المهاجرون ضيوف فأكرموهم

الخميس 1 شوال 1426 هـ

الموافق 02 تشرين ثاني 2005 م

المهاجرون ضيوف فأكرموهم

الشيخ عصام عميرة

(الخطبة الأولى)

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أيها الناس: كثير هو الظلم في الأرض، ويكبر حجم هذا الظلم أحياناً إلى حد يدفع المظلوم للزهد في أرضه وداره وأهله وماله وذكرياته، ليهيم على وجهه في أرض الله الواسعة طلباً للأمن والأمان، عند قوم فيهم مظنة تحقق قدر من الأمن والأمان يحفظ عليه كرامته ودينه وما تبقى لديه من مال.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، فإذا كان المضيف صاحب أريحية وخلق رفيع فإنه يحفظ على ضيفه كرامته، ويسكن من روعه، ويحتضنه فلا يحس بمرارة الغربة، بل وينسيه قساوة الظالمين الذين أخرجوه من أرضه وداره وأهله وماله وذكرياته، وهذا هو المأمول، ولولا ذلك لما هاجر إليه المظلوم.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، إن حسن الضيافة خلق كريم وحكم شرعي أكيد وعرف عام صالح عند الأقوام التي تحترم نفسها، وتحافظ على دينها وقيمها، وأما الإساءة للضيف فهي خلق ذميم وحرام شرعاً وتصرف بذيء، ولا يقوم به إلا من خان دينه وخالف ربه وأساء إلى سلم القيم الرفيعة التي تواضع عليها الناس عبر العصور والآوان. فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وقد روى لنا التاريخ الموثوق صوراً من حسن الضيافة وإكرام المهاجرين ما يجعلنا ننحني لها إكباراً واحتراماً وتقديراً. فهذا نجاشي الحبشة قد فتح ذراعيه للمهاجرين من المسلمين الذين وفدوا إليه بعد الظلم الفاضح الذي ألحقه بهم طواغيت قريش. قال ابن إسحاق:‏‏ فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يُصيب أصحابه من البلاء، وما هو فيه من العافية، بمكانه من الله ومن عمه أبي طالب، وأنه لا يقدر على أن يمنعهم مما هم فيه من البلاء، قال لهم‏‏:‏‏ لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يُظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل الله لكم فرجاً مما أنتم فيه، فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أرض الحبشة، مخافة الفتنة، وفراراً إلى الله بدينهم، فكانت أول هجرة كانت في الإسلام، فانحاز المهاجرون إلى مملكة أصحمة النجاشي آمنين. تقول السيدة أم سلمة رضى الله عنها: "فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا ولم نحس منه ظلما. وقال لهم: اذهبوا فأنتم سيوم أو شيوم بأرضي من سبكم غرم، والسيوم أو الشيوم: الآمنون في لسانهم، ثم قال‏‏: ما أحب أن لي دبراً من ذهب، يقول جبلاً من ذهب وأني آذيت رجلاً منكم. وكان مما قال‏‏:‏‏ والله لا أُسلمهم، ولا يُكاد قومٌ جاوروني، ونزلوا بلادي، واختاروني على من سواي. وقد فرح المهاجرون بانتصار النجاشي على عدوه لما قام بانقلاب عليه، ودعوا له بذلك.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أيها الناس: هناك صورة أروع منها، وقد أثنى الله على أصحابها الأنصار في كتابه الكريم لِما فعلوه بضيوفهم من المهاجرين، حيث أكرموهم أيما إكرام. وهل هناك إكرام أعظم من أن يبلغ الأمر ببعض الأنصار أن يعرض على أخيه المهاجر نصف ماله، وأن يطلق إحدى زوجتيه ليتزوجها بعد عدتها؟!

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، يا لها من مؤاخاة حقيقية صادقة، فكما أثنى الله على المهاجرين، أثنى على من أحسنوا استقبالهم ونصرتهم، فقال جل شأنه {والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضى الله عنهم ورضوا عنه وأعد لهم جنات تجرى تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً ذلك الفوز العظيم}، وقال سبحانه {والذين تبوأوا الدار والأيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون}. وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ولولا الهجرة لكنت امرأً من الأنصار". ووضع ميثاقاً عظيماً لتنظيم العلاقة بين المقيمين من المهاجرين والأنصار واليهود فى المدينة المنورة، وسميت المدينة بدار الهجرة والسُّنة، وصارت الهجرة إليها من سائر الأنحاء الأخرى التى بلغها الإسلام تقوية للدولة إلى أن قال النبى صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة ودخول الناس فى دين الله أفواجأ: "لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية واذا استنفرتم فانفروا"، وبقى معنى الهجرة فى هجر ما نهى الله عنه، وبقيت تاريخا للأمة المجيدة.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أيها الناس: هل أتاكم نبأ المهاجرين إلى بلاد الحرية وحقوق الإنسان فرنسا؟ وهل علمتم ماذا يفعل المضيفون بضيوفهم في هذا الزمان الذي أهدرت فيه كرامة الإنسان وهو في بلده ووطنه الذي ولد فيه هو وآباؤه وأجداده، فضلاً عن كرامته إذا كان ضيفاً عند غيره؟ حيث تواصلت أعمال العنف التي انطلقت شرارتها الأولى الخميس الماضي إثر وفاة مراهقين في ضاحية فقيرة من ضواحي باريس أثناء محاولتهما الاختباء داخل غرفة محول كهربائي بعد أن ظنا أن الشرطة تلاحقهما. واتسعت دائرة العنف لتشمل تسع دوائر أخرى بالضاحية الباريسية، وقال مصدر في الشرطة إن أكثر من مائة سيارة أحرقت، كما تعرضت ثكنة لرجال الإطفاء لرمي الحجارة، واعتقلت الشرطة عشرات الأشخاص مما أعاد الهدوء النسبي. وقال الرئيس الفرنسي شيراك أمام مجلس الوزراء: "على النفوس أن تهدأ، ويجب تطبيق القانون بشكل صارم لكن بروح الحوار والاحترام"، مؤكدا أن "غياب الحوار وانعدام التقدير يمكن أن يقودا إلى وضع خطير". وطلب من الحكومة أن تتقدم ضمن مهلة شهر في مجلس الوزراء باقتراحات لتسريع وتعزيز فاعلية التدابير المتخذة من أجل إيجاد فرص متكافئة للجميع في المجتمع الفرنسي. خيبك الله وخيب حكومتك، وأين كانت سياسة تكافؤ الفرص قبل ذلك؟ وهل أنتم بحاجة إلى ثلاثة قرون أخرى حتى تطبقوا ما ناديتم به في ثورتكم الفرنسية من الإخاء والحرية والمساواة قبل ثلاثة قرون؟ ألا ساء ما تحكمون!

(الخطبة الثانية)

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أيها الناس: ليس الأمر مقتصراً على فرنسا وإساءاتها للمهاجرين الذين خُدعوا بها وظنوها أُمّاً للحضارة فإذا هي عالة على الحضارات كلها، بل إن أميركا وبريطانيا وإسبانيا وغيرها من الدول الاستعمارية قد آذت المهاجرين إليها أذىً بليغاً، ولحقت بعضهم إلى عقر دارهم تغزوهم وتنهب ثرواتهم وتقتل رجالهم وأطفالهم وتستحيي نساءهم، وقد علوا في الأرض بطريقة فرعونية بشعة. ويا ليت الأمر وقف عند تلك الدول الكافرة المستعمرة، بل إن أعراض المرض قد انتقلت إلى حكام وشعوب دويلات الصرار القائمة في العالم الإسلامي، ولم تكن أقل سوءاً من أسيادها، فظلم ذوي القربى أشد مضاضة. وما حصل في السودان والأردن ومصر ولبنان والمغرب والكويت وغيرها من أقزام الفراعنة تجاه المهاجرين والوافدين منكم ببعيد، وهو حري أن يسجل في صفحات التاريخ السوداء.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، ماذا بقي مغطىً من عورات هؤلاء القوم وأتباعهم وعملائهم؟ وهل لا زال فينا من يثق بهم ويأمل منهم أن يعالجوا قضايانا؟ وهل ما زال بعض علمائنا ينادي بخلافة على منهاج الاتحاد الأوروبي المضياف؟ أفيقوا أيها الناس، فالحل يكمن في خلافة على منهاج النبوة، ولا داعي لإضاعة الوقت بعد أن انكشف المعلوم، وافتضح أمر القوم، وأصبحت الخلافة على الأبواب، فانزعوا عن تبعيتكم للغرب وانخداعكم بحضارته الزائفة التي لا تكرم ضيفاً، ولا ترقب في مؤمن إلاً ولا ذمة، وعودوا إلى دينكم وأمتكم وحضارتكم التي ضربت أروع الأمثلة في المحافظة على حقوق الإنسان وتحقيق القيم الرفيعة في كل مجالات الحياة، بل ويأمن فيها الذمي على نفسه وماله أكثر مما يأمن المسلم، حيث لم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم من آذى مسلماً فقد آذاني، بل قال: من آذى ذمياً فقد آذاني.

الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أيها الناس: في هذا اليوم الفضيل وبعد انقضاء الشهر الفضيل أسأل الله أن يتقبل منا ومنكم الطاعات، وأن يكرمنا الله قريباً بخلافة راشدة ثانية على منهاج النبوة، إنه ولي ذلك والقادر عليه. وسِّعوا على عيالكم، وصِلوا أرحامكم، واصفحوا الصفح الجميل، وكل عام وأنتم بخير.