المدثر بشأن الوليد بن المغيرة

العلامة محمود مشّوح

المدثر بشأن الوليد بن المغيرة

الحلقة (16) الجمعة 29 1396هـ- 30 كانون الثاني 1976م

العلامة محمود مشّوح

بسم الله الرحمن الرحيم

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون: فإن من أسوأ الأشياء أن يكفر الإنسان نعمة ربِّه، وأسوأ من ذلك أن يتخذ نعمة ربه وسيلة للصد عن سبيله، وإن هذه النماذج التي تسخر نعم الله عليها لتصد بذلك عن سبيل الله؛ لهي مظهر من مظاهر المرض الذي تعاني منه الإنسانية منذ كانت وإلى اليوم، وستظل تعاني من هذا المرض إلى ما شاء الله.

إن الأمر المفترض عند ذوي العقول والألباب أنّ العبد عليه أن يعرف قدر النعمة، كما عليه أن يعرف قدر المنعم، كما عليه بعد ذلك أنَّ يجعل نعمة المنعم في خدمة المنعم وهو الله تبارك وتعالى، والظاهرة التي نقف اليوم عندها والتي عرضنا لشيء من أخبارها فيما سبق ظاهرة رجل هو عنوان لمجموعة ولكنه من حيث هو رجل منعَّم عليه بالمال وبالبنين وبالجاه وبالسمعة، إنه من حيث هو كذلك يمثل أشنع النماذج الإنسانية وأشدها جحوداً وكفراناً. ذكرنا لكم أن الروايات تذكر أن الوليد بن المغيرة وهو من سادات قريش وسرواتها ووجهائها هو الذي نزلت في شأنه الآيات الكريمة من سورة المدثر رابعة سور التنزيل:

)ذرني ومن خلقت وحيداً وجعلت له مالاً ممدوداً وبنين شهوداً ومهدت له تمهيداً ثم يطمع أن أزيد(.

ولا نستطيع أن نعدو الروايات ولكننا مع ذلك نعود فنكرر: إن هذا النموذج متكرر. ليس مقصوراً على عصر الرسالة وإنما هو نموذج شائع في الإنسانية تجده حيث ما كنت وأينما وجدت. دعونا أولاً نقرأ ونفهم هذا الذي نقرأ؛ يقول الله تعالى والخطاب لمحمد صلوات الله عليه وآله (ذرني ومن خلقت وحيداً) وهذا التعبير، هذه الصياغة يراد بها التهديد والوعيد، كما تقول دعني لفلان؛ أي لا تتكل في عذابه والتنكيل به على غيري، فالله سبحانه وتعالى يريد أن يخفف عن نبيه صلى الله عليه وسلم عبء التفكير في هذا المخلوق، ليتفرغ لما نُدِبَ إليه دون أن يلتفت إلى هذا الصغار الذي يتناثر من حوله، وأن يكل أمر المكذبين والمعاندين إلى الله تبارك وتعالى هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن الله تعالى بهذا الكلام يُهِّولُ ويعظمُ من العذاب الذي أُعِدَّ لهذا المخلوق فحين يقول لنبيه صلى الله عليه وآله (ذرني ومن خلقت وحيداً) يريد بذلك أن يتكفل جل وعزّ بمعاقبة هذا الإنسان، وبتأديبه فأي شيء أعظم وأهول من أن يتولى الله تعالى تعذيب عبد من عباده، ومن ذا الذي يقوم ويستمسك لكل هذا التهديد الذي يصدر عن الله تبارك وتعالى من جهة أخرى...

إن الله تعالى يقول: (ذرني ومن خلقت وحيداً) فكلمة وحيد ليست -كما نبهت في الجمعة الماضية- هي الوصف الذي كان يوصف به الوليد في الجاهلية فالوحيد هنا شيء، والوحيد الذي وصف الوليد به في الجاهلية شيء مغاير، في الجاهلية وقبل الإسلام كان الوليد يسمى الوحيد وكان يسمى ريحانة قريش لأنه لا نظير له ولا مثيل ولا شبيه في العرب الجاهليين كرماً وثراءً ورجالاً وشجاعة وسداد رأي وكل ما تنطبق عليه مناقب الجاهلية، فالوحيد هناك وصف مدح أُبِيْنَ به الوليد عن سائر الناس، أما هنا فالله تعالى يقول: (ذرني ومن خلقت وحيداً) مشيراً بذلك إلى واحد من احتمالين: إما أن يكون وصف الوحيد مردوداً على الله تعالى ويكون المعنى ذرني ومن خلقته وحدي أي لم يُشْرِكْ أحد في خلقه.. هذا احتمال، أو أن يكون المراد: ذرني ومن خلقته وحيداً فرداً كما في قوله تعالى: (وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً) ولعل هذا التأويل الثاني هو المتعين لأنه أبلغ في الدلالة ضمن الجو الذي تعرض له الآيات، فالآيات عرضت الوليد ذا مال وذا بنين وذا جاه ممدود فناسب أن يذكر الوليد وأشباه الوليد بمبدأ الخلقة التي خلقهم الله تعالى عليها من حيث خلقهم فرادى جاءوا إلى هذه الدنيا، دفعتهم أرحام الأمهات لا يملكون شيئاً، ولا يقدرون لأنفسهم على نفع ولا على خير، فما زالت بهم نِعَمُ الرب تبارك وتعالى مترادفةً عليهم متواليةً، حتى استووا رجالاً أشداء يذهبون ويجيئون ويتصرفون ويأخذون ويتركون، فجمعوا المال والثراء وبعد أن كانوا فرادى تزوجوا فإذا هم ذوو أولاد عدة وإذا هم يتعززون بهؤلاء الأولاد الذين يحيطون ويطيفون بهم لأن عادة الإنسان ولا سيما حين يَغْنى وحين يَكْثُرُ بعد القلة أن ينسى.

أقول: من عادة الإنسان فرداً كما هو من عادة الأمم والجماعات؛ فالأمم أيضاً تصاب بالنكبات وتصاب بانتقاص الأنفس وانتقاص الثمرات، حتى إذا جاءتها أوقات رخاء وبعد العهد بينها وبين أوقات الشدة، قال الخلائف بوحي النسيان: قد مس آباءنا السراء والضراء، فمن المناسب أن يُذَكَّرَ الإنسان وهو في أوج العز والجبروت، وفي أوج الكثرة، من المناسب أن يُذَكَّرَ بالحال التي خرج بها إلى الدنيا وهذا هو فيما أرجح معنى قوله تعالى: (ذرني ومن خلقت وحيداً) ولا أحمل الكلام هنا على التأويل الأول أي ذرني من خلقته وحدي؛ لأن المشركين الذين يدعون لله آلهةً شُرَكاءَ معه ما قالوا إن الشركاء يخلقون ويرزقون ويُحْيونَ ويميتون؛ وإنما قالوا هم شفعاؤنا ووسطاؤنا إلى الله؛ ولهذا فأنا أكاد أقطع إن شاء الله تعالى أن المراد بوصف الوحيد هنا هو أن الإنسان خلقه الله تعالى وحيداً فريداً في هذه الدنيا ثم يدرج من بعدُ في ميادين الحياة فيكون له المال، ويكون له البنون، ويكون له الأتباع والأصدقاء والموالون ويرشح لهذا ويؤيده ما يأتي. يقول الله تعالى بعد ذلك: (وجعلت له مالاً ممدوداً) فهو أيضاً تذكير بالنعمة.

الإنسان الذي جاء إلى الدنيا لا يملك شروى نقير؛ مع الزمن يؤتيه الله تبارك وتعالى مالاً (وجعلت له مالاً ممدوداً) لكن إظهار النعمة لا يتوقف على الإخيار بأن الله جعل له مالاً بل يتركز في أن الله وصف هذا المال بأنه ممدود ومعنى المال الممدود هو الذي يزداد بالنماء، (والبحر يمده من بعده سبعة أبحر) فالمَدُّ هنا هو الإمداد ومرادفه العطاء فمال الوليد بمقتضى النص الذي أمامنا مال فيه قوة النماء وهو ينمو باستمرار ويرى هذا النماء بأم عينه، (وجعلت له مالاً ممدوداً) ثم (وبنين شهوداً) أما الشهود فهو جمع شاهد والشاهد هو الحاضر. والمن والتفضل على الإنسان أو على الوليد بالذات بكون البنين شهوداً، يتمثل في الآتي: تصور؛ أنا لي أولاد وأنت لك أولاد والآخر له أولاد. ولا شك الأولاد من زينة الحياة الدنيا وقرة عين الإنسان وبضعة من هذا الإنسان يريبه ما يريبهم ويؤذيه ما يؤذيهم؛ ليست النعمة في أن تكون ذا ولد فكم من ولد كان نقمة ولكن النعمة في أن تكون أوضاع هؤلاء الأولاد مما يبث في نفسك الطمأنينة.

أنا عندي أولاد، لكنهم ليسوا هنا، إنهم يضربون في الأسواق ويأخذون بالأسفار يضطربون هنا وهناك طلباً للعيش، قلبي معهم أنا معذب من أجل هؤلاء الأولاد، أنت كذلك حينما تكون بالوضع الذي يدفعك إلى أن تسخر أولادك لكي يشتغلوا ويعملوا تحت الأخطار وتحت الاحتمالات السيئة، فليس مناسباً أن يمن عليك بالأولاد، أولادك في هذه الحالة قلق وتعب وعذاب؛ لكن حينما تكون من اليسر وحسن الحال بحيث لا تكون محتاجاً إلى تشتت أولادك، وإلى أن تشردهم في جنبات الأرض؛ يطلبون لك ولهم لقمة العيش، ففي هذه الحالة فقط يكون الأولاد نعمة لأنهم راحة نفس وطمأنينة قلب وقرة عين، يقول الله تعالى (وبنين شهوداً) أي أنهم حاضرون عنده موجودون لا يتكلفون الضرب في الأرض مَكِفْيُّونَ بثراء الوالد مَكْفيِّون بما عند الوالد من الخدم والحشم والأجراء والموالي؛ وتلك قمة السعادة وغاية الراحة التي يطمع فيها الإنسان.

ثم ماذا؟ (ومهدت له تمهيداً) وتمهيد الأمر تسويته وتعديله، والتمهيد للإنسان يكون بماذا؟ ببسط الجاه، بنفوذ الكلمة، بحفظ المكانة العالية بين الناس، وكذلك كان الوليد في الجاهلية سيداً من سادات قريش، معروف المكانة، لا ينكر فضله أحد ممن هم حوله من سروات قريش، ثم ماذا؟ (ثم يطمع أن أزيد) من الذي يطمع هو الوليد بالرغم من كثرة المال وبالرغم من كثرة الأولاد بالرغم من فشو الموالي والخدم؛ يريد زيادة وتلك خصلة من خصال الإنسان.

يروى أن الوليد كان له ثلاثة عشر ولداً، وأما الأموال من صامت وناطق فما لا يقع تحت حصر ولا عد، ومع ذلك فهو يطمع أن يزيده الله، هل يطمع في الزيادة في المال فقط؟ لا. وجاء الكلام على الإطلاق يطمع أن أزيد إنه يطمع بزيادة المال، يطمع بزيادة الولد، يطمع بزيادة الجاه واتساع النفوذ كل هذه الأشياء مطلوبة للإنسان ومرغوبة من قبل الإنسان، ولا شيء في ذلك؛ فالإنسان يريد بطبعه هذه الأشياء والله جل وعلا لم يسق هذا الكلام ليشرح طبيعة الإنسانية وخليقة البشرية وإنما ليلفت النظر إلى سنة من سننه الماضية.

بعد هذا يقول (كلا) يأتي بأداة الردع والزجر، (كلا) يعني إن ما يتمناه الوليد من زيادة المال والولد، من اتساع النفوذ وبعد الصوت لن يكون، كلا. لماذا؟ (إنه كان لآياتنا عنيداً) السبب في أنه لن يزداد عزاً ولن يزداد مالاً ولن يزداد ولداً السبب في ذلك أنه نسي الله تبارك وتعالى ونسي أن هذا الذي بين يديه من نعمة الله عليه ونسي بطبيعة الحال الأدب الذي يجب أن يتأدب به مع الله تبارك وتعالى.

ويروى أَنَّ الوليدَ منذ نزلت هؤلاء الآيات؛ ما زال في نقصان في المال وفي الولد وفي السمعة؛ حتى أفضى إلى ما قدم، (كلا إنه كان لآياتنا عنيدا) إن الله جل وعلا أيها الإخوة يرزق البر والفاجر لا حسيب ولا رقيب عليه تبارك وتعالى؛ والدنيا مائدته الممدودة يأكل منها الناس جميعاً وما تساوي هذه الدنيا عنده شيئاً، ولو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء، ولكنها لا شيء، ولا يجب أن نقيس أنفسنا على الله ولا أن نقيس الله على أنفسنا، فالكون ملك الله جل وعلا ولكن الله جل وعلا ليس لديه حرص على هذا الكون لأن خزائنه تتجدد ولا تنفد، والناس على خلاف ذلك. يقول الله جل وعلا:

)قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذاً لأمسكتم خشية الإنفاق وكان الإنسان قتوراً(.

لكن الله جل وعلا يرزق من يشاء بغير حساب، هذا وضع الدنيا بالنسبة إلى الله، لكن أهو كل الوضع؟ لا. إنما للدنيا جانب آخر، الدنيا بما فيها من عطاء ومن إمساك وسيلة من وسائل تهذيب الإنسان، وتأديب الإنسان، وصدق الله )ونبلوكم بالشر والخير فتنة( ولقد مضت سنة الله تبارك وتعالى أن الروح والريحان والنعيم والطمأنينة للذين يعرفون قدر المنعم جل وعلا، وأن الخسران والبوار للذين يجحدون هذه النعمة؛ بل إن الخسران كله والبوار كله للذين يستخدمون هذه النعمة للصد عن سبيل الله تبارك وتعالى.

الله يعطيك بغير حساب ليختبرك وليبتليك؛ فإن أنت قمت بما يتوجب عليك من رعاية لحرمات الله وقيام بحقوق الله وحقوق عباد الله؛ وسع الله عليك وأخرجك من الدنيا لا تأس على شيء فاتك أبداً لأنك تنتظر من الله ما هو أعظم وما هو أفضل، وإن أنت لم تعرف قدر المنعم وسخرت نعمة المنعم لإغضاب المنعم؛ فإن الله جل وعلا قادر على أن يسحب نعمته من بين يديك، وهذا الذي كان وهذا الذي لفت إليه النظر بقول الله (كلا) بهذا الردع العنيف والزجر القاسي والإيقاظ المعنت الذي يقول فيه الله: (كلا) لتستيقظ النفس إلى ما بعد، (إنه كان لآياتنا عنيدا)، فالسبب الذي من أجله سُحِبَت نِعْمةُ الله من الوليد هو أن الوليد عاند آيات الله وسخر أولاده وسخر أمواله وسخر جاهه وسمعته بين المكيين المشركين وبين العرب الجاهليين لمحاربة محمد صلى الله عليه وسلم وللصد عن سبيل الله تبارك وتعالى وهذا كما قلنا سنة ماضية من سنن الله تبارك وتعالى.

سأذكر لكم واقعة تتصل بالموضوع حينما هاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة لا شك أنه عليه السلام كان يؤثر أن يستقر في المدينة وأن يؤسس الجماعة المؤمنة على هينةٍ من أمره دون عجلة ودون تسرع؛ ولكن الحوادث أعجلته صلى الله عليه وسلم فلقي المشركين في بدر‘ وكان بينه وبينهم ما كان وانتصر المسلمون النصر المؤزر، وامتن الله عليهم بهذا النصر وتهيأت قريش لتلملم جراحها ولتحاول أن ترد الكرة على المسلمين، ونادى أبو سفيان في أغنياء المكيين؛ يهيب بهم أن يرصدوا أموالهم لمحاربة محمد صلى الله عليه وسلم. وأي إنسان يقف على رأس جماعة ناهضة، ما زالت في أول الخطوات في حياتها الجديدة، لا شك أنه سيهتم، وسيأخذ بعمل حسابات كثيرة لما يَهِمُّ به المكيون. فعندنا معسكران؛ محمد والذين آمنوا معه والمشركون أما الرسول عليه الصلاة والسلام والمؤمنون فحسبنا أن نعلم أنهم خرجوا في موقعة بدر شبه مشاة؛ ويكاد أن لا يكون عندهم سلاح، لماذا؟ لأنهم هاجروا من أهليهم ومن ديارهم لا يحملون معهم شيئاً، فروا إلى الله ورسوله ولأن الأنصار ردوا ما كان بين أيديهم من مال على إخوانهم من المهاجرين؛ فالمسلمون في حال مادية سيئة، فحينما يقابلون بمعسكر كمعسكر المشركين؛ عندهم المال وعندهم الخيول وعندهم السلاح ومن ورائهم مدد لا يكاد ينتهي من الطامعين من أعراب البادية ولصوصها وقطاع الطرق بها؛ فلا بد أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم سيحسب لذلك كل حساب، ومع هذا فالله جل وعلا طمأن نبيه صلى الله عليه وسلم إلى عدم جدوى هذه الخطوات التي يتخذها المكيون المشركون قال الله تعالى فيما أنزل عليه:

)إن الذين كفروا ينفقون أموالهم ليصدوا عن سبيل الله فسينفقونها ثم تكون عليهم حسرة ثم يغلبون والذين كفروا إلى جهنم يحشرون ليميز الله الخبيث من الطيب( الآية.

 فالسنة الماضية لله تبارك وتعالى أن الإنسان مهما يكن جمعه من مال ومن رجال إذا وقف من الله موقف المعاندة، ومن المؤمنين موقف اللدد والخصومة والحرب فلا بد أن ينتهي إلى البوار والخسران، سنة ماضية لا تتخلف كما أن الشمس تطلع من المشرق لتغيب في المغرب كذلك فكل من عاند الله جل وعلا، وكل من قتل المؤمنين وشرد والمؤمنين فمآله أن يدحر وأن يخسر.. تلك سنة لا تتخلف لكن بعض الناس يفقدون الصبر ويتعجلون الأمر، وهنا يتركز مقتلهم فالله جل وعلا يبرز هذه الحقيقة بعد أن يقص علينا من شأن الوليد ما يقص وبعد أن يبين لنا مبلغ النعم التي ظاهرها على الوليد يذكر أن الوليد مع ذلك يطمع بأن يزيده الله مالاً وولداً ثم يقول الله: (كلا إنه كان لآياتنا عنيداً) إن الذي أراده الوليد وطمع فيه لن يكون لسبب ظاهر؛ وهو أنه وقف من الله جل وعلا موقف العناد والرفض ووقف من نبيه صلى الله عليه وسلم موقف التكذيب والصد، واستخدم نعم الله جل وعلا للصد عن سبيل الله تبارك وتعالى وهذا وحده كاف لأن يسحب نعمته من بين يديه وحقاً ما زال الرجل في نقصان حتى قابل ربه تبارك وتعالى.

ثم يترسل الله جل وعلا في اقتصاص ما سيكون للوليد (سأرهقه صعودا) والصعود هو المكان الذي يُصْعَدُ والله جل وعلا كان يمكن أن يقول سأكلفه أن يصعد مكاناً شاقاً؛ لكن التكليف قد يكون هيناً، وقد يكون شاقاً والله تبارك وتعالى يريد لإيحاء الكلام أن يكون جامعاً مانعاً قال (سأرهقه) وكلمة الإرهاق تعني في لغة العرب أشد التعب؛ يعني أن الله سيكلفه من الأمور مشقة وراء مشقة كلما خرج من مشقة صادف مشقة أكبر منها في هذه الدنيا أما في الآخرة -لا ضير- ليكن في الدارين جميعاً أو في إحداهما دون الأخرى.

المهم أن الله جل وعلا تكفل بأن يجعل من حياة الوليد عذاباً دائماً وجحيماً لا يطاق.. بعد النعمة وبعد الراحة وبعد السكينة والاطمئنان؛ سيكون للوليد من الله التعب الدائم (سأرهقه صعوداً) كذلك لا بد من أن يكون لذلك سبب؛ فهنا وعيد من الله جل وعلا؛ افْتِتُحَ بأن طلب الله من نبيه أن يتركه له، حتى يتكفل هو بتأديبه وبتعذيبه، وثنَّى بأن قطع الله طمع الوليد في الزيادة فآض إلى البوار والنقصان، ثم (سأرهقه صعوداً) تكفل الله بأن لا ينجيه من مشقة حتى يضعه في مشقة أدهى وأمر. لماذا؟ للسبب الذي قال الله فيه: (إنه فكر وقدر) أما التفكير فمعروف وأما التقدير فهو وزن الأمور فالرجل يفكر ويزن ويحاول أن يقدر الأمور تقديراً صحيحاً فأي شيء خرج من هذه العملية الفكرية، إنه فكر وقدر، فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر، كلمة قتل كيف قدر جاءت للتهكم لا للوعيد؛ وإن كان مخرجها مخرج الوعيد لكنها للتهكم كما تقول لأحد الناس فكر في هذا الأمر فيفكر فيأتيك بنتيجة سخيفة فتقول له: خيبك الله كذلك جاء الكلام هنا (فقتل كيف قدر) أهذا كل ما خرج منك يا وليد بعد التفكير والتقدير ثم قتل كيف قدر يتهكم الله به ويهوِّن من شأن هذه النتيجة، التي انتهى إليها بماذا كان يفكر الوليد؟ -كما قلنا من قبل- كان يفكر في هذا القرآن الذي تلاه عليه محمد صلى الله عليه وسلم (إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر، ثم قتل كيف قدر ثم نظر) وهذه الآيات ترسم الحركة النفسية وانطباعاتها على أسارير الوجه (ثم نظر ثم عبس وبسر) حينما تفكر تفكيراً عميقاً فإن أسارير وجهك تقطب (ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر، فقال إنْ هذا إلا سحر يؤثر) عند هذه الكلمة التي انتهى إليها الوليد نضع أيدينا على النتيجة التي خيبه الله من أجلها بعد كل التفكير والتعب، بعد المداولات بينك وبين رؤساء قريش وغيرهم من العرب المشركين تكون عاقبة التفكير؛ أن يوصف كلام الله بأنه سحر يؤثر. ألا خيبك الله (فقتل كيف قدر) هل هذا الكلام سحر، السحر لا يخفى نفث وعقد ودمدمة وكلام لا يفهم وهذا الذي تسمعونه من محمد يسمعه العربي الذي هو أقل منكم؛ وأضعف بصراً بأفانين الكلام منكم فيفهمه ويستطيع أن يميزه فوراً من دمدمة السحرة ونفثهم وعقدهم، أغاية ما انتهيت إليه يا وليد أنت والمشركون معك، أنَّ هذا سحر يؤثر، لكن الوليد حينما قال هذا الكلام علل هذا الكلام بتعليل قاله للمشركين، قال: ألا ترون أن هذا الذي جاء به محمد يفرق بين الأب وابنه وبين الزوج وزوجه وبين الإنسان وعبيده ومواليه، كذلك يفعل السحرة.. في هذا الكلام دقيقة أن الله تعالى قال: (إنه فكر وقدر فقتل كيف قدر ثم قتل كيف قدر) قال: (ثم نظر ثم عبس وبسر ثم أدبر واستكبر) فالعطف في هذا الكلام بين الجمل جاء بلفظ (ثم) (ثم) في لغة العرب تدل على التراخي والتمهل؛ تقول دخل زيد ثم دخل عمرو ثم دخل بكر ثم دخل خالد تريد أن بين الدخول والدخول فاصلة وزماناً يتراخى ولكن حينما تقول دخل زيد فعمرو يكون العطف بالفاء معنى ذلك أن واحداً دخل على أثر الآخر فوراً، ففي هذه الجمل كان العطف بعملية التفكير (ثم) لتدل على أن عملية التفكير بأطوارها أخذت من الوليد والذين معه زمناً طويلاً، لكنه حينما خطرت له الكلمة الشنعاء؛ أن يصف القرآن بأنه سحر فالله جل وعلا عدل عن (ثم) ليستخدم (الفاء) قال: فقال )إن هذا إلا سحر يؤثر( علامَ تدل في باب التحليل النفسي هذه الصياغة؟ تدل على أنه كان وهو في أقصى درجات الانفعال والتلهف لإيجاد وصف يصف به القرآن ما كاد تخطر له هذه الكلمة الشنيعة حتى أمسك بها فألقاها فقال؛ إنْ هذا إلا سحر يؤثر، ما ترك فاصلة ولا مهلة خشية أن تنفلت هذه الكلمة منه وتضيع فيخرج إلى تفكير آخر.

هذا التصوير الذي ذكر الله تعالى شأنه ما أظن أنه يخفى على قارئ للقرآن ولكن الشيء الذي قد يخفى هو ما ينبغي أن نلفت النظر إليه الآن. واضح أننا من تجربتنا نعرف أن كل الناس لا ينساقون إلى الحق على سوية واحدة، من الناس من يستجيب، ومن الناس من يُعْرِض.. لماذا؛ لا بد من أن نسأل أنفسنا هذا السؤال، ما الذي يمنع الإنسان من قبول الحق واعتقاده والأخذ به، هل في هذا الكلام الذي يتلوه محمد صلى الله عليه وسلم شك وارتياب؟ لا وآية ذلك أنه منذ أربعة عشر قرناً تحدى الناس بأن يأتوا بسورة من مثله وما زال التحدي قائماً وما زال عجز الناس قائماً؛ وذلك أبلغ الدليل على أن هذا الكلام المنزل هو من عند الله تبارك وتعالى لم يتقوله أحد من الخلق لا من الماضين ولا من اللاحقين فلماذا إذاً بعد الوثوق بأن القرآن كلام الله وبأن الله لا يقول إلا الحق؟

لماذا يعرض الناس عنه؟ لا بد من سبب ولا بد من علة، ولعله في الرسالة تخلو الرسالة تماماً من كل امتيازاتها إذا سكتت عن بيان العلة، العلة في هذا أن الإنسان في الدنيا حينما نتعمق في فهمه لا يكفي أن نعرض له الحقيقة وإنما يجب أن نحطم السدود والقيود التي تمنعه من الأخذ بهذه الحقيقة، ما الذي يشكل هذه السدود والقيود؟ أعراف الناس، أفكار الناس، شهوات الأنفس، ما على وجه الأرض من زينة ومتاع فالإنسان في الواقع أحد رجلين إما رجل قادر على أن يسمو بنفسه فوق الضرورات فهو يستطيع في كل حين أن يلتزم بالحق أو إنسان ملوث بالشهوات مأسور لها فهو عاجز أبداً -طالما هو في هذه الحالة- عن رؤية الحقيقة، وعن اعتناق الحقيقة والأخذ بها، هل سكت الله جل وعلا عن بيان هذه العلة؟ ارجعوا فوراً إلى أول سورة.. ما هي أول سورة نزلت من القرآن؟ أول نداء صافح سمع النبي صلى الله عليه وسلم ماذا كان: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) ما الذي قال الله في تلك السورة؟ قال: (كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى) حينما يشعر الإنسان بأنه مخول بنعم كثيرة مال وأولاد وجاه وسلطان وما أشبه ذلك ينسى نفسه معتمداً على قوة خارج ذاته، وأية قوة فوق ذاته وخارج ذاته هي طغيان، وسداً في وجهه أمام الحقيقة هنا يبدأ مقتل الإنسان هنا يدركه العمى ولا يستطيع أن يرى الحق لمجرد أن يتجاوز الإنسان حده وأن يشعر بأنه مستغن عن ربه فحينئذ يبدأ الشيطان بالتلعب به تلعباً خطيراً هل هي هذه الإشارة فقط لا وإنما قال الله جل وعلا في السورة الثانية في سورة القلم: (فلا تطع المكذبين ودُّوا لو تدهن فيدهنون ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم) ماذا؟ (أن كان ذا مال وبنين إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين) فذلك الذي يكون ذا مال كثير وبنين كثيرين إذا تليت عليه آيات الله تبارك وتعالى، ولى مستكبراً؛ وقال أساطير الأولين.

ماذا يقول الله تبارك وتعالى في السورة الثالثة في سورة المزمل يقول:

)وذرني والمكذبين أولي النعمة ومهلهم قليلاً(.

فأولوا النعمة هم المترفون وهم المتنعمون ثم هم المكذبون فهذا الاستغناء الناتج عن انغماس الإنسان في الشهوات وضياعه في مسار النعم المتدفقة عليه من كل جانب هو الذي يعميه وهو الذي يحول بينه وبين رؤية الحقيقة واعتناق الحقيقة وأخذ نفسه بهذه الحقيقة.

قلت إن الرسالة تفرغ من كل معناها وكل مبرراتها لو سكتت عن تشريع هذا الوضع فالله جل وعلا حين يعرض شأن الوليد وموقفه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وموقفه من الملأ من قريش من هذا القرآن وتكذيبه بأن يكون القرآن منزلاً من عند الله وادعاءه بأن هذا القرآن سحر يؤثر كان الدافع إلى ذلك ماذا أن الوليد مستغن من جملة المستغنين عبد من عبيد الشهوات إنسان صرعته النعمة صرعاً وأصبح لا يستطيع أن يرى الحقيقة. واجب الإسلام كما سنرى بعد التعمق في دراسته وتحليله أن يعيد تنظيم شؤون الحياة وتوزيع خيرات الحياة على نحو لا يؤثر على الفطرة الإنسانية أن يجعل النعمة في يد الإنسان لا في قلب الإنسان أن يجعل الإنسان سيد النعمة ولا يجعل النعمة هي سيدة الإنسان، بهذا يضمن الإسلام للإنسان أن يكون فعلاً متحرراً من جميع الدوافع ومن جميع الجواذب ثم أن يجعله في كل وقت قادراً على رؤية الحقيقة بذاتها عند هذا الحد نقف وإن كنت لا أرغب في أن أفصل الكلام من جانب آخر يتصل بفلسفة الدعوة وبجانبها الحركي لكني سأرجئ هذا إن شاء الله تعالى إلى فرصة أخرى ننظر في الآيات التي مرت جميعاً وفي السور الأربعة التي مرت جميعاً نظراً تفصيلياً لهدف من ورائه في تقعيد القواعد وتأصيل الأصول وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وآله.