أفلح الأعرابي

كثيراً ما نتداول هذه العبارة "أفلح الأعرابي إنْ صدق" على أنها حديث نبوي، جرى مجرى المثل، بمعنى أن الإنسان إذا التزم بما تعهّد به، ولو كان ما تعهد به قليلاً، فإننا نرجو له، ونرجو منه، الخير. كما نستدل بهذه العبارة على أن المسلم يكفيه القيام بالفرائض، ولا عليه إن ترك النوافل والسنن والمندوبات.

نقرر ابتداءً أن العبارة المذكورة هي جزء من حديث صحيح، نورد نَصَّه وبعض رواياته عما قليل، وأن ما نفهمه من كفاية القيام بالفرائض ليس خطأ، لكنه يحتاج إلى مزيد بيان.

ولنبدأ بذكر نص الحديث، فقد رواه، بألفاظ متقاربة، الأئمة مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي والدارمي، وسنذكر هنا أربعاً من روايات الإمام مسلم في صحيحه:

1- عن طلحة بن عبيد الله يقول: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل نجدٍ، ثائرُ الرأس، نسمع دويَّ صوته ولا نفقه ما يقول، حتى دنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: خمس صلوات في اليوم والليلة، فقال: هل عليَّ غيرُهن؟ قال: لا، إلا أن تطوّع، وصيام شهر رمضان، فقال: هل عليَّ غيرُه؟ فقال: لا، إلا أن تطوَّع، وذكر له رسول الله صلى الله عليه وسلم الزكاة، فقال: هل عليَّ غيرُها؟ قال: لا، إلا أن تطوَّع. قال: فأدبر الرجل وهو يقول: والله لا أزيد على هذا ولا أنقُص منه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أفلح إن صدق. وفي رواية أخرى: "أفلح، وأبيه، إن صدق. أو: دخل الجنة وأبيه إن صدق".

2- وفي رواية أخرى: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من سرّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا".

3- وفي حديث آخر، عند مسلم أيضاً، عن جابر قال: أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم النعمانُ بن قَوْقَل فقال: يا رسول الله، أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرّمت الحرام وأحللتُ الحلال، أأدخل الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: نعم.

4- وفي حديث آخر عند مسلم أيضاً: عن جابر أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيتَ إذا صليتُ الصلواتِ المكتوباتِ وصمتُ رمضان وأحللتُ الحلال وحرمت الحرام ولم أزد على ذلك شيئاً أأدخل الجنة؟ قال: نعم. قال: والله لا أزيد على ذلك شيئاً".

ولنتأمل في عبارات الحديث الشريف كما ورد في رواياته الصحيحة المذكورة:

يقول الرجل: "والله لا أزيد على هذا ولا أنقُص منه".

ويقول – في رواية أخرى-: "أرأيت إذا صليت المكتوبة وحرّمت الحرام وأحللتُ الحلال، أأدخل الجنة؟"

ويقول في رواية ثالثة: "أرأيت إذا صليت الصلوات المكتوبات وصمتُ رمضان وأحللتُ الحلال وحرمت الحرام..."

فالرجل يتعهد بأن يقوم بكل واجب من صلاة وصيام، ويلتزم بأحكام الحلال والحرام في كل تصرفاته، فيأتي الحلال، ويتجنب الحرام. وهذا يتضمن القيام بالصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وبر الوالدين... والامتناع عن شهادة الزور وشرب الخمر والزنا والكذب والنميمة والحسد والرياء والكبر... لأنه ما لم يلتزم بهذا كله، وما هو على شاكلته، لا يكون قد أحل الحلال وحرّم الحرام.

وهنا نقف في محطتين:

الأولى: أيّنا الذي يحل الحلال ويحرّم الحرام فعلاً، فلا يقصّر في أي واجب، ولا يقع في أي معصية؟! فكم يقصّر أحدنا في واجباته تجاه ربه سبحانه، وتجاه والديه وأولاده وإخوانه وجيرانه؟! وكم يقع في المحرمات، محرّمات القلب من كِبْر وحسد ورياء... ومحرمات اللسان من غيبة وهمز ولمز... ومحرمات السمع والبصر من استماع ما لا يحلّ، والنظر إلى ما لا يحلّ؟!!

فإذا كنا كذلك، فإننا لم نبلغ بعدُ درجة ذلك الأعرابي، ونحن بحاجة إلى النوافل عَلَّها تَجْبُر ما يحدث من خلل في أعمالنا.

ولنتأمَّل قول الله سبحانه وتعالى يخاطب نبيَّه صلى الله عليه وسلم: }ومن الليل فتهجَّدْ به نافلة لك عسى أن يبعثك ربّك مقاماً محموداً{. فهل سألنا عن الحكمة في وصف النافلة بحق نبينا صلى الله عليه وسلم بأنها: له؟ ألم يكن كافياً أن يقول له ربّه سبحانه: }فتهجّدْ به نافلة{ من غير أن يقول: }نافلة لك{؟!. قال بعض أهل التأويل: إن الزيادة على الفرائض، من قيام ليل وصيام وصدقة... لا تكون نافلة على الحقيقة إلا في حق نبينا صلى الله عليه وسلم، لأنه معصوم عن الوقوع في أي معصية، أو التقصير في أي واجب، فضلاً عن أن الله سبحانه قد غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر، وإذاً فإن ما يؤديه من عبادات سوى الفروض، هي نوافل محضة في حقه صلى الله عليه وسلم، وأما ما يؤدّيه غيره من هذه العبادات فهو نفل من حيث الصورة، وهو جَبْر لنقص، أو مَحْوٌ لسيئة، وقد قال تعالى: }إن الحسناتِ يُذْهِبْنَ السيئات{ سورة هود:114.

ومن المناسب هنا أن نورد أقوال بعض علماء التفسير في هذا:

قال مجاهد بن جبر، التابعي، تلميذ ابن عباس: إنما هي نافلة للنبي صلى الله عليه وسلم، لأنه مغفورٌ له، والناس يحطُّون بمثل هذا [أي النوافل] خطاياهم!.

وأورد الإمام ابن كثير مثل هذا القول في تفسيره. قال: إنما جُعل قيام الليل في حقه صلى الله عليه وسلم نافلة على الخصوص، لأنه غفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخر. وغيره من أمته إنما يكفّر، بصلواته النوافل، الذنوب التي عليه.

ويقول الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي مثل ذلك في تفسيره: }نافلة لك{ أي لتكون صلاة الليل، زيادة لك في علوّ القدر ورفع الدرجات، بخلاف غيرك، فإنها تكون كفارة لسيئاته.

****

المحطة الثانية: قد تخدعك نفسك، وتزيّن لك الزهد في الطاعة، وتنسيك ذنوبك وآثامك، وتضخّم لك طاعاتك، حتى ترضى بما أنت فيه من العمل، وتطمئنَّ إلى حسن المآل، اعتماداً على الفهم المتعجل لحديث "أفلح إن صدق".

ألا فارجع إلى توجيهات كتاب الله تعالى التي تحيي في نفسك الأمل في الوصول إلى رضوان الله تعالى ما دام قلبك متعلقاً به، وما دمت رجّاعاً إلى جادّة الصواب كلما عصيت وابتعدت... وتحضُّك على الإقبال على الطاعات بهمّة ونشاط ومسارعة ومسابقة ومنافسة!!.

عندما ذكر القرآن الكريم طلب الرزق والمعاش قال: }هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه، وإليه النشور{ سورة الملك: 15.

وعندما دعانا إلى طلب جنته قال: سابقوا، وقال: سارعوا. اقرأ قوله تعالى: }وسارعوا إلى مغفرة من ربّكم وجنة عرضها السموات والأرض أُعدت للمتقين{ سورة آل عمران: 133، وقوله سبحانه: }سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السموات والأرض أُعدت للذين آمنوا بالله ورسله. ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. والله ذو الفضل العظيم{. سورة الحديد: 21.

وبعد أن وصف مقامات الأبرار في عليين قال تعالى: }وفي ذلك فليتنافس المتنافسون{ المطففين: 26.

فالنفوس مندفعة، بحكم الحاجات المحسوسة القريبة، إلى طلب الرزق، فطمأنها ربّها إلى أن الأمر يسير، فالأرض ذَلول ممهَّدة ميسَّرة، ويكفي المشي الهيّن لتحصيل الرزق، ومع ذلك فالنشور في النهاية إلى الله، فلا ينبغي الغفلة عن لقائه، والتهاون في الوقوع في الشبهات، فضلاً عن مقارفة المحرمات!.

أما طلب المغفرة والجنة ورضوان الله... فإن النفوس قد تتقاعس وتتكاسل وتثّاقل إلى الأرض، وتقعد عن القيام بموجباتها، من رياضة النفس على الطاعة والتقوى والبذل والجهاد والصبر والشكر والإنابة... فجاءت الآيات الكريمة لتشحذ الهمم، وتحرك العزائم، فتقول للمؤمنين: سابقوا وسارعوا، بل تدعوهم إلى التنافس على الدرجات العلى.

وأصحاب الهمم العالية والنفوس الشريفة التواقة إلى المقامات الرفيعة قد يكتفون بالقليل من متاع الدنيا الفانية، لكنهم يتطلعون إلى ما عند الله تعالى، ويبذلون في سبيل ذلك كل جهد، ويتحملون كل بلاء، ويكابدون كل سبيل توصل إلى رضوان الله، ولو كان فيها تَلَفُ نفوسهم.

ولنستمع إلى عمر بن عبد العزيز، أحد سادة التابعين، وهو يصف حاله في التشوُّق إلى ما عند الله. يقول رحمه الله: "إن لي نفساً توّاقة. ما نالت شيئاً إلا تاقت إلى ما هو أفضل منه... وقد تاقت نفسي إلى الجنة وأرجو أن أنالها".

ونجد آيات الفرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم تحضّ على الطاعات، ما كان منها واجباً وما كان مندوباً، ونجد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يتسابقون إلى هذه الطاعات، ولو كان فيها تعريض النفس لأشد الأخطار، ولمَ لا، ووراء ذلك رضا الله وجنته؟!. اقرأ معي:

عن جابر رضي الله عنه قال: قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد: أرأيت إن قُتِلْتُ فأين أنا؟ قال: "في الجنة". فألقى تمرات كنَّ في يده، ثم قاتل حتى قُتل. متفق عليه. [وهذا يشبه صنيع عمير بن الحمام في غزوة بدر].

وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: "لأعطينّ هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله، يفتح الله على يديه". قال عمر رضي الله عنه: ما أحببتُ الإمارة إلا يومئذ، فتساورتُ لها، رجاءَ أن أُدعى لها. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن ابي طالب رضي الله عنه فأعطاه إياها. والحديث رواه مسلم.

وروى ابن أبي حاتم عن ابن مسعود قال: لما نزلت هذه الآية: }من ذا الذي يُقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفَهُ له، وله أجر كريم{ سورة الحديد: 11. قال أبو الدحداح الأنصاري: يارسول الله، وإن الله ليُريدُ منا القرض؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح" قال: أرني يدك يا رسول الله. فناوله يده. قال: فإني قد أقرضت ربي حائطي، وله حائط فيه ستمئة نخلة، وأم الدحداح فيه وعيالها. فجاء أبو الدحداح فناداها: اخرُجي فقد أقرضتُه ربي عز وجل. قالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح... وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "كم من عِذْق رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح".

والنصوص في هذا، والأخبار، كثيرة متوافرة، وهي تستنهض الهمم، وتشدُّ العزائم، وترغّب في التزام الفرائض والنوافل، فمن أراد اللهُ تعالى به الدرجات العلى وفَّقه إلى ذلك، ومن قعدت به همّته فليكن على مذهب الأعرابي، ولكن لا يخدعْ نفسه فيقصِّر في الواجبات ويرتكب الآثام، ثم يزعم أنه قد أفلح!.

وإذا كانت النفوس كباراً       تعبتْ في مُرادها الأجسامُ

وسوم: العدد 993