رحلة النزوح بين الواقع المـر ... وبهجة المأمول
لديه تلك الرغبة الملحّة في الخروج من نطاق هذا العالم ، والنزوح بعيدا ، وهكذا تحثه دوَّامةُ الأيام الشاحبة التي تعج فيهـا الأكدار والمضايقات على اختلاف مساراتها وتنوُّع التحسينات التي ماعادت تجدي ولو بالقليل ، وليس من المؤكد أن له هدفا جليّا يسعى لتحقيقه، وما بين صمته المريب وهدوئه الذي يغرق فيه الضجيج القادم من ساعات القلق الليلي اليومي ،تتثنَّى بين عينيه بهجة الأيام الخاليات التي لم تفارق جمال لياليها المقمرات ، وصباحاتها المشرقات بالمسرة والهناءة ، ولولا انكفاء أهل المآثر عن الحضور لَمَـا تجرأت رياحُ الأسى أن تكون ضيفه الثقيل عند كل مساء . لم يعد يبصر النسر الجوَّاب في بساتين أهله الذين غادروا أجمل أيام الربيع الحافل بآلاء الله التي لايحصيها حتى الرصد الواعي الأمين . والده البار وأمه الثكلى وأخواته الماجدات الطاهرات ، تقاسمتهم الغبراء على سعة رحابها ، وبعد مسافاتها والتي قطَّعتها قسوة الأيام ومرارة رزاياها ، وأما نسرُهم الجوَّاب في آفاق السعادة ، والذي كان يحنو على الجميع بطيب محياه ، وزهو عطفه الأخاذ ، مستمتعا بقيمه الروحية التي تملأ حناياه الطاهرة وهو يردد بعد كل فريضة قول بارئه جـلَّ في علاه : ﴿ وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۚ إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا﴾ 23/ الإسراء ، لم تمت تلك القيم الجميلة عن محيَّاه رغم قسوة القلق الممض على نفسه ، ورغم انحسار موارده المادية بسبب النزوح ، ورغم شعوره بالأسف على فقده لأسباب إسعاد أهله ومَن لهم ولو بعض الحق عليه . إلا أنه كان الابن البار ، والأخ الودود ، والنسر الذي لايطوي جناحيه إلا بعد أن سُلبُ منه اعتدادُه بما وهبه الله من فضل الطاعة له سبحانه وهذا الفضل الذي بات ظلا ظليلا مباركا ، وبقي على عنفوانه ، وهو
يقضي وقته داخل مكاتب عمله ولا يعبأ بالتعب ، وهو يؤدي واجبه الوظيفي ، ولكنه ربما هـو الهروب الأكيد من واقع يتمرد عليه . والمأمول يدفعه للتغيير ، ولكن همسات هذا المأمول قد تبوء بالفشل ومن العبث أن يفكر بالتغيير . نظرته الثاقبة تعرّي من يقف أمامه من عشرات الأغطية التي يحاول الآخرون أن يتخطوا ما يخفيه في أعماق نفس تكاد الأيامُ أن تدحض نور تطلعاتها إلى وعد غير مكذوب في نواميس الحياة . فيها حقيقة ما يشعر به وهـو يحرِم نفسه من عيش ملذّات الحياة التي يغشى زخرفها الكثير من الناس ، ليته يستطيع تصحيح رؤيته ولو قليلا .. لكن شعوره المتقد في صدره مازال كما كان . مازال يتذكر أماسيه الهادئة حول قنديله الخاص به ، بل يحاول أن يتخطَّى وهما ، أوهكذا هو يتخيله ، ليضم أنواره الهادئة ، ويقرأ على رصيفها الجميل شغف النفس التي ما مرغتها حياة الترف الفارغ بتراب لابد أن سيضمحل في يوم من الأيام . يُراد له ــــــ وهو عَيِّنةٌ ـــــــ لم تستطع الأعاصير الباغية أن تجرفها بتيارها العاصف الشديد ... نعم يُراد له أن يجعل لنفسه قسطا من الاعتدال فيما يجد فيه ابتسامة فرح تعيد إليه بعض ما سُلِب منه من متاع الدنيا الحـــلال .ولعلها تبعث البهجة في نفسه الظمأى لأفراح الحياة البسيطة على بساط : هذا الحديث النبوي الشريف يرويه سَلَمَةُ بْنُ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ مِحْصَنٍ الخَطْمِيِّ عَنْ أَبِيهِ وَكَانَتْ لَهُ صُحْبَةٌ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ ،مُعَافًى فِي جَسَدِهِ ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا) . رواه البخاري . ويقولون : ( إنَّ
أبرز سبب من أسباب الهجرة التي تتبنَّى النزوح القسري للإنسان هي الحروب والاضطرابات الأمنية بالمقام الأول. ومن ثمّ تبرز أسباب أخرى من قبيل الفقر، وسوء أوضاع البلد، وانعدام الحقوق الأساسية والحريات، أو الملاحقة الأمنية. وحيث يحاول النازح بناء حياة جديدة تختلف صعوباتها من شخص إلى آخر ومن بلد لآخر ) . وهذا الباب يبدو الأكثر اتساعا في حياة معظم الناس في بعض الأقاليم العالمية ، وفي عصر الناس هذا . وقضية الاندماج الكلي مع المجتمعات الجديدة تبدو مكلفة من النواحي النفسية
ومن نواحٍ أخرى عديدة ، وربما تعمد بعض الدول المضيفة إلى إصدار بعض الأنظمة التي تحاول من خلالها تخفيف عبء نزوحهم من بلدانهم ، ولكن تبقى تلك الأنظمة محددة ومقننة في أكثر الأحيان وفي معظم البلدان .ويبقى للنازح الذي يؤمن بأقدار الله سبحانه وتعالى الأمل المبهج للنفي ، والمطمئن للقلب ، ويؤكد ثقته بربه سبحانه وتعالى ، فدار الدنيا ماهي إلا ظلُّ خيمة ، وسوف يزول هذا الظل عاجلا أم آجلا ، ويبقى الأمل المبهج رغم كل الظروف في :
﴿ إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾218 / البقرة . ويبقى الإيمان هـو المطمئن : ﴿ فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ ﴾ 195/ آل عمران ................
وسوم: العدد 1048