تفسير سورتي ( الماعون ، الكافرون )

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورتي ( الماعون ، الكافرون )

الجمعة 17 محرم 1397 / 21 كانون الثاني 1977

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

       إن الله مـع الذين اتقوا والذين هـم محسنون ، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :

       المهم في الحديث عن السور القصيرة التعرف على قضاياها وعلى ما وضعت أمام المسلمين من أمر ، وأن نحاول أن نلتقط الخيط الذي يربط السور بجملة من المعاني والأفكار التي مرت من قبل .

       إن ما سوف نتعرض له شديد الأهمية ، نذكر أن الذي حفزنا إلى اختيار هذه الموضوعات الشائكة ، ثمة عاملان ، الأول يتعلق بالإفلاس المطلق التي تعيشه نظم الدنيا جميعاً من غير استثناء ، وعلامات الزمن متوافرة على هذا الإفلاس . والثاني : أن الله تعالى يفتح الطريق واسعاً أمام الذين يريدون أن يعملوا لهذا الإسلام ، فالعصر الذي نحن فيه برغم شدة الدسائس لا يشك دارس أنه عصر الإسلام ، فبعد كل التخبط الذي وقعت فيه الإنسانية ما بقي في جعبتها إلا هذا الإسلام تلوذ بحماه وتطلب النور من مشكاته .

       وأذكر أن مدينة ( المعرة ) السورية دهمها جبار من المسلمين اسمه صالح بن مرداس ، والحرب تعني القتل والسبي وانتهاك الأعراض ونهب الأموال ، ولجأ الناس إلى أبي العلاء رحمه الله تعالى وهو شيخ ضرير ، ولكن شهرته ملأت الآفاق ، فخرج يتوكأ على عصاه يقوده قائد ، فلما أبصر به صالح قال : خلوا بيني وبينه ، فجاءه واستشفع لأهل المعرة فشفع له وشفّعه بهم صالح ، ورجع الشيخ إلى محبسه الذي نذر نفسه ألا يخرج منه إلا محمولاً على الآلة الحدباء ، وهو يترنم بقوله :

دعيت من القوم إلى صالح        وذاك من القوم رأي فسد

فيسمع مني هديل   الحمام         وأسـمع منه زئير الأسد

فلا يعجبني هــذا النفاق         فكم نفقت  محنة ما  كسد

فإذا كان للشيخ عذره أن يرى نفسه أقل من أن يشفع في قرية فما عذري وأنا أشفع لأمة . ليس لي أن أقول كما قال الشيخ رحمه الله ، فكم نفقت محنة ما كسد .

       يا إخواننا ..في كل ما مضى كنا نتتبع في البدايات خيطاً واهياً ، كنا نتتبع مراحل النمو ، وطرائق العمل ، ونتعرف على المهمات الذاتية والخارجية التي يطرحها القرآن على المسلمين في بداية الدعوة . لاحظنا أمرين بصورة رئيسية ، لاحظنا أولاً أن طبيعة الدعوة من جهة ، والواقع المفروض في مكة لذلك الزمن البعيد من جهة أخرى ، قد فرض حالة معينة على المسلمين ، لا أريد أن أبحث في كون هذه الحالة يمكن أو لا يمكن أن تنجم مع شرائط من هذا النوع ومع المجاهرة بالدعوة فذلك أمر آخر . إنما يهمني أن أستحضر إلى أذهانكم أن الرسول صلى الله عليه وسلم آمن به في البداية نفر قليل ، وما كانت الدعوة بهذا الحجم لتلفت الأنظار إلى خطورتها ، ولا كانت العرب بما فيها زعماء مكة مهيئين باستشفاف ما ستؤول إليه الأمور ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأخذ نفسه بحقائق التنزيل أخذاً شديداً ، ويزمّ أصحابه بهذا الزمام زماً عنيفاً ، فلا مثنوية ولا خيار ، وإنما هي طاعة مطلقة وتسليم تام ، فما جاء من أمر من الله فهو إلى التنفيذ مباشرة ، وما جاء من نهي فهو متروك ، وليس للناس مع الله تعالى خيار . إن موقف المسلمين هذا مع توالي الشهور بدأ يكوّن لدى المشركين لوناً من الحدس بأن هذا الأمر له ما بعده ، وأن الخطى في طريق الدعوة ليست مقصورة على هذا الحيز الضيق الذي هو مكة أو جزيرة العرب ، كما أن هذه الدعوة تأتي لشيء جديد فهي إذاً خليقة بأن تقلب الموازين ، وتغير الأوضاع ، وتعيد رسم خريطة المجتمع من جديد . ولقد أذكر في بدايات هذا الحديث رويت لكم حديثاً رواه البخاري في الأدب المفرد عن واحد من المشركين ينبه إلى هذه الخطورة ويقول : إن محمداً بدعوته هذه يريد أن يرفع السَفْلى والأوباش وأن يضع الرؤساء والزعماء .

       وبالفعل فإن حقائق التنزيل كانت تتجه فـي هذا المنحى ، لا بد مع كل دعوة جديدة أن تتغير القيم وأن تكون للمجتمع صورة مغايرة عما كانت عليه من قبل ، وأن يفقد كثير من الناس ما لهم من مكانة ومن منزلة ، وأن يعلو كثير من الناس ممن كان لا يؤبه لهم ولا يقام لهم وزناً ، إن هذا الاحساس فرض على زعماء قريش أن يجدّوا وينشطوا في عداوة محمد صلى الله عليه وسلم وعداوة أتباعه ، هذا الشيء الذي حصل بعد أن أخذت الدعوة مجراها جعل قريشاً تذيق الذين أسلموا الأذى غير قليل ، وأسوء شيء من هذا أن يتبرأ الواحد من ولده أو يلفظه ولا يتعرف عليه ، أين يذهب هؤلاء الناس ؟ يذهبون إلـى محمد وقائد الدعوة ، من هنا أول لبنة في البناء أن محمداً صلى الله عليه وسلم بذاتية الدعوة من جهة ، وبضغط الشروط القائمة في المجتمع من جهة أخرى وجد نفسه غير مختار ولا بد أن يبدأ في تكوين المجتمع المسلم .

       وقلنا فيما مضى أن المسلمين لم يكن مأذوناً لهم أن يردوا العدوان بالعدوان وإنما عليهم الصبر فقط ، هل هو عجز أو خور في المسلمين ؟ لا ، وقلنا أيضاً أن محمداً لم يكن عاجزاً أن يثير في مكة فتنة عمياء تأتي على الأخضر واليابس . ولكن الإسلام هو الإسلام ، وطريقه لا مجال فيه أن يختار معه أحد أي شيء يروقه ولا أن يرفض أي شيء لا يروقه . من هنا وجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقبض على عواطف المسلمين بيد من حديد ، ولا يسمح لهم بحركة عدوانية لأن للإسلام غاية وهي أن يهذب هذه النفوس ، إلى مرحلة بحيث إذا تحركت فإنما تتحرك لله وليس لرغبات شخصية ، هذه لمرحلة تأتي مع المرحلة الطويلة .

       إن الله حين خلق الإنسان أودعه ملكات ، وجعله كائناً فاعلاً في الوجود ، ولا عجب فهو مستخلف ( إني جاعل في الأرض خليفة ) والخليفة يجب أن يحصل على كل ما يهيئه للقيام بواجبات الخلافة . لكن رأينا منذ قليل أن الإنسان لا يمكن أن يثبت على حق ، ولا يمكن أن يصفو أمره على حالة من الأحوال ، إنما أُودع فيه من قدرات ليست شيئاً يمكن تجريده عن الإنسان أبداً .

       فالإنسان لما كان بهذه المثابة وهذه حقيقة لا يكابر فيها أحد ولكن كثيراً من الناس يتعامون عنها عناداً عن الانصياع للحق ، لما كان الأمر كذلك فقد ثبت لدينا إفلاس الإنسان من حيث هو إنسان في أن يتولى تدبير أمور نفسه بنفسه دون معونة من السماء ومستقلاً عن الوحي ، هذه النقطة شديدة الأهمية بالنسبة لما نحن فيه ، إن مسألة الوحي واستضاءة الأمة بالوحي ليست مسألة يشتهيها الإنسان أو لا يشتهيها ، وإنما هي مسألة تفرضها طبيعة التكوين الإنساني ، صورة التكوين ما جبل عليه التكوين وحين يرفضها الإنسان فلن يكون إنساناً بحال الأحوال ، فهو إما أن يكون ملكاً مبرءاً من النوازع والشوائب ، وإما أن يكون شيطاناً رجيماً يدمر كل شيء أتى عليه . هذه القضية كما قلت لكم ذات أهمية بالغة يجب أن نستحضرها دائماً .

       نأتي الآن لنرى في هؤلاء الآيات التي نحن بصددها ، ما الذي بعد هذه القواعد الراسخة تمنحنا إياه هذه الآيات في سبيل معرفة الصورة التي كان المسلمون يتحركون عليها ، كل ما مضى من أحاديثنا كان يؤكد على ناحية ذات أهمية بالغة ، كم من المرات قلت إنه يجب أن توضع الأسلحة في أغمدتها ، فمعركة الإسلام الأولى ليست خارج الذات بتاتاً ، إنما هي داخل الذات وهي معركة يجب أن يستصحبها الإنسان حتى يموت ، لأنه في صراع مستمر مع كل ما يعتمل داخل نفسه من نزوات ومن رغبات ثم هو من بعد عرضة للشيطان الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم ، كنت أؤكد على هذه الناحية ولا أدري كيف مر ذات يوم كلام مني فُهم منه إلى أنه لا عنف في الدعوة ، لأكن مفهوماً أرجوكم إن كل شيء يجب أن يفهم بدقة ولكن قبل أن أمضي في الحديث أريد أن أقول : إن هذه الكلمة أثارت لدى بعض الشباب ( وليس كلهم ) ردود فعل غير مستحبة ، فاضطررت إلى أن أتحدث حول هذا الموضوع عدداً من المرات ، واضطررت إلى ذلك كارهاً ، لأنني لا أكره شيئاً كما أكره أن تشوش آراء الناس وأن تشوه بهذا الشكل ، لأن هذا عندي لون من ألوان الجبن وأنا أحتقر الجبن والجبناء .

       إن الشيء الذي أريد أن أحذر كل أخ أن يُعمد إلى كلام الناس فيجزء ، إنك لو أردت أن تشوش على القرآن بالذات بالطريقة التي يعمد إليها بعض الناس بخبث لكان لك ذلك ، إن الله تعالى يقول فـي آية ( ولا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى ) ويأتي أحدهم فيقول إن الله يقول : ولا تقربوا الصلاة . ويأخذ من ذلك ذريعة لترك الصلاة . وإن الله يقول ( ويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم سـاهون ) ويأتي ماجن فيزعم أن الله يقول : فويل للمصلين . أي أن الله يتوعد المصلين بأن يدخلهم النار . وكذلك الأمر حين يؤخذ من كلام الناس جزء ويترك الجزء المكمل للجزء الأول . إن الذي قلناه حتى الآن جانب من جوانب عديدة ، وكان على الكل أن يصبر ، لأن الصورة لم تكتمل بعد ، فلماذا العجل ؟

       إن الآيات التي تلوناها في الجمعة الماضية سور قصيرة ، أريد أن أقف عند واحدة من هذه السور ، سورة الماعون ، لأريكم كيف يتم التفريق والتجزيء على الصورة العامة .

       إن سورة الماعون تقول : ( أرأيت الذي يكذب بالدين ، فذلك الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين ، فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين هم يراؤون ، ويمنعون الماعون ) هذه السورة حين تفتحون كتب التفسير تجدون حولها خلافاً طويلاً ، منهم من يقول أنها سورة مكية ، ومنهم من يقول أنها سورة مدنية ، ومنهم من يقول أنها سورة مكية ومدنية معاً ، أي أنها نزلت مرة في مكة ومرة في المدينة ، ومنهم من يقول وإلى هذا ذهب أستاذنا الشهيد سيد قطب ، أي إن الآيات الأولى مكية ، والآيات الأخيرة مدنية ، ولئن غابت عن فطنة أولئك ملاحظة القضية في سياقها من الدعوة والحركة فإني لأعجب أشد العجب أن تذهب هذه على ألمعية سيد رحمة الله عليه ، إن الذين قالوا إنها مكية ذهبوا مع سياق التنزيل وهي بالفعل من أوائل ما نزل من القرآن ، والذين قالوا أنها مدنية رأوا في الآيات ما يشعر بأن المسألة تشير إلى أمور لم تكن موجودة في المرحلة المكية ، تشير إلى الرياء ، والرياء نفاق ، والنفاق نجم في المدينة وليس في مكة ، وأستاذنا سيد رحمة الله عليه رأى أن يلحق ما يشير إلى الرياء بالجزء المدني ، وأن يبقي الجزء الأول في المكي ، أما الذين قالوا بأنها مكية ومدنية فهذه مخارج نظرية لا قيمة لها ولا تدل على صبر في البحث .

       أسأل : ما الذي يمنع أن تكون السورة مكية ؟ وما الذي يمنع أن تكون من أول ما نزل من القرآن ؟ ونحن نتتبع الحركة وجدنا مجتمع الإسلام يولد ، والمجتمع الإسلامي يولد باحتياجاته ، والمجتمع الإسلامي قبل وبعد بشر ، فيهم كل ما في البشر ، ووظيفة القرآن وهو ينزل ، ووظيفة الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقود أن يقيم الناس على حقائق هذا التنزيل ، وهؤلاء الذين التفوا حول محمد صلى الله عليه وسلم كانوا حديثي عهد بكفر وجاهلية ، ثم هم يعيشون شروطاً مجتمعية قاسية وهم بشر ، ألا يتأثرون بهذا الذي يحيط بهم ؟ لا ، إنهم لا بد أن يتأثروا به . وإذاً فعلينا ونحن ننظر إلى هذه السورة أن لا تغيب عن بالنا هذه الحقيقة ، طالما أننا كوّنا مجتمعنا الأول ونواته الأولى ، فلا شيء يمنع من أن نشد كل أطراف هذا المجتمع إلـى بعضها حتى يكتمل . ( أرأيت الذي يكذب بالدين ، فذلك الذي يدع اليتيم ، ولا يحض على طعام المسكين ) فالمسألة جاءت لتقرر أمرين كلاهما لازم في بناء المجتمعات ولا سيما في المراحل الأولى ، دَعّ اليتيم وقهْرُهُ وسَلْبُ مالِهِ والعدوانُ المستمرُ عليه ، خليقةٌ معروفةٌ من خلائق الجاهلية .

       فاليتيم في المجتمع الجاهلي عرضة للهلاك ، وحين يقوم المجتمع المسلم وهو مناقض تماماً للمجتمع الجاهلي فأول شيء يطلب منه أن يسلم من كل سيئات المجتمع الجاهلي . فإذا كان المجتمع الجاهلي يدع اليتيم فعلى المجتمع المسلم أن يكرم اليتيم . وكذلك تعرضت الآيات الأولى إلى موضوع رمز إليه بالماعون ، والماعون هو الإناء والوعاء ، ولكن يجب أن لا يغيب عنا أن الماعون كلمة مشتقة من المعونة ، فكل شيء يؤدي إلى معونة الآخرين فهو ماعون ، قد يكون إناءً أو مالاً أو طعاماً أو كلمة طيبة أو سعياً في حاجة الآخرين ، كل ذلك من الماعون ، فالمجتمع محتاج أعظم الحاجة إلى أن يكون هذا التعاون قائماً بين أعضائه على أرفع وأمتن وأسلم ما يكون . فالكلام إذاً لا يشترط أن يخاطب به المسلمين بعد أن يصبحوا في المدينة ، إن حاجتهم وهم في بداية التكوين أشد من حاجتهم إليه حين تستقر بهم الأحوال وتعتدل لديهم الموازين .

       ثم ماذا ؟ وهنا المشكلة التي جعلت بعض المفسرين يذهب إلى أن هذه الآيات الأخيرة مدنية ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين هم يراؤون ، ويمنعون الماعون ) انظروا ، إن الآية تتوعد الذين هم عن صلاتهم ساهون ، وبغض النظر عن معنى ( ساهون ) هل السهو عن تدبر الآيات التي تقرأ ؟ هل هو الانصراف عن الحضور مع الله ؟ هل هـو إخراج الصلاة عن وقتها ؟ كل ذلك غير مهم ، إن هذا السهو عن الصلاة وُصف به المنافقون ، لكي تعرفوا من أين دخل على بعض المفسرين وهم هذه الآيات نزلت في المدينة ، إن الله تعالى ذكر المنافقين بأنهم إذا قاموا للصلاة قاموا كسالى يراؤون الناس ، ومن المصادفات أن هذه الآيات قالت ( فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين هم يراؤون ) فجمعت آية مكة ما جاء في المدينة ، أي السهو عن الصلاة والمراءاة أي الرياء ، من هنا لجأ القائلون بأن هذا الجزء مدني ، ولكن كما سألنا هناك نسأل هنا : ما الذي يمنع أن يخاطب المسلمون فـي أوائل عهدهم بهذا الكلام ؟ اسألوا أنفسكم : ما هو الإسلام في الأصل ؟ الإسلام هو وضع النفس جملة بين يدي الله تعالى ، معنى ذلك أن يكون وجهك عانياً لربك جل وعلا ، وأن تخلص نفسك كلياً لله تعالى ، أن تكون حاضر النية في كل أحوالك . أذلك شيء يستغني عنه المسلمون ولا سيما في أوائل الدعوة ؟ إن هذا ألف باء الدعوة .

       كل إنسان يسلم يلقن الشهادتين ويلقن مها وجوب الإخلاص لله تعالى ، فالمسلمون في المرحلة الأولى حين يخاطبون بما ينفر عن الرياء وبما يربط العبادة أن تؤدى بخشوع وسلامة نية ، حينما يخاطبون بهذا الكلام يأتي الخطاب في مكانه ، ليس غريباً عن مكانه ولا ينبو منه حرف واحد عن مقتضيات الحال التي فيها المسلمون . فهذه السورة بما فيها الجزء الأول والثاني أكثر ما تكون في مرحلتهم الأولى ، وهي مما يساعد على شد العرى وربط الأواصر في المجتمع الذي بدأ المسلمون يبنونه .

       إن المرحلة التي مرت كانت دعوة للتمسك بما نزل من الله والصبر على ما ينال المسلمون من الأذى في ذات الله تعالى ، ولعل بعض إخواننا حين أثاروا ما أثاروا فهموا أن هذه هي السورة .

       إن الصبر شيء مطلوب ، لا بد للإنسان كي يتطهر أن يمر بنار المحنة والتجربة وأن يتعرض للبلاء ، أهذه هي السورة كلها ؟ لا .

      تعالوا إلـى سـورة ( الكافرون ) يقول الله تعالى ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عابد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، لكم دينكم ولي دين ) دققوا فيما يتعلق بالصياغة فـي أمرين ، ( قل ) خطاب بصيغة الأمر والجزم موجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، وأنتم إذا استعرضتم القرآن كله وجدتم كل آية تبدأ بهذا الشكل وبهذه اللفظة تشير إلـى أمر عظيم جداً ( قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ) ( قل هـو للذين آمنوا هدى وشفاء ) ( قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء ) كل آية وكل فقرة من القرآن صدرت بكلمة ( قل ) فإنما تلفت النظر بشدة نحو أمر عظيم . وهذا الذي نلفت النظر إليه هنا إكمال للصورة التي عرضنا جانباً منها وليس إكمالاً مطلقاً فبعدها جوانب سوف تأتي في مكانها ، لكنها هنا تعطينا الهيكل العظمي للسورة كلها . هذه تتعلق بالصياغة .

       ثم لاحظوا في الصياغة أمراً آخر ، لاحظوا هذا التكرار والتركيز ( لا أعبد ما تعبدون ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ، ولا أنا عبد ما عبدتم ، ولا أنتم عابدون ما أعبد ) شقان من الكلام ، يأتي الأول مبدوءاً بالفعل ، ويأتي الثاني مبدوءاً بالاسم . والجملة حينما تبدأ بالاسم فإنما يراد بها التشديد والتأكيد ، زد على ذلك هذا التكرار الذي يمنح الكلام حسماً وحزماً لا يمكن أن يتحقق إلا في هذه الصياغة . فماذا في مضمون السورة ؟ بعـد أن لفت الله إلى هذا الأمر العظيم ، إن المسلمين كما قلنا كانوا يتلقون الضربات من المشركين ، وكان الله ينزل عليهم آياته داعياً إياهم إلى الصبر الطويل ، وكان الرسول يمسك هذه النفوس عن أن تهتز وأن تتزعزع في وسط هذه العواصف التي تموج من حوله كموج البحر ، ولكن توجيهات القرآن جاءت لتقف المسلمين في الموقف الذي يضع شرط النصر بين أيديهم ، إنك حينما تكون داعياً إلى دعوة آخذاً فـي طريق مستعداً إلى ذلك بالصبر ، ثم لا تلامس الناس فيما هم فيه ، فسوف تذهب دعوتك أدراج الرياح . إن المسألة مسألة موقف أولاً وآخراً ، وما لم ينحل الاقتناع إلى موقف من حيث النتيجة فشيء لا قيمة له . ومن هنا جاءت السورة تحدد للمسلمين موقفهم ، أرأيتم حديثاً جاء من الخصوم أو من الأصدقاء والموالين الذين كتبوا عن تلك المرحلة الوضيئة في تاريخ المسلمين أورد خبراً واحداً يشير إلى أن مسلماً من المسلمين أعطى الدنية من دينه ثم وقف في وجه أعداء الله بما هو عليه ، الجواب : لا .

       إن المسلم إذ كان يصبر على البلاء كان يجاهر بأنه مسلم ويرفض أن يهدم الحدود بينه وبين المجتمع الذي يناصبه العداء ، بينه وبين المجتمع الذي جاء ليهدمه ، لم يدعمه ولم يبنيه ، هذه القضية هي مفرق الأمر كله فيما يتعلق بالنسبة للمسلمين في ذلك الزمان وبالنسبة للمسلمين في كل زمان ومكان ، إن المسلم مطالب أن يكون صريحاً في موقفه لا مجال للمراوغة ولا مجال لن تلتبس الحدود وتتميع بين المذاهب والآراء وبين المواقف التي تتمخض عنها واقعاً مشهوداً في المجتمع . ولو أننا استعرضنا آيات الكتاب لوجدنا الله تعالى يثير هذه القضية الخطرة في أكثر من موقف ، ولو أننا تتبعنا توجيهات محمد صلى الله عليه وسلم لتكشف لنا من ذلك أمراً عجيباً ، إن الرسول صلى الله عليه وسلم يقول في حديث يستدعي التأمل الطويل ، لكأنما كنت تنظر يا رسول الله صلى الله عليه وسلم من وراء الغيب إلى ما سوف يحل بهذه الأمة ، إنه وهو الرؤوف الرحيم يحذر الأمة أن يصيبها مثل الذي أصاب الذين من قبل ، يضرب الرسول صلى الله عليه وسلم مثلاً يقول : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أنه كان الرجل منهم يمر فيرى أحدهم مقيماً علـى معصية الله تعالى فيقول : يا هذا اتقِ الله ودع ما أنت فيه فإنه لا يحل لك ، فإذا كان من الغد لم يمنعه قِيله بالأمس أن يكون أكِيلُهُ وشرِيبُه وقعِيدُهُ ، فلما استمر مرَِيْرُهُمْ على ذلك ضرب الله تعالى قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داوود وعيسى بن مريم ثم تلا قول الله جل اسمه ( لعن الذين كفروا من بني إسرائيل على لسان داوود وعيسى بن مريم ذلك بما عصوا وكانوا يعتدوا كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه )

       وأنت إذا دققت في هذا الكلام الشريف لاحظت ملاحظة هائلة ، إن أول ما دخل النقص ، بداية الانهيار وعلامة السقوط وآية التراجع أن يدهن الناس في الدين وأن يتنازل المسلمون عن المواقف التي وضعهم الله تعالى فيها . وإن ثمة عاقبة ، إن شيئاً في هذه الدنيا من المخالفات والعناد لا يمر بغير عقاب أبداً ، لا يمكن أن يمر بغير عقاب ، إن الإدهان لا بد أن يأتي في المستقبل على كل معنى كريم ، ولا بد بعد ذلك أن تقع الكارثة على الذين أحسنوا والذين أساؤوا ، الذين أساؤوا بما أساؤوا ، والذين أحسنوا بما سكتوا عن الظلم والجور والمنكرات . ماذا كانت العاقبة ؟ ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، لاحظوا دقة التعبير النبوي ، ضرب القلوب بالقلوب شيء خطير في المجتمع ، ويعني ذلك أن القلوب تختلط أي كما تجبل الطين مع التبن لتصنع منه لَبناً ، حتى لا تستطيع تبيّن القلب التقي من القلب الخبيث ، هذه هي المشكلة التي يشير إليها الحديث النبوي والتي هي عاقبة تمييع الحدود وكسر الحواجز بين موقف الإيمان وموقف الشرك والدهان .

       هذه المسألة هي التي أثارتها سورة الكافرون ، ضع الآن صورة الحركة الإسلامية في إطارها الكامل ، انظر إلى الهيكل العظمي كما سميته لك : أمة آمنت بما جاءها من عند الله واستعدت لتنفيذ أوامر الله تعالى ، وهي جاهزة للصبر ولكن على ماذا تصبر ؟ إنها تطلب من هذا الصبر أن تبلغ المراحل التي تؤيدها لقيادة البشرية ، ولكن هذا لا يمكن أن يبقى في هذا الإطار ، لا بد أن ينحل واقعاً ، لا بد أن يؤول مواقف ، ما المواقف ؟ أمة تظهر تحت الشمس لا تحت الأقبية ، في فضاء الله الواسع لا بين أربعة جدران ، أنا مسلم وأنا أدعو إلى إسلامي وأنا أقول بملء الفم إن كل دعوة في الدنيا غير الإسلام فباطل وخراب ودمار على الإنسانية ، وأنا آخذ نفسي بما يفرضه علي هذا الإسلام ، ولا يمكن أبداً أن أمد الجسور بيني وبين أعداء الله تبارك وتعالى ولا يمكن أبداً أن يخطر لي في يوم من الأيام أن أقنع من قريب أو من بعيد أن هذه الجاهلية التي نصبت لها الحرب تحمل ذرة واحدةً من الخير ، إن هذا الموقف هو شرط النصر الذي لا غنى عنه ، فالعمل الإسلامي الذي جهدنا لكي نأخذ له صورة الحركة الإسلامية الأولى يجب أن يتحلى بهذا .

       إن المسألة هي أن العمل الإسلامي ليس انتساباً لحزب ولكنه انتساب إلى مجتمع ، وبين الانتساب إلى الحزب والانتساب إلى المجتمع فرق يعرفه أولو الألباب ، إن الانتساب للحزب يأخذ جانباً من الذات هو أقل الجوانب وهو أقلها شأناً ، شيئاً من المال وشيئاً من التصفيق والهتاف وتصويتاً عند الانتخابات ولا شيء وراء ذلك . لكن الانتساب إلى المجتمع هو الذوبان والفناء فيه ، أي إعطاء الذات كل ما فيها من قوى ومن إمكانات ، حينئذٍ يستقيم المجتمع الإسلامي على طريقه ، وحينئذٍ يأخذ العمل الإسلامي طريقه الحق الذي لا يغني عنه أي طريق آخر .

       هذه السور القصيرة أثارت أمامنا هذه المشكلة المعقدة في الواقع وهي تحتاج إلى أكثر من ذلك ، ونكتفي بهذا . 

       وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .