الخاطرة ٣٦٤ : الطامة الكبرى في حديث المداواة ببول الإبل

بعد ستة قرون من ظهور الديانة المسيحية ، نجد أن دور التعليم أصبحت بشكل تدريجي تحت السيطرة المطلقة لرجال الكنيسة فاختفت الجامعات والمدارس التي كانت تبحث وتطور جميع العلوم بمختلف فروعها وتحولت إلى دور تعليم تهتم فقط في تعليم النصوص الدينية ، مما أدى إلى ركود فكري ودخول الأمة المسيحية في عصور الظلام والتي نسميها اليوم (القرون الوسطى) . لهذا نجد في القرن السابع أن الله يُرسل رسول آخر ليجدد الفكر وليتمم مكارم الأخلاق (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق).

نفس الشيء أيضا حصل مع الحضارة الإسلامية بعد ستة قرون من ظهور الإسلام ، حيث دخلت هي الأخرى في عصور الظلام أو ما يسمى القرون الوسطى للأمة الإسلامية ، فنجد أن دور التعليم شيئا فشيء قد أصبحت تحت السيطرة المطلقة لرجال الدين ، فتوقفت البحوث العلمية في علوم الطب والفلسفة والفلك والرياضيات والجغرافيا وتحولت دور التعليم إلى دور تعلم النصوص الدينية فقط. فتحولت الأمة الإسلامية إلى أمة متخلفة عُلماؤها أصبحوا يقدسون كتب التراث ولا يسمحوا لأي شخص أن ينقد أي نص موجود في هذه الكتب ، فرغم أن بعضهم شعروا بوجود أخطاء في هذه النصوص ، ولكن سيطرة رجال الدين على دور التعليم دفعتهم بدلا من تصحيحها أو رفضها ، أن يبحثوا عن مبرر لها لتبقى كما هي دون أي تجديد أو تصحيح . وإذا تمعنا اليوم في طريقة دفاع علماء الدين عن صحيح البخاري ، سنجد كم هم بارعون في استخدام اسلوب (اللف والدوران) ليجعلوا الحوار بأكمله يخرج عن هدفه الرئيسي وهو الوصول إلى حقيقة المعلومة الموجودة في الحديث . وأفضل مثال يوضح للقراء أسلوب (اللف والدوران) الذي يستخدمه علماء الدين اليوم في الدفاع عن صحيح البخاري ، هو تلك المناظرة التلفزيونية التي حدثت في برنامج (العاشرة مساء ، حلقة ٢٠١٤/٨/١٢ - وائل الأبرشي الجزء ٣/٤) بين الدكتور أحمد عمارة استشاري الصحة النفسية ، والدكتور عماد الشربيني استاذ علم الحديث في جامعة الأزهر ، والشيخ عبد العزيز النجار المدير العام لمجمع البحوث الإسلامية . حيث نجد أن ٩٩% من تعليقات المشاهدين التي تجاوزت (٤،٩) ألاف تعليق ، كانت تشتم وتسخر من أسلوب عالم الحديث والشيخ في النقاش ، فجميع المشاهدين لاحظوا أن العالم النفسي أحمد عمارة كان يُركز على المعلومة في الحديث بأنها تسيء إلى شخصية النبي صلى الله عليه وسلم، أما عالم الحديث والشيخ مدير مجمع البحوث الإسلامية كان هدفهم الأول هو الدفاع عن صحيح البخاري .

في المقالة الماضية تحدثت عن حقيقة صحيح البخاري ، حيث ذكرت أن هذا الكتاب يعارض أهم مبدأ من مبادئ القرآن والكتب المقدسة ، وهو مبدأ ثنائية شخصيات الرسالة الإلهية (رسول - نبي) ، والتي يتم عليها تكوين الدين . في مقالة اليوم إن شاء الله سنبحث في حقيقة حديث مذكور في البخاري وهو حديث المداواة ببول الإبل ، لنبين للقراء بأن هناك العديد من الأحاديث باطلة موجودة في كتاب البخاري تجعل من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم شخصية عشوائية متناقضة ، ساهمت في إنحطاط الأمة الإسلامية وفي تشويه شخصية النبي ودين الإسلام في نظر بقية الأمم. فحديث المداواة ببول الأبل يُظهر تماما بأن الرموز الروحية التي تصف الشخص الموجود في هذا الحديث تعارض نهائيا رموز رسول الله صلى الله عليه وسلم في القرآن الكريم وفي سيرة حياته .

حديث المداواة ببول الإبل ذُكر في صحيح البخاري في ١٣ رواية وهذه هي أرقامها :

(٢٢٦ - ١٤٠٥ - ٢٧٩٥ - ٣٨٧١ - ٤٢٤٤ - ٥٢٥٣ - ٥٢٥٤ - ٥٢٨٦ - ٥٣٣٥ - ٦٣٠٤ - ٦٣٠٦ - ٦٣٠٧ - ٦٣٩٠) ونص الحديث كما يلي : (حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالَ حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ أَبِي قِلابَةَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: قَدِمَ أُنَاسٌ مِنْ عُكْلٍ أَوْ عُرَيْنَةَ فَاجْتَوَوْا الْمَدِينَةَ فَأَمَرَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِلِقَاحٍ وَأَنْ يَشْرَبُوا مِنْ أَبْوَالِهَا وَأَلْبَانِهَا فَانْطَلَقُوا فَلَمَّا صَحُّوا قَتَلُوا رَاعِيَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَاسْتَاقُوا النَّعَمَ فَجَاءَ الْخَبَرُ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ فَبَعَثَ فِي آثَارِهِمْ فَلَمَّا ارْتَفَعَ النَّهَارُ جِيءَ بِهِمْ فَأَمَرَ فَقَطَعَ أَيْدِيَهُمْ وَأَرْجُلَهُمْ وَسُمِرَتْ أَعْيُنُهُمْ وَأُلْقُوا فِي الْحَرَّةِ يَسْتَسْقُونَ فَلا يُسْقَوْنَ قَالَ أَبُو قِلابَةَ فَهَؤُلاءِ سَرَقُوا وَقَتَلُوا وَكَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَحَارَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ) .

هذا الحديث يتألف من قسمين : في القسم الأول نرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يصف بول الأبل كدواء لمعالجة بعض الأمراض . أما في القسم الثاني فنرى أن رسول الله يعاقب أولئك الذين تم شفائهم والذين قتلوا الراعي وسرقوا الأبل ، بقطع أيديهم وأرجلهم وفقئ أعينهم ، وتركهم في الحرة حتى يموتوا .

معظم علماء الدين أثناء دفاعهم عن صحة الحديث يهتمون بالقسم الأول من الحديث أما القسم الثاني فكأنه بالنسبة لهم أمر طبيعي أن يأمر رسول الله بقطع الأيدي والأرجل وفقئ الأعين وترك الناس تتعذب من الألم والعطش والجوع والحر حتى يموتوا عقابا لهم لأمر ما فعلوه .

لنبحث في البداية في حقيقة القسم الأول من الحديث . إذا تمعنا جيدا في تلك الأدلة التي يستخدمها علماء الدين في الدفاع عن صحة الحديث ، سنجد أنهم في البداية يؤكدون بأن الحديث يحقق جميع شروط الحديث الصحيح . فتحقيق شروط الحديث بالنسبة لهم أهم بكثير من المعلومة الموجودة في الحديث (شرب بول الأبل) . ثم نجدهم يذكرون بعض آراء الأطباء في فوائد بول الأبل في معالجة بعض الأمراض . فمثلا عالم الأزهر الدكتور عبدالله رشدي في أحد الفيديوهات التي ينشرها ليثبت صحة هذا الحديث، نراه بعد تأكيده لتحقيق الحديث الشروط المطلوبة يذكر عنوان رابط علمي باللغة الإنكليزية ليتأكد المشاهدون بأن العلم يوافق على أن بول الأبل له فوائد عديدة في معالجة بعض الأمراض . والمسلم البسيط الذي سيرى هذا الفيديو سيقتنع تماما بصحة الحديث وبأن بول الأبل فعلا فيه علاج لبعض الأمراض . ولكن الحقيقة مختلفة تماما فهذا الحديث باطل ويُسيء لشخصية رسول الله ، ومن يؤمن بصحة هذا الحديث وكأنه يجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم سُخرية في أعين جميع الأمم .وسنحاول في الأسطر القادمة إثبات صحة هذه الفكرة .

هنا لن ندخل في تفاصيل موضوع شروط الحديث الصحيح ، ولكن سنلخص هذا الموضوع قدر المستطاع ، فحسب رأي علماء الدين بأن رواة هذا الحديث جميعهم يتصفون بصفات التقوى والعدالة ، ولكن حتى يتم التأكد من صفة التقوى والعدالة يجب أن يضاف إلى هذه الصفات المبدأ الذي تكلمنا عنه في المقالة الماضية ، أي أن الراوي يجب أن يشعر بقلبه وعقله بمكانة علي عليه السلام في تكوين الأمة الإسلامية ، فالحديث الشريف يقول عن علي (لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق) . وإذا بحثنا في رواة حديث المداواة ببول الإبل سنجد أن أبو قلابة عبد الله بن زيد الجرمي مثلا هو من أهم رواة هذا الحديث ، حيث يُذكر أسمه في ٦ روايات من ١٣ رواية في صحيح البخاري . فنجد في سيرة الأعلام الطبقة الثانية (ص٤٦٨) أن أحمد عبد الله يقول عن أبو قلابة أنه كان يَحمل على علي ولم يرو عنه شيئا ، أي أنه كان يُسيء إلى علي عليه السلام وينكر أحاديثه .فكيف نقبل حديثا من شخص يبغض عليا . وأيضا الذهبي في ميزانه قد ذكر أن أبو قلابة كان يُدلس عمن لحقهم وعمن لم يلحقهم وكان له صحف يحدث منها ويدلس (التبيين لأسماء المدلسين ج: ١ ص: ٢٦٢). فكيف نقول بأن حديث المداوة ببول الإبل يحقق جميع شروط الحديث الصحيح وأحد أهم رواته يبغض علي ويدلس . وإذا بحثنا عن بقية رواة الحديث وهم : قتادة بن دعامة ، الوليد بن مسلم ، سفيان بن عيينة . أيضا نجد أن بعض العلماء يتهمونهم بالتدليس . وهذا يعني أن هذا الحديث لا يحقق أهم شرط من شروط الحديث الصحيح وهو عدالة الرواة .

علماء الدين اعتمدوا شروط الحديث الصحيح ، ولكن المعلومة التي هي صلب موضوع هذا الحديث هي معلومة طبية ، فهل هذه المعلومة تحقق شروط علم الطب في علاج الأمراض كي تستخدم كمعلومة طبية ؟ فرسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينطق عن الهوى فكلامه هو وحي من الله عز وجل ، ولهذا يجب أن تكون المعلومة الطبية في الحديث صحيحة ١٠٠% .

الحديث في معظم روايته يبدأ بهذه المعلومة ( ناس اجتووا المدينة) أي لم يألفوا ولم ينسجموا مع مناخها فسببت لهم بعض الإضطرابات في صحتهم . ومن المعروف علميا أن تغير المناخ يعني تغيرات في درجات الحرارة وفي نسبة الرطوبة وفي الضغط الجوي ، لهذا فمن الطبيعي أن تؤثر هذه التغيرات على أنظمة أجهزة الجسم ، ولكن هذه التغيرات ليست ثابتة وتختلف من مكان إلى آخر ومن إنسان إلى إنسان آخر . فمن أعراض تغير المناخ في جسم الإنسان قد يكون الشعور بالصداع ، أو صعوبة في التركيز ، أو مشاكل في النوم ، أو آلام وأوجاع في بعض أجزاء الجسم وخاصة المفاصل ، أو قد يحدث إضطراب في عمل القلب . وتختلف شدة هذه الأعراض أيضا من شخص إلى آخر . فكل حالة من هذه الأعراض لها علاجها الخاص ، ولا يمكن هنا أن نستخدم نفس العلاج في جميع الحالات ، فمثلا استخدام نفس العلاج في حالة إنخفاض ضغط الدم أو إرتفاعه قد يؤدي إلى وفاة المريض لأن إنخفاض ضغط الدم حالة معاكسة لإرتفاعه . فالمعلومة المذكورة في الحديث تتكلم عن حالة عامة بدون أي تفاصيل دقيقة بحيث لا تسمح بتشخيص الأعراض ولا بكمية الجرعة ولا بعدد الجرعات اليومية ولا أي شيء آخر . فأن يُعطى بول الأبل كدواء شامل لجميع هذه الأعراض وبدون تحديد كمية الجرعة الواحدة وعددها هو نوع من الشعوذة ولا علاقة له بعلم الطب . فنحن هنا نتكلم عن حديث شريف أي عن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس عن كلام إنسان يمكن أن يصيب أو يخطئ . فكلام رسول الله هو من وحي إلهي فيه خير للناس ولا يمكن أن يسبب أي أذى للبشر .بينما المعلومة الموجودة في الحديث تعارض ذلك . فكثير من الأطباء في المستشفيات القريبة من المناطق المتخلفة والفقيرة يشكون من كثرة المرضى الذين استخدموا بول الأبل في معالجة الأمراض التي يعانون منها فوجدوا أنها بدلا من أن تشفيهم سببت لهم فشل كلوي وفشل كبدي . يقول الدكتور هشام الخياط أستاذ الكبد والجهاز الهضمى " يحدث للأسف بمرسى مطروح بدون أى تراخيص شرب بول الإبل لعلاج مرض الكبد والاستسقاء وفيروس سى وهذا للأسف جهل وتخلف يجرنا للوراء آلاف السنين فبول الإبل به سموم كثيرة ونسبة البولينا هى مادة سامة يتخلص منها الجسم فى البول وتصل إلى ١٠ آلاف ملى جرام فى اللتر وهى نسبة عالية تكفى لعمل فشل كلوى لمن يتناولها هذا بالإضافة لوجود سموم أخرى ونسبة عالية من الصوديوم فى بول الناقة تجعل مرضى الاستسقاء يتطورون للأسوأ ويحدث زيادة فى حجم البطن من جراء تناول هذا البول المليء بالصوديوم وليس هناك أى فوائد طبية من تناول هذا البول لمرضى الفيروسات الكبدية فكثيرا من مرضى الكبد تم خداعهم بهذا العلاج وأتوا للعيادات والمستشفيات بعد إصابتهم بفشل كبدى حاد."

إن النتائج السلبية لاستخدام بول الأبل كما تكلم عنها هذا الطبيب هي نتيجة طبيعية لهذا الحديث المدسوس على كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنه حديث لا يراعي أي شرط من الشروط الطبية في معالجة الأمراض . فمنطقيا من المستحيل أن يكون هذا الحديث من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم . لأن أضراره أكثر بكثير من منافعه .

كثير من علماء الدين اليوم ، يذكرون بعض المواقع العلمية الطبية عن بول الأبل التي حسب رأيهم تؤكد صحة هذا الحديث . بينما الحقيقة هي أنه لا يوجد حتى الآن أدلة علمية كافية حول فوائد بول الإبل واستخداماته، كما إن الدراسات العلمية التي قامت بدراسة فوائده تمت بشكل أساسي على الحيوانات وخلايا مأخوذة من الإنسان، إي أنه لم يتم التأكد من تحقيق هذه الفوائد في حال استخدام الإنسان لبول الإبل ، وإحدى الدراسات التى أجريت لإثبات مدى فاعلية بول الإبل لعلاج الأمراض وبخاصة السرطان، والتى أجريت على الفئران، وجدت أن له تأثيرات سامة وخطيرة جداً عليها، ووجد أن تأثيره السلبى أخطر من العلاج بالكيميائى، حيث أنه يقضى على حياة متعاطيه تماماً.

هناك بعض الأطباء نشروا أبحاثهم الخاصة على فوائد بول الأبل وأكدوا على أن نتائجها هي صحيحة ، ولكن أبحاثهم هذه لم يتقبلها الوسط العلمي الطبي فظلت على هامش علم الطب ولم يستخدمها أحد . فأي طبيب يمكن له أن يقوم بأبحاثه الخاصة وينشرها ، ولكن قيمة هذا البحث العلمي هي التي تحددها منظمات الصحة لتدفع جميع الأطباء في استخدامها في علاج المرضى أو رفضها . فصحيح أن هناك بعض الأطباء يؤكدون على فعالية بول الأبل كعلاج لبعض الأمراض، ولكن الأطباء الذين يحذرون من المداواة ببول الأبل هم النسبة الأكبر بين أطباء العالم . فنحن هنا لا نتكلم عن عقيدة ، ولكن نتكلم عن معلومة علمية مادية يمكن التحقق من صحتها أو خطئها، والنسبة الأكبر من أطباء العالم يرفضون تماما المداواة ببول الإبل . فحديث المداواة ببول الإبل هو حديث مرفوض علميا . يقول الله عز وجل{ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَىٰ عَلَى الْعَرْشِ ۚ الرَّحْمَٰنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (٥٩) الفرقان} ، والخبير هو المتخصص في العلم الذي تنتمي إليه المعلومة ، وفي حديث المداواة ببول الأبل الخبير هو المتخصص في علم الطب . وكما ذكرنا أن النسبة العظمى من الأطباء يرفضون صحة هذه المعلومة ، وهؤلاء هم فقط الذين معهم الحق في تقييم هذا الحديث ، وليس علماء الدين الذين علومهم لا علاقة لها بعلم الطب .

كثير من المفكرين الإسلاميين منذ سنوات عديدة يحاولون بطريقة مشابهة لما ذكرته قبل قليل لإثبات أن حديث المداواة ببول الإبل هو حديث باطل ، ولكن حتى الآن لا يزال علماء الدين يصرون على أن الحديث صحيح ويدافعون عنه بشراسة ، حتى أن الشيخ صالح بن فوزان الفوزان وبسبب ازدياد عدد الذين يهاجمون هذا الحديث ، أفتى بأن من لم يعترف بصحة حديث العلاج ببول الإبل ، فهو "زنديق وملحد ولا يقبل قوله . للأسف هذا الأسلوب في محاولة إغلاق فم المفكرين ، هو نفس أسلوب رجال الكنيسة في القرون الوسطى . فبدلا من أن يتعاون رجال الدين مع لجنة خاصة من الأطباء للبحث بشكل علمي في كشف حقيقة فوائد وأضرار بول الابل ، ليتم حذف الحديث من الكتب الدينية إذا كانت الأبحاث ذات نتائج سلبية ، أو أن يصبح هذا الحديث محط أنظار جميع العلماء إذا كان فعلا بول الأبل يعالج الأمراض ليستفيد منه الناس في جميع العالم . ولكن علماء الدين حتى الآن مصرون على أن الحديث هو صحيح لأنه يحقق شروط المطلوبة ويصدقون فقط ذلك الطبيب الذي كان هدف بحثه هو إثبات صحة الحديث وليس الوصول إلى الحقيقة .

طالما أن علماء الدين لا يزالوا مصرين على صحة هذا الحديث ، سنحاول بطريقة فلسفية إثبات أن هذا الحديث هو حديث باطل لأنه يعارض الحكمة الإلهية في تطور الديانات .

من يتابع مقالاتي من البداية يعلم تماما بأن أبحاثي جميعها تعتمد على شرح التعبير الروحي في الأشياء والأحداث بهدف الوصول إلى حقيقة الشيء أو الحدث ، ولهذا صفحتي تحمل عنوان ( عين الروح) . فكل حدث وكل شيء من حولنا وضع الله فيه رموز معينة وهذه الرموز هي تعابير روحية تعبر عن مضمون الشيء أو الحدث ، فالتعبير الروحي للشيء أو الحدث هو بمثابة الصورة الروحية له . فكل ردة فعل أو تصرف في سلوك الإنسان هو عبارة عن رمز يعبر عن تكوينه الروحي أي عن صورته الروحية .

في المقالة الماضية شرحنا مبدأ ثنائية المسؤولية (رسول - نبي) في تكوين الدين ، وذكرنا أن موسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام ، هم من أخذوا تكوين القسم الروحي لديانتهم ، وحتى نفهم ونشعر بعناصر الصورة الروحية لمحمد صلى الله عليه وسلم ، لا بد أن أن نعود إلى هذه الديانات السماوية ونرى الحكمة الإلهية في تطور عناصر الصورة الروحية في الرسول المسؤول عن تكوين القسم الروحي لديانته .

في سفر الخروج نجد أن جميع المعجزات التي حصلت في بعث الخوف في فرعون وقومه من أمراض وكوارث قد خرجت من يد هارون وليس من يد موسى عليهما الصلاة والسلام ، ففي كل معجزة قبل أن تحصل كان موسى يعطي العصا لأخيه هارون أي أن الله عز وجل كان يستخدم هارون وليس موسى بمعاقبة الكافرين بالأمراض والكوارث ، لأن هارون هو المسؤول عن القسم المادي لتكوين الديانة اليهودية . أما موسى فكانت معجزاته فيها خير للناس وليس مصائب ، فمنها مثلا أنه ضرب الصخرة بعصاه فخرج الماء منها ليروي عطش قوم موسى . وكذلك نجد أن الله في آخر حياة موسى منعه من دخول أرض الميعاد كنوع من العقاب لأنه قبل هروبه من مصر ارتكب جريمة قتل ، وهذا الفعل كان يعارض تكوينه الروحي ، لأن التكوين الروحي لموسى عليه السلام كان خاليا من غريزة القتل .

في الديانة السماوية الثانية (المسيحية) نجد أن الله عز وجل يستخدم عيسى عليه الصلاة والسلام المسؤول عن القسم الروحي لتكوين هذه الديانة ، بعكس استخدامه لهارون عليه السلام ، فنجد أنه بدل من أن يرسل الأمراض على الناس نجده يعطي عيسى عليه الصلاة والسلام معجزة شفاء الأمراض ، وبدلا من أن يقتل الكافرين كما حصل في جنود فرعون ، نجده يحيي الموتى ، وبدلا من أن يثور على الإستعمار الروماني الذي كان يحتل بلاده ، نجده يدعو إلى المحبة والسلام بين جميع البشر ويطلب منهم الصبر على إساءة الآخرين ، فتعاليمه كانت تعتمد مبدأ سلوك إنسان أهل الجنة والذي ذكره الله في قرآنه الكريم {لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (٢٨) المائدة} . فنجد أتباعه لمدة أكثر من ٣٠٠ عام يتبعون هذا المبدأ بحذافيره فرغم العذاب ورغم اضطهاد الرومان وقسوتهم عليهم لم يحاولوا استخدام السلاح والعنف حتى من أجل الدفاع عن أنفسهم .

في الديانة السماوية الثالثة (الإسلام) نجد أن محمد صلى الله عليه وسلم الرسول المسؤول عن القسم الروحي لتكوين الإسلام ، قبل الهجرة النبوية كان سلوكه مطابق تماما لسلوك عيسى عليه الصلاة والسلام من حيث التعامل مع الآخرين ، فكان معروف عنه أنه الأمين ، وأنه الصادق ، وأنه الرؤوف الرحيم ، وأنه العادل ، وأنه على خلق عظيم . ولهذا لا توجد أي حادثة تاريخية في سيرته قبل البعثة النبوية تذكر عن وقوع شجار أو أي سلوك عنف بينه وبين الآخرين ، فمثلا عندما حدث نزاع بين زعماء قريش في اختيار من سيضع الحجر الأسود في مكانه ، وأرادوا حل هذا النزاع وافق الجميع على اختيار رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذه المهمة ، كونه يحمل تلك الصفات التي يطمئن لها العقل والقلب ، لهذا في فترة ما قبل الهجرة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب من المسلمين الصبر وتحمل الأذى ويمنعهم من استخدام أساليب العنف في الدفاع عن أنفسهم . هذه الصفات هي عناصر الصورة الروحية لرسول الله صلى الله عليه وسلم كإنسان . وكل شخص يضيف إلى هذه الصفات أشياء أخرى تخالفها هو يسيء مباشرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم . فما حدث بعد الهجرة عندما أمره الله بتكوين جيش للمسلمين للدفاع عن أنفسهم ، لا علاقة له بصفات رسول الله . فالتغيير بأسلوب رسول الله قد حدث ليُلائم صفات تكوين النسبة العظمى من المسلمين وليس بسبب صفات رسول الله . فالتكوين الروحي لرسول الله قبل الهجرة وبعدها هو نفس التكوين .

للأسف هناك مشكلة كبيرة عند علماء مسلمي عصر الإنحطاط والعصر الحديث أنهم لم يفهموا حتى الآن أن الله عز وجل قد اختار منطقة مكة لتكون مكان ظهور الإسلام لأن هذه المنطقة كان شعبها يمثل جميع مراحل تطور البشرية منذ بداية التاريخ وحتى تلك الفترة ، فالتكوين الروحي لأفراد سكان هذه المنطقة كان فيه تنوع كبير من حيث التكوين الروحي فمنهم من كان تكوينه الروحي متخلف آلاف السنين ومنهم من كان تكوينه الروحي متخلف مئات السنين ومنهم من كان تكوينه الروحي يوافق المرحلة التي وصلت إليها الإنسانية في تلك الفترة ، ولهذا كان عصر ما قبل ظهور الإسلام يسمى عصر الجاهلية . الحكمة الإلهية في تصميم القرآن وضعت معاني آياته بحيث تعبر عن جميع المستويات الروحية لهذه المراحل وكيفية التعامل معها ليأخذ الإنسان فكرة واضحة عن سلوك الإنسانية منذ ظهورها وحتى يوم الآخرة . ولهذا يبدو للبعض الغير مسلمين بأن دين الإسلام فيه نوع من العنف . والسبب في وجود هذا الشعور عن الإسلام عند الغير مسلمين ، هو تأثر المسلمين بتلك الأحاديث المدسوسة التي خلطت الحابل بالنابل فجعلت من شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه متعدد الشخصيات تارة يبدو وكأنه خير البشر ، وتارة يبدو وكأنه شخصية همجية. وأحد هذه الأحاديث الباطلة التي تُسيء إليه هو حديث مقالتنا المداواة ببول الإبل.

فالمسيحي مثلا الذي قرأ في كتبه المقدسة كيف كان عيسى عليه السلام يشفي المرضى بجملة بسيطة يدعو بها ربه ، بهذا الاسلوب الراقي الذي ينمي الإحساس بأن الروح هي الأصل وأن المادة تابعة للروح وليس العكس ، لينمي الإحساس بوجود الله عند المؤمنين وأن الله قادر على كل شيء . فهل من المعقول أن هذا المسيحي سيقتنع بأن الله أرسل بعد عيسى رسولا يشفي المرضى بشرب بول الإبل ، أي عاقل مسيحي سيقبل بأن هذا الشخص المذكور في الحديث بأنه رسول من عند الله ، فسنة الله في التطور هي التطور من الفوضى إلى الإنسجام ، ومن البسيط إلى المركب ، ومن القبيح إلى الجميل ، إذن لماذا يحدث العكس هنا ، هل هناك أقبح من شرب بول الإبل كعلاج للأمراض .

والطامة الكبرى أن القسم الثاني من الحديث يأتي ليدمر شخصية رسول الله بشكل نهائي ، فهل من المعقول أن بعد عيسى عليه الصلاة والسلام الذي تعاليمه كانت عن المحبة والسلام والتسامح وتطبيق مبدأ أهل الجنة الذي شرحناه قبل قليل ، أن يرسل الله رسولا بعده يأمر بقطع الأيدي والأرجل ويفقأ الأعين ويرمي بهم في الصحراء ليموتوا هناك من العذاب والجوع والعطش . أي مسيحي عاقل سيقبل بأن هذا الشخص الموجود في هذا الحديث هو رسول أرسله الله ليكون خاتم الأنبياء والمرسلين وليتمم مكارم الأخلاق ، أي أخلاق هذه الموجودة في هذا الحديث . فأخلاق هذا الشخص مطابقة لأخلاق الخوارج وجنود داعش .

من يرى ويفهم جيدا هذه الرموز الموجودة في هذا الحديث ، يعلم تمام لماذا أبو قلابة الذي يعتبر من أهم رواة هذا الحديث كان يبغض علي عليه السلام ، فهذه الروح التي تروي مثل هذه الأكاذيب فيها شيء من النفاق . تماما كما يذكر الحديث الشريف عن علي عليه السلام ( لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق ) .

ربما البعض أساء الفهم فشعر وهو يقرأ هذه المقالة بأنني أهاجم وأسخر من علماء الدين الذين اليوم يدافعون عن صحيح البخاري . على العكس تماما فأنا أحزن على هؤلاء لأنهم ضحايا نظام ديني تعصبي دام أكثر من ٧٠٠ عام ، فجميعهم من صغرهم فُرضوا عليهم منهج معين ليتبعوه في دراساتهم وأبحاثهم . فلا نستطيع مثلا أن نلوم نبتة معينة تم زرعها في أرض قاحلة فقيرة بالماء وبالعناصر المعدنية اللازمة لنموها كونها لا تعطي أزهار وأوراق جميلة . هكذا تماما حال هؤلاء العلماء اليوم ، ففي بعض الظروف يصبح الإنسان مسيرا وليس مخيرا. لهذا واجب علينا جميعا وكل حسب اختصاصه العلمي أن نساهم في تصحيح أخطاء الأقدمين ، فعلماء الدين قد وهبوا أنفسهم لحماية الإسلام وخوفهم الشديد من أن يحدث تشويه وتحريف للدين نتيجة تلك الآراء الجديدة هو شيء طبيعي ، فهدفهم الحقيقي هو هدف نبيل ، وعلينا جميعا التعاون معهم من أجل الدفاع عن هذا الهدف النبيل ، وهذا لا يمكن أن يحدث إلا بالحوار الحضاري الذي ذكره الله تعالى في قرآنه الكريم {ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (١٢٥) النحل} فعندما يحدث الحوار بهذا المبدأ حينها سيهدي الله عز وجل الطرفين إلى الحقيقة وسيحدث التجديد في الدين كما أراد الله له ليناسب ظروف عصرنا الحالي . والله أعلم.

وسوم: العدد 914