(وماكانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رّحِيم)

وجيز التفسير

ونجعل ديدنا محاسبة أنفسنا، ومراجعة مواقفنا، ونوقن أن الله لن يضيع إيماننا..

ويشكل على بعض المسلمين، أمر مراجعة الموقف تصحيحا واستدراكا وتقويما وتسديدا .. بعض الناس تأخذه الحسرة على التضحية والجهد، وبعض الناس تأخذه العزة بالنفس أن يقول أو يقال له أخطأنا أو أخطأت .. ولأولئك وهؤلاء نفتح نافذة بالحق على قوله تعالى ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ) ليظل طلب الأصوب والأقوم للمسلم ديدنا وعنوانا ...

وجيز التفسير

( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ )

وعقل هذه الآية الكريمة، من عقل الإيمان وعقل الإسلام، وعقل الفقه، وعقل الموقف...

والمعلوم من كتب التفسير أن هذه الآية نزلت مع آيات تحويل القبلة، حيث أشكل على بعض المسلمين الموقف في أمر صلاتهم قبل وبعد، فتساءلوا : وما شأن صلواتنا التي صليناها من قبل إلى المسجد الأقصى؟؟ وما شأن إخواننا الذين ماتوا قبل نزول هذه الآيات، فلم يصلوا إلى البيت الحرام قط؟؟!!

فنزل قوله تعالى:

( كَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا ۗ وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ ۚ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۗ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)

والمعلوم أن المقصود الخاص من قوله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) هو ما كان الله ليضيع صلاتكم التي صليتموها - طائعين - إلى بيت المقدس. فكل صلواتكم مقبولة. وتعبير ما كان الله ...تعبير غاية في الدقة رحب في الدلالة وقد قال فيه المفسرون أقوالا جميلة دلالة ومنها أنه لا يليق به سبحانه أن يضيع صلاة من التزم وعمل ..

ولكن الدلالة العامة للفظ "إيمانكم" في سياق الآية تبقى مفتوحة أمام العقل المسلم ، يعقلها ويستظل بظلها، في كل أمر حالا بعد حال ...

وقد يتعبد المسلم ربه بأمر مجتهدا، يقدر فيه الحق والصواب ورضوان الله تعالى ومثوبته، ثم يتبين له بعد أيام أو سنين ، أو بعد فقه ويقين أن ما كان عليه من الأمر - مجتهدا حسب قواعد الاجتهاد - لم يكن هو الأحكم أو الأصوب ، أو لم يكن في دين الله هو الأجمل ..وهنا يجب أن لا يمنعه خوفه أو قلقه على ما سبق وقدم ، أن يتحول إلى ما عرف اليوم من الحق، غير خائف أو متوجس على ما كان من عمله وجهده بالأمس، على سنن الأمس ومعطياته ... لا يمنعه من المراجعة، والفيئة إلى الحق خوفُ فوتٍ، ولا عزة برأي أو نفس..

بل يراجع نفسه، ويقوّم موقفه، كلما كان ذلك ضروريا، ويتحول دائما من الجميل إلى الأجمل، ومن الصحيح إلى الأصح، ومن المرجوح - كما يسميه الفقيه- إلى الراجح، دونما خوف أو قلق على ثواب ما قدم بالأمس، بل يظل يتلو على نفسه وعلى أهله وعلى قومه (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ)

ثم قد يكون حكم الأمر في نفسه متغيرا، مع تغير معطياته ودواعيه، فالصلاة إلى بيت المقدس كانت تكليفا واجبا، قبل نزول قوله تعالى ( فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ) وأصبح الأمر الأول بعد الأمر الثاني متنحيا، وحلّ الثاني في وجوب الطاعة والالتزام محله، فالمكلف في الحالين مطيع. وكذا يمكن للمسلم أن يراجع في كل حين موقفه والتزامه. وقد نص الفقهاء، وعقلنا الفقهي يجب أن يظل دائما حاضرا أنه " لا ينكر تغير الأحكام بتغير الأزمان" ولا بتغير المعطيات، وبالتالي لا معنى للقلق الذي يبديه بعض المسلمين تخوفا حيال كل "مراجعة" للموقف على ضوء ما يستجد، ويتأكد...

من دروس السيرة العظيمة التي قلما وقف عنده الدارسون درس " حصار الرسول صلى الله عليه وسلم للطائف ، بعد غزوة حنين، ثم قراره الانصراف عنها، وما جرى فيه من تفصيل" وقد يكون لنا عود إليه إن شاء الله ..

ومن دروس غزوة مؤتة إعادة تقويم الموقف من قبل سيدنا خالد رضي الله عنه، وانسحابه بجيش " الكرار" من المسلمين وليس جيش "الفرار" كما رآه المستعجلون ..

يعلمنا قوله تعالى (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ) أكثر مما يقدر البعض من خصوص السبب ، تعلمنا عقل الإيمان ، فتطمئن قلوبنا، وتنفي عنها القلق والهم والحزن واليأس حين نكتشف في لحظة أننا كنا مخطئين في تقدير أمر، كنا في تقديره ساعة قدرناه، أو يوم قدرناه، أو سنة قدرناه مجتهدين صادقين مخلصين ... وربما يكون قد كلفنا قصور التقدير يوم اجتهدنا الكثير، وأكثر من الكثير!!

تعلمنا هذه الآية عقل الإسلام ، بحيث لا نعتبر "الثبات" على الاجتهاد الذي اكتشفنا خطأه من أمر الدين ، بل إن أمر الدين الدائم هو أن نتحول من الصواب إلى الأصوب، ومن الصحيح إلى الأصح ، ومن العسير إلى اليسير والأيسر ، دون خوف منا على ثواب ما قدمنا، وما سبق أن بذلنا فيه الجهد بكل طبقاته منا دما وعمرا ومالا ...!!

آية تبعث الطمأنينة ، فنمضي على طريق " المراجعات " التصحيح التصويب والتقويم والتسديد ، وسيكون أهم ما يؤثر في صنع ذلك:

- حقٌ أو علم كان غائبا عنا - بفعل عوامل كثيرة - ثم اكتشفناه وعلمناه ...

- أو مستجد أو معطى فرض نفسه على موقفنا وصار من الواجب بحقنا أن نأخذه بالحسبان. ونفعل كل ذلك ونحن نتلو ( وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا )

وفي كل حال يبقى قوله تعالى ( وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ ) ضمانة أمن وأمان، وجسرا يعبر عليها الواجب الشرعي في التصحيح والتقويم في كل حين.

وهذا من تمام عقل أهل الإسلام وأهل الإيمان وأهل الجد والعمل ...

لا ييأس العاملون العالمون عندما نعيد التقدير فنقول: أخطأنا ، ونقول قصرّنا، ونقول تجاوزنا ونقول فوّتنا .. بل يجب أن نتلقى كل هذا بالصدر الرحب، وبالإيمان، وفوق الإيمان اليقين أن الله لا يضيع أجر المحسنين.

المحسنون من إحسان وإتقان ...

( رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 933