( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )

من رحمة الله عز وجل ببني آدم أنه لم يهملهم بعد خلقهم وتكريمهم بل تعهدهم برعايته وعنايته ليحيوا وهم على ما ارتضاه لهم من تكريم ، ومن تفضيل على كثير ممن خلق . ومن رعايته وعنايته أنه سبحانه أرسل المرسلين برسالاته إليهم توجيها لهم إلى السبيل التي ارتضاها لهم وهم يخوضون غمار هذه الحياة الدنيا يختبرهم فيها كي ينتقلوا منها وهي دار ابتلاء إلى الآخرة التي هي دار جزاء وفق ما عملوا في دنياهم من خير أو شر مصداقا لقوله تعالى : (( يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا وما عملت من سوء تود لو أن بينها وبينه أمدا بعيدا ويحذركم الله نفسه والله رءوف بالعباد )) .

ومعلوم أن السبيل التي ارتضاها الله تعالى لخلقه من بني آدم إنما هي تكاليف كلفهم بها ، وهي مجموع أقوال وأفعال بها تحصل استقامتهم على الصراط المستقيم صراط المنعم عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين .

ومن تلك التكاليف التي أمر بها سبحانه آخر المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إلى العالميين إلى حين حلول يوم الدين يوم يحاسب الخلق بين يديه جل شأنه على ما كسبت أيديهم في دنياهم أنه انتدبه لتبليغ هذه رسالته العالمية الخاتمة للناس أجمعين هو من اتبعه من المؤمنين .

ومعلوم أن تبليغ هذه الرسالة هو إيصالها إلى من لم تبلغه، والإخبار بها ليعم الانتفاع بها ، ويكون الخلق سواسية في جني ثمارها . ولقد جاء أمر الله تعالى واضحا جليا بخصوص هذا التبليغ الذي لم يجعله مقتصرا على رسوله صلى الله عليه وسلم بل شمل أيضا  أتباعه من المؤمنين إلى يوم الدين ، وذلك في قوله عز من قائل مخاطبا رسوله الكريم عليه أفضل الصلاة ، وأزكى التسليم ، ومن خلاله مخاطبا كل أتباعه المؤمنين إلى يوم الدين : (( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن تبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين )) ، ففي هذه الآية الكريمة أمر إلهي صريح  بالدعوة إلى سبيل الله عز وجل ، ومعلوم أن هذه السبيل إنما تفضي إلى هدف وغاية ، وقد ألحق الله تعالى ياء المتكلم بها والتي تعود على النبي صلى الله عليه وسلم لتمييزها بأنها السبيل الوحيدة التي يرضاها سبحانه وتعالى ، وهي وحدها المفضية إلى الفوز والفلاح في الآخرة بعد اجتياز مرحلة الدنيا العابرة .

 ومعلوم أن هذه السبيل لا بد لها من دليل يدل عليها ،ويهدي إليها وهي الدعوة إلى شريعة الله عز وجل شريطة أن يكون ذلك على بصيرة التي تعني التمكن من الحجة الواضحة والدليل المقنع ، ويسمى صاحب البصيرة بصيرا أي خبيرا لأنه يكون متمكنا من البرهنة على الحقيقة  التي يدعو إليها، وله على ذلك حجة دامغة ، ودليل قاطع. والقرآن الكريم وهو رسالة الدعوة إلى شرع الله عز وجل زاخر بهذه  الحجج والأدلة ، ومبلغه على الوجه الذي أراده الله عز وجل يكون بصيرا و متمكنا منها . ولقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما وصفه الله تعالى في هذه الآية الكريمة داعيا إلى سبيله على بصيرة هو ومن اتبعه إلى يوم الدين .

ولقد جاء في كتب التفسير أن الدعوة إلى الله تعالى، وهي سبيل رسوله صلى الله عليه وسلم أي شريعته التي كلفه الله تعالى  بإقامتها بين الناس كانت في بداية أمرها زمن رسول الله عليه الصلاة والسلام  فرض عين، فلما استقرالأمر لدين الله عز وجل، صارت فرض كفاية يضطلع بها المؤهلون لذلك ، والناس تبعا لهم في ذلك . والحقيقة أن كل المؤمنين لهم حظهم  في هذه الدعوة ، وهم يختلفون في ذلك حسب ما آتاهم الله تعالى من قدرات ،وإمكانيات ،ومؤهلات .

ومعلوم أن الدعوة إلى الله تعالى تكون بالمقال وبالحال أوبهما معا حسب ما يسمح به الوسع ، ويكفي المؤمن أن يكون سلوكه كما أراد الله عز وجل  ليتحقق بذلك حظه من دعوته إلى السبيل التي أمره بها من خلال أمره الموجه إلى رسوله صلى الله عليه وسلم وإلى كل أتباعه حتى تقوم الساعة  . ومع أن الاستقامة على هذي الإسلام يكفي كحد أدنى لتتحقق الدعوة إلى الله عز وجل ، فإن المؤمن لا يجب أن يدّخر جهدا في القيام بواجب هذه الدعوة بكل ما في وسعه ، وألا يقف في ذلك عند حد معين ، وهو يستطيع أن يتخطاه إلى غيره .

وعلى كل مؤمن أن يستحضر في ذهنه على الدوام أنه مأمور بالدعوة إلى الله عز وجل ، وبذل الجهد  فيما يلزم ذلك من بصيرة  على قدر وسعه عملا بما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله : " بلّغوا عني ولو آية " علما بأن التبليغ عنه يكون بالمقال أو بالحال أو بهما معا ، فرب مبلغ بحال أفضل بمبلغ بالمقال  ، وفي كل خير ، ورب مقال يبارك فيه الله عز وجل لصدق المبلغ، فيحدث في النفوس الأثر البالغ كما هو الشأن بالنسبة للدعاة الربانيين الصادقين .

 مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بفريضة الدعوة إلى الله عز وجل خصوصا وأن سوادهم في هذا الزمان يظنون أن كون هذه الفريضة صارت على الكفاية بعد تمكين الله عز وجل لدينه في الأرض يعفيهم منها لأنها تسقط عنهم حين يقوم بها الدعاة الذين انتدبهم الله عز وجل لذلك ، والحقيقة أنهم معنيون بها كل من موقعه كما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فصل فيه في موضوع المسؤولية حسب الموقع والتي تتدرج من  مسؤولية الإمام  في رعيته إلى  مسؤولية الرجل والمرأة في بيتهما إلى مسؤولية الخادم في مال من يستخدمه ، علما بأن هذه المسؤولية هي تجل من تجليات الدعوة إلى الله عز وجل بحيث يكون كل شخص من موقعه أو مسؤوليته داعيا إلى الله عز وجل بحسن قيامه بما عليه من واجب المسؤولية على ما استرعاه عليه خالقه سبحانه وتعالى ، والتفصيل في هذا الأمر يطول الحديث فيه ، ولكن قد تكفي الإشارة على ذلك من واقعنا المعيش ، فعلى سبيل المثال لا الحصر يكون العامل أو الموظف أو رب الأسرة ... دعاة إلى الله تعالى بأحوالهم في أعمالهم ومهامهم ووظائفهم ، وفي أسرهم حين يصدقون في مهامهم ، ويحسنونها ، فيرى الناس ذلك  منهم، فيؤثر فيهم ويكونون لهم قدوة وإسوة  يدلونهم على ما يجب عليهم  حيث هم في أحوالهم.

ومعلوم أنه لا وجود لمؤمن ليس له حظ أونصيب من الدعوة إلى الله عز وجل وهو في حال من أحواله أو شأن من شؤون دنياه وهو على بصيرة أي لديه حجة وبرهان على أنه في شؤونه تلك وفق  ما أراده منه الله تعالى من استقامة وسداد .

وعلى كل مؤمن يدرك أنه بوسعه أن يدعو إلى الله عز وجل بأكثر مما يفعل أو يقول ألا يتقاعس عن بذل الجهد في إدراك أعلى درجة ممكنة من التبليغ ، وألا يستكين إلى التذرع بذريعة من الذرائع  التي تثبط من عزيمته . وعلينا كمؤمنين حملنا الله تعالى أمانة الدعوة إليه أن نتصور كم من طاقات نملكها فرادى وجماعات لكننا نعطلها تحت ذرائع واهية ، ومن أغرب تلك الذرائع أن يعتقد المؤمن أنه صار في حل من تلك الدعوة لأن دوره انتهى في مهمة أو في عمل كان يقوم به ، فيعطي نفسه رخصة تعفيه من التفكير  فيما  بقي  بوسعه وقدرته من سبل أخرى ممكنة للدعوة دون أن يكون جادا في البحث عنها ليعرض نفسها عليها وليقيس إمكانياته للاضطلاع بها  على الوجه المطلوب منه  قبل أن ينصرف عما لا يطيقه إلى ما يطيقه .

وعلى عموم  المؤمنين أن يكون عندهم  كبار الدعاة إلى الله عز وجل لهم قدوة  وإسوة ، ويكفي أن تظل صلتهم بهم قائمة وهم أحياء وأموات ليكونوا بذلك على سبيل رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصا وأن هؤلا ء  الدعاة  إنما هم ورثته الذين ورثوا عنه العلم  ، وبلغوه عنه ، وملازمتهم تكون في حكم ملازمته عليه الصلاة والسلام خصوصا في هذا العصر الذي أصبح دين الله عز وجل مستهدفا بشكل غير مسبوق من تيارات شتى  فاسدة مفسدة تريد الشر به وبأهله في شتى المجالات ، وهي تعمل معاول الهدم لتقويض البناء الشامخ لقيمنا الإسلامية السامية والأدلة على ذلك لم تعد خافية على أحد  .

وعلينا أن ننتبه ونحذر ما تريده هذه التيارات المخربة  من حيلولة بيننا وبين دعاتنا الأجلاء لصرفنا عنهم ، وتوجيهنا نحو دعاة الفساد والإفساد  الذين ينفخ فيهم الإعلام المأجور ، وحسبنا أن نرى  دعاة  وعلماء أجلاء و هم أعلام شامخة  في الدعوة إلى الله عز وجل يرحلون عن هذه الدنيا دون أن يذكرهم الإعلام  في حين تقام  دنيا  هذا الإعلام لموت  طغاة، أوجهّال، أونكرات ...، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم .

اللهم إنا نسألك أن توفقنا إلى الدعوة إليك على بصيرة .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى  آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 1000