( وذكّرهم بأيام الله إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور )

من المعلوم أن الله عز وجل قص علينا في محكم التنزيل العديد من القصص المتعلقة بأحداث شهدتها أيام لتكون عبرة لنا . ومعلوم أن كلمة أيام كانت تدل  في جاهلية العرب على الحروب التي كانت تدور بين القبائل العربية بسبب الخلافات التي كانت تنشأ بينها بسبب الصراع على مواطن الكلأ أو بسبب العصبية والحمية  أو عقيدة الثأر .

وعندما يذكر الله تعالى أياما ينسبها إلى ذاته المقدسة في قوله عز من قائل : (( وذكّرهم بأيام الله إن في ذلك آيات لكل  صبّار شكور )) ، فإن أيامه سبحانه وتعالى تشمل من ضمن تشمله من أحداث حروبا كانت تدور بين عباده المؤمنين وأعدائهم الكافرين ، فضلا عن كونها تشمل ما كان يهلك به سبحانه وتعالى الأقوام الطاغية التي كانت تكذب رسله الكرام صلواته وسلامه عليهم أجمعين ، وتشمل أيضا ما كان يسبغه سبحانه وتعالى من نعمه على عباده المؤمنين.  

والآية السابقة جاءت في سياق الحديث عن نبي الله موسى عليه السلام حيث سبقها قوله تعالى : (( ولقد أرسنا موسى بآياتنا أن اخرج قومك من الظلمات إلى النور )) ، ومناسبتها هي تكذيب المشركين رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو تكذيب رد عليه الله تعالى بقوله : (( وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم فيضل الله من يشاء ويهدي من يشاء وهو العزيز الحكيم )) ، وجاء بعد ذلك الحديث عن نبي الله موسى عليه السلام كدليل على صدق رسالة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم كنظيرتها رسالة موسى عليه السلام، ولنفس الغاية وهي إخراج من ترسل إليهم من ظلمات الكفر والشرك إلى نور الإيمان . و لقد أمر الله تعالى نبيه موسى عليه السلام بتذكير قومه بأيام نصرهم فيها على عدوهم الطاغية  فرعون ، وبأيام أخرى أسبغ عليهم فيها من تعمه ، وتذكيرهم بها يستوجب شكرها، لهذا ذكر الله تعالى أن في تلك الأيام آيات وأدلة للصابرين  من عباده المؤمنين على ما يبتليهم به من أعدائهم ، والشاكرين نعمه عليهم سواء تعلق الأمر بنصرهم على عدوهم أو بإسباغ نعم أخرى عليهم .

وأمر الله تعالى نبيه موسى عليه السلام تذكير قومه بأيام نصرهم وأيام الإنعام عليهم، هو أمر أيضا لرسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يذكر المؤمنين بأيام خاصة بهم تتعلق بنصرهم على أعدائهم الكفار والمشركين ،  تذكيرهم أيضا وبما  أسبغ عليهم من نعمه . وهذا الأمر الإلهي سيبقى ساري المفعول إلى قيام الساعة بحيث يلزم المؤمنين في كل زمان ومكان أن يتذكروا مختلف أيام الله عز وجل سواء تلك التي عاشها السلف الصالح في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أو تلك التي كانت بعد التحاقه بالرفيق الأعلى إذ لا يخلو الزمان من أيام ينتصر فيها المؤمنون على أعدائهم أو تسبغ عليهم نعم الله تعالى .

وما دمنا في شهر رمضان الأبرك، وفيه من أيام الله عز وجل يوم غزوة بدر الكبرى الذي نصر فيه الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ،ومن كان معه من صحابته الكرام رضوان الله عليهم أجمعين على أعدائهم المشركين نصرا تجلت فيه قدرة الله عز وجل حيث غلبت الفئة المؤمنة القليلة العدد والعدة الفئة المشركة الكثيرة العدد والعدة كما جاء ذلك في قوله تعالى : (( ولقد نصركم الله ببدر وأنتم أذلة فاتقوا الله لعلكم تشكرون )) . ولقد كان هذا اليوم العظيم الذي يصادف السابع عشر من شهر رمضان في السنة الثانية للهجرة يوما مشهودا حيث التحم بالفئة المؤمنة القليلة ملائكة كرام قاتلوا معهم ، فكان نصر الله تعالى لتلك الفئة انتصارا لدينه الذي أراد له أن ينتشر ويسود في المعمور حتى تقوم الساعة .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين ونحن على بعد يوم واحد من حلول ذكرى يوم بدر بفضل الله تعالى علينا، لأن ذلك اليوم المشهود من أيام الله تعالى، وهو يعني كل مؤمن ومؤمنة إلى قيام الساعة إذ لولاه لما تمتع المؤمنون بنعمة الإسلام التي هي خروج من ظلمات الضلال إلى نور الهداية .

 ولقد خلّد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر بإشارة إلى هذه النعمة حيث قال وهو يبتهل إلى الله عز وجل قبل النزال مع المشركين  : " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " ، فهذا القول يعكس مدى قيمة يوم بدر عند المؤمنين في كل زمان، وفي كل مكان إلى قيام الساعة إذ لولاه لما عرفوا نعمة الإسلام .

ومن التذكير بهذا اليوم من أيام الله عز وجل أن يحصل اليقين الذي لا يمكن أن يرقى إليه شك بأن الله عز وجل لا يخلف وعده للمؤمنين بالنصر على ما  قد يكون فيهم من قلة ومن ذلة في كل زمان إلى قيام الساعة إذا ما صبروا واحتسبوا واستماتوا في سبيل الله عز وجل ، ومن أجل دينهم .

ولا شك أن المؤمنين المرابطين في أرض الإسراء والمعراج ، والمنافحين عن دينهم وعن مقدساتها ، وعلى رأسها المسجد الأقصى أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين ،يشملهم لا محالة وعد الله الناجر الذي وعد به سبحانه وتعالى في محكم التنزيل ، كما وعد به رسوله صلى الله عليه وسلم ، والذي هو حاصل لا محالة  بعد  كل طغيان يكون من أعداء هذا الدين فوق تلك الأرض المقدسة والمباركة .

 ولما كان الله تعالى قد عقب بعد أمره موسى عليه السلام، وأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفس الأمر ، وهو التذكير بأيام الله عز وجل  بقوله : (( إن في ذلك لآيات لكل صبّار شكور )) ، لزم كل مرابط بالأرض المقدسة أن يتسلح بالصبر اقتداء بمن سبق من المؤمنين الذين كانوا يؤذون من طرف أعدائهم ، وهم أذلة ، وإن الصبر لهو أول سلاح من الضروري التسلح به لمواجهة الأعداء ، وهو بمثابة النور الذي يقهر الظلمة  ويطردها .

ويلزم كل المؤمنين في كل أرجاء المعمور أن يذكروا يوم بدر، وكل أيام الله تعالى التي سجلها التاريخ ، وكان فيها النصر حليف المؤمنين ، ويلزمهم ألا يستسلموا لليأس حين يطغى أعداء دينهم بل عليهم  بالثبات والصبر عليه ،لأن الله تعالى كتب له أن يظل موجودا ، وظاهرا على الدين كله إلى قيام الساعة . ولقد مرت فترات  تاريخية على المؤمنين كانوا يظنون أن لن ينصرهم الله تعالى ، ولكنهم نصروا، لأن الله تعالى وعد بنصر من ينصر دينه فقال جل شأنه : (( إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم  )) ، كما قال أيضا : (( إن ينصركم الله فلا غالب لكم )) ، وهذا النصر لا يمكن أن ينال إلا بقوة إيمان  والثبات على الدين ،والإخلاص والصبر، وأخذ بالأسباب كما أمر الله سبحانه وتعالى .

وجدير بالذكر أن نصر الله تعالى كما يكون في النزال المسلح، يكون في غيره ، فمن نصر دين الله عز وجل بلسانه أو بقلمه أو بماله ... أو بغير ذلك مما يمكّن له في الأرض، ناله نصر الله تعالى . وإننا في هذا الزمان لنعاين هذا النصر الموعود في كثي ر من أرجاء المعمور حيث يقيّض الله تعالى من الدعاة إليه من يهتدي على أيديهم كثير من الناس الذين لا عهد لهم بالإسلام .

ومن نصر الله  تعالى أن ينبري الدعاة إليه للرد على أعداء الإسلام من كفار ومشركين ومنافقين ، وفي دعوات هؤلاء الدعاة تذكير بأيام الله عز وجل .

اللهم إنا نحمدك الحمد الذي يليق بجلالك وعظمتك، ونثني عليك الثناء الذي يرضيك وترضى به عنا على منن أيامك التي أعززت بها دينك ، وأظهرته على الدين كله ، ونصرت  فيها عبادك المؤمنين على أعدائهم . اللهم لا تحرمنا  أبدا نعمة  النصر على أعداء دينك في كل زمان ومكان .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

وسوم: العدد 1027