( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنّك في الأمر وادع إلى ربّك إنك لعلى هدى مستقيم )

من أفضال الله عز وجل ونعمه على آدم عليه السلام أنه بعدما خلقه أوحى إليه أنه خالقه ، وأنه هو من أسكنه الجنة ، وأمره أن يأكل منها هو وزوجه حيث شاءا ولم ينههما إلا عن الأكل من شجرة واحدة ابتلاهما بها . وكان ما كان منهما من نسيان لنهي ربهما الذي استغله الشيطان الرجيم للإيقاع بهما ، إلا أن فضل الله عليهما لم ينقطع فغفر لهما ، وأعطاهما فرصة ابتلاء أخرى في الأرض ، ووفقهما للفوز فيها والعودة مرة أخرى إلى الجنة حيث أسكنهما أول مرة جودا وكرما منه جل شأنه .

وعلمت ذرية آدم عليه السلام منه ما علمه هو من رب العزة ، لكن مع تراخي الزمن صار منهم مطيعون له وعصاة ، ومؤمنون به وكافرون ، ولم تنقطع صلته سبحانه وتعالى بالناس بل ظل يوحي إلى صفوة خلقه من الأنبياء والرسل ما أوحي به إلى آدم عليه السلام ،ويوجههم إلى ما به يكون صلاحهم و فوزهم في الابتلاء الذي ابتلاهم به في الحياة الدنيا ليسكنهم الجنة في الآخرة خالدين فيها أبدا. ولم يترك لهم حجة عليه بعد إرسال الرسل إليهم صلواته وسلامه عليهم أجمعين .

وبالرغم من إرسال هؤلاء الرسل، فإن الناس انقسموا إلى فئتين : فئة مؤمنة بربها ، وأخرى كافرة ، أما الفئة المؤمنة فقد التزمت ما شرع لها في كل عصر ، وأما الفئة الكافرة فإنها أعرضت عما شرع لها ، واتخذت من دونه آلهة تعبدها وتقدم لها القرابين التي منها الذبائح ، وصار ذلك عادة ودأبا عندهم .

ومن فضل الله تعالى على عباده المؤمنين أنه تعبدهم العبادة الصحيحة التي يراد بها وجهه جل في علاه ، وجعل لكل أمة منسكا ينسكونه كما جاء في قوله عز من قائل : (( لكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنك في الأمر وادع إلى ربّك إنك لعلى هدى مستقيم )) ، ففي هذه الآية الكريمة إشارة إلى أنه سبحانه وتعالى خص كل أمة بمنسك تنسكه ، وخص أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم بمنسك خاص بها تنسكه ، وهو ملزم للعالمين جميعا إلى قيام الساعة نظرا لعالمية دعوة ورسالة سيد المرسلين عليه الصلاة والسلام مصداقا لقول الله تعالى : (( وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا ولكن أكثر الناس لا يعلمون )) وقوله تعالى : (( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليك جميعا )) وقوله أيضا : (( تبارك الذي نزّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا )) . ولقد أجمع المفسرون على أن المقصود بالمنسك الذي جعله الله عز وجل لأمة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم هو الحج الركن الخامس من أركان الإسلام ، وما يتعلق به من شعائر والتي من بينها هدي يتقرب به إليه جل وعلا .

وتعتبر الأضاحي التي ينحرها المسلمون في عيد النحر منسكا أيضا جعله الله عز وجل لهم . وقد جاء في بعض كتب التفسير أن المنسك يعني العيد والله تعالى أعلم .

وهذا المنسك هو تعبير عن خضوع لأمر الله تعالى وتعبير عن طاعته ، وهو مما يتقرب به إليه شكرا وحمدا على نعمه بما فيها نعم الأضاحي التي ينال بها المسلمون الأجر العظيم لأن دماءها تقع من الله عز وجل بمكان قبل أن تقع بالأرض .،كما أن هذا المنسك يعبر عن توحيد الله عز وجل وتنزيهه عن الشركاء خلافا لما كان عليه أهل الشرك الذين كانوا يقدمون الذبائح لأنداد يعبدونهم من دون الله تعالى سبحانه عن ذلك علوا كبيرا . ولقد كان المشركون في الجاهلية يهرقون دماء ذبائحهم أمام أصنامهم ، ويضعون فوقها من لحومها تعبيرا عن شركهم ، وهو ما حرمه الله عز وجل لدلالته الشركية ، ولذلك جعل هذا المنسك دالا على توحيده وتخصيصه بالألوهية .وبناء على هذا ليست الأضاحي التي يتقرب بها إلى الله عز وجل مجرد دماء تهرق ولحوم تؤكل بل هي أكبر من ذلك لارتباطها بتوحيد الواحد الأحد جل في علاه .

الداعي إلى حديث هذه الجمعة هو تذكير المسلمين بالدلالة الرمزية لهذا المنسك وهو الإخلاص في توحيد الخالق سبحانه وتعالى خصوصا وأن البعض يقعون في خطإ جسيم حينما يتعاملون معه كعادة لا كعبادة ، ويختزلونه في لحوم تؤكل غير مستحضرين الحدث الذي ابتلي به نبي الله إبراهيم الخليل عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام والذي عبر فيه عن منتهى الطاعة لخالقه بما يليق به سبحانه وتعالى من إخلاص في توحيده . وما لم يتشرب الناس هذا الإخلاص بهذا المنسك، فإنهم لن يؤتوه على الوجه الذي يريده الله عز وجل منهم ويرضاه لهم .

ومما يفسد هذا المنسك عند بعض الناس إما غياب أو شبه غياب النية المطلوبة فيه فضلا عن ملابسة ما لا يرضاه الله عز وجل مما يخالف شرعه في بيع أو شراء الأضاحي من تدليس، وغش، وسرقة ، وأيمان كاذبة لمن يبيعونها، وتضجر من يشترونها من صرف أثمانها ، وتبادل التندر بها بين بعض الناس عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وتعمد البعض الآخر ترك سنة النحر والاستخفاف بها تعاليا واستكبارا ... إلى غير ذلك من التصرفات الشائنة التي لا تليق بهذا المنسك الذي يراد به عبادة الله عز وجل وطاعته . وكل هذا يقتضي التنبيه إلى كل ما من شأنه أن يجعل هذا المنسك مجرد عادة لطمس طبيعته التعبدية عن عمد .

ومن نافلة القول التذكير بما شرع الله عز وجل من أحكام ليؤتى هذا المنسك على الوجه المطلوب شرعا كما بلغه عن رب العزة جل جلاله رسوله صلى الله عليه وسلم في أحاديث نبوية شريفة .

ويجدر بكل مسلم أن يستحضر الدلالة الدينية لهذا المنسك وذلك باستحضار وتشرّب قول الله تعالى : (( ولكل أمة جعلنا منسكا هم ناسكوه فلا ينازعنّك في الأمر وادع إلى ربّك إنك لعلى هدى مستقيم )) . فإذا كان كفار قريش قد جادلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر المنسك الذي تعبده به رب العزة جل جلاله ،والذي رضيه له مشيدا باستقامته على الهدى وآمرا له بالدعوة إليه ، فإنه يجب على كل مسلم اليوم أن يتجنب كل ما ينحرف بهذا المنسك عن الهدى المستقيم ،وأن يقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم في الدعوة إلى الله عز وجل استجابة لأمره سبحانه وتعالى .

اللهم إنا نسألك أن تتقبل منا المنسك الذي تعبدتنا به ، وتجعله خالصا لوجهك الكريم ، وترزقنا ما ادخرت له من أجر عظيم عندك يا رب العالمين . اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا . اللهم ادفع عنا ببركة هذا المنسك بلاء الوباء الحالّ بالناس ، واجعله اللهم جالبا لكل خير ودافعا لكل شر.

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 938