات المسلمين من خير هذه الكلية نفي لهن من دائرة النور.. وكان يحظر علينا منع الإناث من بيوت الله هكذا يحظر علينا منعهن من هذه الكلية .. وإنما علينا فقط أن نحصن الكلية بالأدب الإسلامي ، فلا نمكن للشيطان أن يستل منها واحداً أو واحدة ..

وهو على كل حال رأي أعقب به على ذلك الموقف الذي حدثنا به الأستاذ حفظه الله .. أرجو أن يتلطف بالرد عليه إذا شاء الرد ، ويجنبه الحماسة التي يتعذر عليه التخلص من آثارها حتى الآن ، على الرغم من مقاربته الثمانين .

إلى القضاء :

وهنا نواجه فجوة جديدة في الرحلة التعليمية من حياة الشيخ ، إذ شغل معظمها بأعمال القضاء الذي ساقه الله إليه على غير توقع منه ولا تطلع إليه ، وقد استمر في ذلك السلك ما بين العامين 941 و 963 .

ولنستمع الآن إلى قصة هذه الرحلة :

يقول الشيخ : ذات يوم وأنا في غمرة الحيرة ، أنتظر موعد الحافلة أمام القصر العدلي بدمشق ، وقع بصري على عمود يحمل ملصقاً قديماً من الإعلانات ، فدنوت أتلهى بقراءته فإذا هو إيذان بحاجة العدلية إلى قضاة شرعيين .. وللحال ألغيت فكرة الركوب ومضيت لتوي إلى رفيق المدرسة الأستاذ محمد الجيرودي وقلت له : أي محمد .. هناك مسابقة لاختيار قضاة لم يبق دون موعدها سوى يومين فقط ، فأعطني الكتب المساعدة ..

لقد كان تخرجي في الحقوق عام 1932 وأمضيت فترة السنوات التسع بعد التخرج بعيداً عن جو القضاء والحقوق تماماً ، ولذلك عمدت إلى حبس نفسي على المراجعة في البيت لأستعيد ما لابد منه ، ووفق الله فانتظمت في سلك القضاء ، ثم جاء التوفيق الآخر بالمداومة في المحكمة الشرعية عند الشيخ أنيس الملوحي الذي لقيت لديه كل عون ، فقد أخذ بيدي وزودني بما نفعني في عهدي الجديد ، من معاملة حصر الإرث إلى الوصية إلى الزواج ، إلى الدعاوى الكبيرة .. ولولا هذا التوجيه الكريم لعرضت نفسي إلى ضحك الناس . ومن ثم عينت في النبك .

ودعوني أعرض لكم بعض الحوادث التي واجهتها هناك . لقد وجدت نفسي من أول يوم أمام إضبارة لا يقل حجمها عن جزأين من القاموس المحيط ، ويشارك في المرافعة بها كبار محامي الشام : فؤاد القضماني ، وسعيد محاسن ، وآخرون من أساطين المحاة .

لقد اعتراني الوهم .. وجعلت أفكر كيف أتصرف بهذه الدعوى .. ثم قررت أن أقرأها أولاً ، فتبين لي أنها دعوى إرث ، وبعد التدقيق وجدت فيها عجباً ، فالمدعي كأنه يقول : إنهم أعطوني عشرة ولا أستحق إلا تسعة فأطلب تعديل الأمر .. وفي موعد المحاكمة حضر المحامون ، وأمليت على المساعد : سئل الطرفان عن كلامهما الأخير.. فجاءت الاعتراضات تترى على هذه الظاهرة ، وطلب المحامون الإمهال ، فأعلنت ختام المحاكمة .. وصاحوا : كيف تعلن ختام المحاكمة ؟؟.. فقلت لهم : لما كانت الدعوى هي طلب حق لواحد من آخر عن طريق القاضي ، وكان هذا المدعي لا يطلب حقاً ولا يطلب شيئاً فقد قررت ردها لأنها غير صحيحة ..

ووالله لكأنهم كانوا في حلم وصحوا منه ..

وهكذا قدر الله أن تكون البداية موفقة ولله الحمد ..

يقول المؤلف : وهنا تذكرت مأثرة ثورية للأستاذ لا يحسن إغفالها في هذه المناسبة ، كنت قيدتها في مفكرتي من حديث إذاعة في التاسع من جمادى الأول 1403 وفيه يعرض لتلك الفترة من وجوده في النبك ، وكأنه أحس إهمال الميسورين لفقراء بلدهم ، فأوعز إليهم أن يقاضوهم إليه .. ولأول مرة في تاريخ الإسلام بعد زمن الراشدين يصدر قاض حكماً بإلزام الأغنياء مساعدة المحرومين وهو حكم لا يعدله إلا قرار بعض المحاكم المصرية أخيراً بإسقاط الربا عن الديون عملاً بأمر الله الذي حرمه من فوق سبع سموات .

ويتابع الشيخ : ثم نقلت من النبك إلى دومة ، ثم انتدبت إلى القاهرة مع الأستاذ نهاد القاسم ، وداومنا هناك سنة بوزارة العدل في مهمة لوضع قانون الأحوال الشخصية .. وحين عدت من تلك الرحلة انتدبت لمحكمة دمشق مدة ثلاثة أيام لم يكن لي خلالها عمل ، سوى أن أجلس بجانب عزيز أفندي الخاني .

وعزيز أفندي هذا ذو هيئة ومهابة واستقامة ونزاهة رحمه الله ، ولكنه ليس بقاض ، ومعلوماته كذلك .. والرجل الذي يسير المحكمة هو رئيس كتابها وكانت هذه المحكمة على غاية من السوء لا يستثنى من سيئاتها سوى قاضيين نزيهين والله هما الشيخ عادل علواني والشيخ صبحي الصباغ .. وكنت أرى بعيني الرشوات وأنواع الفساد .. ولما سافر ـ الأستاذ الصباغ ـ إلى الحج قسموا الأعمال فيما بينهم ، وجعلوا لي الأعمال الإدارية ، وعقيب وفاة عزيز أفندي الخاني تسلم الشيخ عادل مكانه .. غير أنه لم يلبث أن لقي مصرعه ، ومع أني لم أكن قد بلغت مرتبة القاضي الممتاز فقد أسندوا إلي عمله ، إذ لم يكن هناك سواي ..

وكانت فرصة لإجراء ما أراه مناسباً لتصحيح الأوضاع .. وأول شيء قمت به أن أتيت محاسب العدلية .. وهو رجل مسن وقلت له : عندكم في وزارة العدل مناضد خشبية أرجو تسليمي إياها مع نجار سأدفع أجره .

وبعد لأي سلمني ما طلبت ، وذهبت بهذه المناضد إلى القاعة الكبيرة .. وكان أمامنا ثلاثة أيام تعطيل ، وهي كافية لإنفاذ ما صممت عليه . وبدأنا العمل فرفعنا الأرائك من القاعة ونصبنا مكانها تلك المناضد ليجلس الموظفون وراءها ، وأغلقت غرفهم الأولى بعد تفريغها من المكاتب .

لقد أحدثت في تلك الدائرة تنظيمات جديدة ، لم أسبق إلى مثلها ، إذ حددت لكل موظف عمله ، وعينت لكل معاملة وقتها .. ومثلاً على ذلك معاملة الزوج ينبغي أن تسلم صورها مصدقة لأصحاب العلاقة بعد ثمان وأربعين ساعة ، وحصر الإرث بعد أربع وعشرين ساعة .. فلا تطويل ولا تأجيل ، ثم نظمت أمور المراجعات على طريقة المعاملات المصرفية ، وخصصت لها أرقاماً مزدوجة يحمل صاحب العلاقة أحدها ، ويربط الرقم الثاني بالمعاملة ، وقيدت ذلك بالدور، فلا يتقدم أمير على كناس. وكذلك فعلت بمأذوني العقود ، الذين يجرونها في المنازل فينالون من الرسوم ما يزيد عن الحد المقرر، وكنت أبعث من قبلي من يراقبهم ، وبذلك ضبطنا العمل في المحكمة ضبطاً عجيباً .

أمصادفات أم ...

هذه المصادفات العجيبة التي واجهتها في حياتي لم تنته بعد .. ومنها الحادثة التالية : لما انتقلنا على القصر العدلي كنا أول محكمة دخَلَته ، واحتلت منه الجانب القبلي كله تحت مكاتب الوزارة .

وذات يوم ، وكان عندي مجلس عائلي ينظر في قضية تفريق ، والحكمان فيها الشيخان ياسين عرفة وكامل العقاد ، إذا بآذن الوزارة يلقي بأوراق من الأعلى ، ففتحت الباب وصحت أوبخه : مالك تلقي الأوراق هكذا ؟.. وحانت مني التفاتة إلى إحدى هذه الورقات فإذا عليها اسمي فتركت المجلس ورحت أجمعها ثم رتبتها على صفحة مصمغة حتى انتظمت ، فإذا هي قرار بنقلي مستشاراً لمحكمة النقض ، فكانت مفاجأة كأخواتها من المفاجآت السابقة .. فقلت للشيخين : لقد انتهى عملي هنا ..

وقد سبق للأستاذ وجيه الاسطواني أن مهد لهذا الأمر إذ قال لي : لقد جاء دورك . أفتحب أن تبقى قاضياً ممتازاً أم تحب أن تنتقل إلى محكمة النقض ؟.. وهكذا تم نقلي إلى التمييز سنة 1953 وبقيت فيها عشر سنين جئت بعدها إلى المملكة في تشرين 1963 .

قلت : إذن كان قدومنا كلينا في العام نفسه ، إذ بدأ عملي في الجامعة الإسلامية العام 1383 هـ .

إلى المملكة :

وتابع الشيخ : ولقد بدأت عملي بالرياض مدرساً في الكليات والمعاهد التي صارت على جامعة الإمام محمد بن سعود ، وقد قضيت هناك السنة الأولى : وأصبت بآلام اقتضتني إجراء جراحة في دمشق ، وشعرت بضيق نفسي يحول بيني وبين متابعة العمل في الرياض .. فلما دعاني المرحوم الشيخ عبد اللطيف ومفتي المملكة الشيخ محمد بن إبراهيم ، رحمهما الله ، إلى تجديد العقد أبديت اعتذاري وقل لهما : والله ما أشكو شيئاً سوى أني قد ضاق صدري وأشعر أني أكاد أختنق في الرياض . وهكذا أنهيت العقد . وأثناء الإجازة الصيفية اتصل بي الشيخ بهجة البيطار من سفارة المملكة بدمشق ، وأخبرني أنه ينتظرني عند السفير الشيخ عبد العزيز بن زيد ، فأدركت أنه سيكلمني بشأن العودة إلى المملكة . وفي باب السفارة دعوت الله بدعاء الاستخارة ، وقلت : يا رب قد تركت الأمر إليك .

وهناك جعل الشيخ بهجة يحاورني محاولاً إقناعي باسم المفتي ، فقلت : والله ما تركتهم عن قلى ، ولا أنا عاتب ولا غاضب ، لكن ضاق صدري في الرياض ، فتناول السفير الكلام وقال : هل تذهب إلى مكة ؟. فأجبت دون تردد : نعم . ولم ألبث أن حضرت إلى هنا ، ولم أزل في هذه الشقة نفسها ـ في أجياد ـ حتى الآن .

وهنا نتحول إلى حوار مباشر مع الأستاذ :

م ـ هذه السلسلة الطويلة من المنعطفات في حياتكم ، والتي سميتموها مصادفات ، ألم تكن ذات أثر في تكوينكم الفكري والعلمي ؟..

ط ـ ما من شك في ذلك .. وبخاصة ذلك التحول الكبير الذي نقلني من التعليم إلى القضاء ، فالمعلم يتكلم أكثر وقته على حين أن القاضي يكون مستمعاً معظم الوقت .. ومن هنا كان تأثير هذه النقلة كبيراً في حياتي . هذا مع العلم بأني لم أنقطع قط عن التعليم ، وذلك أن راتبي في القضاء لم يكن يمنحني الكفاية اللازمة ، فكنت مضطراً لدعمه بمعونات عن طريق التعليم .

قلت : وفي القضاء مؤثرات أخرى لا تتوافر في التعليم ، لقد كانت سنواتك في القضاء فرصة رائعة للإطلاع على مشكلات المجتمع ، بما فيها من حق وباطل ، وسذاجة واحتيال .. وما لا يحصى من العبر المفيدة لأديب ومفكر كالطنطاوي .. وفي التدريس وجدتم منافذ كثير تساعدكم على تعميق النفوس ، وصنع الاتجاهات الفكرية في الطلاب .. وهكذا يتعاون القضاء مع التعليم ، مع سابقتكم في الصحافة الأدبية والسياسة على تكوين المستوى الذي تحتلونه اليوم في نطاق الفكر الإسلامي والتأثير الجماهيري .. ومن هنا يتضح للمفكر أن من الخطأ تسمية هذه التحولات غير المتوقعة بالمصادفات التي لا تدبير وراءها ولا حكمة معها ، وليست في الواقع سوى ظواهر لعمل الحكمة العليا التي تحرك الأحداث لتحقيق ما تقرره الإرادة الإلهية .. وإنما نطلق عليها اسم الصدفة أو المصادفة لعجزنا عن تعليلها ..

بين الصوفية والسلفية :

م ـ يا فضيلة الشيخ اسمحوا لي أن أقول لكم إنني والقراء الذين سيطلعون على ما سأكتبه عنكم نريد أن نعرف موقفكم النهائي من الدعوة السلفية والمسالك الصوفية .

ط ـ لقد أسلفت الكلام عن موقفي من السلفية عند حديثي عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب ، وترون ذلك واضحاً في ما كتبته عنه في مدخل الجزء الأول من الكتابين .. حيث بينت أني انتقلت إلى أقصى الطرفين .

م ـ وقد حدثتنا عن ترددك بينهما ..

ط ـ أجل .. لقد ترددت ثم استقررت على مذهب السلف . ولكن هناك مشكلة واحدة .. أحب أن أقف عليها قليلاً : شيخ الإسلام ابن تيمية من أعاظم مفكري الإسلام ، وكذلك ابن حزم إمام عظيم ، ولكل منهما رأي عليه بعض الاعتراض .

فابن تيمية ينكر التأويل إطلاقاً ، وابن حزم ينكر القياس .. وقد عالجت هذه الناحية في كتابي (تعريف عام بدين الإسلام) من ذلك مثلاً استواء الرحمن سبحانه وتعالى على العرش .. فمن أنكر الاستواء كفر دون شك ، ومن فسر الاستواء بمثل قعود الناس فقد كفر أيضاً .. ولابد أن يكون الحق بين هذين الجانبين .. فأنا شهد الله سلفي العقيدة لكن هناك أمور من آيات الصفات لا أراها تفهم إلا مؤولة :

فربنا الذي يخبر بأنه استوى على العرش ، يقول في آية أخرى من كتابه الحكيم : [وهو معكم أينما كنتم..] فلابد من تأويل هذه المعية بأنها معية علم وسمع وبصر، وهو النحو الذي جرى عليه ابن تيمية في تأويلها ..

كنت أستمع إلى أحد القراء فلما انتهى إلى قوله تعالى : [سنفرغ لكم أيها الثقلان] تساءلت : هل يمكن فهم هذه الآية إلا مؤولة !.. وكذلك الأمر في قوله تعالى : [نسوا الله فنسيهم] أجل والله إني لسلفي العقيدة ، وأسأله تعالى أن ألقاه ثابتاً عليها ..

م ـ فيما يتعلق بموضوع الصفات .. أترون إطلاق التأويل على سائر الصفات أم على بعضها مما لا يمكن فهمه إلا مؤولاً كشأن المعية والنسيان ؟..

ط ـ أنا أقول : إن القرآن أنزل بلسان عربي مبين ، فما لا يفهمه العربي الفصيح لأول مرة إلا مؤولاً فنحن نؤوله ..

م ـ لكن من أساليب العرب استعمالهم الكناية في التعبير عن مرادهم .. فقوله تعالى : [سنفرغ لكم أيها الثقلان] لا يفهمه العربي الفصيح إلا من خلال الكناية التي تعني سيأتي دورهم .

ط ـ هذا تأويل ..

م ـ بل هو الكناية التي تعدل عن التصريح إلى التصوير، فتؤدي من البلاغ ما لا يؤديه الكلام المباشر.

ط ـ وما الفرق بين التفسير والتأويل .. التفسير من فسر، ومنه السفور، أي الوضوح . والتأويل من قولهم : آل إلى كذا أي صار إليه ، ونقلوه إلى التعدية بالتشديد فأوله إليه : يعني صيره إلى المعنى الأول . وما دام هذا التأويل لا يخالف كلام الله ولا ينافي الوحدانية أولاً ، ويوافق ما يفهمه العربي السليم الطبع السليقي الفصيح ثانياً ، فهو صحيح ولابد منه في مثل الأمور التي ذكرتها مما لا يفهم إلا بالتأويل .

م ـ طيب عندما أسمع ربي يذكر لنفسه عيناً ويداً ، ويذكر له رسوله قدماً .. فلماذا أتعب نفسي وأدخلها في متاهات التأويل ، ولا أكتفي بتصديق ما أخبر به دون تأويل ولا تعطيل ؟.. أليس هذا هو الأفضل والأسلم !..

أو ليس هذا هو الفهم السليم لقوله تعالى : [ليس كمثله شيء وهو السميع البصير] فهو ذو سمع وذو بصر ولكن لا يمكن تشخيصهما ، إذ ليس كمثله شيء فصار من الخطأ بل الخطر أن يحاول متعسف إجراء التأويل على هذه الصفات ، إن من المستحيل في عام الحس أن تعرف سمعاً أو بصراً أو قدماً عن غير طريق الجوارح التي ألفناها ، فلا يبقى أمام العقلاء سوى التسليم بوجودها كالتسليم بوجوده تبارك اسمه ، دون تفسير ولا تأويل ولا تعطيل .

ط ـ يا سيدي لقد أجبت على ما سألتموني ، ولم أقل إلا الحق الذي أدين به الله وأرجو أن ألقاه عليه. لكن الإشكال من أين جاء ؟.. هذه الكلمات وضعت في اللسان العربي قبل نزول القرآن . وقد وضعت لمعان بشرية أرضية مادية ، فهذه المعاني لا تراد قطعاً ..

م ـ ألفت نظركم إلى نقطة أنتم أدرى بها ، تلك هي أن اللغة تبدأ في التعبير عن الأشياء المادية ، فكلما ترقى الإنسان في مجال التطور ارتقى تعبيره إلى الأشياء المجردة البعيدة .. فإذا بهذه الألفاظ التي كان يستعملها العربي للأشياء المادية هي نفسها تتجه نحو الأشياء الأخرى .. ولكن يظل هناك ارتباط بين المعنى الجديد والمدلول القديم .. ولا حاجة إلى ضرب الأمثال والآن نرجو أن تزيدونا إيضاحاً لموقفكم من الصوفية ..

ط ـ الصوفية .. كذلك مررت بها في مراحل .. قبل أيام كنت أقول لأحد إخواني والله إن الصوفية هي الباب الكبير الذي تدفق منه علينا الفساد ، والباب الآخر هو التشيع والشيوعية وكلها من أصل واحد .

في مقدمة كتابي الأول عن الشيخ محمد بن عبد الوهاب تحدثت عن الوهابية وكيف نشأنا على كراهتها ، ثم أردت أن أمتحن نفسي فتساءلت : هل أنا وهابي ؟!. لما أخرجت كتابي هذا بالشام رد علي الشيخ الجويحاني وغيره بكتاب أكبر، لأني بنظرهم أصبحت وهابياً ،

وفي الرياض ردوا علي كذلك بأني كنت في كتابي على مذهب الشاميين !..

قلت في تلك المقدمة : إذا كانت الصوفية هي إصلاح الباطن ومداواة أمراض القلب ، ودفع الرياء ، والإخلاص ، إلى آخر ما ذكر في الرسالة القشيرية فهذا هو لب الإسلام ، الذي إذا خلت منه العبادة صارت مجرد حركات لا مردود لها في علاج النفوس .

أما التصوف الذي فيه وحدة الوجود ، وفيه الادعاء بأن للقرآن ظاهراً هو غير الباطن ، وفيه ما يدعونه بالحقيقة المحمدية ، وما إلى ذلك من المفسدات فهو مرفوض تماماً .. وقد سبق أن كتبت في مجلة الرسالة قبل أربعين سنة أن كفر أبي جهل وأبي لهب إذا قيس بكفر محيي الدين بن عربي لكان في مستوى الإيمان .. ومن يومها شرع عمي الشيخ عبد القادر وحسني بك العظمة ومجموعة من المشايخ يناقشونني ويشددون علي النكير..

م ـ نحن على علم بهذا كله ، ولكن الذي نسجله الآن سيقرؤه كثيرون فمن الضروري أن يطلعوا من خلاله على الحقيقة بشيء من التفصيل ..

ط ـ إن التصوف الذي يتحدث عنه ابن القيم في (مدارج السالكين) وفي (إصلاح الصوفية) والذي كتب عنه آخرون من أصحاب العقيدة الصحيحة لا اعتراض عليه ..

م ـ نحن متفقون على أن كل سلوك يؤدي إلى تزكية النفس وما سيتبعها من التوهج الروحي ما دام منسجماً مع خط الكتاب والسنة فهو مقبول ومنشود ، أما أن يتحول هذا كله تخرصات هندية ويونانية تنتهي إلى القول بالاتحاد والحلول ووحدة الوجود فذلك هو الضلال البعيد .

من الأوقاف إلى البهائية :

م ـ لقد آن أن نستمع شيئاً عن نشاطكم في نطاق التأليف والنشر.. وأحب مؤلفاتكم إليكم ..

ط ـ أول شيء صدر لي هو رسائل (في سبيل الإصلاح) وتبدأ قصة هذه الرسائل بعد قيام (مكتبة القدسي والبدير) بالشام وكان مستشارها الشيخ زاهد الكوثري ، وهو أستاذ حنفي شديد التعصب ، وذو إطلاع مدهش ، وقد أنكرت عليه أخيراً أشياء من هذا التعصب .

كنا ذات يوم في جلسة عادية بخان الجمرك ، وأثناء هذا الحديث تطرقت إلى أوضاع الأوقاف والمشايخ والعقلية التي صاروا إليها ، والفروق بين الكتب المتأخرة متونها وشروحها وحواشيها وأسلوبها الأعجمي ، وبين الكتب الأولى .. فقال الشيخ زاهد : يا أخي اكتب لنا هذا ونحن نقوم بنشره .. ووافق ذلك ما أريد ، فلم أتردد وقمت لفوري ، ولم أغب أكثر من ساعة حتى كنت قد أنجزت كتابة الرسالة الأولى (في سبيل الإصلاح) . ومما قلت فيها عن الأوقاف أنها تضيع (أموال المسلمين) بدليل أن لي إمامة في أحد المساجد ، وقراءة في مسجد آخر لم أحضرهما في عمري ، ومع ذلك تدفع لي الأوقاف راتبهما .. ولكنهم ما إن اطلعوا على هذا الذي كتبته حتى قطعوا ذلك الراتب ..

وبلغت الرسائل أربعاً ، وأحدثت ضجة كبيرة في أوساط المشايخ ، ورد الشيخ الصابوني عليها بكتاب ، وتناولها بعضهم في خطبه .. ثم أتبعناها بسلسلة أخرى كان لها قصة أخرى طريفة .. ذلك أني كنت ذات يوم واقفاً عند الشيخ ياسين عرفة في المسكية ، فجاءنا رجل قالوا إن اسمه محمد سعيد العامري وأنه من النحلة البهائية ، وجعلوا يناقشونه ويمازحونه في نحلته . فقلت له : اسمع .. أنت تقوم بالدعاية للبهائية وأنا مستعد للانضمام إليك بشرط أن تدفع .. قال هاك دينارين ذهبيين ، فأخذتهما منه قائلاً : اعتبرني منذ اليوم عندك . ومضيت لتوي وعملت الرسالة الأولى ، وجعلت عنوانها (سيف الإسلام في أعناق أعدائه) وكتبت على غلافها : (طبعت بنفقة محمد سعيد العامري) وقد ملأتها بالهجوم على الملحدين والبهائيين ، وسرعان ما آتت ثمرتها ، في أوساط بهائيي دمشق ، فإذا هم يطردونه من بينهم ، وصار كلما لمحني في الطريق أتجنب لقاءه . واستمرت هذه السلسة حتى استكملت الأربع عشرة ، وقد تولت جمعية الهداية والشيخ عبد القادر العاني رحمه الله توزيعها بالمجان ..

بين التأليف والإذاعة :

يواصل الشيخ كلامه عن تواليفه ، فيذكر المقالات التي كان ينشرها في جريدتي (فتى العرب) و(ألف باء) ثم يقول : إن له مقالات كثيرة في مجلة خاله الشيخ محب الدين الخطيب (الزهراء) وخص بالذكر عددها الأخير الصادر عام 1948 يقول إن له فيه ما يقارب نصفه ، بعضها باسم محمد علي الطنطاوي وبعضها بالحرفين الأول والثاني من اسمه ع ط وقسم مذيل باسم علي فقط ، وآخر باسم أبي الهيثم ، وقد جمع هذا كله ـ أو بعضه ـ في كتاب باسم (الهيثميات) يقول إنه أول ما صدر له ، وقد سبق أن أخبرنا أن رسائل الإصلاح هي بواكير كتبه ..

م ـ وكتاباك عن الصديق وعمر رضي الله عنهما ؟

ط ـ ذات يوم قال لي السيد أحمد عبيد ـ الكتبي الشهير بدمشق ـ نريد كتباً عن سير الصحابة ، وعليك أن تبدأها بواحد عن الصديق ، واستحسنت الفكرة ، ونشطت للعمل بها ، وكان للسيد عبيد مشاركة طيبة في ذلك ، إذ دلني على المصادر وأمدني بالكثير منها . ولكنه ألزمني إيرادها دون مناقشة ، ولم تنفع مراجعتي أمام إصراره .. وهكذا اضطررت إلى قبول طريقته ، واكتفيت ببعض التعليقات في الهوامش ، فخرج الكتاب عبارة عن مجموعة من الأخبار غير المحققة ، ولما نشره قيد حقوق طبعه باسمه ، فخرجت من المشروع بثلاثين ليرة سورية فقط مقابل أتعابي وقد أعاد طبعه في مصر وربما في غيرها أيضاً ، دون أن يكون لي فيه أي منفعة .. ولقد مر على الأولى خمسون سنة ،وكذلك الأمر في كتاب عمر بن الخطاب الذي جمع من سبعين مصدراً ، وطبع على الطريقة نفسها..

م ـ وماذا تم في كتاب (أخبار عمر) هذا ؟..

ط ـ هذا الكتاب اسمه (عمر بن الخطاب) أما أخبار عمر فكتاب ثان ، المهم أن السيد عبيد أراد أن يتعاقد على طبعه دون أن يسألني أو يحاورني فيه ، فقلت له : لقد مضى على طبعه الأول ثلاثون سنة ، وقد تغير رأيي في بعض تعليقاته ، وأرى الآن ما لم أكن أراه من قبل .. ولكنه استمر على موقفه ولم يدع لي مجالاً لأي مراجعة .. فانطلقت إلى عدنان سالم صاحب دار الفكر أقول له : إن الأستاذ أحمد عبيد يريد إعادة طبع الكتاب ، وأنا أريد أن أعيد تأليفه بطريقتي الخاصة ، ليكون طبعه من قبلي ، فوافق ..

وبدأت العمل في الكتاب فكنت أكتب الملزمة في الليل لتدفع في اليوم التالي إلى المطبعة ، وهكذا بدلت الكتاب من أساسه ، وقد طرحت من أخبار عمر كل موضوع ومكذوب ، فجاء الكتاب أشبه بالبحث ولا أزعم أنه بحث كامل .. وهو نفسه الموجود في السوق باسم (أخبار عمر).

م ـ أي كتبك أحب إليك ؟..

ط ـ إذا عرضت عليك السؤال نفسه أي كتبك أحب إليك ؟.. فماذا تجيب ؟.. هذا السؤال أشبه بقولك أي أولادك أحب إليك ؟.. أما بالنسبة إلي فهناك ظاهرة غريبة . لقد كنت أدفع المقالة إلى الرسالة ، فإذا نشرت قرأتها مرة ومرة ومرة ثم لا أستطيع العودة إليها أبداً . كذلك الكتب التي يعاد طبعها الآن فأنا لا أستطيع أن أرجع إلى شيء كتبته من قديم أنظر فيه أبداً ، وإن نظرت فلن أرضى عنه ..

م ـ أنتم الآن تكادون تنقطعون عن التأليف إلى إذاعات الإعلام .. فما رأيكم في هذا .. أربح أم خسارة ؟!..

ط ـ خسارة .. ربح مؤقت وخسارة على المدى البعيد ، مثل حريقة قش وحريقة الفحم الحجري .. لو أني طبعت هذه الأحاديث في كتب .. فكيف يتلقاها الناس ؟.. لا أشك بأقل من اهتمامهم بها أثناء إذاعتها .. دعنا نمشي معاً إلى الحرم ـ المكي ـ القريب ، فسترى أن كل كبير وصغير يقول هذا فلان . ومعنى هذا أني وجدت فيهم آذاناً تصغي إلي وتعنى بما أقول .. فهذه محاسن يقابلها مساوئ ، ومن مساوئها أن الغلطة التي يزل بها لساني لا أجد سبيلاً إلى تصحيحها أو استردادها لذلك أنا خائف لأن كذبة المنبر ـ كما قيل في المثل ـ بلقاء .

إذاً فهذه نفعها مؤقت أما التأليف فنفعه دائم .

م ـ هل نفهم من ذلك أنكم تشعرون بشيء من الندم بسبب هذا التحول ؟!..

ط ـ نعم . نعم . أشعر . أشعر.

نحو السطحية :

وفي إجابة الأستاذ هذه تنبيه عميق من حقه أن يردنا نحن أهل القلم إلى تفكير طويل وحساب دقيق .. فالحديث المرتجل أياً كان العقل الذي وراءه لا يعدو السطحية إلا قليلاً ، على حين أن المفكر حين يخلو لكتابة موضوع أو كتاب لا يكتفي بالنظرة العابرة ولا تغره العبارة المتألقة ، فهو لا ينفك بعيد النظر في ما يعمل حتى يرضاه عقله وقلبه جمعاً .. وهذا ما أراد التمثيل له بالفرق بين حريق القش وحريق الفحم الحجري ، لأن للأول هبة يعقبها الخمود الذي يذهب بكل أثره ، على حين نجد الثاني طويل العمر ، عميق الفاعلية ، لا يزول حتى يترك أثراً عميقاً في ما حوله ..

ومن حق هذا أن يذكرنا كذلك بقضية تعيشها أجيالنا دون أن نفكر بعواقبها .. تلك هي قضية الإعلام المسموع والمنظور إجمالاً ، فهو بتهاويله الجذابة ، وزخارفه الباهرة يجتذب صغارنا وكبارنا فنألفه حتى لا نكاد نطيق مفارقته ، ونهتم بمواعيده أكثر من اهتمامنا بمواعيد الواجبات الأخرى .. بل إننا لنطوي الكشح عن أهم الواجبات من أجل شهود مسلسلاته التي تصرفنا عن النوم ، فتصرفنا عن مواقيت العبادة ، ثم لا نلبث أن نفقد الاهتمام بها ، في حين يزداد التصاقنا بهذه المعروضات والمسموعات حتى نصبح منها كالمدمن على الخمر أو التدخين لا يستطيع عنه انفكاكاً ..

ولعمر الحق إن أول ما يفقده مدمنو هذا النوع من الإعلام هو قابلية التفكير الجاد الذي يتطلب المصابرة على البحث والتنقيب والاستنباط ، وتلك الطاقات التي تثيرها القراءة الجادة في أعماقنا فتخلق فينا ملكات الإبداع ..

أجل والله إن ملازمة المعروضات الإعلامية تشكل واحداً من أهم الأخطار التي تهدد مواهب الجيل بما تنشئه من إيثار السطحية والتهرب من العزائم ..

وطبيعي أننا لا نريد بذلك الدعوة لمقاطعة هذه المحادثات فهي من الطاقات التي يجب الإفادة منها في التربية والتعليم واستثارة المواهب ، ولكنها لن تكون كذلك حتى نضبط آثارها ، كما نضبط آثار الذرة المتفجرة في حدود الإصلاح والتعمير .. وإن لم نوفق إلى ذلك فالويل لصغارنا وكبارنا من أخطارها المدمرة !..

جيل جديد :

م ـ العمل الإسلامي يقف هذه الأيام أمام تحديات لا حصر لها .. فمن أين ينبغي أن نبدأ ، وكيف نواجه هذه التيارات المختلفة نوعاً ومصدراً ؟..

ط ـ قبل سنتين دعوت وألححت بالدعوة إلى أمرين أولهما مخطط يتفق عليه الدعاة ، والثاني عدم الاختلاف على الجزئيات ..

جاءني بعض الأصدقاء يقولون نريد أن تضع لنا مخططاً للدعوة يتفق عليه المسلمون . فقلت لهم : هذا أمر لا يصلح له مثلي ، ولو وصفت لكم ما تريدون لما وجب عليكم اتباعي ، ولكن هناك رجلاً وضع مخططاً للدعوة وأوجب الله على كل مسلم اتباعه .

لقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم معاذاً إلى اليمن وأوصاه أن يدعو الناس إلى الشهادتين أولاً ، درس واحد لا يتعدد ، فإذا قالوها صادقين أتبعتها بالصلاة ، ثم الزكاة .. ونحن اليوم مع حاجتنا الماسة إلى هذه الخطة النبوية ، نرى اختلاف الناس حولها ، فهذا صوفي يدعو إلى طريقته ، وذاك يقول لا بد أولاً من البدء باللحية .. وهكذا ترى كل داع يبدأ بواحد من الفروع ، ويشتغل بهذه الفروع عن الأصول .. وما أحكم كلمة قالها الشيخ حسن البنا رحمة الله عليه : نتعاون على ما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضاً في ما اختلفنا فيه !..

إن دعاة الإسلام لا يزالون أقوياء ولا تزال لهم كلمتهم المسموعة في أوساط المسلمين .. لكن مشكلتنا الأولى هي في الدعاة أنفسهم ، فما لم تتوحد سبيلهم فسنظل نرواح حيث نحن ..

إنهم على ما ترى متفرقون ، كل ما يريد أن يخوض المعركة منفرداً ، شأنهم في ذلك شأن ساسة العرب ، كلهم يدعو إلى وحدة العرب ، وكلهم يرفعها شعاراً ، فإذا نادى منادي التضحية إذا هم ينكصون ..

م ـ لقد أجبتم على الشق الأول من السؤال : من أين يجب أن نبدأ . بقي أن نسمع رأيكم في شأن هذه التيارات التي تواجه العالم الإسلامي ..

ط ـ عندما ينتشر أحد الأوبئة فهناك طريقان لمكافحته : الأول ـ العاجل ـ هو التحصن باللقاح والأدوية ، أما الثاني ـ وهو البطيء الجذري ـ فهو تربية الأولاد تربية تحصن أجسامهم ونفوسهم .. إن الخمس السنوات الأولى من حياة الطفل هي الحقل الذي تودع فيه بذور المستقبل من العقيدة الصحيحة أو الفاسدة والإيمان و الكفر ، والأخلاق الحسنة والسيئة . وقد أغفلنا هذا الجانب فنحن بسبب ذلك نخوض معارك على غير استعداد فنخسرها ، وكل معركة نخسرها تردنا إلى الوراء ، فالطريق القويم إذن هو إعداد الجنود للمعركة البعيدة بتربية النشء الجديد ..

م ـ ولكن .. ألا ترون أن الحجر الذي تضعه أنت في البناء لا يلبث أن يهدمه الظالمون ويهدمون ما وراءه وما فوقه !!..

ط ـ والله يا سيدي لقد شاهدنا من عجائب التربية ما لا يكاد يصدق .. لقد حدثني قادم من .. أن بعض هؤلاء الظالمين جاءوا بأحد المشايخ المعروفين ، وبعد عذاب رهيب جعلوا يحاورونه :

ـ أنت تؤمن بكل ما في القرآن ؟..

ـ دون شك ...

ـ أنت تعرف قصة إبراهيم لما جاءوا به ليحرقوه .. فماذا حدث له ؟!

ـ جعل الله النار برداً وسلاماً على إبراهيم ..

ـ فعليك إذن أن تدعو ربك لإنقاذك من نارنا ..

وصبوا البنزين على لحيته وثيابه وأشعلوه .. وهو صابر محتسب .. وفي مصر لقي شباب الدعوة أفانين العذاب والتمثيل والقتل فقابلوا ذلك كله بصبر عجيب حفظت وصفه الكتب .. وذلك لأن الإيمان قد غرس في نفوسهم من الصغر فكان أكبر من التعذيب وأعظم من الموت ..

م ـ لكن .. أين أربي هذا النشء يا أخي ؟..لنفرض أني أبدأ بأولادي فأولادي ليسوا في يدي ، المدرسة تنتزعهم مني في السنوات الأولى ، ثم يأتي التلفاز والإذاعة والصحف لتدمر ما بقي في أخلاقهم من حصانة ، ومن ثم يأتي دور السلطة التي انتزعت من البيت كل تأثير على الطالب ..

أجل .. كل من سألناه يقول ينبغي أن نبدأ بالصغار ، لكن الصغار ليسوا في يدنا . الحق أن المشكلة خطيرة جداً ومحيرة .. كما حيرت قبلها المفكرين مشكلة الدجاجة والبيضة : أيهما الأصل وبأيهما نبدأ !..

ط ـ اسمح لي أضرب لك بعض الأمثال : كنت ممنوعاً من دخول الشام مدة خمس سنوات ، ولما زال الخطر وزرت دمشق وجدت عجباً . دعيت إلى سهرة يقرأ فيها تفسير وحديث . وهناك رأيت فتى قيل لي إنه ابن فلان وهو مواظب على حضور هذه الدروس على النقيض من أبيه تماماً ..

وفلانة التي كانت تلميذتي وكان زوجها تلميذي كذلك ، وقد ضرب كلاهما بالإسلام عرض الحائط ، إذا بولدهما من أفضل الشباب خلقاً وتقى .. فمن هذه الخرائب المملوءة بمغريات الفساد يطلع اليوم جيل معمور القلوب بحب الله ورسوله وكتابه .

ولقد رأيت في العام الماضي مشهداً لا أنساه ، إذ دعاني صديق لزيارة أحد المساجد الجديدة بدمشق ، فرأيت أحداثاً وشباباً كثيرين ومع كل واحد كتاب ديني وهو مكب عليه ، وليس الوقت وقت صلاة ولا امتحان .. ولكنه الروح الديني الذي لا يرتبط بزمان ولا مكان .. ولكنها العودة إلى الله ..

التنظيمات الإسلامية :

ط ـ وتتداعى الصور في ذاكرة الشيخ ، وما أسرع وما أكثر ما تتداعى ، فإذا هناك وقائع ومشاهد تفوت العدد ، وتعيي المتابع . ويمسك بخيط إحداها ليحدثنا عن بداية الأساليب التنظيمية للدعوة في العالم الإسلامي .

يقول الأستاذ : لقد تفتحت بواكيرها الأولى على يدي محب الدين الخطيب وأحمد تيمور باشا ، والسيد الخضر الحسين ، وكان معهم من الشباب عبد السلام هارون وعبد المنعم خلاف ومحمود شاكر، وقد توفاهم الله إلا الاثنين الأخيرين . على يد هؤلاء نشأت جمعية الشبان المسلمين ، وبعدها أنشأ السيد الخضر الحسين ـ وقد صار فيما بعد شيخاً للأزهر ـ جمعية الهداية الإسلامية .. ولما رجعت إلى الشام وجدت مجموعة من التجار يعملون ما يسمى بالدور وهو أن يجعلوا سهرتهم كل ليلة في بيت أحدهم ، ويختموا هذه السهرات آخر كل أسبوع بمادبة مشتركة .. فقلت : بدلاً من هذا أنشئوا جمعية ، وليكن اسمها جمعية الهداية الإسلامية على غرار تلك التي أنشئت في مصر .. ولم يترددوا في الموافقة وبعد قليل وضع النظام اللازم وأنشئت الجمعية برئاسة الشيخ أبي الخير الميداني ونيابة السيد سعيد حمزة ، ثم أقيمت حفلة للتعريف بها في المجمع العلمي ، وألقيت فيها كلمة الافتتاح ، وقد نشرت في جريدة القبس ، وكان ذلك بداية تأليف الجمعيات الإسلامية في سورية منذ العام 1350 ثم تتابعت الجمعيات فكانت جمعية (التمدن الإسلامي) أنشأها أخونا المرحوم ـ أحمد مظهر العظمة ـ ومحمد كمال الخطيب ، وأصدرت مجلة باسمها لا تزال حتى اليوم ، ثم جاءت (جمعية الشبان المسلمين) برئاسة زكي بك الخطيب ، ثم جاءت (شباب محمد) التي صارت إلى (الإخوان المسلمين وأنا لا أذكر ذلك لأسجل فضلاً لي بل لأصور واقعاً لا يحسن نسيانه ..

م ـ إنه لواقع جدير بالذكر. لأنه يرصد واحدة من مراحل العمل الإسلامي في ما بعد الخلافة ، وفي أعقاب الاحتلال الفرنسي لسورية ، وصلة هذه المرحلة بالتحرك الإسلامي في مصر.. ثم في أنحاء العالم الإسلامي .. وبخاصة عندما نتصور علاقة هذا التطور بما سبقته من آثار الفكر الغربي الذي شرع يهاجم الحياة الإسلامية في عقر دارها .. فكان رد فعل لابد منه للدفاع عن الذات .

ويستأنف الشيخ : لما ذهبت إلى العراق في العام 36 كما أسلفت وجدت تدهوراً خطيراً في الأحوال الدينية ، وكان ذلك قبل تأسيس " الإخوان المسلمين " من قبل أخينا الأستاذ محمد محمود الصواف ، وهاكم مثلاً على ذلك :

في أحد أيام رمضان شاهدت بواب المدرسة يتناول الطعام على مرأى من الجميع .. فقلت له : كيف تفعل هذا علناً ودون تحفظ ؟.. فأجاب : شنو أغاتي !.. وأخذ يسوغ عمله بأن دور الإسلام قد انتهى لأنه إنما جاء لقوم من البدو ، وقد تغير كل شيء فلماذا لا يتغير الإسلام !!..

هذا المشهد وأمثاله أثار في نفسي الخزف على مستقبل الحياة الإسلامية في أوساط الجماهير المسلمة ـ التي هي على تعبير الفاروق مادة الإسلام ـ فلما عدت إلى الشام ورأيت تعدد الدعوات بين المشايخ وتفاوتها من أقصى الطرقية إلى أقصى السلفية .. شعرت بالحاجة إلى التقريب بين هؤلاء المشايخ ، ووجدتني أحق الجميع بهذا المسعى ، لأن صلتي بجميعهم قائمة على المودة والصدق ، فلا أحابي أحد ولا ابدي لهم ما لا أعتقده . ثم إنهم يعملون أني لا أنازع أحداً على مكانه ، ولو جاءوا بأجمعهم يبايعونني على مشيخة المشايخ لم يجدوا مني أي ميل لقبولها ..

ولذلك فهم يأمنون جانبي ويصغون إلي .. وبهذا الباعث دعوت إلى بيتي في الخضرية كبار المشايخ وغيرهم من العاملين في تلك الجماعات .. وهناك أوضحت لهم ما بنفسي ، وقلت أنا أخشى أن يقع بنا ما وقع على بغداد ، والعاقل من اعتبر بغيره وأنا ما أريد أن من أي منكم أن يدع مشربه . وإنما المطلوب فقط هو أن توطنوا العزم على حماية الدين والانتصار له إذا ما رأيتم أي عدوان عليه .. فإذا اقتنعتم بهذا فعليكم أن تنتخبوا اثنين يبلغان كل الجماعات به ، فمن رضي عمل معكم ، ومن أبى فعليه وزره .. وعلى الموافقين أن يقوم كل في نطاق عمله بتوعية المسلمين ، الخطيب في خطبه ، والمدرس في دروسه ، وأهل المجالس في اجتماعاتهم .. وعلى هذا الأساس انتخبوا ثلاثة : الشيخ ياسين عرفة ومحمد كمال الخطيب وأنا .. ولكن المؤسف أن الفكرة ماتت في يومها ..

وبدخول العام 36 ، وقد تم الاتفاق على الاستقلال بين الكتلة الوطنية ودولة الاحتلال شرع المنفيون يعودون ، وكان بينهم الشيخ كامل القصاب .. هذا العنصر ذو الفعالية الكبيرة في الميدان الوطني والميدان الديني والميدان التعليمي على السواء .. وكان من عمل هذا الرجل أن دعا العلماء إلى اجتماع كبير أسفر عن تأليف جمعية العلماء ، ولكن سرعان ما دب الخلاف بينه وبين الجمعية الغراء .. ثم حدث التجمع الثاني لرابطة العلماء في بيتنا وتم بفضل الله التقارب اللازم بينهم .. ـ إلى حين ـ !

ثم تأتي المحاولة الثالثة على يد الشيخ أمجد الزهاوي .. هذا الشيخ كان على تقدمه في السن يتفجر بالشباب والحماسة ، وكان معه الشيخ الصواف عندما جئت أسلم عليه في الفندق ، فقال : " ما لكم قاعدين ، ما تجمعون العلماء !.. قلت : لا فائدة من تجميعهم .. ولكنه أصر. ولم يمض ذلك اليوم حتى اجتمعوا بعد المغرب في دار الحديث ، وبينهم الشيخ الهاشمي الصوفي ، والشيخ بهجة السلفي ، والشيخ ناصر، وبقية الجماعة ، وكتبنا ميثاقاً إسلامياً .. ومع ذلك كانت هي الجلسة الأولى والأخيرة ذلك أن اختلاف النية هو الذي يؤدي إلى اختلاف الكلمة ..

ويحدثنا الشيخ وفقه الله عن محاولة أخرى له ليست بعيدة عن محاولاته الإصلاحية تلك .. وكان ذلك يوم ترشيح نفسه في أول انتخابات نيابية بعد الاستقلال .. فهو يقول إنه كان مبتعثاً إلى مصر لدراسة القوانين بوزارة العدل ، فأبرق من هناك بترشيحه ، ثم عاد ليتابع موضوعه ، فإذا هو يجد أولى الناس بتأييده متفقين على محاربته ، حتى ليضطر إلى تذكيرهم بما أسلفه من جهد لتجميعهم والتأليف بينهم .. ثم كان هذا الموقف بينهم .. ثم كان هذا الموقف هو الأول والأخير في هذا الميدان ، إذ اعتبر إقدامه عليه إقدامه عليه غلطة لا ينبغي أن تتكرر ..

وطبيعي أن الشيخ لم يقدم على ذلك الترشيح إلا رغبة في مواصلة سبيله الإصلاحية عن طريق العمل السياسي .. ولا ريب عندي كذلك في أن الذين عارضوا ترشيحه يومئذ لم يفعلوا ذلك إنكاراً لفضله ولجهوده المشكورة ، ولكن دفعهم إلى ذلك الموقف تصورهم أن طبيعة الشيخ الشديدة الحساسية لا تنسجم مع العمل السياسي ، الذي أول ما يتطلب الأناة وطول النفس ، وإذن فلن يستطيع الانسجام مع الصف الذي سيجمع مرشيحهم في المجلس النيابي ، وقد رأينا موقفه من قضية الطالبات في كلية الشريعة ، حيث خالف إجماع زملائه وأصر على رفضهن ، مع أنه كان بوسعه أن يقنعهم بإحداث مدخل خاص لكل من الجنسين يفصل كل منهما على حدة ولا يبقى أي مجال لأي اختلاط كما هو الشأن في المسجد النبوي مثلاً .

وإذن فقد صدق الشيخ عندما عدّ ترشيحه ذاك غلطة ، لأن من كان في مثل طبعه الحار، فأنفع للمسلمين أن يظل بين المحدثين والمعلمين والموجهين .

وصدق رسول الله القائل : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له ".

الخلاف حتى بين الداعيات :

م ـ كنا وقفنا عند سؤال عن مستقبل الدعوة في أوساط الشباب المسلم ، فما رأيكم فيه ، وكيف تقومونه ، وكيف ينبغي أن يكون العمل ؟..

ط ـ إن ما نشاهده الآن في أوساط الشباب المسلم قد فاق ما تخيلناه . لقد عدت إلى الشام بعد انقطاعي عنها خمس سنوات ، فرأيت أبناء الذين هم أركان الحركات المحاربة للإسلام في مقدمة شباب الإسلام .. ومثل ذلك في الأردن ، وأضخم منه بكثير في مصر، وفي تونس والعراق ، وفي كل بلد تحس طلائع الرجعة القوية إلى الإسلام .

على أن المؤسف أن هذه النهضة يعتريها مثل الذي لاحظناه من الانقسام في أوساط المشايخ ، فبدلاً من أن يجتمع الشباب على التعاون المنشود نرى كل جماعة منهم تعادي الأخرى وتحاربها في مسائل فرعية جداً ، وهي ظاهرة حتى في أوساط النساء .

وفي الشام قال لي بعض الفضلاء إنهم جمعوا إلي نحو ثمانين من المدرسات العاملات في نطاق الدعوة ، فجئت ذلك الجمع وفيهن ثلاث من بناتي ، وكلهن محجبات ، وقد تكلمت فيهن قرابة الساعتين حتى جف ريقي .وكان مما قلته لهن : والله إني لأخجل من الله أن أعظ مثلكن ، فأنتن أفضل مني شابات ناشئات في طاعة الله على الرغم من فساد الزمن ، ولكن كل ما لدي هو أني سلكت طريقاً طويلاً وعدت لأخبركن بكل حفرة رأيتها فيه حتى لا تقعن فيها . ووقفت على موضوع الاختلاف ما يجوز منه وما لا يجوز ، فالاختلاف على الطريق والوسيلة لا ضرر منه كشأن الحج كلما تعددت طرقه سهل الوصول .. أما اختلاف الغاية بحيث يمضي واحداً إلى جدة والثاني إلى عرفات فهذا الاختلاف الضار..

وتركت الجمع لأستريح في حجرة داخلية ، وبينا أنا أحسو بعض الشاي إذا بالصياح واللغط والشجار.. ولما سألنا عن السبب علمنا أن جماعة إحدى الداعيات ترى أن يكون جلباب المرأة إلى نصف الساق وتحته جورب غليظ ، على حين ترى داعية غيرها أن يكون الجلباب على الوضع الذي عرف في الصدر الأول ..

ثم هناك يا أخي ظاهرة أخرى خطيرة جداً ، وليس وراءها سوء نية ، ولكنه الجهل الذي يورط بعض العاملين والعاملات للدعوة في فتاوى لا تستند إلى دليل ، فيحرمون ويحللون دون علم ولا هدى ولا كتاب منير.

خذ مثلاً على ذلك قول بعضهم بتحريم ظهور المرأة أمام النساء مكشوفة الرأس .. بدليل خروج جبريل من بيت رسول الله عندما كشفت خديجة رأسها ..

مع ذلك فأنا أقول بأن المستقبل للإسلام قطعاً . لكن هذه الخلافات ثغرات ينفذ منها أعداء الإسلام فيؤخرون مسيرة الركب ، ويخلقون لنا كل يوم عقبات جديدة .. لقد حدث أيام فتنة خلق القرآن في العصر العباسي أن قال المعتصم لدعاتها : دعوا الكبار وعليكم بأولاد الكتاتيب الذين لا تزال قلوبهم كالصحف البيضاء تكتبون عليها ما شئتم . وها نحن أولاء نرى أسلوب المعتصم مطبقاً على قدم وساق في تلك التنظيمات ، التي تستهدف سلخ صغار المسلمين من دينهم قبل أن يعرفوا عنه أي شيء .. نعم .. إن العودة إلى الإسلام من شباب المسلمين كبيرة جداً ولله الحمد ، ولكن يقابلها كذلك محاولات مدمرة ، إن لم تستدرك فستكون النهاية خطيرة جداً .

مع الحضارة الغربية :

م ـ الحضارة الغربية غزت الوجود الإسلامي كله شئنا أم أبينا ، فما الموقف الذي يجب أن نتخذه منها ؟..

ط ـ ألخص لكم جوابي بكلمة يسيرة : لقد كنت منذ عشر سنين مكلفاً بالطواف على المدارس في المملكة ، وفي كل مدرسة كنت أتلقى الأسئلة المختلفة وأجيب عليها حسب الإمكان .

هذه الأسئلة التي تلقيها ، ولا أزال أتلقاها في مختلف الأنحاء وجدتها تلتقي كلها على نقطة واحدة هي تحديد موقفنا من الحضارة الغربية ، فإذا وفقنا إلى إيضاح هذه النقطة وصلنا إلى الحل الحاسم للمشكلة .

لقد كان جوابي للجميع واحداً يمكن تلخيصه في المثل التالي : إذا وجد أحدنا حجراً غير واضح النوع فيمضي به إلى معمل التحليل ، وهناك تتضح له مركباته ونسبها ، وهكذا يجب أن نعامل هذه الحضارة فنردها إلى عناصرها الأساسية ، وسنجد فيها العنصر العقائدي ، والعنصر العقلي ، والعنصر الاجتماعي وما إليها ..

فأما العنصر العقائدي فلا حاجة لنا به سواء كان صريحاً أو مغطى .. فنتركه كله إذ لا يمكن أن يجتمع في قلب عقيدتان .. وما يتصل بالعقل والعلم التجريبي فنأخذه كله ، بشرط ألا تنسينا الصنعة حكمة الصانع ، فنتذكر واضع قوانينها ونذكر به في كل مناسبة ، لأن قوانينه هي الأصل الذي منه تستمد سائر القوانين المنسوبة إلى العلماء .. وليست قوانين أرخميدس ولا فوازييه ونيوتن سوى كشف لما أذن الله بكشفه من سننه الكونية ، فلم يوجدوا مفقوداً ولكنهم اكتشفوا موجوداً .. ولا ننسى أثناء ذلك جهود علمائنا في التمهيد لهذه الكشوف .. ثم يأتي عنصر العادات والاجتماع ، فما كان منها متصلاً بصدق المعاملة والوفاء بالوعد وتنظيم المدن وما إلى ذلك ، أخذنا به لا تقليداً بل عملاً بأوامر ديننا الذي يلزمنا بكل أسباب الخير.

في آخن ـ بألمانية ـ كنا في نقاش مع اثنين من القسس ذوي الثقافة الواسعة ، وحانت صلاة الجمعة ، وفي مسجد آخن ألقيت خطبتها ، وهناك أعدت الكلام في الموضوع نفسه ، وكان مما تطرقت إليه في هذه الخطبة ، وما يجب علينا رفضه من حضارتهم ، نظرتهم إلى المرأة والميول الجنسية ، لأن القوم هناك هبطوا في هذا الجانب إلى أدنى من رتبة البهائم ، وضربت مثلاً بالجمل والناقة ، فقلت : لم يرهما أحد قط في شهر العسل ، على حين يشاهدون الوضع مقلوباً في ظل هذه الحضارة ، حتى إن إنجلترا وألمانية أصدرتا القوانين في إباحة اللواط واعتباره أمراً عادياً ..

قلت : ولو تأخر موعد هذا الاستطلاع إلى اليوم لأضاف الشيخ إليه إطلاق ألمانية الحرية بتبادل الزوجات ، وإصدار البرلمان الأسوجي ـ هذه الأيام ـ قانوناً بإلغاء القيود على الزواج بالمحارم .. ذلك القانون الذي استقبلته النسوة من أعضائه بالتصفيق والهتاف ، لأنه بنظرهن يسجل انتصاراً لحرية المرأة في أن تخادن وتضاجع أخاها أو أباها أو ولدها ، وقد سبقها إلى مثل ذلك برلمان الدانمارك الذي أباح إجراء عقد الزواج بين الأخوين والعياذ بالله !..

م ـ هنالك جانب لابد من تمحيصه في هذه القضية : أعني الأشياء التي تخرج عن حدود اختيارنا فأبناؤنا لابد من إرسالهم إلى المدارس حيث تطبق عليهم مفهومات الحضارة الغربية دون تمييز، فإذا غادروا المدرسة أخذت أبصارهم مشاهد منافية لما تعلموه من الإسلام .. واجتذبت مشاعرهم المغريات المثيرة للغرائز الجنسية على الطبيعة وفوق أغلفة الصحف ، حتى إذا احتواهم البيت واجههم التلفاز بهيله وهيلمانه .. وهذا كله بعض جوانب الفساد في الحضارة الغربية ، فمن أين لهذا النشء المسكين أن يحسن التخير فيتخلص من آثار هذه المغريات المدمرات ؟!!.

ط ـ إذا انتشر الوباء في بلد فالخلاص منه طريقان : إما أن تحبس نفسك في مكان نقي الهواء محصن من الجراثيم ، أو تحافظ على صحتك باللقاح الواقي وتخالط الناس .. نحن هنا في مكة المكرمة نعاني الشديد من الحر ، فهل نستطيع إقامة مكيف عام على قمة جبل أبي قبيس يبرد الجو كله !.. وإذا كان هذا غير ممكن فعلي أن أعمد إلى تكييف منزلي بما يدفع عنه لذعة الحر. وكذلك الأمر في الشتاء حين يستحر البرد فأنا لا أستطيع حماية البلد كله من لسعه ، ولكن أستطيع أن أدفئ غرفتي بجهاز خاص ..

أجل إن هذه التيارات التي تشير إليها لا يمكن دفعها عن المجتمع ، فإذا منعنا الجرائد والكتب لم نستطع منع أمواج الإذاعة من اختراق الجدران إلى داخل بيوتنا . فلم يبق إلا أن نسكب في نفوس أبنائنا أسباب المناعة منذ الصغر.

لقد كنت مع قضاة التمييز من أوائل المقتنين للتلفاز. وقد قلت لبناتي الخمس : قبل أن تدرن مفتاح هذا الجهاز عليكن أن تقرأن برامجه اليومية وتعرضنها علي ، فكنت أضع الإشارة على كل مادة بنعم أو لا.. بعد أن أقنعتهن وأمهن بأن في هذا الصندوق العجيب منافع وأخطاراً ، فإذا فتحتن جميع نوافذه تسللت إليكن أنواع المهلكات ، فلابد إذن من الانتقاء .. ولقد انقضت على ذلك اليوم عشرات السنين وما يزال هذا دأب أهلي جميعاً مع هذا الجهاز الهدام البناء ..

هذا كل ما نستطيع عمله .. أما منع هذه الأشياء كلياً فليس من شأننا ، فالمدارس ليست بأيدينا ، والأسواق خارجة عن سلطاننا ، وهكذا سائر المرافق ، فلم يبق لنا إلا أن نحصن أبناءنا باللقاح الواقي وفق طاقتنا ..

في ظلال الأدب :

بعد هذه الرحلة الطويلة في رحاب التاريخ والأفكار والأحداث يحسن بنا أن تستنشق نسيم الأدب . والسؤال الآن هو :

م ـ اللون الإسلامي مع سلامة العربية ، وقد طبعا أدبكم من عشرات السنين .. كيف تيسر لكم ؟. أعن طريق احتكاكم بالإسلاميين الذين تلقيتم عنهم الدراسة ، أم منهم ومن كتب كبار العلماء ، أم من هذه الكتب وحدها ؟!!

ط ـ لا أملك الجواب الحاسم على هذا السؤال .. فلا والدي ولا المشايخ الذين قرأنا عليهم حتى الأستاذ الجندي ، الذي ما أعرف تحت الفلك أعلم منه بالعربية .. كان لهم أي نشاط في الكتابة ، فهم أصحاب علم وليسوا أصحاب أقلام .. وأتساءل : كيف سلكنا نحن هذا الطريق ؟ لا أدري .. لعلي تأثرت بخالي محب الدين .. ولا أدري كيف بدأت خطواتي في هذا الاتجاه .. كانت كل مطالعاتي صغيراً في الكتب القديمة وكتب الأدب القديم .. وكيف كنت أطالع ؟ .. على عاداتنا في الأسرة ، لا نعرف لعب الشارع ، ولا نصاحب أحداًَ من أهله ، أكثر وقتنا في البيت ، وكنت أسحب من المكتبة أي كتاب تقع عليه يدي فأقرأ فيه دون مرشد ، فإذا فهته واستطبته مضيت فيه وإلا تركته .

وهكذا كانت قراءتنا في الكتب القديمة ، فلم أكن أعرف في الأدب العصري إلا نظرات المنفلوطي ، التي تركت أثرها عميقاً في نفسي ، كفعلها في معظم شباب ذلك الجيل كما تعلمون .. ثم تلك المجموعة التي كانت تؤلف ما يسمى بالرابطة الأدبية ..

م ـ لعلها مجموعة المهجرين في أمريكا الشمالية ؟..

ط ـ لا .. بل هي مجموعة تألفت من أدباء شاميين عام عشرين وتسعمائة وألف ، وكان يرأسها خليل مردم بك .. ومن أعضائها ..

وعلى طريقته المألوفة في أحاديثه الإذاعية ، ترك كلمة (الأعضاء) يتيمة لا هوية لها ، كما يفعل حين يعالج سؤالاً ورده من أحاديث مستمعيه ، فيمد خيوط الكلام من هنا وهناك ، وكثيراً ما يرسل اللفظة دون إتمام ، لينتقل إلى غيرها .. وليته عرفنا بعض أاولئك الأعضاء لأن تعريفهم تاريخياً لحركة الأدب في البلد الذي ضرب بسهم وافر في خدمة العربية ..

ويواصل حديثه : ذلك هو الأدب الجديد الذي بدأت الاتصال به .. لكن كيف ومتى بدأت الكتابة .. فوالله ما أدري .. إلا أن أول شيء كتبته كان في رثاء الشيخ الداوودي ، فقد ألقى أنور العطار قصيدة ، وأنا كتبت مقالة ..

م ـ هناك سؤال يراود الكثيرين بشأن الأستاذ وهو : في أي الصنفين تضع نفسك .. الأدب أم الفقه؟

ط ـ في حياتي صفحتان مختلفتان ، فأول الأمر كان اشتغالي كله في الأدب ، ومنذ دخلت القضاء اضطررت إلى التحول نحو الفقه ، أراجع كتبه ومصادره وموسوعاته بكل ما وسعني .. ومن هنا كان انشغالي عن الأدب الصرف طوال عشر سنوات ، مع طول تطلعي إليه كما يقول ابن أبي ربيعة .

وذو الشوق القديم ، وإن تسلى = مشوق حين يلقى العاشقينا

ومن أسباب بعدي عن الأدب كوني لم أعد أرى ذلك النوع الذي يجتذبني .. وأصدقك القول أنه لما أهدى إلي الأستاذ عبد العزيز الربيع ـ رحمه الله ـ ديوان الأستاذ المجذوب أثناء زيارتي المدينة المنورة ، قضيت والله ليلة كاملة في قراءته ، يجذبني إليه ما أحسه من الأدب الخالص المطبوع ، وقد ظل ارتباطي به وثيقاً ، وحنيني إليه كثيراً ..

نعم .. لقد ابتعدت عن الأدب لندرة الأصيل في ما تنشره المجلات التي يتوقع منها العناية بالأدب الأصيل ..

م ـ بغض النظر عن التغييرات التي طرأت على الصحافة الأدبية فنزلت بها من القمة إلى الحضيض ، لا نزال ننتظر رأيك في ذاتك ، أأديب أنت أم فقيه ؟..

ط ـ لما أنشئوا بالشام مجلس الآداب والفنون أيام الوحدة اختاروا له جماعة ما كتبوا عشر ما كتبت ، وحين وصل الكلام إلي ، وجرى بشأني بعض النقاش قالوا : هذا شيخ وفقيه وقاض ما له علاقة بالأدب .

ولما ناقشت أخانا الدكتور مصطفى السباعي رحمة الله عليه ونقدت كتابه (اشتراكية الإسلام) نقداً رقيقاً ثارت حميته وكتب يقول : أنت رجل أديب ، فلا علاقة لك بالفقه ولا اختصاص .

وهكذا انتهى الأمر بي ، فأهل الفقه لا يعترفون بي ، ويقولون إني رجل أديب ، وأهل الأدب أنكروني وتبرءوا مني ، فقالوا هذا شيخ فقيه . وما أسفت على شيء من هؤلاء وأولئك ..

م ـ ما رأيك بنفسك ؟!.

ط ـ رأيي .. والله لا أقول عن نفسي إني أديب على الرغم من كتاباتي الكثيرة في الأدب ، وأما بالفقه فأنا أمام نفسي وأمام الله لست سوى طالب علم صغير..

م ـ على كل يبقى لنا رأينا فيك بعد ذلك .. ونعود للكلام عن الأدب العربي المعاصر فلو تكرمت ببعض التفصيل لما أجملت بشأنه .

ط ـ سؤالك أعم من أن أستطيع الإجابة عليه .. فلو أن أحداً حلق بالطائرة عالياً فوق مكة المكرمة لرآها عبارة عن رقعة من الأرض تزدحم فيها البيوت .. فإذا شئتم جواباً واضحاً فلتنزلوا قليلاً ولتضيقوا دائرة السؤال .

م ـ الملاحظ أن واقع الفكر والأدب يختلف اليوم كثيراً عن واقعه قبل أربعين سنة ، فعلى الرغم من حركة الإحياء التي يراد بها استعادة ماضي الأدب العربي من الناحية البلاغية والبيانية ، لا يزال البون شاسعاً بين ما كان عليه عمل الأدباء أمس وما انتهى إليه اليوم من ناحية العمق والسطحية على الأقل .

ط ـ والله لقد كدت أقول هذا . إن الأسلوب البياني ضعيف جداً ، لكن الصورة والفكرة الآن أقوى ولقد جاءني قبل مدة سؤال يريد المقارنة بين ما أنتجه أساتذة كلية الشريعة من مؤلفات وبحوث مثلاً ، وما تركه علماء القرن الماضي من آثار. فقلت : أولئك كانوا أكثر اطلاعاً على ما تضمنته كتب الماضين ، وأصح رواية لما فيها .. وكان أمامي في الحرم ـ المكي ـ الشيخ حسن حبنكه الشامي ـ رحمه الله ـ فقلت له : أنت ووالدك كلاكما من رجال العلم ، ولكن أباك أعلم منك ، إذا سئل عن مسألة أحال إلى مصادرها من الكتب التي قرأها مرات وأقرأها مرات ، بيد أنك ألفت من الكتب ما لم يستطع أبوك أن يؤلف عشره . ونحن اليوم نقرأ في تراجم علمائنا السابقين أن فلاناً قرأ كتاب وكتاب كذا .. فالقضية بالنسبة إليهم لم تكن قضية علم فقط بل قضية كتب تقرأ وتفهم ..

أول ما طبع كتاب (الموافقات) للشاطبي استشكلت بعض عباراته ، فرحت إلى جماعة من مشايخنا يقرئون (جمع الجوامع) الذي هو أكثر تعقيداً من كتاب الشاطبي ، فلم يفهموا هذه العبارات ، فقلت في نفسي : وكيف إذن يفهمون جمع الجوامع ؟‍..

وعندنا اليوم بين أحياء العلماء بالشام نموذج كامل يمثل علماء القرن الماضي ، هو الشيخ أبو اليسر عابدين ، فهو مضرب المثل في سعة العلم وكثرة القراءة ، ولكنه في الوقت نفسه عاجز عن البحث الجديد ..

أعرف في الشام أربعة مفتين أدركتهم : الشيخ أبو الخير عابدين ثم الشيخ عطا الكسم فمحمد أفندي الأسطواني ، وكل من هذين فقيه رواية لا فقيه دراية ، ثم الشيخ أبو اليسر، وربما كان هذا أعلم الأربعة .. وإنما أحكم عليهم بما لمسته أثناء وجودي في محكمة التمييز. تعرض لنا المسألة في الجمعية العمومية فاتصل به هاتفياً فيأتينا الجواب لفوره أو بعد نصف فقط ، يقول لنا هذه مذكورة في الحاشية أو الفتاوى الهندية أو في كتاب كذا ..

فالفرق بين علماء القرن الماضي وعلماء هذا القرن كالفرق بين أدباء الأمس وأدباء اليوم ، فأولئك أصح أسلوباً وأجلى بياناً ، وبين هؤلاء من هو أعمق فكراً بلا شك وأكثر إحاطة .

م ـ إذن فأنت ترى أن الأدب الحاضر إذا أمكن تصحيح أسلوبه وترقية ذوقه البياني فيستكمل أسباب القوة والقبول ..

ط ـ حقاً .. ثم هناك قضية ما يسمونه بالشعر الجديد وقد كان الشعر يقوم على قدمين فكسروا أقواهما وهي الموسيقى والشعر العربي لا انفكاك له عن الموسيقى أبداً .

م ـ اسمح لي أن ألفت نظرك إلى أن بين أصحاب هذا الشعر الحديث من يلتزم الموسيقى ويحافظ عليها بشكل رفيع جداً ويلحظ من خلال تعابيره أن ثمة صوراً شعرية تبلغ حد الروعة ..

ط ـ هذه حقيقة ففي بعض هذا الحديث صور بيانية كما في الشعر العامي أو النبطي .. وفي أغاني الأخوين رحباني صور غاية في الروعة ، وكثير منها موزون في ذاته ، لكن المشكلة .. تصور أنك تسمع إلى مغن مجيد على نغم البيات ، فإذا هو فجأة ينتقل للسيكاه . إن هذا نشاز يصدم الأذن بما لم تألفه من الإيقاع ..

م ـ بعض هذا الشعر لا يفارق الوزن . ولا يصدمك بانتقال إلى غير المألوف ، بل إنه يحافظ على التفعيلة ولكنه لا يلتزم بحور الخليل والأخفش .

ط ـ أستاذ .. وأي تفعيلة هذه ؟..

م ـ التفعيلة التي أعني هي إحدى وحدات الأوزان الموروثة مثل : مستفعل مكررة ، أو فاعلاتٍ مكررة ، أو مفاعيلٍ مكررة .. فهؤلاء يلتزمون الوحدة فيأتي نظمهم موزوناً بالتفعيلة المفردة ، لا بمجموعة التفاعيل التي تشكل البحور..

ط ـ دعني أعود إلى مثالي بشيء من التوضيح ، الأنغام الموسيقية السبعة الأصيلة وما يتفرغ عنها هي تفعيلات موزعة على وجه مخصوص ، بيد أن ائتلاف بعضها مع بعض هو الذي يشكل الإيقاع المنشود .. سبحان الله .

م ـ لكن هذا التوزيع المنوع بين التفعيلات المختلفة ، كالذي نراه في الخفيف والطويل والبسيط مثلاً، ليس هو الوحيد في البحور المأثورة فهناك من البحور ما يقوم على تكرار التفعيلة المفردة كالمحدث والمتقارب والرمل .. وهذا الشعر الحديث نوع منه ، إلا أنه لا يتقيد بعدد الوحدات المألوف في أوزان الخليل ..

ط ـ أستاذي .. هذه التفعيلة الواحدة مثل أي جزء من الطعام ، فالملح يصلح في مكانه ولو مزجته بالشاي أو الشراب لأفسدتهما..

م ـ نحن مختلفون في هذا الموضوع ، فأنت ترى كل لون من الصياغة الأدبية لا يلتزم طريق القدامى لا يمكن قبوله في دائرة الشعر، أما أنا فأرى ذلك حَجْراً على المواهب ، ولا أشك في أن القدامى لم يفرضوا على الأجيال التزام طرائقهم المحدودة .. وكل لون يضيفه أصحاب المواهب إلى أدبنا العربي يعتبر ربحاً وإثراءً بشرط أن يلتزموا أساليب البيان الأصيل .. وليست محاولاتهم في هذه المحدثات الجديدة إلا كابتداع الكاتب والشاعر لأنواع من الكنايات والمجازات لم يعرفها السابقون .. وكفعل الأندلسيين في اختراع الموشحات وما إليها ..

ط ـ لا حاجة لمزيد من الإطالة في هذا الشأن ، فأنا أقسم الكلام إلى شعر ونثر وإلى منظوم ومنثور، ثم نجد تقسيماً آخر فيه النظم المنثور، والنثر المنظوم .. وهذا الذي نكرره ولا نستسيغه .. لأن النثر ولو حاولت نظمه لا يخرج عن كونه نثراً ، وكذلك الشعر يظل محتفظاً بخصائصه مهما اختلفت ظواهره .. فيقول ابن مالك في القواعد :

ولا يصح الابتدا بالنكره ما لم تفد (كعند زيد نَمِره)

لا يخرج عن طبيعة النثر وإن صب في بحور الرجز، وفي المقابل نجد ترجمة الأستاذ الزيات لكتاب رفاييل (آلام فرتر) محتفظة برونق الشعر وإن فقدت الوزن والقافية ..

بين التقليد والاجتهاد :

م ـ وهذا الذي أريده .. وما دمنا نتكلم في الأدب والفقه فلنلتفت إلى الشطر الثاني من الموضوع .. يلاحظ الذين يستمعون إليك ، سواء عن طريق التلفاز أو الإذاعة ، أنكم إذا وجه إليكم سؤال ينتظر الفتوى تلتزمون المذهب في جميع الأحوال ، وقلما تقيدون الإجابة بالنص من الكتاب والسنة .

ط ـ نصف هذا أعترف به من حيث أني لا أرجع إلى النصوص ، أما موضوع المذهب فأنا كما سبق القول نشأت حنفياً شديد التعصب للمذهب الحنفي ، ثم تحررت من ذلك التعصب فأنا اليوم لا ألتزم المذهبية . لكنت ضيق الوقت يضطرني في كثير من الأحيان إلى الإجابة بالقليل الذي أعرفه من المذهب الحنفي ولا أعرف غيره ، فإذا أتيح لي متسع من الوقت راجعت الكتب الأخرى ، وإذا وجدت لابن تيمية بحثاً في المسألة أو للشيخ الموفق صاحب المغني أفدت منه ، لأن هذين العالمين يستوفيان الأدلة في كل موضوع طرقاه ويعنيان بالموازنة بينها .

م ـ فمنهجك إذن ـ وهو الملاحظ ـ هو الوقوف بالمسألة في نطاق المذاهب الأربعة ، مع ترجيح المذهب الحنفي غالباً .. ولا غبار على ذلك ، ولكن المهم أن ندعم الإجابة بالدليل من الوحيين أو أحدهما ، لما في ذلك من ربط للأسماع والقلوب بمصادرهما المحيية .

ط ـ هذا حق .. ولكن الذي يحول دون ذلك هو ضعف الذاكرة ، حتى إنني لأبدأ أحياناً بالآية فتضطرب علي ، ومع ذلك فأنا لا أوافق رأي القائلين بإطلاق الاجتهاد لكل أحد اعتماداً على أدلة الأصلين ، لأن ذلك يفتح باباً خطيراً من العسير سده ، وهذا أمر ملموس الآن في أوساط بعض الشباب ، الذين يريدون أن يرفضوا فقه الأئمة بالاعتماد على اجتهادهم الخاص ، وربما عجز أحدهم عن تحرير عبارة في الآية أو الحديث ..

م ـ نحن على وفاق في هذا ، فلا نرضى أن يتصدر للاجتهاد من ليس له بأهل ، ولكن الحكم يختلف عندما يجلس أحدنا للفتوى ، فلا مندوحة في هذه الحال عن الاستمداد من الدليل ، لكي يعلم الناس أن الدين " قال الله قال رسوله .." وليس اجتهاد الناس سوى محاولة لإصابة مراد الشارع في كل أمر ..

والله الموفق والمستعان .

خاتمة :

ذلك هو العرض الذي شغل الأستاذ الطنطاوي أعمدة من " الشرق الأوسط " بطلب إلغائه ووأده ، خشية أن يحيف على رواج مذكراته حين يجمعها في مجلدات كما فعل . وقد أرجأنا نشره إلى هذا الجزء الثالث من التراجم رعاية لهذا الغرض .. وها نحن أولاء نعرض الموضوع اليوم على القراء ليحكموا بنفسهم على حقيقة الخلاف بيننا وبينه ، وليستيقنوا أننا لم نورد فيه كلمة من شأنها أن تسخطه إن لم تستوجب رضاءه وثناءه .

ومع ذلك فللأستاذ نقول أخيراً مع الشاعر المظلوم :

أظلوم .. إن مصابكم رجلاً ألقى السلام تحية ظلم