مولد النور، والحق والعدل والخير والجمال

قال الله تعالى: ( هو الذى بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين ) الجمعة:2 .

كما تطلع الشمس بأنوارها فتفجر ينبوع الضوء المسمى النهار ، يولد النبي فيوجد في الإنسانية ينبوع النور المسمى بالدين . وليس النهار إلا يقظة الحياة تحقق أعمالها ، وليس الدين إلا يقظة النفس تحقق فضائلها . (1) 

في يوم الاثنين الثاني عشر على المشهور، والتاسع على الصحيح (2)، من شهر ربيع الأول من عام الفيل.. سنة {571 } من ميلاد أخيه السيد المسيح عيسى بن مريم عليهما الصلاة و السلام.. في أواخر القرن السادس الميلادي .. ولد النبي المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم... فأنقذ الدنيا ببعثته .

وتشرَّف الكون بمولده.. وسعد الزمان برسالته.

وقبل مولده الشريف صلوات الله وسلامه عليه.. خيَّمت على العالم ظلمات الجهالة وأحاطت به سبل الضلالة.. فانحط العقل البشري حتى عبد الحجارة.. وقسا القلب الإنساني حتى وئدت البنات بأيدي آبائهن عند بعض القبائل العربية في الجاهلية.. فكان لابد من المنقذ.. فكان مولد الهدى والنور.. والجمال والكمال.. والحق والعدل..والحرية والنظام.. والرحمة والوئام.. وأشرقت شمس الرسالة المحمدية في مكة أم القرى قلب البلاد العربية بل قلب العالم كله.. وانبثق الوحي الإلهي من غار حراء.. في قمة ذلك الجبل الأشم.. ( جبل النور ) في مكة المكرمة ... وشع نور الإسلام وهدي النبي القويم عليه الصلاة والسلام في أزكى بيوت قريش حسباً ونسباً، وأسماها شرفاَ وكرماًً(3).

فسيرته العطرة أعظم وأشرف وأطهر وأعطر سيرة في التاريخ كله.. 

فهي سفْر الخلود.. وسرُّ العظمة.. ومشرق النور.. ومنبع الفضائل.. 

روى الإمام أحمد بن محمد بن حنبل في مسنده عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما أنه قال: ولد النبي صلى الله عليه وسلم في يوم الاثنين.. واستنبئ يوم الاثنين.. وخرج مهاجراً يوم الاثنين.. وقدم المدينة يوم الاثنين.. وتوفي يوم الاثنين. ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم يوم الاثنين.. ولما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب صيامه يوم الاثنين ، قال عليه الصلاة والسلام: " ذاك يوم ولدت فيه.. ويوم بعثت أو أنزل علي فيه " والحديث رواه مسلم في صحيحه . 

الصلاة والسلام عليك يا سيدي يا رسول الله ... 

يوم ولدت ويوم بعثت ويوم أسري بك وعرج إلى السموات العلا ويوم هاجرت ويوم لحقت بالرفيق الأعلى ...

الصلاة والسلام عليك أيها النبي في الأولين وفي الآخرين وفي الملأ الأعلى إلى يوم الدين كلما ذكرك الذاكرون وغفل عن ذكرك الغافلون ... طبت حيا وميتا يا رسول الله .

قال الشاعر الكبير : يوسف عبيد ، رحمه الله تعالى:

وإذا ذكرت الشهور فحيهلاً بربيع الأول، وإذا ذكرت الأيام فحبذا يوم الاثنين، وإذا ذكرت الساعات فنعما طلعة الفجر.. أي فجر؟.

قال الشاعر الكبير يوسف عبيد رحمه الله:

لقد ولد محمد صلى الله عليه وسلم.. وطلع نجم أحمد.. فاستبشر العالم بقدومه:

فأي عالم وأي خطيب وأي شاعر وأي أديب يحيط بجوانب تلك الشخصية النبوية العظيمة ؟!

وصدق ابن الفارض حيث قال:

جاء بعد طول انتظار.. جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور... ويهديهم إلى الصراط المستقيم.

جاء لينقذ الإنسانية مما ترزح تحته وتئن من ظلم واستعباد وفوضى واستبداد وجاهلية جهلاء.

جاء ليتمم مكارم الأخلاق.

جاء ليعطي كل ذي حق حقه.

جاء ليحررالعبيد ويعتقهم ويقول لهم : " اذهبوا فأنتم الطلقاء " حديث مشهور رواه ابن أبي شيبة لكنه لا يثبت إسناده.

جاء ليحرر المرأة من الظلم الذي حاق بها ، ويعطيها حقها في الحياة..

جاء ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله رب العباد.. ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة.. ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام.

جاء ليصنع من عمر بن الخطاب، عميد الجاهلية.. فاروق الإسلام العبقري الملهم الذي ينطق الحق على قلبه ولسانه .

جاء ليجعل من خالد بن الوليد، ذاك الفتى القرشي، سيف الله المسلول الذي سله الله على أعداء الإنسان والسلام.

جاء ليجعل من حمزة بن عبد المطلب، أسد الله وأسد رسوله.

جاء ليعيد انسجام الإنسان مع الكون وخالق الكون . 

فمن أجل هذا وغيره.. كان العالم على موعد مع ولادة الحبيب المصطفى عليه الصلاة والسلام.

والحديث عن مولد سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه.. حديث عن بعثته ورسالته العالمية وأخلاقه الحميدة.

فقد كان أعظم نبي وأفضل رسول.. أرسله الله في خير أمة أخرجت للناس.. رحمة للعالمين..وأنزل عليه القرآن الكريم أعظم كتاب سماوي.

فقد جاءنا بقرآن كالشمس وضحاها، وبسنة كالقمر إذا تلاها، فمن تمسك بهما سار في ضوء النهار إذا جلاها، ومن أعرض عنهما، سار في ظلمة الليل إذا يغشاها.

ما من خير إلا ودلنا عليه وما من شر إلا وحذرنا منه.

تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك.. 

فتح الله به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً.. فتح الله به العقول وأنار القلوب.

فبلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين.. فجزاه الله عنا خير ما جزى نبياً عن أمته ورسولاً عن رسالته ودعوته. وقد مدحه ربه بما منحه..فقال عز وجل: ( وإنك لعلى خلق عظيم ) القلم:4 .

وأقسم الله تعالى بعمره وحياته.. ولم يقسم بعمر أحد من خلقه غيره.. فقال تعالى:{ لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون } الحجر:72 .

وخاطب جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام بأسمائهم..{ وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة} البقرة:35 ..{ قيل يا نوح اهبط بسلام منا وبركات عليك } هود:48 .{ يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا بالحق } الصافات:103 ..{ نودي يا موسى إني أنا ربك } طه:12 .. { وإذ قال الله يا عيسى بن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله ) المائدة:116 .. ونادى نبيه ومصطفاه: { يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً } الأحزاب:45--46 .. { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس..} المائدة:67 . وهذا يرفع من مقام النبي صلى الله عليه وسلم ومكانته عند ربه عز وجل.. إلى أرفع مقام وأسمى منزلة ... والله سبحانه وتعالى يعلمنا بذلك الأدب مع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

ومدحه أصحابه رضي الله عنهم.. الذين عاصروه وعرفوا تفاصيل حياته فقالوا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالناس وأرأفهم بهم .

ولقبته قريش قبل البعثة بالأمين كما روى الإمام أحمد والطبري وابن إسحاق وكتب السيرة النبوية .

وقال الرسول صلى الله عليه وسلم عن نفسه.. متحدثاً بنعمة الله وفضله عليه: " إنما أنا رحمة مهداة " أخرجه الدارمي وابن أبي شيبة بإسناد صحيح .." أنا نبي الرحمة ونبي الملحمة " رواه ابن أبي شيبة وغيره .." إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق " مسند البزار عن أبي هريرة رضي الله عنه .. " أنا سيد ولد آدم ولا فخر ".. " أنا دعوة أبي إبراهيم، وبشرى أخي عيسى، ورأت أمي حين ولدتني نوراً أضاء لها قصور الشام " رواه ابن إسحاق بسنده والطبري في تفسيره والحاكم في مستدركه وقال صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي .. " إن الله عز وجل اصطفى كنانة من ولد إسماعيل، واصطفى قريشاً من كنانة، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم " رواه مسلم عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه, وصححه الترمذي وابن حبان .. 

"... فأنا خيار من خيار من خيار " ابن حجر العسقلاني في الأمالي المطلقة,  من حديث حسن ... " خرجت من نكاح ولم أخرج من سفاح " ابن سعد وابن أبي شيبة في المصنف ... " لم أزل أنقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات " رواه أبو نعيم عن ابن عباس رضي الله عنهما .

وقال عنه جبريل عليه السلام: قلبت مشارق الأرض ومغاربها فلم أجد رجلا أفضل من محمد ، ولم أجد بني أب أفضل من بني هاشم ... القاضي عياض في الشفا وابن كثير في البداية والنهاية وتفسير القرآن العظيم والسيرة النبوية...  ورواه كثير غيرهما . 

لقد جمع سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم العظمة من جميع جوانبها وأطرافها.. وكانت دعوته دعوة عالمية في مداها.. شاملة في موضوعاتها.. وكان مؤمناً بما يدعو إليه.. وهذا سر نجاح الداعية.

وكل موقف من سيرته وحياته الشريفة.. وكل جانب من عظمته المنيفة.. هو معجزة من أكبر المعجزات. فحياته وسيرته كلها معجزة.. عجز عظماء العالم عن أن يتركوا لهم سيرة وحياة مثلها.. وأما معجزته الخالدة الكبرى فهي القرآن الكريم، معجزة المعجزات (4).

وبعد: 

فإن سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم هو الإنسان الكامل، والمثل الأعلى، والأسوة الحسنة، والقدوة الصالحة، ومعلم الناس الخير، وأستاذ الإنسانية، وهادي البشرية .

( لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرا)  الأحزاب:21 .

وذكراه أعظم ذكرى وسيرته أعطر وأعظم سيرة.. ولذلك أحبه البشر والحجر والشجر.. وهو جدير بكل محبة وتقدير واحترام.. عليه الصلاة والسلام .

هذا طرف يسير وجانب من جوانب العظمة المحمدية وقبس من أنوار الشمس المحمدية ... أقدمه إلى أبناء قومي وديني أولاً ... ثم لمن يجهل حقيقة هذا النبي العظيم صلى الله عليه وسلم ، فيعاديه بسبب جهله بسيرته وحياته . والإنسان عدو ما يجهل كما قال سيدنا علي رضي الله عنه ... ( أم لم يعرفوا رسولهم فهم له منكرون ) المؤمنون:69 ... ولو أنهم عرفوه لأحبوه وآمنوا به واتبعوه !!! صلى الله عليه وسلم ، لأنه رحمة للعالمين: ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) الأنبياء:107 .

الهوامش:

(1) من كلام الأديب الكبير مصطفى صادق الرافعي رحمه الله في كتابه القيم: من وحي القلم .

(2) كما حقق ذلك العالم الفلكي المصري محمود باشا رحمه الله تعالى .

(3) من كلام العلامة أبي الحسن الندوي رحمه الله في كتابه القيم: السيرة النبوية .

(4) من كلام العلامة علي الطنطاوي رحمه الله في كتابه القيم سيد رجال التاريخ محمد صلى الله عليه وسلم .

وسوم: العدد 799