كورونا والعلاج المنسي

د. طارق الفواز

استشاري الأمراض المعدية

مدينة الملك فهد الطبية

لا أدري من حين بدأت جائحة "كورونا " ونحن نحيد ونراوغ ونهرب من حقيقة شرعية ثابتة وهي: "ما نزل بلاء إلا بذنب وما رفع إلا بتوبة".. كنت أنتظر خطبة الأمس (أول خطبة بعد الإغلاق) -والخطبة هي الخطاب الشرعي المتبقي هذه الأيام-، كنت أنتظرها بشغف حتى أسمع فيها ما يدور في خلاجتي، ونحن بل والعالم كله يصطلي بحرارة هذا الوباء القاتل الذي أشغل تفكير الناس وملك همهم وطمس على وجه الحياة المعتادة عندهم، لقد ألقى بظلاله على كافة الناس فاستخرج مكنون مشاعر الكبير والصغير والذكر والأنثى ورجل الشارع وصاحب السيادة كلهم أحسوا بالهم والحزن والخوف، وضاقت على كثير منهم الأرض بما رحبت وهم ينتظرون ويترصدون ويتابعون الأرقام اليومية فتعود أبصارهم حسيرة ونفوسهم متحسرة وهي لا تبصر ما يكون في المستقبل القريب، وللنفوس عذر في كثير مما أصابها وأحست به؛ فالعارف بحقائق هذه الجائحه والمتخصص في علم الوبائيات والأمراض المعدية يعلم علم يقين أنها من أشد الأمراض والجوائح التي اجتاحت العالم بأسره في القرن الحاضر، وبمنظور العقل البشري فإن مثل هذا المرض لا يرتفع إلا بأحد أمرين: إما توفر لقاح مناسب له، وهذا لم يتوصل إليه الآن بل حتى لو توصل إليه البشر فيحتاج إلى سنين حتى يجهز ويكون متوفرا لاستخدام من يريده، والأمر الآخر  لتخفيف هذا المرض والخلاص منه هو أن ينتشر هذا الفيروس بين الناس فيغطي ٦٠٪؜ من المجتمع فيكتسب أغلب الناس مناعة منه وهو ما يعرف بالمناعة المجتمعية (وليس حقا تسميتها بمناعة القطيع!)، وعند ذلك يمكن رفع الاجراءات الإحترازية ويكون الناس بإذن الله تعالى إلى حد كبير في مأمن من شدة الفيروس وفتكه وهذا أيضا حتى يحدث يحتاج إلى سنين!! إذن من الصعب على الناس الصبر على الحجر ومواجهة الحالات ورؤية أرقام الوفيات يوما بعد يوم وكأنها أوراق شجرة تتساقط، بل لا أظن الناس يصبرون على هذا شهورا ناهيك عن سنين!!

وبذلك لا يتبقى إلا أمر ثالث وهو عند رب البشر وليس عند البشر ونحن في غفلة عنه ألا وهو رحمة أرحم الراحمين، فهذا الوباء هو في حقيقته داهية ما لها من دون الله كاشفه، بحيث يكشف الله تعالى هذا الوباء ويرفع هذا الداء من الناس بدون آثار مفزعة ولا آلالام موجعة وفي مدة يسيرة، إنه السبب الأعظم الذي أنادي به ولم أسمعه حتى من على أعواد المنابر إلا من رحم الله، إنها الدعوة إلى التوبة والأوبة والرجوع والاعتراف والإعتذار كل ما سمعناه في خطبة الجمعة الماضية هو التذكير بالإجراءات الإحترازية (وهذه قد وعاها الناس لكثرة التذكير بها والتلويح بالعقاب عليها حتى لم يبقى إلا الدواب في حجورها كي تعيها لكثرة الكلام فيها وعليها)، أو التذكير بشكر الله على ما أنعم به، والشكر صحيح أنه عبادة عظيمة وربما كان نصف الإيمان، لكن ليس الشكر هو مقام العبودية المناسب للوقت، فكما لا يخفى على شريف علمكم أن لكل وقت مقام عبودية يناسبه وإلا كنا كمن أضاع الهدف وضل عن سواء السبيل.

إن عبودية هذا الوقت هي التوبة والاستكانة والتضرع بين يدي الله، كما قال أصدق القائلين: (فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا ولكن قست قلوبهم)، وقال الحق جل وعلا :(وما نرسل بالآيات إلا تخويفا)، وقال تعالى: (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون )، فالله عز وجل يبتلينا لنرجع إليه ونصحح خطأنا في حقه وعند ذلك يكشف ما ألم بنا، لكن أقولها  بحرقة ناصح لقد أخطأنا ما يراد منا، وصار أغلب كلام عقلائنا وخاصتنا وعامتنا عن مدى فائدة الحجر وهل يكون كليا أو جزئيا، وعن الاجراءات الاحترازية ومدى تقيد الناس بها، وعن أرقام الحالات وصعودها ونزولها، وصار هذا الهم فقط هو الذي يشغل أذهان خاصة الناس ناهيك عن عامتهم.

ياقوم.. ياقوم ليس بنا داء "كورونا" وإنما داؤنا الحقيقي في دواخل أنفسنا وفي خطأنا تجاه ربنا عزو جل :(ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم)، لقد تمادت بنا الغفلة حتى صرنا في مثل هذه الضائقة نثق بقدرتنا وقوتنا في مواجهة هذا البلاء وصرنا نسمع ليل نهار: أبطالنا  أبطال الصحة سيواجهون هذا المرض، تباعدنا هو سلاحنا الأول في مواجهة هذا الداء، أعظم وسيلة لتجاوز هذه المرحلة التزامنا بالاجراءات الوقائية... وغيرها كثير، مع أن الصواب في مثل هذه الظروف هو اطراح الثقة بالنفس، وتعليق الحول والقوة بالله وحده، مع قصد التضرع إليه والاعتراف بالتقصير في حقه والاعتذار إليه حقيقة وتكرير التوبة والإستغفار.. آه آه لقد وصل بغفلة بعضنا أنه استأنس الوضع الراهن واستسهله إلى درجة أنه يقول: نحن في بيوتنا آمنون مطمئنون، رواتبنا ماشيه وما اشتهينا يوصل الينا، لا عمل ولا تعب وربما ود بعضهم لو استمر الحال على ما هو عليه.. لقد شابهنا ببرود قلوبنا في هذه الملمة برود قلوبنا عند الاستسقاء من القحط، فالطيب منا من يخرج الى الاستسقاء فقط لاقامة الشعيرة، دون صدق اللهج والطلب، و بقلب بارد يزيده برودة برودة الماء في ثلاجته وتوفر الماء في خزانه، فلا يخرج الى الاستسقاء بروح التضرع والانكسار التي كان يحس به من قبلنا الى درجة بكاء العجائز وعويل الأطفال عند الاستسقاء، ولما ذكر القرطبي رحمه الله: انكسار النبي صلى الله عليه وسلم عند استسقائه وتضرعه وخشوعه، قال: فكيف بنا ولا توبة معنا إلا العناد ومخالفة رب العباد فأنى نسقى! اه

أيها الناس أما آن لنا أن نتوب وننكسر ونعود ، ونعترف بجهلنا وظلمنا فعندنا من الظلمات في أنفسنا والمظالم في أحوالنا سواء على الجانب الفردي أو العام ما لو وضع في غربال لسد ضوء الشمس وقرصها!، فلماذا هذه الغفلة بل لماذا هذه الحيدة وهذا الهروب والتعاظم والتعالي؟! والله لا يحب المستكبرين..

خذها مني أخي الكريم وأنا طبيب وأكلمك من الميدان ليست مشكلتنا في قوة الفيروس أو في نقص الأدوية ووسائل الوقاية، مشكلتنا الحقيقية في غياب الخطاب الديني الذي يقول للناس:( وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون)، الخطاب الديني الذي يدعونا للتضرع والاستكانة للرب تعالى.

ماذا ننتظر والمرض قد حل بديارنا والبلاء عاث في أوطاننا وصار يأخذ أحبتنا واخواننا.. يا ناس حقيقة الأمر جد خطير، فاللهم أيقظنا من رقدة الغفلة..

أيها العقلاء، ادعوا أنفسكم وأهليكم وجماعتكم وأصحابكم للتوبة والتضرع والبكاء أن يكشف الله عنا هذا البلاء والداء.

وسوم: العدد 881