تأملات في الركن الخامس من أركان الإسلام

لقد اقتضت إرادة الله عز وجل رحمة بعباده المؤمنين رفع الحرج عنهم فيما تعبدهم به سبحانه وتعالى مصداقا لقوله تعالى : (( وما جعل عليكم في الدين من حرج )). والحرج  عبارة عن ضيق يحصل معه عنت ومشقة ، لهذا أخلى الله تعالى دينه من كل حرج  فيما شرع  فيه من عبادات أو معاملات .

ورفع الحرج في الدين حجة على الذين تعبدهم به الله عز وجل لئلا يكون لهم عليه حجة  يوم الحساب . ومما رفع به سبحانه وتعالى الحرج في الدين على سبيل الذكر لا الحصر الرخص، والكفارات ، والغفران ... ذلك أنه لا يذنب مؤمن ذنبا إلا وكان له في دين الله عز وجل مخرجا رفعا للحرج عنه .

ولقد رفع الله تعالى  الحرج من كل ركن من أركان الإسلام الخمسة كل حسب ما يرتفع به الحرج ، فالصلاة تؤدى بغسل ووضوء ، وفي حال رفع الحرج يسد التيمم مسدهما  ، كما يرفع الحرج بقصرها وجمعها  في أحوال خاصة من غير  الأحوال العادية  . والصوم أيضا  يرفع الحرج فيه في أحوال المرض والعجز والسفر .

والركن الخامس وهو حج بيت الله الحرام رفع الله عز وجل فيه الحرج عمن لا يستطيع إليه سبيلا  مصداقا لقوله تعالى : ((  ولله على الناس حج البيت لمن استطاع إليه سبيل )) ، وقد فصل الفقه في شروط الاستطاعة ،فضلا عن رفع الحرج في كيفيات أداء مناسكه حسب أحوال معلومة.

وإذا ما تأملنا هذا الركن الخامس في كيفية أداء مناسكه  ، والتأمل عبارة عن إعادة نظر أو تدبره بغرض إدراك ما لا يدرك من الأمور لأول نظر ، فإننا نلاحظ أن أحوال الناس فيه تحاكي  أحوال محشرهم  بعد  بعثهم حين تقوم الساعة ، ذلك أنهم  في الحج ينتقلون من شتى أصقاع العالم إلى بيت الله الحرام تماما كما يغادرون الحياة الدنيا إلى الآخرة ، ويودعون الأهل والأقارب تماما كما يفعلون ذلك عندما تحين آجالهم ، وغالبا ما يعبرون عند وداعهم لاحتمال عدم عودتهم من حجهم . ويكون يقينهم في الحج  أنهم يقصدون خالقهم طلبا لعفوه ومغفرته تماما  كما يكون ذلك  حين يلقونه يوم الحساب. وإنهم ليلبسون  في حجهم من الثياب ما يشبه الأكفان التي يلبسونها عند موتهم . وإنهم ليطفون ، ويسعون ، ويقفون  في الحج تماما كما تكون أحوالهم يوم القيام من قبيل ما جاءت إشارات إليه في الذكر الحكيم .. وإنهم ليعودون من حجهم وفيهم من قبل حجه ، وفيهم من رفض حجه  ، تماما كما تكون أحوالهم مختلفة في الآخرة حيث يدخل بعضهم  الجنة ، بينما يدخل البعض الآخر النار والعياذ بالله .

وإن أحوال الحجاج في الركن الخامس عبارة عن مشهد يحاكي مشهد القيامة ، وهو يتكرر كل سنة في الدنيا ليكون موضوع تأمل وتدبر من شأنه أن يذكر الناس بما ينتظرهم بوم الحشر . والحج عبارة عن  فرصة أخيرة يعطاها الإنسان المؤمن ليكون من الناجين بعد رحيله عن هذه الدنيا مصداقا لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه ".  وأية فرصة هذه التي تعيد الإنسان المؤمن إلى حال كحال  يوم ولد ليس عليه ذنب ؟

إنها فرصة كالفرصة التي أعطي آدم  وحواء عليهما السلام بعد خطيئتهما . ومن يدري ربما كان في استغفارهما من الأحوال ما يوجد  مثله في مناسك الركن الخامس  من طواف ،وسعي ، ووقوف ، وحلق أو تقصير، وهدي ، ورمي للجمرات التي لها صلة بإبليس اللعين الذي كان وراء خطيئتهما ، و ندم شديد ،وتضر، وبكاء ، وتوبة من الخطيئة ، ووعد والتزام  بعدم الوقوع فيها ثانية تماما كما يفعل ذلك من يحج ؟

مناسبة حديث هذه الجمعة هو حلول شهر ذي الحجة وهو فرصة لاستحضار المؤمنين الركن الخامس من أركان الإسلام ، وهي فرصة التوبة النصوح سواء لمن استطاع سبيلا إلى الحج أو لمن لم يستطع ذلك . والأولى بمن لم يستطع الحج أن يكون حرصه على التوبة النصوح أشد ولمّا تسنح له فرصة الوفود على ربه سبحانه وتعالى في بيته المحرم . وليست فرصة الوافد عليه هناك تائبا مستغفرا كفرصة المستغفر التائب غير الوافد إلا أن يشاء الله أن يجعل له حظا من المغفرة كحظ الوافد ، وهو سبحانه وتعالى فعّال لما يريد ، ورحمته التي وسعت كل شيء تدرك الوافد وغير الوافد على حد سواء .

والحج أيضا فرصة شكر النعم التي لا تعد ذلك أن كل ما يصيب الإنسان من تلك النعم على اختلاف أنواعها توجب عليه الشكر ، وشكرها إنما يكون باستعمالها في مرضاة المنعم جل وعلا لأن أعظم خطيئة يقع فيها الإنسان هي أن يستعين بنعمه على معصبته سبحانه وتعالى . ومن شكر النعم معرفتها ذلك أن من لا يعرف قدرها وقيمتها لا يمكنه استعمالها في مرضاة المنعم جل جلاله .

ومن الجهل بنعم المنعم سبحانه أن ينسبها الإنسان  إلى نفسه ومشيئته وقدرته مع أنه يعطى كل وسيلة لنيلها بدءا بنعمة وجوده وخلقه ، ومرورا بنعمة العقل الذي يدله على الاستفادة من باقي النعم ، وانتهاء بالوصول إلى كل النعم .

إن الإنسان في هذا العصر وقد ركب الجو ، وغاص في البحار ، ووصل إلى مختلف الاختراعات الدقيقة والمعقدة ... إلى غير ذلك مما أدركه بعقل الله سبحانه وتعالى هو واهبه تغيب عنه مع شديد الأسف أن الفضل للمنعم سبحانه الذي أعطاه هذا العقل ، وألهمه استخدامه للوصول إلى ما أودع في الكون من قوانين ونواميس . وكثير من الناس يعبرون عن إعجابهم بالمخترعين دون أن يفكروا لحظة واحدة في الذي ألهمهم الاختراع ، وذلك من سوء الأدب معه سبحانه وتعالى ، ومن جحود وكفران نعمه .

والحج أيضا فرصة لاستحضار ما نهى الله عز وجل عنه ذلك أن من وفقه سبحانه وتعالى إلى هذا الاستحضار  فاز فوزا عظيما. ولقد فات آدم وحواء عليهما السلام استحضار النهي الإلهي حين دلاهما إبليس اللعين بغرور ، ولم يدركا حقيقته حتى  ضاعت منهما  نعمة المقام  في الجنة ، وكذلك حال كل من لا يدرك خطورة هذا النهي، ولا ينتهي عما نهاه عنه ربه القائل في محكم التنزيل  : (( فأما من طغى وآثر الحياة الدنيا فإن الجحيم هي المأوى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ))  ، وطغيان الإنسان يكون بالغفلة عما نهي عنه ، ويحصل ذلك بالانسياق وراء هوى نفسه التي يغريها الشيطان الرجيم  بالتجاسر على الوقوع في المنهي عنه . ويقابل  طغيان الإنسان بالإقبال على ما نهى الله عز وجل عنه  مخافة مقامه سبحانه وتعالى بالانتهاء عما نهى عنه ، وذلك بكبح جماح نفسه الأمارة بالسوء .

اللهم إنا نسألك نعمة الحج المبرور، ونعمة السعي المشكور، ونعمة الذنب المغفور، و نعمة النجاة يوم النشور ، ونعمة النضرة والسرور.

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد887