الأرملة 2

جميل السلحوت وديمة جمعة السّمّان

15

صحا صخر من نومه متأخرا على غير عادته؛ ليجد أن السّاعة تجاوزت العاشرة صباحا، وكانت زوجته لا تزال غافية، فقد كانت ليلة البارحة عصيبة على الأسرة. جنّ جنونه، فهو معتاد أن يفتح كراجه في الثّامنة صباحا، هزّ زوجته من كتفها بعنف يلومها:

  • لماذا لم توقظيني؟ لقد تأخّرت عن عملي، انهضي جهّزي لي قهوتي، فلا وقت عندي.

فتحت عينيها بصعوبة، نظرت إلى السّاعة النّحاسيّة الكبيرة التي تتصدّر حائط غرفة النّوم مقابل السّرير:

  • يا إلهي، السّاعة العاشرة الآن، فات كريم وكريمة باص الرّوضة.
  • أهذا ما يهمّك! قلت لك إنّني تأخّرت عن عملي، هيا جهّزي لي القهوة.
  • حاضر.. حاضر.

نهضت ندى بتثاقل، جهّزت فنجاني قهوة، وضعت الصّينيّة على طاولة الوسط الدّائريّة في غرفة المعيشة. جلست على الأريكة تنتظر زوجها؛ ليجلس بجانبها، كي يشربا القهوة سويّا كما هي العادة، على أمل أن تليّن الجوّ، وتقنعه بأن يدخل غرفة براء، ويتعامل معها بحنان الأب الذي تهمّه مصلحة ابنته، ويقول لها بأنّه تصرّف معها بهذا الأسلوب مساء أمس رغما عنه، فقد خرج عن وعيه، وفقد أعصابه، وما فعل هذا إلا لأنّه يحبّها، فهي ابنته الذّكيّة، وهو يخشى عليها وعلى سمعتها.

إلا أنّه تناول فنجانه من الصّينية، وصبّه في جوفه على عجل، وقبل أن يغادر البيت، توجّه إلى غرفة ابنته براء وقال لها:

- استعدّي يا عروستنا الجميلة، سأزوّجك لجارنا الأرمل السّتيني أبو الفضل. كان قد طلب يدك منذ شهرين ولم أعطه جوابا.

وغادر المنزل على الفور، دون أن يلتفت إلى زوجته.

جنّ جنون براء، وأجهشت بالبكاء.

طمأنتها أمّها قائلة:

- لا تخافي يا ابنتي. لن تتزوّجي أبا الفضل ولو على جثّتي.

لن أسمح لأحد أن يدمّر حياتك، فلا زال المستقبل أمامك.

وبيّتت الأمّ أمرا في نفسها.

*****

وصل صخر إلى كراجه، فوجد الصّبيّ الذي يعمل عنده يصلح سيّارة من موديل قديم جدّا، فأمسك به من أذنه يؤرجحه يمنة ويسرة، ثمّ صفعه صفعة على رأسه أفقدته توازنه وقال:

  • ألم أقل لك أيّها الغبيّ أنّ كراجي لا يستقبل السّيّارات القديمة؟ ألا تفهم؟

قال الصّبيّ متألّما يتحسّس أذنه، يتفقّدها، يتأكّد أنّها لا زالت في مكانها:

  • يا معلّمي، صاحب السّيّارة رجل مسنّ وغير مقتدر، ورجاني أن أصلحها له... عطبها بسيط، لن يأخذ تصليحها منّي أكثر من ربع ساعة.
  • هل سنحوّل الكراج إلى مكتب شؤون اجتماعيّة! اتركها وابدأ بتصليح سيّارة جارنا صاحب المحالّ التّجارية في الشّارع المقابل، هيّا.
  • ولكن يا معلمي...
  • اخرس.. ولا تناقشني وإلّا سيكون هذا آخر يوم لك في الكراج.. هيّا.

وأخذ يتمتم بشتائم كبيرة للصّبيّ وللمسنّ صاحب السّيّارة القديمة.

ترك الصّبيّ السّيارة القديمة على مضض، وأخذ يفحص السّيارة الجديدة.

وإذا بصديق قديم لصخر يدخل إلى الكراج، فأخذه بالأحضان. لم يصدّق صخر أنّ "عنان" وصل أرض الوطن. فقد هاجر إلى كندا منذ أكثر من عشرين عاما، وحصل على الجنسيّة الكنديّة، فأخذا يستذكران أيّام الطّفولة والمراهقة، وضحكتهما وصلت آخر الشّارع سعيدين.

سأل صخر:

  • متى ستعود إلى كندا؟
  • لن أعود قريبا، فقد أرسلتني الشّركة التي أعمل بها لتأسيس فرع جديد في رام الله، وسأستلم إدارة الفرع الجديد فور تجهيزه.
  • خبر سعيد جدا. أخبِرني، هل تزوّجت؟
  • نعم، تزوّجت من كنديّة اسمها لوسي، إلا أنّنا انفصلنا منذ سنتين.
  • هل خلّفتما؟
  • نعم جاءنا توأمين، ساندي وجولي، وهما مع أمّهما، تزورانني مرّة واحدة في الأسبوع.
  • كم عمرهما؟
  • عشر سنوات.
  • وكيف قبلت أن تتركهما مع أمّهما؟
  • كان هذا قرار المحكمة.
  • المهمّ يا صخر، طمئنّي، كيف أنت وزوجتك ندى؟ هل خلّفتما غير عميد وبراء؟
  • نعم، التّوأم كريم وكريمة، في الخامسة من عمرهما.
  • وماذا يفعل عميد الآن.

صمت صخر وقال:

  • توفّي عميد منذ تسع سنوات.
  • يا إلهي. رحمة الله عليه، كيف؟ أكان مريضا؟
  • آآآآخ، لا، لم يكن مريضا. توفّي بحادث مؤسف.

أوجعني موته يا عنان. مات قتيلا، وكنت أنا السّبب. كان هناك بعض الأشرار الذين حاولوا الاعتداء عليّ في الكراج بسبب مشكلة قديمة بيننا، وأثناء عراكنا، رفع أحدهم سكين ليطعنني به، فتدخل عميد ليحميني، فأخذ المسكين الضربة عنّي، وقضى على الفور، فقد توسّطت السّكين القلب، ولكنّني لم أسكت، تناولت مفتاحا ثقيلا، وضربت من طعنه ضربة قوية على رأسه، وغرست مفكّا كان على الأرض بخاصرة آخر؛ فهرب الباقون. ولكنني فقدت فلذة كبدي، ودخلت السّجن مدّة ثلاث سنوات. ولا زال الضّمير يعذّبني ليل نهار.

  • يا إلهي. أعانك الله يا صخر. ولكن ألا زلت متمرّدا على كلّ من حولك يا رجل؟ عصبيّ المزاج، تبحث عن المشاكل أينما تذهب! ألم تتغيّر؟
  • لا.. ولن أتغيّر... ربّتني أمّي وكانت أرملة ضعيفة. كان لا بدّ لي أن أقف لكلّ من يتعرّض لها بالمرصاد. كان أخي الكبير ضعيفا. أنا من أنقذتها من براثن الذّئاب، لم يبق رجل في الحيّ إلا وتقدّم يطلب يدها. الكلّ طمع بها وبالأموال التي تركها أبي لها ولنا نحن الأخوة. لم يتركها أحد في حالها يا رجل، كانت مسكينة بحاجة لمن يحميها من هؤلاء المستغلّين. وكنت أنا هذا الحامي، رغم صغر سنّي.
  • ألا زلت تذكر يا صخر؟
  • وكيف أنسى يا عنان!
  • دعنا نغيّر الموضوع يا صخر. لم آت إليك لأفتح الجروح.

سآخذك إلى مشروع سكنيّ في بيت حنينا. اشتريت شقّة هناك في الطّابق الخامس، وعدني المقاول أنه سيسلّمني مفتاح الشّقة جاهزة خلال ستّة أشهر. هيّا بنا؛ لنزور الموقع. يهمّني رأيك كثيرا.

ركبا سيارة صخر المرسيدس السّوداء الجديدة، وتوجّها سويّا إلى المشروع السّكني. وصلا إلى الموقع، أعجب صخر بتصميم البناية، فصعد إلى الطّوابق العليا من خلال سلالم مؤقتة معلّقة بحبال. حاول عنان منعه من الصّعود خوفا عليه، فهي غير مأمونة. إلا أنّه أبى كعادته، مدّعيا أنّه خبير في هذه الأمور، وأثناء صعوده، قٌطع حبْل من الحبال، وأخذ صخر يتأرجح في الهواء، فقد توازنه وسقط من علوّ الطّابق الرّابع صريعا.

*****

لم تترك ندى ابنتها طيلة اليوم، بقيت في غرفتها تتحدّث إليها لتخفّف عنها صدمتها، إذ أصابتها حالة من الهستيريا، يصاحبها رجفة في جميع أنحاء جسدها، بعد أن علمت بنيّة والدها تزويجها من العمّ أبي الفضل، فقد أصبح ربّ الأسرة عدوّا بدلا من أن يكون سندا وداعما لأسرته، يهدّد سعادتها وأمنها، ويزيد من همّها، وإذا بجرس الهاتف يرنّ بإصرار، رفعت الأمّ سماعة الهاتف؛ لتتفاجأ بالشّرطة تبلغها بمقتل زوجها.

تجمّدت الأمّ فور سماعها الخبر، سقطت السّماعة من يدها، فتناولتها براء لتتلقى الخبر.

اختلطت مشاعر ندى، فلم تستطع تمييزها، أهي حزينة أم غير ذلك! لا تريد أن تقول أنّها فرحة بهذا الخبر، فهو ربّ الأسرة، على الرّغم من أنّها كانت قد بيّتت في نفسها أمرا، إن أصرّ على تزويج براء من أبي الفضل. هل كانت قادرة حقّا على أن تضع له السّمّ في طعامه إن أصرّ على رأيه!

لقد أنقذها الله وأبعد الأب عن الأسرة، دون أن تضطرّ لارتكاب جريمة. فلماذا لا تفرح وهو عنيد؟، هي تعرف تماما أنّه ما كان سيتراجع عن رأيه أبدا.

إذا هي حرّة الآن! وابنتها لن تتزوّج أبا الفضل. ترى هل ستستطيع أن ترسم البسمة على شفاه أسرتها بعد عيشة النّكد التي فرضها ربّ الأسرة طيلة السّنين الماضية على كلّ من في البيت؟

كانت براء تنظر إلى وجه أمّها تقرأ ملامحه دون أيّ تعليق. وكأنّها شعرت بأمّها وما يجول بخاطرها.

ارتمت البنيّة بحضن أمّها وأجهشتا معا ببكاء مرّ، لم يعرفا تفسيره.

*****

انتهت أيّام العزاء الثّلاثة. وقف الجيران والأصدقاء وقفة أصيلة مع الأسرة. لم يكن من عائلة الفقيد سوى عدد قليل جدّا، فقد أساء صخر إلى معظم أفراد عائلته، وقطعوا جميعهم علاقتهم به وبأسرته من منطلق (ابعد عن الشّر وغنّي له).

وقف عنان مع أسرة الفقيد وقفة صديق مخلص، خاصّة وأنّه يشعر بعذاب الضّمير، فقد اعتبر نفسه أنّه هو من تسبّب بمقتل صديقه. على الرّغم من أنّه حذّره، وحاول منعه من الصّعود على سلالم المبنى.

كان عنان يزور الأسرة مع أمّه وشقيقتيه حنان وعبير بشكل يوميّ، يتفقّد احتياجات الأسرة، ولكنّه كان يتجنّب النّظر إلى ندى، أو التّعامل معها بشكل مباشر. كان يتعامل مع الطّفلين كريم وكريمة بحبّ كبير، ويصطحبهما لشراء بعض الألعاب والحلويات، كما كان يجلس مع براء يتحدّث معها عن تخصّصها الجامعيّ في علم النّفس، ورغبتها في إكمالها دراسات عليا في ذات المجال.

يشعر عنان بتسارع دقات قلبه عند دخوله بيت صخر ويصطبغ لون وجهه بالأحمر القاني فور رؤيته لأرملة صديقه ندى، ويشعر بارتباك ملحوظ رغم محاولته إخفاء توتّره.

شعرت به أخته حنان، فهي شقيقة الرّوح وبيت أسراره. وبعد عودتهم من بيت صخر، انتحت به جانبا:

  • ما بك يا عنان؟ ظننت أن حبّك لندى انتهى بعد ارتباطها بالمرحوم صخر، أليس هذا ما أكدته لي قبل سفرك إلى كندا؟
  • وأنا كذلك يا حنان.. ظننت أن حبّها مات مع السّنين، ولكنني حين التقيت بها، عادت بي الذّاكرة إلى تلك الأيّام. آآآخ يا حنان، أوتظنّين أنّني سافرت إلى كندا بإرادتي؟ سافرت هروبا من حبّها. فقد تزوّجت صديق عمري.
  • لماذا لم تواجهها بحبّك قبل ارتباطها بصخر؟
  • لأنّني خجول. كرهت نفسي وجُبني. خاصّة أنّها كانت فتاة ملتزمة جدّا ولم تسمح لأيّ شاب بالتّقرب منها. جبنت، خفت أن تصدّني.

كنّا نراها أثناء عودتها من المدرسة. كم كانت جميلة! كنت أحلم بها ليل نهار. وإذا بصخر يفاجئني بحبّه لها، وبأنّه يتمنّاها زوجة. فلم أستطع أن أعلمه بمشاعري تجاهها، فباركت له على مضض. وبعدها تقدّم لخطبتها، وكان ما كان.

كان حضور حفل زفافهما فوق احتمالي، فادّعيت أنّني مريض، وبعدها سافرت إلى كندا لأكمل دراستي. كان هروبا يا حنان.. هروبا.

ربتت حنان على كتفه وقالت:

  • ربّما دار الزّمن؛ ليجمعكما في منزل واحد زوجا وزوجة. فهي أرملة وأنت مطلّق.
  • صعب، فأنا السّبب بموت زوجها. هل ستسامحني؟
  • الأعمار بيد الله. هذا قدره. أنت حذّرته، وهو عنيد، لم يمتثل لتحذيرك. ما كنت تستطيع أن تفعل أكثر من ذلك يا عنان. لا تجلد نفسك.

 

17

بعد مضيّ أربعة أشهر وعشرة أيّام على موت صخر، انتهت فترة عدّة أرملته ندى، فشعرت أنّ الحياة قد عادت إليها من جديد، تفتح لها ذراعيها بحبّ. فلماذا لا تأخذ بنصيحة ابنتها براء وتكمل دراستها الجامعيّة، فقد كانت طالبة ذكيّة ومتفوقة؟ ورغم كلّ ظروفها الصّعبة استطاعت أن تسجّل معدل سبعة وسبعين في امتحانات الثّانويّة العامّة، وهو معدل جيّد.

كانت تحلم أن تدرس أيّ تخصّص له علاقة بعلم النّفس والتّربية الاجتماعيّة. وقد كانت قارئة نهمة في هذا المجال، تحاول تثقيف نفسها باستمرار.

حاولت أن تقنع صخر بعد زواجهما بإكمال تعليمها، إلا أنّه رفض بإصرار، إذ أنّ دور الزّوجة عنده يقتصر على خدمة الأسرة، فقط لا غير.

شجّعتها ابنتها براء، وذهبتا سويا إلى جامعة القدس المفتوحة في بلدة العيزريّة، فهي الجامعة التي تستطيع أن تدرس فيها عن بعد دون أن تضطرّ للالتزام بالدّوام اليوميّ النّظاميّ، فلا زال طفلاها كريم وكريمة يحتاجان لها.

وهما في طريقهما إلى البيت، عرّجتا على مدرسة تعلّم دروس السّياقة، وسجّلتا فيها. فلا زالت سيّارة صخر المرسيدس السّوداء الجديدة تصطفّ على الرّصيف مقابل العمارة، ولا تجد من يقودها.

*****

صباح اليوم التّالي، رنّ جرس باب المنزل، فإذا بها جارتها أمّ عارف، وقد عادت من زيارة ابنها وأسرته في دبيّ، فهو يعمل هناك في مجال الإعلام منذ أكثر من سبع سنوات. وما أن فتحت ندى الباب حتى احتضنتها بشوق، فقد زادت فترة غيابها عن أسبوعين، وهي الجارة المخلصة الوفيّة، الّتي وقفت معها ودعمتها في عدة محطّات من حياتها.

أعلمتها ندى بأنّها سجّلت في الجامعة لإكمال تعليمها، ففرحت لها أمّ عارف، وأثنت على خطوتها التي اعتبرتها موفّقة وحكيمة.

واقترحت عليها أن تعمل في روضة بالقرب من العمارة التي يسكنان بها، فهي تحمل شهادة الثّانويّة العامّة، وقد رأت إعلانا يطلب مربّية أطفال.

فكّرت ندى لبعض ثوان قبل أن تجيب:

ولكنّي لا أحمل شهادة جامعيّة، وليس معي أيّ دورة تخصّصيّة في هذا الشّأن.

  • ومن قال أنّهم يطلبون شهادة جامعيّة! شهادة التّوجيهي تكفي. ثمّ أنّك أمّ، وقد خضت تجربة الاعتناء بالأطفال وتعليمهم، وهي أفضل من كلّ الدّورات. اتركي الموضوع عليّ يا ندى. أنا أعرف صاحبة الرّوضة، وهي لا ترفض لي أيّ طلب. المهمّ أن تقتنعي.
  • دعيني أفكر يا أمّ عارف. أنا لا أحتاج إلى المال. لقد ترك صخر لي مبلغا كبيرا من المال في البنوك. وقد قمت بتأجير كراجه بمبلغ جيّد أيضا.
  • يا حبيبتي، دعي المال الذي تركه لك زوجك لأولادك. لا تعرفي ما الذي يخبّئه لهم الزّمن. هي بضع ساعات تقضينها في الرّوضة، ستخرجين صباحا مع طفليك، وتعودين قبلهما.

خرجت براء من غرفتها، فقد كانت تستعد للخروج إلى الجامعة. فرحت كثيرا حين رأت أمّ العارف، شاركتهما في نقاشهما بخصوص عمل والدتها في الرّوضة، فشجعت أمّها:

يا أمّي، مجرّد الخروج من المنزل والالتحاق بأيّ عمل يزيد من خبرتك، ويوسع دائرة معارفك. ثمّ أنّ هذا العمل سيؤمّن لك شهادة خبرة، قد تضطرّين لها لاحقا بعد دراستك الجامعيّة. لا تتردّدي يا أمّي.

اقتنعت الأمّ برأي ابنتها على الفور وقالت لأمّ عارف:

  • نعم، يبدو أنّها فكرة جيّدة.

ابتسمت أمّ عارف سعيدة بمنطق براء وقالت:

الحمدلله أنك موجودة يا براء، فلا أحد يستطيع إقناع أمّك سواكِ.

ضحكن جميعهنّ، وقالت ندى ممتنّة لأمّ عارف:

  • أنت الخير والبركة يا أمّ عارف.

 

18

قسّمت ندى وقتها بين أسرتها وعملها ودراستها. فاكتشفت طاقتها، وأخذت تعتني بنفسها، وتولي عناية بمظهرها الخارجيّ، فشعرت بإنسانيّتها، وازدادت جمالا.

اتّسعت دائرة علاقاتها، خاصّة مع أولياء أمور الأطفال الذين تعلّمهم وتعتني بهم. كانت مخلصة جدّا في عملها، دمجت معرفتها مع مشاعر الأمومة، فأحبّها الأطفال وأولياء أمورهم.

نجحت ندى وبراء بامتحان السّياقة من المرّة الأولى، فأخذت الأمّ سيّارة صخر "المرسيدس" السّوداء، فازدادت هيبة. واشترت لابنتها سيّارة من نوع مازدا اختارتها براء بنفسها.

ومضت الأيّام سعيدة، تطوي صفحة سوداء في حياتهما.

*****

في صباح يوم ماطر، نزلت ندى وطفلاها من المنزل كالعادة لتوصلهما إلى المدرسة، ومن ثمّ تتوجّه إلى مكان عملها في الرّوضة، وإذا بها تجد إطار سيّارتها معطوبا، فجنّ جنونها... من سيبدّل لها الإطار والمطر غزير والجوّ عاصف؟ وكانت براء قد سبقتهم بسيّارتها إلى جامعة بيرزيت قبل أقلّ من ربع ساعة. التفتت حولها وإذا بأبي عارف يطلّ من بيت درج العمارة، رآها وطفليها في حالة ارتباك، فاقترح عليها أن يوصلهم بسيّارته، إذ كان الجوّ سيّئا جدّا، ومن الصّعب تبديل الإطار. وافقت على اقتراحه وهي محرجة:

  • شكرا لك أيّها الجار الطّيّب، أرجو ألا نتسبّب لك بالتّأخير عن عملك.
  • لا تقلقي يا أمّ عميد، لا زال الوقت مبكرا. وأعدك أنّني سأبدّل لك الإطار المعطوب بعد عودتي من العمل عصرا.
  • لا أدري كيف أشكرك.. أنت وأمّ عارف سندي وو..

ثم صمتت ندى وقالت:

لا أدري ماذا أقول لك.

ضحك أبو العارف وقال:

لا تقولي شيئا، النّاس لبعضهم البعض يا بنت الحلال. المهمّ أن تصلوا في الوقت المناسب.

أوصل الطّفلين إلى المدرسة، ومن ثمّ أوصلها إلى الرّوضة حيث تعمل. وعرض عليها أن يصطحبهم في طريق العودة، فرفضت بشدّة، وقالت له أنّ براء ستعود بهم إلى البيت بسيّارتها، إذ أنّ دوامها اليوم في الجامعة قصير.

شعرت براحة، فهي تشعر أنّ أبا عارف وزوجته قدّما لأسرتها الكثير، وهي تؤمن بالمثل القائل: "إن كان حبيبك عسل تلحسوش كلّه". فلا ضير من كذبة بيضاء، فلن تعود براء مبكرا اليوم من الجامعة.

عادت ندى وطفلاها إلى المنزل في سيّارة أجرة، فوجدت سيّارتها لا زالت بإطارها المعطوب تنتظرها بجانب الرّصيف. وإذا بطفلتها كريمة تتنهّد، وكأنّ روحها ارتدّت إليها. لكزت أمّها من خاصرتها، وقد كانت بسمتها تشير بأنّ الفرج آتٍ:

أمّي.. عمّي أبو عارف وصل.

التفتت ندى، وإذا بأبي عارف يركن سيّارته بجانب الرّصيف المقابل، نزل من سيّارته وتوجّه نحو سيّارة ندى. ومن حسن حظّهم أن كانت السّماء صافية. ركض الطفلان باتّجاه الجار، ضمّهما بحنان الأب، وقبّلهما على الجبين.

قالت كريمة: الحمدلله أنّك جئت يا عمّي، فإطار السّيارة لا زال معطوبا.

ضحك أبو العارف وقال:

- لا تقلقوا، أنا هنا.. سأغيّر الإطار على الفور.

وصل حيث تقف ندى، وقد كانت تشعر بالحرج:

- غلّبناك يا أبا عارف.

- غلبتكم راحة يا أمّ عميد، لا تهتمّي، الجار للجار.

- أدامك الله لنا أنت وأمّ عارف يا ربّ، فأنتما من خيرة النّاس.

ضحك أبو عارف وقال:

- كفّي عن هذا الكلام يا أمّ عميد. قلت لك أنّ النّاس لبعضهم.

فكّ أبو عارف الإطار المعطوب، واستبدله بآخر يقبع في صندوق السّيّارة الخلفي.

كلّ هذا وأمّ عارف ترقب ما يجري خلف زجاج نافذة المطبخ التي تطلّ على الرّصيف حيث تقف سيّارة ندى.

تذكّرت أمّ عارف كلام جارتها أمّ العبد:

- لم أر أجهل منك يا أمّ عارف، أنت تضعين البنزين بجانب النّار. ندى لا زالت شابّة جميلة، وكلّنا نلحظ اهتمام أبي عارف بها وبأبنائها. صدّقيني، لن يطول الأمر وسيأتي بها ضرّة لك.

- لا يا أمّ العبد، ندى مسكينة ومكسورة الجناح، وأبو عارف تزوّجني عن حبّ، لا يستغني عنّي أبدا، ولن يفعل.

ضحكت أمّ العبد، مطّت شفتها السّفلى بحركة مضحكة تشير إلى استهبالها لجارتها:

ظننت أنّك أذكى من ذلك، يقول المثل: "يا مْأمّنه للرّجال يا مْأمّنه لِلْمَيْ بالغِربال".

رغم أنّ أمّ عارف حاولت ألا تتأثر بكلام جارتها، إلا أنّ القلق بدأ يساورها بعد محادثتها مع أمّ العبد، وأصبحت ترقب زوجها بشكل غير إراديّ، فقد رأت ندى وطفليها داخل سيّارة زوجها صباحا، وبعد العودة من العمل التقى بها أيضا. فهل هي الصّدفة؟ بدأ الفأر يلعب في عبّها، وزاد من قلقها.

وبينما كانت تحدّث نفسها وإذا بأبي عارف يدخل المنزل، ينادي عليها وهو يتوجّه نحو الحمّام؛ ليغسل يديه اللتين اصطبغتا بالسّواد من إطار سيّارة ندى:

أين أنت يا أمّ العارف؟ أين أنت يا رفيقة العمر؟

ركضت نحو الحمّام ترحّب بزوجها كما هي العادة دوما:

أهلا بزوجي الحبيب، هل أجهّز مائدة الطّعام؟

- نعم.. أنا ميّت من الجوع. أشمّ رائحة طعامك الشّهيّ.

ضحكت ضحكة من القلب وقالت:

ألف سلامة عليك يا حبيب القلب. لقد جهّزت لك الطّعام الّذي تحبّه، الملوخيّة مع الدّجاج المشويّ.

اقترب منها، رفع يدها، وطبع قبلة على ظاهر كفّها:

سلمت أيادي أجمل زوجة في الدّنيا.

توجّهت إلى المطبخ وهي تحدّث نفسها، فهو يتصرّف كعادته، هذا هو طبعه حين يدخل المنزل، لا يستوعب أن تبعد عنه دقيقة واحدة. كلامه الجميل يتدفّق عسلا من شفتيه مثل كلّ يوم. تصرّفاته تصرفات عاشق، فلم تتغيّر مشاعره تجاهها طيلة خمسة وثلاثين عاما من زواجهما. سألت نفسها:

ترى هل سيتغيّر يوما؟ وهل جميع الرّجال لا يؤمن جانبهم؟ هي ترى أنّ زوجها من طينة أخرى، فهو الحبيب المخلص.

جلسا سويّا على المائدة، وكعادته بدأ يروي لها ما حصل معه طيلة فترة غيابه عنها، وتطرّق لما حدث مع ندى وأطفالها صباحا، وكذلك حين عاد من عمله. كان يتكلّم عن هذه الأسرة المنكوبة مبديا شفقته على تلك الأرملة وأطفالها اليتامى.

سألت أمّ عارف نفسها: ترى، هل هذه المشاعر هي حقّا مشاعر شفقة؟ وهل من الممكن أن تتحوّل إلى مشاعر أخرى بعد حين؟ تذكّرت كلام أمّ العبد وقالت تحدّث نفسها: الحذر واجب. يقول المثل: "لا تنام بين القبور، ولا تحلم أحلام مزعجة". وقرّرت أن تختصر من علاقتها بجارتها الأرملة كي ترتاح وتحافظ على زوجها.

 

18

دخلت ندى وطفلاها المنزل، بعد عدّة دقائق وصلت براء بعد يوم شاق في الجامعة.

توجّهت من فورها إلى المطبخ؛ لتجهّز الطعام مع أمّها، فلاحظت أنّ أمّها على غير عادتها حزينة مشتّتة الذّهن، ليست على طبيعتها، فسألتها:

ما بك يا أمّي، أراك متكدّرة اليوم؟

أجابت ندى وهي تحاول أن تغلب دمعة:

لا شيء يا حبيبتي أنا بخير. كيف كان يومك؟

غصّت الكلمة في حنجرتها فخرجت متقطّعة، لم تستطع ندى كبت دمعتها، حاولت أن تمسحها قبل أن تلحظها براء. أدارت وجهها عن ابنتها، ولكن براء تعرف أمّها جيّدا، فهي الأمّ والصّديقة. سحبت أمّها نحوها، ضمّتها إلى صدرها، فانفجرت الأمّ ببكاء مرّ وهي تضع رأسها على كتف ابنتها.

جنّ جنون براء، لم تحتمل أن ترى أمّها بهذا الضّعف، وهي القويّة التي وقفت أمام التّحديات التي واجهتها، وسألتها مرّة أخرى:

  • ما بك يا أمّي؟ ما الذي تخفينه عن ابنتك حبيبتك وصديقتك؟ هيّا. أليس أنت من تقولين لي أنّ لكلّ شيء حلّ، وبأنّ الدّنيا كلّها لا تستحق منّا دمعة! ما الذي يكدّرك؟

مسحت ندى دموعها ووعدت ابنتها أن تعلمها بكلّ شيء بعد أن يتناولوا الطّعام، فقد حرصت على ألّا يلحظ طفلاها أيّ ضعف منها، فهي الأمّ والأب والسّند ومصدر الأمان لهما، لا تريد أن يشعرا بأيّ شيء يقلقهما.

قدّرت براء موقف أمّها وزاد من احترامها ومحبتها لها.

توجّه كريم وكريمة إلى غرفتهما لحلّ واجباتهما المدرسية. وجلست ندى وبراء في الصّالة يحتسيان القهوة.

نظرت ندى إلى أمّها، وقبل أن تتفوّه بأيّ كلمة قالت الأمّ:

لم أعد أحتمل يا براء، كلّ من أتعامل معه ويعرف أنّني أرملة، إمّا أن يتعامل معي بشفقة جارحة، أو إذا كان رجلا أشعر أنّه ينتظر فرصة ليتجاوز حدوده معي. أمّا النّساء المتزوّجات فأشعر أنّهن يتجنّبنني ولا يتحمّسن إلى بناء علاقة صداقة معي.

ضحكت براء ضحكة أسى وقالت:

  • هل يخفن على أزواجهنّ منك؟
  • يبدو ذلك. تصوّري، لقد حصل معي موقف سيّء جدّا اليوم في الرّوضة. اتصلت بوليّ أمر طفل من أطفال الرّوضة يعاني من ارتفاع بالحرارة، وهي ليست المرّة الأولى التي ترتفع درجة حرارته، فقبل نحو شهرين ارتفعت حرارته ارتفاعا شديدا تسبّب له بتشنّج في جسده يشبه حالات الصّرع، أربك كلّ من كان في الرّوضة، فحملته بسيّارتي على مسؤوليّتي إلى أقرب مركز صحّيّ لأعالجه، واتّصلت إدارة الرّوضة بوالد الطّفل فحضر إلى المركز على الفور، فشكرني كثيرا، وزوّدني برقم هاتفه؛ لأتواصل معه مباشرة في حالة أيّ طارئ لطفله. وحذّر طبيب المركز من ارتفاع درجة حرارة الطّفل مرّة أخرى، وأكّد على ضرورة متابعته ومراقبته؛ كي لا تتكرّر حالة التّشنج، لأنّها قد تترك أثرا صحّيّا سيّئا على الطّفل.

بعد أن ارتفعت حرارته اليوم، اتّصلت بالرّقم الذي زوّدني به الأب، وإذا بصوت أنثوي يطلّ عليّ عبر الهاتف، فعرّفت بنفسي وطلبت والد الطّفل، قالت لي أنّها أمّ الطفل، فأعلمتها أنّ ابنها يعاني من ارتفاع في درجة حرارته، ورجوتها بأن تحضر لاصطحاب ابنها إلى الطّبيب.

فتفاجأت بسؤال منها هزّ بدني:

لماذا لم تتّصلي على هاتفي أنا؟ هذا الرّقم هاتف زوجي.

أجبتها على الفور: هذا هو الرّقم المتوفّر عندي.

ردّت بنبرة حادّة:

  • بل يوجد في الإدارة رقمان: رقمي ورقم زوجي. كفّي عن أساليبك هذه، فأنا أعرفها جيّدا. اذهبي يا امرأة وابحثي لك عن رجل آخر غير زوجي.

وأغلقت الهاتف في وجهي. وبعد ربع ساعة حضرت إلى الرّوضة؛ لتصطحب طفلها، نظرت نحوي نظرة غريبة يصاحبها ابتسامة ازدراء، حملت طفلها وغادرت دون أن تتفوّه بأيّ كلمة.

استمعت براء لحديث أمّها وابتسمت قائلة:

أهذا ما أزعجك اليوم؟

تفاجأت الأمّ من ردّة فعل ابنتها وسألتها متعجّبة:

ألا تعتبرين أنّ هذا الموقف مسيء لي؟

حاولت براء أن تجعل الأمر طبيعيّا، فتناولت ريموت التّلفزيون، وأخذت تتنقل بين القنوات المختلفة وهي تقول:

بل هو مسيء لهذه المرأة المتخلّفة يا أمّي. لو كان عندها ثقة بنفسها وبزوجها لما تصرّفت بهذا الشّكل المشين.

  • بالله عليك يا براء لا تمارسي عليّ أساليبك. أدري أنك تودّين تخفيف وطأة الموقف عليّ. ولكن ما حصل اليوم مهين لي، ويعكس نظرتها تجاهي.
  • أمّي، أنت جميلة، وهذا اعتراف منها بذلك. وهي تافهة وسخيفة. فكيف ترضى أن تضع نفسها في هذا الموقف المشين، المهين بحقّها قبل أن يكون بحقّك؟ يبدو أن علاقتها مع زوجها هشّة، وأنت من دفع الثّمن.
  • لا يا براء. يبدو أن نظرة المجتمع للأرملة نظرة غير مريحة. تصوّري أنّ الجارات في العمارة أصبحن يتجنّبنني. وقد علمت أنّ جارتنا أمّ سمير دعت جميع الجارات مساء أوّل أمس إلى بيتها لمناسبة تخرّج ابنتها من الجامعة بدرجة امتياز واستثنتني. مع أنّ علاقتي بها كانت جيّدة قبل وفاة والدك، ودوما كنت أوّل المدعوّات إلى مناسباتها المختلفة.
  • لا تأبهي بها يا أمّي. المهمّ أنّك مقتنعة بنفسك وراضية عنها.
  • كفاك شعارات يا براء، "الجنّة من غير ناس ما بتنداس" كما يقولون يا ابنتي. أصبحت أشعر أنّني معزولة عن كلّ معارفي. وهذا شعور يؤذيني. أقسم بالله أنّني لم أتعامل مع أيّ رجل قبل وفاة والدك وبعدها إلا كأخ أو زميل. أنا لا أفكّر بالارتباط من جديد بأيّ رجل كان. والدك تسبّب لي بعقدة من الرّجال لا يمحوها الزّمان. عشقت حرّيتي بعد موت والدك.

ثم أكملت حديثها لابنتها قائلة:

  • الآن فهمت لماذا تزوّجت صديقتي وفاء بعد أن ترمّلت. مع أنّ أهل زوجها المرحوم تصدّوا لها كثيرا وحاولوا منعها بشتّى الطّرق، واتّهموها بأنّها خائنة لم تحفظ العشرة، وبأنّها لا تستحقّ أن تحمل اسم "وفاء"، لأنّ الوفاء صفة بعيدة عنها. وحرموها من أطفالها الثلاثة. وعندما سألْتها لماذا تزوّجت؟ ابتسمت وقالت: (ظلّ راجل ولا ظلّ حيطة) كما يقول المصريون يا ندى. لا أحد يشعر بي إلا من هنّ في وضعي. لم أعد أحتمل نظرة النّاس تجاهي. ضعت وأنا أتأرجح بين نظرات الشّفقة من جهة، وبين نظرات الرّجال من حولي الّذين يطمعون بي، والتّقرب منّي بحجّة المساعدة والدّعم النّفسيّ لي ولأطفالي، وبين زوجاتهم اللواتي يعتبرنني مجرمة بحقهنّ وحقّ أسرهنّ وخرّابة بيوت. كرهت نفسي، وكرهت كلّ من حولي.
  • أعتقد أنّ هناك مبالغة في هذه المشاعر يا أمّي. هناك العديد من الأرامل الّلواتي عشن حياتهنّ دون أن يشعرن بشعورك وشعور وفاء. وفاء إنسانة ضعيفة، استسلمت لكلام النّاس وقضت على نفسها وعلى أطفالها.
  • لا يا براء. أتعرفين أنّ والدك كان ضحيّة نظرة المجتمع للأرملة. شعر أنّ كلّ رجال الحيّ يطمعون بأمّه، فتحوّل إلى وحش. أصبح جلّ همّه حماية والدته من طمع رجال الحيّ.

وبينما كانتا منشغلتان بنقاش نظرة المجتمع للأرملة، وإذا بمسلسل بعنوان (الأرملة) يطلّ عليهم عبر شاشة التّلفاز. ضحكت براء وقالت:

  • يا سبحان الله! لو أننا ذكرنا مليون دينار.

نظرت الأمّ إلى التّلفاز وابتسمت:

نعم، الدراما العربيّة تعكس واقع الأرملة من خلال أفلامها ومسلسلاتها، لأنّها تعي تماما وضع الأرامل الحرج في المجتمع.

  • أتعرفين يا أمّي أنّ الدّراما العربيّة تسيء للمرأة بشكل عامّ، وللمطلقة والأرملة بشكل خاصّ. على سبيل المثال يطرح هذا المسلسل قصّة رجل أعمال سعوديّ يتزوّج من فتاة أردنيّة صغيرة في السّن، ثمّ يتوفّاه الله، فتواجه أرملته مشاكلها وحياتها وهي وحيدة دون معين، لا يقف أحد بجوارها، وتصبح مطمعا للجميع مع أنّها حامل، فتتعرّض إلى العديد من المشاكل الاجتماعيّة، خصوصا بعد الولادة. ولا ينقذها سوى شقيقها الذي تصدّى لكلّ من حاول النّيل منها. مسلسل سخيف يا أمّي ومحبط. لماذا لم يجعل المخرج من الأرملة بطلة تتصدّى لكلّ العقبات وتتغلّب على جميع التّحديات وحدها؛ لتسجّل قصّة نجاح؟ هذه المسلسلات بهذا الطّرح السّاذج ترسّخ المعتقدات البالية عند المجتمع وتثبّتها في عقول المشاهدين بدلا من أن تغيّرها.
  • نعم صحيح يا براء، للأسف. النّساء الأرامل والمطلّقات مظلومات في مجتمعاتنا العربيّة. وهذه المسلسلات تزيد من ظلمهنّ.
  • أمّي، لا أحد يستطيع أن يحمي أيّ امرأة إن لم تكن قويّة من الدّاخل، لا أب ولا أخ، ولا ابن عمّ، عليها أن تؤمن بدورها وطاقتها، وتستمرّ في عطائها، وسيعترف بها المجتمع شاء أم أبى.
  • اتركي نظريّات التّنمية البشريّة هذه، وكوني واقعيّة. من الصّعب تغيير نظرة المجتمع.
  • أنا واقعيّة يا أمّي. الإنسان يمتلك طاقة رهيبة داخله، ولكن معظمنا لا يعي ذلك. أتعرفين أنني اكتشفت نفسي بعد موت أبي. كنت أظنّ أنّ أبي هو الحامي الوحيد لي. كان يكبّلني، ولا يدعني أتصرّف وحدي.

في الآونة الأخيرة تعرّضت لأكثر من موقف صعب، فانطلق المارد الذي يسكنني.

صمتت براء لوهلة، ثم ضحكت وهي تسترجع نظرات زملائها وزميلاتها في الجامعة من ردّات فعلها، ومن مبادراتها التي لم يتوقّعها أحد منهم، فقد كانت الفتاة الهادئة التي تبتعد عن الأجواء الصّاخبة، لم تكن تشارك بأيّ فعاليّة اجتماعيّة أو ثقافيّة. سمعت زملاءها وهم يقولون: أهذه هي براء التي كنّا نعرفها.. غير معقول؟ وقد زاد هذا من ثقتها بنفسها. ثم أكملت حديثها مع أمّها:

أشعر بقوّة غير عاديّة داخلي يا أمّي. أنا على استعداد أن أواجه العالم أجمع. أنا قويّة.. أنا قويّة يا أمّي. استعدت قوّتي.. استعدت شخصيّتي.....

كانت براء تتحدّث وتدور حول نفسها سعيدة، فتذكّرت الأمّ بعض المواقف لبراء وهي لا زالت طفلة، كان كلّ من يعرفها يصفها بالشّخصيّة القويّة القياديّة، لم تكن تسمح لأيّ كان أن يهينها أو يقمعها، كانت تقف بالمرصاد لكلّ من يحاول الإساءة لها.

كانت طالبة مجتهدة ومبادرة، تشارك في كافّة أنشطة المدرسة، فكسبت حبّ واحترام زميلاتها ومعلّماتها.

إلا أنّه في السّنوات الأخيرة بدأ يطرأ تغيير على شخصيّتها نتيجة قمع والدها المستمرّ لها، خاصّة في السّنتين الأخيرتين بعد دخولها الجامعة، إذ زاد والدها من قمعه لها، وكان يمنعها من المشاركة بأيّة فعاليّة في الجامعة بحجّة أنّها مختلطة. وهدّدها بأن يمنعها من إكمال تعليمها الجامعيّ إن علم بمشاركتها بأيّة فعاليّة، فبدأ ينتابها الخجل، ولم تعد بنشاطها وجرأتها المعهودة، إذ بدأت تفقد ثقتها بنفسها تدريجيّا.

حضنت الأمّ ابنتها سعيدة بها، إلا أنّها شعرت بشيء من الخوف عليها فقالت:

يا ابنتي، أنا سعيدة بك، ولكن عليك ألّا تغترّي بنفسك وتبالغي بهذه المشاعر. عليك ضبط هذا الانطلاق قليلا. "فالزّايد أخو النّاقص" كما يقولون.

  • لا تخشي عليّ يا أمّي. أنا أزن نفسي جيّدا، وأعرف كيف أوظّف طاقتي بالشّكل الذي يخدمني ولا يضرّني.

أتعرفين يا أمّي، لقد انتهيت أوّل أمس من قراءة مذكّرات المهاتما غاندي، ولم أصدّق أن هذا الرّجل العملاق الذي حرّر الهند كان حييّا خجولا جدّا لدرجة أنّه عندما سافر في الباخرة من الهند إلى بريطانيا لدراسة القانون، كان يستحي أن يطلب الماء من النّادل طيلة رحلته، كان ينتظر ممّن حوله التكرّم بما يجودون عليه، ولم يحصل أن طلب حاجته من طعام وشراب.

وقد شاهدت مقابلة تلفزيونيّة مع الممثّلة المصريّة القديرة سميحة أيوب صاحبة لقب " سيّدة المسرح العربيّ"، والمعروفة بقوّتها، وتميّزها بشخصيّتها المانعة. سألها المذيع:

ما سرّ هذه الشخصية الحديديّة؟

ضحكت وتحدثّت عن بداية شبابها، فقالت إنّها كانت ضعيفة وخجولة جدّا، استغلّها كلّ من حولها، فلم تكن تستطيع المواجهة، لدرجة أنّ بعضهم كان يشهّدها زورا على بعض الأمور، ولم تكن تجرؤ أن تقول له بأنّه كاذب، إلّا أنّ الحياة علّمتها بأنّها إن لم تكن ذئبا فستكون وجبة شهيّة للكلاب قبل الذّئاب. فاضطرّت أن تحرّر المارد الذي يختبىء داخلها، وانطلقت.

أمّي، أنت قويّة أيضا. واجهتِ العديد من الصّعاب ونجحتِ، حرّري المارد الذي يسكنك. فأنا أتعلّم منك، أنت مدْرَستي الأولى التي أعتزّ بها.

ضحكت الأمّ من قلبها وقالت:

والله يا براء أنّني أخشى أن أطلق المارد الذي بداخلي فيأكلني ويأكل أسرتي، فأصبح على ما فعلت نادمة.

  • لن تندمي. أطلقيه، فلن يأكل سوى من هم عقبة في طريقك.

واجعلي شعارك دوما: "طنّش تعش تنتعش". أنا أؤمن بهذا القول، وأصبحت أعمل به. فلا يهمّني كلام النّاس. لن يرضى النّاس أبدا مهما فعلت. عيشي حياتك يا أمّي. من باعك يا أمّي اشطبيه من حياتك، ومن اشتراك تمسّكي به دون تردّد. أنت فقط من سيقود حياتك إلى ما ترغبين.

  • نعم، معك حقّ يا براء، أتذكر جملة نيلسون مانديلا الشّهيرة: " أنا مدير حياتي، أنا ربّان روحي".
  • نعم، أنت مديرة حياتك يا أمّي، أنت ربّان روحك، قودي نفسك إلى حيث ترغبين.

هزّت ندى رأسها سعيدة بمنطق ابنتها، وحاولت أن تغيّر موضوع النقاش:

  • ألم تقولي أنّك ستدرسين لامتحان غد؟

ضحكت براء وقد فهمت قصد أمها:

  • نعم سأدخل غرفتي للدّراسة يا أجمل أمّ في الدّنيا، ولكن للحديث بقيّة.

قبّلت أمّها، وتوجّهت إلى غرفتها للدّراسة.

ارتاحت ندى لكلام ابنتها، شعرت أنّها تحتاج إلى الحديث مع جارتها الطّيبة أمّ عارف، فاتّصلت بها كي تدعوها لشرب فنجان قهوة. ولكنّ أمّ عارف لم تردّ، وأهملت رنين الهاتف حين ظهر رقم ندى على الشّاشة، كرّرت ندى المحاولة، ولا مجيب.

 

وردة وندى
19

عادت براء مبكّرا من جامعتها إلى المنزل على غير عادتها، أخذت تنادي على أمّها ملهوفة تبحث عنها في المنزل:

  • اّمّي، أمّي.

خرجت الأمّ من غرفة كريم وكريمة على صوت براء على عجل مستغربة، فقد علمت صباحا من براء أنّها ستعود في وقت متأخّر من المساء، فهي مدعوّة لحضور حفل عيد ميلاد زميلة لها في رام الله. فسألتها قلقة:

  • خير يا براء! ما الذي جاء بك مبكّرا اليوم؟
  • أتذكرين يا أمّي معلمتي في مدرسة دار الطّفل وردة عبد الرّحمن؟
  • بالتّأكيد، فكيف أنساها؟ كانت معلمة اللغة الانجليزيّة، كم كنت أحترمها وأقدّر هذه المعلّمة. ما بها؟
  • علمت اليوم أنّ والدتها توفّيت. وهناك بيت للعزاء في بيت أهلها في شعفاط لمدة ثلاثة أيام. يبدأ من اليوم.
  • لا حول ولا قوّة إلا بالله، رحمها الله وصبّر ابنتها. فكم كانت تحبّك هذه المعلّمة، لن أنسى فضلها عليك، فعلى الرّغم من ظروفها الصّعبة ووفاة زوجها وهي في عزّ شبابها، إلا أنّها وقفت معك وقفة أصيلة عندما تعرّضت لكسر في قدمك، وكانت تأتي إلى المنزل لتعطيك الدّروس دون مقابل، كي لا تتخلّفي عن زميلاتك في الدّراسة. فلنذهب غدا للقيام بالواجب يا براء.
  • بل اليوم يا أمّي، لنذهب اليوم، هي بحاجة لمن يدعمها، فأنا أعرف كم هي رقيقة وحسّاسة، على الرّغم من أنّها تبدو جبّارة أحيانا. أحبّ هذه المعلّمة جدّا، أذكر كم كانت طيّبة ومخلصة في عملها. وقد قامت بالواجب حين توفّي أبي، وجاءت إلى بيت العزاء، هاتفتني يوميّا لمدة تزيد عن الشّهر، لمواساتي ودعمي نفسيّا.
  • فليكن يا براء. أحتاج إلى ساعة من الزّمن أراجع فيها دروس كريم وكريمة معهما، تتناولين خلالها وجبة الغداء.
  • تمام يا أمّي.

تذكّرت ندى وردة معلمة ابنتها براء في المرحلة الثاّنوية، وما واجهته من تحدّيات بعد وفاة زوجها. فقد كانت على علم بتفاصيل حياتها من صديقة جارتها أمّ سمير، إذ كانت صديقتها وتدرّس معها في ذات المدرسة.

لقد تعرّضت وردة بعد وفاة زوجها إلى العديد من المواقف الصّعبة، لكنّها كانت قويّة، واجهت الصّعاب وتحدّت كل من حاول استغلالها، واستطاعت أن تضع حدّا لزميلاتها المعلمات اللواتي كن يستغبنها ويتجنّبنها خوفا على أزواجهنّ منها.

*****

لم يكن صعبا إيجاد بيت عزاء آل عبد الرحمن في شعفاط، إذ أنّ الفقيدة كانت صاحبة أيادٍ بيضاء على كلّ من هو محتاج في الحيّ، فقد سلكت طريق زوجها أبي عبد الرحمن -رحمه الله- الذي كان ملجأ لكلّ ملهوف، كما كان العديد من طالبات الثّانويّة العامّة يلجأن لابنتهما وردة لمساعدتهنّ في دروس اللغة الإنجليزيّة.

وصلت ندى إلى حيث تسكن وردة، وإذا بسيّارة إسعاف تابعة لجمعيّة الهلال الأحمر تقف عند باب العمارة.

خرج إثنان من المسعفين يحملان وردة على حمّالة المرضى وهي فاقدة وعيها. اندفعت براء بقلق نحوها، فأوقفها المسعف، وطلب منها الابتعاد. رافقت وردة في سيّارة الإسعاف جارتها عزيزة، فسألتها براء:

- إلى أيّ مستشفى أنتم ذاهبون؟

- إلى مستشفى جمعيّة المقاصد الخيريّة.

دوت صافرة سيّارة الإسعاف تعلن عن انطلاقها، اختلط صوتها بصوت أذان العصر من الجامع المقابل لمنزلهم، فدخل قلب براء خشوع أدمع عينيها.

تبعت ندى سيّارة الإسعاف بسيّارتها بمعيّة ابنتها، عند الوصول للمستشفى دخلتا غرفة الطّوارئ مع عزيزة لتطمئنّا على وردة.

كانت صدمة وردة كبيرة بموت أمّها، خاصّة أنّها لم تكن مريضة، فقد تعرّضت إلى ذبحة صدريّة لم تمهلها دقائق معدودة.

تمّ تقديم الإسعافات اللازمة لوردة، ومن ثمّ سمح لها الطّبيب بمغادرة المستشفى.

قدّرت وردة وقفة ندى وبراء معها في أزمتها ودعمهما المستمرّ لها، على مدى شهرين متواصلين، فتوطّدت علاقة الأسرتين، وأصبحت ندى ووردة صديقتين تتشاركان في ذات الهمّ الذي يؤرّقهما.

 

20

افتقدت ندى أمَّ عارف التي لم تسأل عنها وعن أحوال أسرتها فترة طويلة لم تعتدها، كما لم تعتد أيضا أن تهمل مكالماتها الهاتفيّة.

بعد أكثر من شهرين من آخر زيارة لها في منزلها، التقت ندى بها صدفة وهي تهمّ بدخول العمارة التي تسكن فيها، فسلّمت عليها بحرارة المشتاق، وعاتبتها:

أين أنت يا أمّ عارف طيلة هذه الفترة؟ افتقدتك، لعلّه خير.

ارتبكت أمّ العارف، حاولت إيجاد أعذار مقنعة، ولكنّها لم تستطع إقناع ندى.

دعتها ندى لتناول فنجان قهوة، إلا أنّها اعتذرت بحجّة أنّها تنتظر ضيوفا، وانسحبت سريعا إلى منزلها تختصر الحديث، أطبقت باب شقّتها على الفور، دون أن تدعوها للدّخول -كما كانت تفعل دائما-.

تسمّرت ندى في مكانها مصدومة، لا تستوعب ما يجري. ابتسمت ابتسامة أسى وهي تقرأ الموقف، تحاول أن تجد تفسيرا لهذا التّغيير في سلوك أمّ عارف معها.

توجّهت إلى باب شقّتها وهي في حالة ذهول، أخذت تحدّث نفسها: معقول، حتى أنت يا صديقة العمر!

ألقت جسدها على الأريكة، وانفجرت بكاء. رنّ هاتفها المحمول، تساءلت: ربّما أمّ عارف تريد أن تعتذر لها، فتحت حقيبتها على عجل، تناولت الهاتف وإذا بها وردة، ردّت عليها بصوت مخنوق حاولت ضبطه، إلا أنّ خيبة أملها بأمّ عارف خذلتها ووشت بها:

ما بك يا ندى؟ هل تبكين؟ هل حدث أيّ مكروه للأولاد لا سمح الله؟

غاب صوت ندى ولم تستطع أن تجيب.

  • ندى.. ندى.. ما بك؟ أين أنت؟

ردّت ندى تحاول أن تسيطر على صوتها:

أنا في البيت يا وردة، كلّنا بخير والحمد لله.

  • إذن لماذا تبكين؟
  • خيبة أمل أخرى. لا تقلقي يا عزيزتي. اعتدت على خيبات الأمل.
  • انتظريني، سأكون عندك خلال عشر دقائق.
  • بانتظارك.

*****

عادت براء من جامعة بيرزيت عصرا إلى القدس بعد انتهائها من محاضراتها. أوقفت سيّارتها في موقف باب العامود، ونزلت إلى أسواق البلدة القديمة لشراء هديّة عيد الأمّ، فلم يتبقّ على مناسبة يوم الأمّ سوى يومين. اعتذرت من صديقاتها اللواتي أردن شراء هدايا أمّهاتهن من مدينة رام الله، فهي في أمسّ الحاجة كي تكون وحدها بين أسوار القدس. وأرادت أن تفاجىء أمّها بهديّة تليق بها تختارها بعناية.

هي تعرف المجهود الكبير الذي بذلته أمّها؛ كي تحافظ عليها وعلى أخويها وتحتضنهم وتشعرهم بالأمان، رغم كلّ الظّروف الصّعبة التي تعيشها، والحالة النّفسيّة السيّئة التي تمرّ بها.

وقفت براء على أعلى درجات باب العامود، وأخذت شهيقا عميقا عبّأت به رئتيها، فهي تعشق البلدة القديمة، هواءها وأسواقها وأزقّتها وحواريها. تعشق عبق حجارتها التي تنبعث من أصالة تاريخها.

تطرب على أنغام أصوات الباعة وهم يسوّقون ما عندهم من بضائع، يحاولون جذب المارّة، تشعر بخدر لذيذ يسري في جسدها حين تتسلّل روائح القهوة والتّوابل المختلفة إلى أنفها عند مدخل سوق العطّارين.

في باب خان الزيت لفت نظرها شال مطرّز يدويّا تطريزا فلسطينيّا يعكس حضارة وثقافة الشّعب الفلسطينيّ، تحسّست براء شالا أعجبتها ألوانه الزّاهية، معروضا على مدخل المحلّ التّجاريّ.

وإذا بيد تربّت على كتفها، التفتت بسرعة، لتجده عنان صديق والدها. ابتسمت سعيدة بلقائه:

أهلا عمّي عنان، كيف حالك؟

  • أنا بخير يا براء، طمئنيني عنك وعن الأسرة.
  • الحمد لله، نحن بخير. أبحث عن هديّة لطيفة لأمّي بمناسبة عيد الأمّ.

أمسكت طرف الشّال بطرف أصبعيها الابهام والشّاهد:

  • ما رأيك بهذا الشّال؟

نظر عنان إلى براء نظرة حنان، لاحظ الشّبه الكبير بينها وبين أمّها، ذات لون الشّعر ونعومته، وذات لون العيون العسليّة. تذكّر أمّها قبل أكثر من عشرين عاما.

استغربت براء صمته وقالت:

ألا يعجبك الشّال؟

فأجاب على الفور وهو يصحو من ذكريات جميلة عاشها لا زالت تسكن ذاكرته:

بل جميل جدّا، هيا ندخل إلى المحلّ. ستجدين ما يسرّك داخل المحلّ. مالك الدّكان صديقي، وهو يهتم كثيرا بانتقاء البضائع التي يجلبها إلى دكّانه.

دخلا معا، فعرّفها على عبّاس صاحب المتجر:

أعرّفك على براء ابنة صديقي المرحوم صخر، هي بمثابة ابنتي، معزّتها لا تقلّ عن معزّة أولادي. توصّى بها يا عباس، وساعدها بالبحث عن هدية تليق بستّ الكلّ.

نظر عبّاس إليهما مرحّبا:

أهلا بكما.

قادهما إلى زاوية في دكّانه مليئة بالأثواب والشّالات المطرّزة النّادرة.

أعجبت ندى بالبضاعة المتنوّعة المنتقاة بذوق رفيع، قرّرت أن تشتري لأمّها ثوبا وشالا مع بعض الاكسسوارات المطرّزة يدويّا. ولكنّها احتارت بين ثوبين، فساعدها عنان على اختيار الثّوب ذي الألوان الزّاهية قائلا:

أمّك تفضّل الألوان الزّاهية يا براء.

التفتت إليه باندهاش:

كيف عرفت؟ هل تعرف أمّي جيّدا؟

ارتبك عنان قائلا:

لا.. لا أعرف أمّك جيّدا. عرفت هذه المعلومة بالصّدفة من أبيك -رحمه الله-.

وإذا بصراخ في الخارج يصمّ الآذان. خرج عنان يستطلع الأمر، فوجد ثلاثة من جنود الاحتلال يضربون فتى مقدسيّا لا يزيد عمره عن ثلاثة عشر عاما، وأمّه تصرخ مستنجدة بمن حولها لإنقاذ ولدها. اندفع عنان محاولا تخليص الفتى من بين أيدي الجنود، دفع أحد الجنود بقوّة، وانتشل الفتى، فرفع الجنود السّلاح نحو عنان، كبّلوا يديه واقتادوه إلى خارج البلدة القديمة، وتركوا الفتى. فارتفعت يدا أمّ الفتى عاليا نحو السّماء، تدعو لعنان بالسّلامة وطول العمر، وتدعو على جنود الاحتلال بأن يذيقهم الله الذّل والهوان.

شاهدت براء مذهولة ما جرى... قال عبّاس:

سامحه الله، لماذا تدخّل؟ الآن سيوجّهون له تهمة الاعتداء على جنديّ.

نظرت براء إليه نظرة عتاب وقالت:

بل له كلّ الاحترام، تصرّف بضمير ومسؤوليّة.

وتبعت عنان تركض، تتعثر في طريقها، تحاول التّدخل وإنقاذ عنان بالحديث إلى الجنود:

أرجوكم اتركوه. هو لم يفعل شيئا. رجاء.

التفت إليها عنان وقال لها بحزم:

براء، اذهبي من هنا ولا تعرّضي نفسك للمساءلة. لا تقلقي عليّ.. رجاء اتّصلي بأختي حنان وأعلميها بما جرى، فهي تنتظرني اليوم على الغداء، لا أريدها أن تقلق عليّ.

وصل الجنود بعنان إلى شارع السّلطان سليمان خارج البلدة القديمة، وزجّوه في سيارة حرس حدود كانت تنتظرهم هناك.

 

21

وصلت براء إلى المنزل منهكة، فوجدت وردة تجلس مع أمّها في غرفة المعيشة.

سلّمت على معلّمتها، روت لهما ما جرى مع عنان، وسألت أمّها إن كانت لا زالت تحتفظ برقم أخته حنان، فوجدته مخزّنا في ذاكرة هاتفها المحمول منذ مقتل زوجها، ومن فورها اتّصلت ندى مع أخته حنان تعلمها بما جرى، وبضرورة التّواصل مع محام، وطلبت منها أن تطمئنها عن وضع عنان.

صدمت حنان من الخبر، حاولت أن تعرف المزيد من المعلومات عمّا جرى، فناولت ندى الهاتف لابنتها كي تجيب على أسئلة حنان.

وتدخّلت وردة:

قولي لها أنّني أعرف محاميا مختصّا بهذه القضايا، ممكن أن أزوّدها برقم هاتفه.

طلبت حنان اسم المحامي ورقم هاتفه، فهي ليست على دراية بهذه الأمور.

زوّدتها براء بما طلبت، ورجتها أن تطمئنها عن وضع عنان.

شكرتها حنان ووعدتها أن تخبرها بأيّ مستجدّات.

نسيت ندى همّها وصدمتها من أمّ عارف، فقد قضت وقتا مريحا مع وردة، أعاد لها ثقتها بنفسها، وبعدها انشغلت بقضيّة اعتقال عنان.

قرّرت ندى أن تمضي في طريقها الذي رسمته بعد موت زوجها، تعتني بأولادها، ولا تلتفت خلفها لأيّ أمر يزعجها وينكّد عليه، "فمن اشتراك اشتريه، ومن باعك بيعه"، -على رأي ابنتها براء-.

قرّرت ندى مع صديقتها وردة أثناء لقائهما الأخير أن يصنعا شبكة من العلاقات، بنيّة البدء بمشروع افتتاح روضة، وتوسيعها إلى مدرسة.

سعدت براء كثيرا بهذا القرار وقالت لأمّها:

أنت قدوتي يا أمّي، كلّ يوم اتعلّم منك شيئا جديدا، تأكّدي أنّ قراركما حكيم جدا. ما أسعدني بكما! فما أحوج القدس إلى رياض أطفال ومدارس وطنيّة تلتزم بالمنهاج الفلسطيني الذي يحاربه الاحتلال الإسرائيلي، ويعمل جاهدا على فرض مناهجه المزوّرة للتّاريخ، والمروّجة لروايتهم الصّهيونية التي تخدم أهدافهم الاحتلالية!

أتعرفين يا أمّي، لا تتخيّلي هذا المنظر الشّنيع الذي رأيته اليوم، زادت كراهيّتي لهؤلاء الأوغاد. كادت أمّ الفتى تفقد عقلها وهي ترى الجنود يركلون ولدها كالكرة، ينقلونه من جنديّ إلى آخر. وقد سمعت من سيّدة كانت تقف بالقرب منها بأنّ شقيق الفتى الذي يكبره بسنتين استشهد قبل أقلّ من سنة بطلق ناريّ أصابه في الرّأس.

  • لا حول ولا قوّة إلا بالله. الرّحمة على روحه، والله يصبّرها. ما أصعب الفقد يا براء! أذكر عندما جاءني خبر موت أخيك عميد. عشت على المهدّئات لمدّة عام تقريبا، وكنت على وشك الإدمان.
  • الرّحمة على روحه يا أمّي، لا أريد أن أعيد لك مواجعك.

المهمّ الآن، يجب أن نتواصل مع الخالة حنان وندعمها ونساعدها يا أمّي. لاحظت أن خبرتها قليلة في مجال المحامين والقضاء والمحاكم، وزوجها مسافر، ذهب ليحضر بضاعة من الصّين، وعلمت أنّ أخته عبير وزوجها في تركيّا الآن، ذهبا لزيارة ابنهما الذي يدرس هناك.

  • نعم، معك حقّ. لا أنسى وقفته معنا فترة عزاء والدك.

علا صوت كريم وكريمة وهما يتراكضان نحو أمّهما. قال كريم:

أفّ يا أمّي، تعبت من نسخ الدّرس.

قالت كريمة معترضة:

  • أنت بطيء يا كريم. أنا نسخت الدّرس مرّتين ولم أتعب. أنت لا تريد أن تدرس، همّك الوحيد الّلعب. أنت غبيّ.

هجم كريم على أخته يريد أن يضربها، فاختبأت خلف أمّها.

أمسكت به الأمّ وهي تحدجه بنظرة غضب:

إيّاك أن تحاول ضرب أختك مرّة أخرى.

والتفتت إلى كريمة:

أنت مستفزّة حقا يا كريمة، كفّي عن هذه الأساليب، ولتعلمي أنّ أخاك كريم ليس غبيّا، بل ذكيّ جدّا ومتفوّق في عدّة مجالات أنت تعرفينها جيّدا.

  • لم أقصد أن أستفزّه يا أمّي، أنا قصدت أن "أحثّه" على الدّرس.

قهقهت براء تتندّر على كلمة "أحثّ":

  • ما شاء الله.. حثّيه يا اختي، حثّيه يا أمّ لسان.

كتمت الأمّ ضحكتها كي لا تحرج كريم وقالت موجّهة الحديث إلى كريمة:

  • يا حبيبتي، كلّ منّا له اهتماماته، كريم متفوّق بالرّياضة، وهو سبّاح ماهر، ودقيق جدّا بالألعاب التّركيبيّة (بازلز) وبالمسابقات المختلفة التي تحتاج إلى مهارة. هو أسرع منك في هذه الألعاب، لم ينتقدك يوما، ولم (يحثّك) على الإسراع، ولم يقل لك يوما أنّك غبيّة! لأنّه يدرك أنّ لكلّ شخص اهتماماته و..

قاطع كريم أمّه قائلا:

نعم يا أمّي أنا أتفهّم ذلك، لم أقل لها يوما أنّها غبيّة، وقد كانت على وشك أن تغرق الأسبوع الماضي في بركة جمعية الشّبّان المسيحيّة، لأنها لم تتّبع إرشادات المدرّب، وأنا من أنقذتها.

صرخت كريمة معترضة:

المدرّب الذي أنقذني وليس أنت.

  • أنا الذي نبّهته والّا لكنت الآن في عداد الموتى يا غبيّة.

وارتفع صراخ كريم وكريمة، فحضنتهما الأمّ وقالت لكريم:

عيب يا كريم. ألم تقل أنّك لم تقل لها يوما كلمة غبيّة؟

  • أعتذر يا أمّي، ولكنّها مستفزّة جدّا.

اعترضت كريمة وهزّت برأسها مستاءة وقالت:

لن يكبر يوما هذا الولد، سيبقى طفلا.

ضحكت الأمّ وقالت لكريمة:

  • اعتذري الآن لأخيك كما اعتذر لك.

حاولت كريمة الاعتراض، إلا أن الأمّ حدجتها بنظرة حاسمة وقالت:

اعتذري فورا يا كريمة.

فاستجابت كريمة على الفور، فهي تعرف حدود والدتها، وقالت:

  • حسنا، أعتذر يا كريم.

طلبت منهما الأمّ أن يحضنا بعضهما البعض ويتصافيان، قبل أن يهيئا نفسيهما للنّوم. فقد تأخّر الوقت، وحان موعد نومهما.

 

22

عادت الشّمس من غيابها بنشاطها المعهود، أخذت ترتفع رويدا رويدا إلى أن وصلت أعلى الجبل، ارتكزت على قمّته وكأنها تلتقط أنفاسها، أرسلت خيوطها الذّهبيّة إلى نافذة غرفة براء، تداعب جفونها.

فتحت براء عينيها بتثاقل، فقد كانت أحداث أمس قاسية عليها، سرقت منها النّوم حتى ساعة متأخرة من الليل، إلا أنّها مضطرّة للذّهاب إلى الجامعة، فهي تحضّر لامتحانات التّخرج، ومن الصّعب التغيّب عن محاضراتها.

توجّهت إلى المطبخ؛ لتجهّز فنجان قهوة؛ ليزيل بقايا النّعاس من عينيها، فوجدت أمّها تجهّز السّاندويشات لأخويها.

  • صباح الخير يا أمّي.
  • صباح الفلّ والياسمين والخدّين الجميلين اللذين أخذا من الزّهور لونها الورديّ.
  • أوووه، ما هذا الغزل يا أمّي!

قطبت الأمّ جبينها متظاهرة بالجديّة، وقالت:

  • أنت أدرى النّاس بي يا براء، فأنا لا أجامل.

ضحكت براء ضحكة خرجت من أعماق قلبها وقالت:

وأنا لا أجامل يا أمّي، أنت أعظم سيّدة في الدّنيا، أحبّك كثيرا.

حضنت الأمّ ابنتها:

أنت وأخواك رأس مالي يا براء، خرجت بكم من هذه الدّنيا. حماكم الله ووفّقكم وسدّد خطاكم، وسهّل طريقكم إلى ما فيه خير لكم، يا قادر يا كريم.

  • آمين يا رب العالمين.

ثم سألت أمّها:

أمّي، ما برنامجك غدا؟

  • وعدتُ كريم وكريمة أن أصطحبهما غدا لحضور مسرحيّة دمى في المسرح الوطنيّ الفلسطينيّ في تمام السّاعة السّادسة مساء مع وردة وولديها سامي وفاطمة. لِمَ تسألين؟
  • لأنّني سأدعوكم لتناول الغداء (على حسابي) في المطعم الوطنيّ غدا. فليكن السّاعة الرّابعة بعد الظّهر، أي قبل ذهابكم للمسرح. ما رأيك؟

ضحكت الأمّ سعيدة بابنتها:

إن كان على حسابك فلا مانع.

  • ما رأيك أن أدعو معلّمتي وردة وولديها أيضا.
  • فكرة ممتازة إن كانت موازنتك تسمح بذلك...وغمزت بعينها.
  • لا تقلقي يا أمّي، من خيرك. سأتّصل بها اليوم.

*******

مضى اليوم ثقيلا على براء، فهي لا زالت قلقة على عنان، ولم تتواصل حنان معها ولا مع أمّها؛ لتخبرها عن مصيره.

عادت إلى المنزل، وإذا بجرس الهاتف يرنّ، أجابت ندى، فجاء صوت حنان على الطّرف الآخر:

  • مساء الخير ندى.
  • أهلا حنان. طمئنيني عن عنان.
  • طمأنني المحامي على وضعه، فهو يحمل الجنسيّة الكنديّة. سيتواصل مع السّفارة الكنديّة، ولن يتمّ التّعامل معه كمواطن فلسطينيّ... هذا ما أكّده المحامي.
  • الله يقدّم اللي فيه الخير. سأبقى على تواصل معك. الفرج القريب إن شاء الله.
  • يا ربّ يسمع منك. وشكرا على اهتمامك أنت وبراء.
  • لا شكر على واجب.

 

23

خرج عنان من معتقل المسكوبيّة بعد خمسة أيام بكفالة ماليّة قدرها عشرة آلاف شاقل، على أن يخضع للحبس المنزليّ لمدة ثلاثة أشهر، إلى أن يحين موعد محكمته التي سيتمّ خلالها النّطق بالحكم عليه.

استقبله الأهل والأصدقاء يهنّئونه بالسّلامة. وكان من بين المهنّئين براء وأمّها ندى.

مدّت ندى يدها تسلّم عليه، فشعر بسريان الدّم حارا في شرايينه، تدفّق إلى وجهه يفشي سرّه، ارتجفت يده، حاول ضبط نفسه، سحب يده سريعا، ورسم بسمة على شفتيه وهو ينظر إلى براء موجّها الكلام لزوّاره:

  • كم هي أصيلة هذه البنيّة، كانت تركض خلفي وأنا مكبّل اليدين تحاول تخليصي من الجنود. لن أنسى لك هذا الموقف يا براء.

ضحكت براء وقالت:

وأنا لن أنسى موقفك يا عمّي، فقد كنت شهما، أنقذت الفتى من براثن الأوغاد.

  • هذا أقلّ واجب يا ابنتي.

بعدها تحوّلت الجلسة إلى أحاديث عامّة عن الوضع الاقتصاديّ الذي تعيشه القدس، واستهداف تجّار البلدة القديمة، من خلال فرض الضّرائب الباهظة عليهم، ومحاولة الاحتلال تفريغ القدس من مواطنيها الأصليّين و..إلخ من قضايا مقدسيّة.

شردت براء بذهنها، لم تنتبه لما يدور حولها من أحاديث، فقد لاحظت موقف عنان وارتباكه، حين سلّم على والدتها، فلم تخْفَ عليها مشاعره، تذكّرت حين اختار الثّوب المطرّز لأمّها وقال لها أنّها تفضّل الألوان الزّاهية. لاحظت ارتباكه حين سألته كيف عرف؟ بعدها استرجعت أيّام عزاء والدها، كانت تلاحظ أنّه يتجنّب أمّها، لكنّها عزت الأمر إلى احترامه بأنّها في فترة العدّة، وهذا يتطلّب عدم رؤية الرّجال. إذن هناك أمر آخر.

تساءلت: ترى، لماذا يتصرّف هكذا مع أمّي؟ هل يحبّها؟

ثم أجابت على سؤالها لنفسها على الفور، ترفض الفكرة: لا.. لا، هذا كلام سخيف. كيف أسمح لنفسي أن أفكّر بهذا الأمر. ربّما هو يشعر بعذاب الضّمير لأن أبي سقط على سلالم المبنى الذي اصطحبه إليه. نعم.. أعتقد ذلك. بل هذا هو التّفسير.

لاحظ عنان شرود براء، حاول إشراكها بالحديث، فصحت من شرودها وابتسمت قائلة:

- نعم.. نعم.. بالتأكيد، أوافق على كلّ ما قلت يا عمّي.

أمّا ندى، فقد شعرت برعشة يد عنان حين لامست يدها، فسرى داخلها شعور غريب، خاصّة حينما احتضنت عيناه عينيها، وتلوّن وجهه بلون ورديّ.

إلا أنّها رفضت أن تعطي نفسها المجال للتّفكير بالأمر.

كانت حنان ترقب كل ما جرى بعينيّ صقر، وبقلب محبّ لأخيها الذي عانى من عشق ندى، ولم يستطع بعد أكثر من أربعة وعشرين عاما نسيانها...لم يخف عليها شرود براء، بل قرأت ما يجول داخل رأسها من نظرة عينيها. ولم يخف عليها أيضا إحساس ندى.

حاولت حنان أن تخطف الأنظار فأطلقت زغرودة فرح أنقذت بها أخاها، فلم يلحظ أحد ما جرى، سوى أصحاب الشّأن.

تعاونت براء مع حنان وأبناء وبنات العائلة في خدمة المهنّئين. فلا زال عنان يعيش وحده في المنزل دون شريكة.

في حدود السّاعة الثّامنة مساء غادرت ندى وابنتها منزل عنان، إذ أنّ كريم وكريمة وحدهما في المنزل، وعلى ندى تجهيزهما للنّوم؛ كي يستيقظا مبكرّين، ليذهبا إلى مدرستهما.

جلست ندى خلف مقود السّيّارة، وجلست براء بجانبها، وعلى غير عادتها لم تنبس ببنت شفة. التفتت الأمّ لابنتها مستغربة:

ما بك؟ هل أنت متعبة؟

  • لا.
  • إذن لماذا هذا الصّمت؟

نظرت براء إلى أمّها وسألتها:

  • ما رأيك بالعمّ عنان؟

فهمت الأمّ ما تقصده ابنتها، فهي تعرفها جيّدا، وتعرف كم هي دقيقة الملاحظة من صغرها، فقالت:

  • لِمَ تسألين؟ وأيّ رأي هذا؟ فهذه هي المرّة الأولى التي ألتقيه وجها لوجه! ثمّ أنّنا لم نجلس لوحدنا، كان هناك العشرات من المهنّئين، وفد قادم ووفد مغادر، فلم يكن هناك فرصة لتكوين أيّ رأي عنه، ولكن بناء على ما سمعت منك يبدو أنّه رجل شهم.
  • ألم تلاحظي شيئا يا أمّي؟

ارتبكت الأمّ وأجابت:

  • ألاحظ ماذا؟
  • اهتمامه بك؟
  • براء، كفّي عن هذه التّفاهات، من أين يعرفني حتّى يهتمّ بي؟ هو يشعر بعذاب الضّمير إذ يعتبر نفسه سببا بموت والدك، لا أكثر ولا أقلّ.
  • هذا ما ظننته في البداية.
  • أرجوك براء، لا أريد أن أخوض في نقاش سخيف مثل هذا... عودي لصمتك أفضل لي ولك.

********

غادر آخر المهنئين بعد السّاعة الواحدة صباحا.

ارتأت حنان أن تقضي ليلتها هي وابنتاها وابنها في بيت أخيها، إذ أنّ الوقت قد تأخّر، وزوجها لا زال مسافرا، فهو تاجر كبير، يستورد البضائع من الصّين، ويمتلك عدّة متاجر في رام الله ونابلس وبيت لحم.

كان عنان منهكا، رمى نفسه على الأريكة، وأغمض جفنيه يستذكر موقفه مع ندى.

هزّته حنان:

قم يا أخي، بدّل ملابسك واذهب إلى فراشك، فقد كان اليوم شاقّا عليك.

أجاب وهو مغمض العينين.

  • هل ستنامين الآن يا حنان؟

نظرت إلى وجهه تحاول أن تقرأ ما يجول بخاطره:

  • لا. لن أنام الآن. هل تريد أن نتحدّث؟

فتح عينيه وقال:

لقد أنقذتني زغرودتك... لا أدري كيف سرت هذه الرّعشة في جسدي أفقدتني توازني. هل لاحظتها؟

صمتت حنان وقالت:

عنان، أعتقد أنّه عليك أن تتحدّث معها وتعلمها بشعورك. لِمَ لا تتزوّجها؟ أنت مطلّق وهي أرملة!

  • هل سترضى بي؟ أنا كنت السّبب بمقتل زوجها.
  • كفّ عن جلد نفسك، لا أريد أن أسمع هذه الجملة منك مرّة أخرى. هو الذي قتل نفسه بعناده.
  • نعم، كان عنيدا.

صمتت حنان برهة ثم قالت:

  • عنان، سأتحدّث معها أنا في موضوع ارتباطك بها. فلِمَ ترفض! ثمّ إنّ براء تحبّك وتعتبرك مثل والدها، وكذلك كريم وكريمة!
  • لا أدري يا حنان... لننتظر قليلا، فلا زلت أنتظر حكم المحكمة، ولا أدري إن كنت سأخضع للحبس الفعليّ أم لا. لم تنفعني كثيرا جنسيّتي الكنديّة، فأنا من أصل فلسطينيّ، اختلفت المعادلة بعد أحداث 11 أيلول 2001 في نيويورك. أصبح العالم يتعامل مع العرب والمسلمين على أنّهم مجرمون.
  • قاتلهم الله... لا بأس يا أخي. الفرج قريب إن شاء الله.
  • إن شاء الله.

نهض عنان وجلس بجانب حنان يرجوها:

  • أرجوك يا حنان أن تمضي فترة غياب زوجك عندي في المنزل أنت وأولادك، فهو لن يعود قبل شهر.

وافقت حنان:

  • فكرة جيّدة، سأذهب غدا أنا والأولاد لجلب مستلزماتنا من المنزل، وسنقضي معك فترة غياب زوجي. لا تقلق.

ضمّ عنان أخته قائلا:

  • حبيبتي حنان، فعلا، لكل إنسان من اسمه نصيب.

أمّا ندى، فقد قضت ليلة عصيبة لم ترَ النّوم فيها. فهل عنان معجب بها حقّا؟

رفضت الفكرة، وأخذت تلهي نفسها بالتّخطيط لمشروع الرّوضة التي ستتشارك بها مع صديقتها وردة.

*****

جهّزت ندى نفسها لاجتماع مع بعض المختصّين في التّربية من أصدقاء ومعارف وردة، وذلك في مقرّ واسع تمّ استئجاره في بيت حنينا لإنشاء مشروعهما، بعد أن وضعتا موازنة تقديريّة.

بدأ العمل بتجهيز المقرّ؛ ليتناسب وشروط وزارة التّربية والتّعليم، من أجل الحصول على شهادة التّرخيص اللازمة.

كان العمل جاريا على قدم وساق. فقد خطّطتا أن تفتتحا مشروعهما في العام الدّراسي القادم، أي في بداية شهر أيلول.

كانت سعادة ندى ووردة لا توصف بروضتهما التي حملت اسم:" روضة التّميّز والإبداع".

 

24

مضت ثلاثة أشهر على اعتقال عنان، انتهت فترة الحبس المنزليّ، التي التزم خلالها في المنزل ولم يخرج من بابه على الإطلاق، وإلا كان سيخضع للمساءلة، ويدفع مبلغ الكفالة الماليّة.

جاء موعد المحكمة، فنطق القاضي حكمه بدفع غرامة ماليّة مقدارها سبعة ألاف شاقل، مع الحبس مدّة عام مع وقف التّنفيذ.

دفع عنان الغرامة الماليّة غير نادم على ما فعل. فقد شعر أنّه قام بواجبه وأراح ضميره، وأنقذ الفتى من موت محقّق.

هنأه الأهل والمعارف والأصدقاء، وسعدوا بهذا الحكم، فلولا خبرة محاميه وذكاؤه لما خرج دون اعتقال فعليّ.

توجّه من فوره إلى منزل أخته حنان؛ ليتناول وجبة الغداء. فذكّرته بما اتفقا عليه سابقا... اقترحت بأن تتّصل قريبا بندى؛ لتزورها في منزلها.

وإذا بهاتف المنزل، كانت براء على الطّرف الثّاني:

  • مساء الخير خالة حنان... طمئنيني عن العمّ عنان... هل عقدت المحكمة اليوم؟
  • أهلا براء، نعم، حكم القاضي بغرامة ماليّة مقدارها سبعة آلاف شاقل، وحبس مدّة عام مع وقف التنفيذ. وانتهى الأمر، الحمد لله.
  • الحمد لله على سلامته. كنت أحاول الاتّصال به، ولكنّ هاتفه مغلق.
  • يبدو أنّه نسيه مغلقا بعد خروجه من المحكمة، لا بأس، هو عندي الآن. هل تودّين الحديث معه؟
  • نعم لو سمحت.

ناولت حنان الهاتف لعنان وهمست بأذنه: إنّها براء.

تناول السّمّاعة على الفور وأجاب:

أهلا بك حبيبتي وابنتي الأصيلة براء.

  • أهلا بك عمّي... الحمدلله على سلامتك، طمئنّي عنك.
  • شكرا لك... أنا بخير. طمئنيني أنت عن والدتك وأخويك.
  • الحمدلله... أمّي مشغولة بمشروعها الجديد... وكريم وكريمة مشغولان بنشاطهما الرّياضيّ، وأنا انتهيت من امتحاناتي الجامعيّة، سأتخرج هذا الصّيف من الجامعة... وأفكر في أن أكمل دراسات عليا كما كنت قد اقترحت عليّ.
  • أحسنت، وألف مبروك حبيبتي. تستحقّين كلّ خير.
  • أمّي بجانبي تودّ الحديث معك.

ازداد خفقان قلب عنان وقال:

بالتّأكيد.

هنّأته ندى على سلامته، وتمنّت له الخير على قدر نواياه. خاصّة بعد أن علمت بأنّه غير نادم على موقفه وإنقاذه للفتى.

انتهت المكالمة، فأغلق عنان الهاتف وأخته ترقبه وتضحك.

  • أعتقد يا عنان أن علينا أن نزورهم في بيتهم بعد تخرّج براء من الجامعة؛ لنبارك لها، فهذه أفضل مناسبة.
  • نعم، قد تكون مدخلا جيّدا.

 

25

تمّ افتتاح روضة وردة وندى في بداية العام الدّراسيّ الجديد. فقد جعلتا منها روضة نموذجيّة. أحبّها الأطفال، وارتاح لها أولياء الأمور.

تمّ توفير الزّوايا التّعليميّة والتّربويّة المختلفة الّتي تسهم بتطوير ذكاء الطّفل وتنمية مواهبه. كما تمّ التّعاون مع براء كمستشارة نفسيّة لمساعدة بعض الأطفال على تجاوز خجلهم، خاصّة الأطفال الّذين يأتون من عائلات تقمع أطفالها ولا تمنحهم الفرصة للتّعبير عن أنفسهم.

ذاع صيت الرّوضة، وقد أحسنت وردة في التّرويج لها عبر وسائل الاعلانات في الشّوارع والصّحف والإذاعة والتلفزيون، ممّا شجّع أولياء الأمور على تسجيل أطفالهم في هذه الرّوضة النّموذجيّة، فاكتمل عدد الأطفال فيها، ولم تعد تستوعب أطفالا آخرين.

بعد افتتاح الرّوضة بشهرين، توجّه المهندس شاهرإلى الرّوضة؛ لتسجيل طفله البكر فيها، بعد أن سمع عن أدائها المتميّز، وعن مستوى اهتمامها بالأطفال جسديّا ونفسيّا، واتّباعها الأساليب الحديثة في تطوّر الطفل، خاصّة بعد أن كره طفله روضته ورفض الذّهاب إلىها، رغم كلّ محاولات والديه. فجاء الجواب من إدارة الرّوضة: " نعتذر، الأعداد مكتملة، ولا يوجد مكان لأيّ طفل جديد.

لم تيأس سحر أمّ الطّفل، فهي موظّفة، ولا تعرف أين ستذهب بطفلها أثناء دوامها. فحاولت هي الأخرى من طرفها وطرف أصدقائها إقناع إدارة الرّوضة بقبول الطّفل، إلا أنّ الجواب كان الاعتذار مجدّدا.

وصدف أن كان هناك اجتماع يضمّ بعض الشّركات الهندسيّة الّتي تخطّط لبناء مجمّع تجاريّ كبير، فالتقى المهندس شاهر مع المهندس سامرصديق المرحوم عودة زوج وردة، وذلك لدراسة المخطّطات الهندسية مع مجموعة أخرى من المهندسين. فسمع سامر شاهر يشكو لأحد الأصدقاء من المهندسين وضع رياض الأطفال، وبأنّه فشل في إيجاد روضة جيّدة، وبأنه حاول تسجيل طفله بروضة التمّيز والإبداع، إلا أنّ إدارة الرّوضة رفضت لعدم وجود اتّساع فيها.

فسأله صديقه: مَن صاحب الرّوضة.

  • سمعت أنّ الرّوضة لسيّدتين: ندى عبد القادر ووردة عبد الرّحمن.

سمع سامر اسم وردة فسأل على الفور:

  • أتعني وردة عبد الرّحمن التي كانت مدرّسة في مدرسة دار الطّفل العربيّ؟

فأجاب شاهر: لا أدري، ولكن علمت أنّها كانت مدرّسة للغة الانجليزيّة، وأنّها أرملة تسكن في شعفاط.

ثم وجّه سؤاله لسامر: هل تعرفها؟ أرجوك إن كنت تعرفها أن تتدخّل وتحاول إقناعها بتسجيل طفلي، فهي خدمة لن أنساها لك أنا وزوجتي طيلة عمري.

صمت سامر برهة يسترجع آخر لقاء له مع وردة قبل سبع سنوات، وعدته أن تردّ على طلبه بالزّواج منها خلال عدّة أيام، وها هو العمر يمضي ولم يحصل على أيّ جواب، كانت تتهرّب منه وتهمل تلفوناته.

أمّا هو فقد أخذته الحياة، وشغلته شركته الهندسيّة التي أصبحت من أكبر وأنجح الشّركات، ولم يتزوّج بعد، رغم محاولات أمّه تزويجه ابنة أختها، إلا أنّه رفض بحجّة أنّ مشاعره اتجاهها لا تتعدّى مشاعر الأخوّة.

طال صمته، فأعاد شاهر السّؤال عليه: يا باش مهندس سامر، هل تعرف السّيّدة وردة؟

اعتذر سامر عن عدم ردّه وأجاب على الفور:

  • أحاول أن أتذكّر. أعتقد ذلك.
  • أرجوك أن تحاول.

فكّر سامر قليلا، وأخذ يحادث نفسه، لماذا لا يتّخذها ذريعة؛ ليعود ويتواصل مع وردة. ربّما جاءت له فرصة ذهبيّة عليه أن يستغلّها. فقال لشاهر: لا تقلق يا زميل، سأحاول.. أعدك أن أحاول.

*****************

في صباح اليوم التالي، صحا سامر من نومه مبكّرا، نشيطا، على الرغم من أنّ النّوم جافاه حتى وقت متأخر من الليل، فقد كان يتخيّل لقاءه مع وردة، كما كان يبحث عن سيناريو مناسب؛ ليبدأ به حديثه. سبع سنوات يتغيّر فيها كلّ شيء. ترى، ألا زالت بعنادها وكبريائها؟ هل لا زالت بجمالها؟

كان في رحلة عمل إلى عدّة بلدان استمرّت أكثر من ستة شهور حين توفّيت والدتها، فلم يقم بواجب العزاء.

تأنّق سامر واختار أجمل ملابسه، ولبس ربطة العنق ذاتها التي ارتداها في آخر لقاء لهما، فهو لم ينس أنّها لفتت نظرها، وأبدت إعجابها بها، وسألته من أين ابتاعها.

توجّه من فوره لروضة التّميّز والإبداع. لم يجد أية صعوبة بالوصول إلى مقرّها، إذ كانت الإعلانات تنتشر في الشّوارع وعلى أعمدة الكهرباء، وعلى جدران العمارات، وعلى أبواب المحالّ التّجاريّة.

ابتسم وقال لنفسه:

يبدو أنها استعانت بشركة إعلانات للتّرويج لروضتها، وقد نجحت.

وصل إلى الرّوضة، فاستوقفه "حارس الرّوضة" على مدخل البوّابة يسأله عن سبب الزّيارة، فقال له أنّه صديق لصاحبة الرّوضة. فأصرّ الحارس على معرفة اسمه للتّواصل مع الإدارة. وسأله إن كان قد حصل على موعد مسبق.

فأجاب مستغربا: لا.

ثم أضاف: أهي روضة أم وزارة دفاع؟ ما هذه التّعليمات الصّارمة؟

أجاب الحارس: إدارة الرّوضة حريصة على أطفالها، ولا تسمح لأيّ كان بالدّخول دون غرض.

ضاق صدر سامر من الحارس وقال:

قلت لك أنّني صديق قديم للسيّدة وردة، اسمي المهندس سامر عوض.

اتّصل الحارس بوردة وسألها إن كانت تسمح لسامر بالدخول.

فردّت على الفور: بالطّبع.. أدخله حالا. وأغلقت سماعة التّلفون، وخرجت ملهوفة من مكتبها، سألتها ندى وقد كانت معها في غرفة المكتب:

ما بك يا وردة؟ إلى أين؟

  • هناك صديق قديم على البوّابة.. سأعود حالا، انتظريني، سأعرّفك عليه.

توجّهت وردة نحو البوّابة تستقبل سامر معتذرة:

فقال سامر: لا داعي للاعتذار، ولكن التّعليمات عندكم صارمة جدّا. شعرت أنّني أقف على بوابة وزارة الدّاخليّة في القدس. لو كنت أعرف ذلك لكنت اتّصلت بك مسبقا للحصول على موعد مع سموّ الأميرة.

ضحكت وردة وقالت:

نحن حريصون على أطفالنا، ليس أكثر. وهناك العديد من المشاكل بين العائلات تجبرنا على أن نكون حذرين، لذلك لا نسمح سوى بدخول أولياء الأمورأثناء تواجد الأطفال في الرّوضة.

ابتسم سامر وقال: لا بأس، قد يكون هذا الحرص سببا برغبة أولياء الأمور الشّديدة بتسجيل أطفالهم في روضتكم.

دخل سامر إلى مكتب وردة، وكانت تجلس ندى في غرفة مجاورة.

توجّهت وردة إلى مكتب ندى ودعتها؛ لتعرّفها على سامر:

  • أعرّفك على الباش مهندس سامرعوض، جار وصديق قديم لزوجي عودة رحمه الله.

والتفتت إلى سامر وقالت:

وأعرّفك إلى صديقتي وشريكتي في المشروع ندى.

مدّ سامر يده يسلّم على ندى وقال:

فرصة سعيدة سيّدتي، سمعت عن مشروعكما. فعلا مشروع رائد، كلّ الاحترام لكما.

  • فرصة سعيدة يا باش مهندس. شكرا لك. سعيدة جدّا أن أسمع منك هذا الكلام الجميل والمشجّع.

ثم ضحكت وقالت: كلام يستحقّ فنجان قهوة سريع. سأتّصل بالآذنة لتحضره فورا.

ابتسمت وردة وقالت:

يشرب قهوته سكّر زيادة كما أذكر، أليس كذلك يا سامر؟

ضحك سعيدا بأنّها لا زالت تذكر هذه التّفاصيل، ممّا يسهّل عليه مهمّته، فهذا مؤشّر على أنّه لا زال يسكن في مكان ما في الذّاكرة.

فأجاب على الفور يؤكد على كلامها:

صحيح، لا زلت تتمتّعين بذاكرة قويّة يا وردة. وأنا كذلك على الرّغم من ضغوط العمل، فأنت تشربين قهوتك دون سكر.

ضحكوا ثلاثتهم، ولكنّ ضحكة سامر كانت تشي بأنّ هناك ما يريد أن يقوله لندى على انفراد. وقد لاحظت ندى نظراته الحميمة لوردة، فشعرت أن وجودها لن يكون مرحبّا به من طرف سامر. فاستأذنت وتوجّهت إلى مكتبها تتحجّج بأنّ لديها عملا يجب أن تنجزه سريعا، متجاهلة نظرات وردة التي كانت تحاول استبقاءها معهما.

أحضرت الآذنة فنجاني القهوة، شكرها سامر وقال لندى:

  • قد تتساءلين عن سبب زيارتي بعد هذه السّنين الطّويلة.
  • لا أبدا، أهلا وسهلا بك دوما، فأنت جار عزيز ولك كلّ الاحترام.

نظر مباشرة في عينيها وسألها:

  • أنا فقط جار؟

ارتبكت وقالت:

  • لا، وأيضا صديق للمرحوم عودة.
  • فقط؟
  • لا أدري ماذا تقصد يا سامر!
  • بل تدرين تماما. على أيّ حال، أنا جئت إليك بطلب، آمل ألا تردّيني خائبا، وبعدها سنتحدّث في هذا الموضوع.
  • أكيد، لن أردّك خائبا إذا كان في مقدوري أن أنفّذه لك.
  • أودّ أن أسجّل طفلا عندك في الرّوضة.

سألت على الفور:

  • ابنك؟
  • لا، هو ابن صديق عزيز، عنده ظروف خاصّة، وقد سمع عن الرّوضة وما تقدّمه للأطفال من عناية واهتمام.
  • لا تقلق، على الرغم من أنّنا استوفينا الأعداد، وقد مضى شهران على افتتاح الرّوضة، إلا أنّك عزيز، لن أرفض لك طلبك، ولن أردّك خائبا أبدا. أعطني اسم الطّفل ورقم تلفون ذويه للتّواصل معهم وترتيب الأمور.
  • شكرا لك يا وردة.
  • لا شكر على واجب.
  • والآن لنتحدّث بموضوعنا. أنا لم أتزوّج بعد يا وردة، ولا زلت طالب القرب.
  • ألم ترتبط بقريبتك سلوى التي اختارتها لك والدتك؟
  • لا.. كانت خطوبة لم تزد عن شهر واحد وبعدها انفصلنا.
  • ظننت أنّكما تزوّجتما. التقيت بها قبل نحو شهر ورأيت معها أطفالها.
  • نعم، تزوّجت ابن عمّي. ولديهما ثلاثة أطفال. وأنا انشغلت بتأسيس مكتبي الهندسيّ، ومضى العمر.

صمتت وردة تعود بذاكرتها إلى سبع سنوات مضت، عندما زارها بصحبة والديه؛ ليطلب يدها.

شعر بها سامر وقال:

أنا لا أطلب ردّك الآن، فكّري بهدوء ورويّة. وسأتّصل بك بعد أسبوع، علّ الدّنيا تجمعنا؛ لنعيش تحت سقف واحد أنا وأنت وطفلاك. ولا أعتقد أن أحدا سيطالب بحضانتهما الآن. فقد توفّي جدّاهما، وعمّاهما، وقد ترمّلت عمّتهما، كما أنّها تمضي أكثر من ستّة أشهر في كلّ عام في أمريكا عند أولادها. فلا تخشي خسارة أطفالك.

صمت لسان وردة، وتحدّثت ملامح وجهها تشي بقلق من مستقبل ضبابيّ آت. قرأها سامر بتمعّن، فلم يلمها، هو يعرفها جيّدا، لا تضع قدمها على بداية طريق لا تعرف تفاصيله، ولا تضمن له نهاية موفّقة.

فكيف سيقنعها بأنّه سيضعها وطفليها داخل عينيه؟ يحميهم من غدر الزّمان، ويمحو القلق الذي استوطن عينيها منذ أن رحل زوجها عودة.

ماذا يقول لها أكثر ممّا قال؟ هل يترك لها أمر التّفكير وحدها كما فعل قبل سبع سنوات، لتضيع باقي سنوات العمر دون أن تتّخذ القرار الذي سيسعدهما ويجمعهما تحت سقف واحد مع طفليها، ويضيع الحلم الذي ينام داخل جفنيه في كلّ ليلة منذ سبعة سنوات؟

نظرت إليه وردة تقرأ ما يجول بخاطره، فقالت:

سامر، أدري أنّك انتظرت طويلا، أعذرني، ولكنه ليس بالقرار السّهل.

  • وأنا لا أشكّ بذلك، ولكن عليك أن تثقي بي يا وردة، سأكون لك الزّوج الحامي، والأب السّند لطفليك. عدت لك بعد سبع سنوات، ألا زال عندك شكّ بأنّني جادّ في طلبي، وبأنّني سأحوّل حياتك وحياة طفليك إلى جنّة!
  • سامر.. أعطني مدة شهر، أعدك أن أردّ لك جوابي بعد شهر.

ثمّ ابتسمت وقالت:

  • طمئن صديقك أن طفله مقبول في الرّوضة، فليأت غدا ليسجّله.

ثم ضحكت وقالت مازحة:

  • قل له أنّ واسطته قويّة، فصاحب الواسطة غالٍ جدّا على قلوبنا.

ضحك سامر مسرورا بسماع جملتها الأخيرة، إذ اعتبرها بوادر خير نحو اتّخاذ قرار سيسعدهما مدى العمر، فقال وعلى وجهه ابتسامة أمل:

  • "الواسطة" بانتظار نهاية الشّهر على نار.

هزّت وردة رأسها موافقة وقالت:

  • وأنا كذلك.

 

26

جهّزت براء نفسها لحفل التخرّج مع زملائها وزميلاتها. كانت كالفراشة تتنقّل بين الأصدقاء والزّملاء سعيدة، لفتت نظر كلّ من رآها، بجمالها وابتسامتها الهادئة التي تخلب الألباب.

عندما نادى رئيس الدّائرة اسمها عبر السّماعات لاستلام شهادتها:

براء صخر عبد القادر، حصلت على تقدير امتياز.

انطلق الصّفير من الحضور، وضجّ المدرّج بالتّصّفيق الحارّ؛ فقد كانت براء محبوبة ولطيفة مع الجميع.

انتهى حفل التّخريج، وطارت قبّعات الخرّيجين في الهواء يعلنون عن انتقالهم من حياتهم العلميّة إلى العمليّة.

انطلق الخرّيجون من مقاعدهم إلى السّاحة الكبيرة، كلّ يبحث عن أهله وأصدقائه؛ ليلتقط الصّور التّذكاريّة معهم.

كانت ندى وكريم وكريمة ووردة بانتظار براء، يلوّحون لها من بعيد. وبينما كانت تركض تجاههم، وإذا بصوت خلفها ينادي عليها. التفتت، وإذا به زميلها " أمير"، اندفع تجاهها يبارك لها تخرّجها، شكرته على لطفه، وأرادت أن تكمل طريقها إلى أسرتها، فاستوقفها راجيا أن تنتظر قليلا، فهناك ما يريد أن يقوله لها.

  • براء، أرجوك اسمعيني، أنا لا زلت أريد أن أتقدّم لك بالزّواج.

لقد فهمني والدك -رحمه الله- خطأ وطردني أنا وأبي من كراجه.

تنهّدت تنهيدة طويلة، تتذكّر ذاك اليوم الأغبر وقالت:

  • نعم علمت.
  • براء، أريدك زوجة على سنّة الله ورسوله.
  • ولكنّني أريد أن أكمل تعليمي، سأسجّل للماجستير الفصل القادم.
  • وأنا سأشجّعك على ذلك، بل سأفخر بك.

ضحكت وقالت له:

  • تعال معي يا أمير أعرّفك على أمّي.

توجّها سويّا نحو أسرتها، فعرّفت "أمير" على أمّها وأخويها وعلى معلمتها وردة أيضا.

قال أمير موجّها الحديث لأمّ براء:

  • مبارك تخرّج براء يا خالتي، أرجو أن تسمحي لي ولوالديّ بزيارتكم في البيت؛ لنبارك لبراء.

ابتسمت الأمّ وقالت:

أهلا بك يا أمير أنت وأسرتك. فرصة سعيدة با بنيّ.

وانطلق الخرّيجون والخرّيجات يلتقطون الصّور التّذكاريّة مع الأهل والأصدقاء والزّملاء، سعيدين بانتهاء مرحلة هامّة من حياتهم بنجاح.

وفي زاويا أخرى انطلقت أصوات ضرب الطّبول من فرق الزّفات للشّباب الخرّيجين، يحملهم أصدقاؤهم على الأكتاف ويرقصون بهم.

كان يوما سعيدا للجميع، وخاصّة لأسرة ندى، غسلوا بها الهموم التي تراكمت في القلوب عبر السّنين، تسبّبت بصدأ لم يكن من السّهل إزالته.

 

27

قرّرت حنان بأنّ الوقت قد حان لارتباط عنان بندى. هاتفت ندى واتّفقت معها على موعد لزيارتها وعنان وابنتيها بحجّة تهنئة براء بنجاحها وتفوّقها.

جاء موعد الزّيارة، استقبلتهم براء بابتسامة عريضة، إذ أنّ عنان له منزلة خاصّة داخلها، تشعر براحة غريبة عندما تتحدّث معه، مع أنّ معرفتها به حديثة. كان أوّل تعارف بينهما في عزاء والدها منذ سنتين. ولم تلتق به سوى بضع مرّات، إلا أنّها وجدته متفهّما وعميقا، محاورا جيّدا، بلسما شافيا، لديه إحساس مرهف، يدخل القلوب دون استئذان.

بضع ثوان وكانت ندى معهم ترحّب بهم. شكرتهم على سلّة الورد الكبيرة التي كان يحملها عنان، مزيّنة بشَبر يحمل ألوان العلم الفلسطينيّ الأربعة. وفي يد حنان سلّة مليئة بالشّوكولاتة الفاخرة.

  • أهلا بكم، شرّفتونا. ما أجمل هذه الورود، رائحتها عبّأت المكان. شكرا لكم.

والتفتت إلى حنان:

غلّبت نفسك يا حنان. شكرا لك.

أجاب عنان على الفور، وقد حاول أن يسيطر على خفقان قلبه الذي شكّ للحظة أنّه سيخرج من صدره:

هذا أقلّ واجب، أنا أعتبر براء بمثابة ابنة لي.

دخلت براء غرفة الصّالون تحمل صينيّة تصطف عليها أكواب مليئة بالعصير، فسمعت ما قال عنان، وقالت على الفور:

وأنا أعتبرك مثل أبي يا عمّي. أدامك الله لي سندا.

ارتاحت حنان لهذه العلاقة بين براء وعنان، واعتبرت أنّ مهمّتها ستكون أسهل في ظلّ هذه المشاعر الطيّبة مع أفراد الأسرة، خاصّة بعد أن انضمّ إليهم كريم وكريمة اللذان أدخلا البهجة والفرح على الجلسة، واندمجا مع عنان في أحاديث طفوليّة أضحكت الجميع.

مضت ساعتان من الزّمن، وهم يتحدّثون عن مستقبل براء، وعن زميلها أمير، إذ أنّ خال أمير كان زميلا لعنان، وهو يعرف العائلة معرفة جيّدة. فأثنى على العائلة وسمعتها، وأشاد بمواقفها الوطنيّة، وشجّع براء على الارتباط بأمير، فهو من عائلة مقدسيّة عريقة مناضلة تشرّف كلّ من يرتبط بها.

ارتاحت ندى لكلامه، وفرحت براء بهذه المعلومات التي لم تكن تعرفها عن عائلة أمير.

فأخبرت ندى عنان بأنّ عائلة أمير ستزورهم عصر بعد غد، وطلبت من حنان وعنان أن يتواجدا معهم؛ إذ أنّها تجربة جديدة لها، وتحتاج لمن يقف إلى جانبهم في هذه المناسبة، خاصّة أنّهم على معرفة جيّدة بالعائلة.

طار عنان من الفرح، ولكنّه حاول أن يخفي مشاعره، فأجاب:

يسعدنا ذلك، أليس كذلك يا حنان؟ أنا أعتبر أمير ابنا لي كما هي براء بالضّبط. سنكون معكم أنا وحنان، لا تقلقوا وإن احتجتم لأيّ أمر أرجوكم أن تتواصلوا معنا.

أجابت براء على الفور وهي تغمز بعينها:

  • اطمئن، لن ندعك ترتاح، من المؤكّد أنّك ستندم على معرفتك بنا.

ضحك عنان وقال:

  • اطمئني يا براء، فأنا لا أندم أبدا.

28

جاء موعد زيارة أمير وأسرته، فكان أوّل المستقبلين لهم عنان وندى، وكانت وردة وحنان في المطبخ يحضّران صحون المكسّرات وأكواب العصير للضّيافة، أمّا براء فقد كانت بغرفتها مع كريمة تضع آخر لمسات المكياج.

دخلت وردة إلى غرفة براء تحثّها على أن تسرع لتسلّم على الضّيوف:

يا حبيبتي أنت جميلة دون مكياج، هيّا أدخلي صينيّة العصير على الضّيوف، تأخّرنا عليهم.

  • بضع ثوان وأنتهي يا خالة وردة.

وقفت أمام وردة تسألها عن تفاصيل مكياجها، وعن لون حمرة الشّفاه، وإن كان يتلاءم مع لون الفستان وووو...وأخذت تدور حول نفسها وهي تمسك بطرف فستانها سعيدة.

ضحكت وردة ضحكة من القلب سعيدة ببراء:

قلت لك يا حبيبتي إنّك قمر. جمالك فتّان، وفستانك جميل، ومكياجك رائع.... هيّا.

  • حاضر.. حاضر.

خرجت براء من غرفتها، دخلت على الضّيوف تحمل صينيّة العصير. وما أن رأتها أمّ أمير حتّى نهضت تأخذها بالأحضان وتقول:

  • باسم الله ما شاء الله، حماك الله.

ونهض أمير ووالده، فسلّما عليها.

كانت ندى سعيدة بابنتها، أخذ عنان دور الأب الحريص على ابنته.

فتحدّثوا بتفاصيل المهر والزّواج وإكمال براء دراستها العليا في الجامعة.

قبلت أسرة أمير كلّ المطالب بسرور، واتّفقوا على أن تكون حفلة الخطوبة بعد أسبوع.

انتهت الزّيارة، بعد أن غادرت أسرة أمير، جلس عنان وحنان مع ندى وبراء ووردة يقيّمون الوضع، فأشاد الجميع بالعائلة وتجاوبهم وكرمهم.

شكرت ندى عنان على وقفته معهم ودعمهم في هذه المناسبة الهامّة جدّا في حياتهم.

  • لا شكر على واجب يا ندى، المهمّ أنّ أرى براء سعيدة في حياتها الزّوجية، وأعتقد أنّ أمير نعم الزّوج الّذي سيحافظ على براء ويسعدها.

ابتسمت براء ممتنّة وقالت:

لن أنسى وقفتك معنا يا عمّي.

ونهضت من مكانها تضمّ عنان لأوّل مرّة، وقد سقطت دمعتان من عينيها.

لم تستطع ندى أن تكبت دموعها، وقد تذكّرت قسوة زوجها، فلم يكن يوما عطوفا حنونا على أولاده، تأثّرت وردة فبكت هي الأخرى، وانتقلت العدوى إلى حنان.

ابتسم عنان وقال:

ما هذه التّراجيديا؟ هل ستحوّلون هذه المناسبة السّعيدة إلى حزينة؟ ما بكم يا جماعة، فلنضحك ولنسعد في هذه المناسبة التي يجب أن تدخل الفرحة إلى قلوبنا جميعا.

اعتذرت براء، وكذلك ندى التي ضمّت ابنتها، تبارك لها سعيدة بها.

 

29                                                        

انشغل عنان وندى ووالدا أمير بالتّحضيرات لحفل خطوبة العروسين.

فكان حفلا مميّزا راقيا بشهادة كلّ من حضروه.

وعلى الرّغم من العلاقة المميّزة بين عنان وأسرة ندى، إلا أنّه لم يجرؤ على فتح موضوع الارتباط بها، فاقترحت عليه حنان أن يتحدّث مع براء حول الموضوع.

استظرف الفكرة، فهاتف براء على الفور وطلب منها أن تحضر إلى منزل أخته حنان بأسرع وقت ممكن، لأنّه يريد أن يتحدّث معها في موضوع خاصّ جدّا يهمّه.

استجابت براء، وأعلمته أنّها ستكون في منزل حنان بعد نصف ساعة، وبأنّها ستمضي معه ساعة من الوقت على الأكثر، لأنّها مرتبطة بموعد مع خطيبها أمير، فأعلمها عنان أنّ الأمر لن يحتاج أكثر من ساعة.

وصلت براء منزل حنان، فاستقبلها عنان استقبالا حارا.

أقلقتني يا عمّي، خير إن شاء الله.

  • لا تقلقي يا حنان، إن شاء الله خير. كنت أودّ أخذ مشورتك في موضوع يخصّني.
  • تفضّل.
  • أنت تعرفين أنّني أعيش لوحدي بعد طلاقي، وأنا أحتاج لشريكة أكمل حياتي معها.

ضحكت براء وقالت:

  • هل تريدني أن أبحث لك عن عروس؟ بالتّأكيد محظوظة الّتي سترتبط بك.

ابتسم وشكرها على مديحها وقال:

  • شهادتك أعتزّ بها يا براء، أنا لا أريدك أن تبحثي لي عن عروس؛ فقد وجدتها.
  • من هي سعيدة الحظ؟

صمت عنان، فتسارعت دقّات قلب براء، وتذكّرت موقفه حين ذهبت هي وأمّها يهنّئانه بالسّلامة بعد أن خرج من المعتقل، إذن هو فعلا معجب بأمّها، بل يحبّها، وعادت بها الذّاكرة حين اختار لها الثّوب المطرّز قائلا: "أمّك تفضّل الألوان الزّاهية".

فهل من المعقول أن ترتبط أمّها بزواج ثانٍ؟ كيف يجرؤ أن يطرح هذا الموضوع!

قرأ عنان ما يدور بخلدها، وقال:

  • نعم يا براء. أنا أحبّ أمّك قبل أن تتعرّف على أبيك.

وروى لها تفاصيل حكايته، وطلب منها أن تساعده على الارتباط بأمّها من خلال إقناعها.

صمتت براء.. ترتسم على ملامح وجهها حالة من الذّهول.

تدخّلت حنان من فورها وقالت:

  • صدّقيني يا براء، لن تجد أمّك أفضل من عمّك عنان للارتباط به، فهو السّند والحبيب.

حاولت براء أن تسيطر على أعصابها، وتخفي ما بداخلها من مشاعر رفض لمجرد فكرة زواج أمّها، فقالت:

لا أدري يا خالتي إن كانت أمّي ستتقبّل فكرة الارتباط من جديد.

قالت حنان:

ولِم لا؟ فمن حقّها أن تمضي بقيّة حياتها مع شريك يحبّها.

على أيّ حال هذا دورك يا براء، وأنا أعرف قوّة تأثيرك على أمّك، ولكن قبل ذلك، هل أنت مقتنعة؟

صمتت براء لوهلة ثم أجابت:

بصراحة.. أنا لا أتصوّر يوما أن ترتبط أمّي بزوج آخر يا خالة؟

فقال عنان:

أفهم مشاعرك يا ابنتي، ولكن صدّقيني أنّها لن تندم أبدا.

  • ولكنّ أمّي لا تفكّر بالارتباط من جديد يا عمّي، لا بك ولا بغيرك.

قالت حنان مبتسمة، تحاول التّخفيف من وطأة المفاجأة التي لم تكن تتوقّعها براء:

عزيزتي براء، ما المانع من أن تتزوّج أمّك من جديد وتعطي لنفسها فرصة العيش مع شريك يقاسمها همومها، ويحمل معها عبء أطفالها.

  • يا خالة حنان، أمّي قويّة ولا تحتاج لمن يساعدها في تربية أطفالها.
  • يا ابنتي.. هذا حقّ لها.
  • نعم صحيح.. حقّ لها إن كانت ترغب بالارتباط من جديد يا خالة حنان. أنا لا أمنعها. هي التّي ترفض فكرة الزّواج مرّة ثانية.

فسألها عنان على الفور:

وهل تمّ فتح موضوع الزّواج من قبل؟ أعني هل تقدّم لها أحد قبل عمّك عنان؟

أجابت براء بثقة:

  • بالتأكيد، فأمّي جميلة كم تعلمان. إلا أنّها ترفض فكرة الزّواج كلّيّا.

ابتسم عنان، وشعر بأنّهم أشبه بمن يدقّ الماء بالهاون، فلا مجال للمزيد من الحديث في هذا الموضوع. قال محاولا الخروج من النّقاش وإنهاء حالة الحرج التي انتابتهم جميعا:

على أيّة حال، حتّى وإن لم يكن لي نصيب بنسبكم يا براء، فسنبقى الأصدقاء الأوفياء، ولنحافظ على علاقتنا الجميلة. أرجو اعتباري بمثابة الوالد -رحمه الله-، فقد كنت له الصّديق الصّدوق، وأنا أشعر أنّكم مسؤوليتي.

ابتسمت براء وأجابت:

بالتأكيد يا عمّي، فأنت خير أب، وخير سند. شكرا على كلّ ما قدّمته لنا. لن أنسى وقفتك معنا أبدا في أصعب أوقات مررنا بها.

أعذراني، مضطرّة أن أغادر، فأنا على موعد مع أمير.

ابتسم عنان، ونهض من مكانه يوصلها إلى باب المنزل:

سلّمي عليه، وقولي له أنّني اشتقت له، فقد وعدني بزيارة، ولا زلت أنتظر.

ضحكت براء وقالت:

سلّمك الله يا عمّي. سأوصل له رسالتك، وسنحضر سويّا لزيارتك إن شاء الله.

  • أهلا بكما.

خرجت براء من المنزل وهي تحدّث نفسها: أمعقول ما جرى اليوم!

لا.. لا.. من المستحيل أن ترتبط أمّي من جديد. فقد كرهَت جنس الرّجال بعد أبي.

وصلت إلى باب مطعم فيلادلفيا في شارع الزّهراء، ولا زال موضوع زواج أمّها يدور في رأسها، ساعة تستهجن الفكرة، وساعة تشعر بعذاب الضّمير، فهل من حقّها أن تتصرّف وحدها بأمر يخصّ أمّها!

استقبلها أمير، وتوجّها معا إلى الطّاولة المحجوزة لهما، وعرّفها على صاحب المطعم، فرحّب بهما مباركا لهما الخطوبة.

لاحظ أمير شرودها، فهي ليست على طبيعتها.

سألها يستفسرعن السّبب، فأعلمته بالأمر.

أخذ أمير الموضوع بجدّيّة، ولامها، قائلا:

براء.. ليس من حقّك أن تقرّري في أمر يخصّ أمّك دون الرّجوع إليها، يجب أن تخبري أمّك بتفاصيل ما جرى.

  • بالتّأكيد، سأخبرها بما جرى، وأنا على يقين من أنّها ستشكرني على إجابتي عنها بالرّفض.
  • لا أعتقد ذلك.
  • لماذا؟
  • لأنّك أخذت دورها دون الرّجوع إليها. من حقّها أن ترتبط برجل شهم مثل العمّ عنان. أنا واثق من أنّه سيسعدها، وسيحمل عنها حملا ثقيلا.

أنا أعرفه جيّدا، رجل راقٍ ومقدام ويحترم المرأة كثيرا ويقدّرها.

  • ولكنّ أمّي كرهت جنس الرّجال كافّة ولن تكرّر التّجربة، هذا ما كرّرته لي مرارا.
  • ربّما تغيّر رأيها، فالعمّ عنان يختلف كثيرا عن العمّ صخر -رحمه الله-.

صمتت براء وقالت:

  • على أيّة حال، لننتقل إلى موضوع آخر.. فقد انتهى الموضوع الآن، وأعطيته الجواب.

ضحك أمير معترضا مستفَزّا:

  • ومن قال أنّ الموضوع انتهى؟ وجود العمّ عنان في حياة أفراد عائلتك مكسب لهم، ليس من حقّك أن تقرّري عن جميع أفراد الأسرة؟

الموضوع لم ينته بعد يا براء، اتركي الموضوع لي، سأعاود فتح الموضوع بطريقتي مع العمّ عنان إن وافقت الخالة ندى، فهي صاحبة الشّأن، وهي من ستقرّر.

ثم أضاف:

ولا تنسي، أنت ستتزوّجين وترحلين عن بيت أهلك إلى بيتك الجديد، وستتركين أمّك وأخويك وحدهم يقارعون الحياة. ومهما حاولت أن تكوني معهم وتتعاونين معهم، ستأخذك حياتك الجديدة حتّى من نفسك، تتوزّع بين دراستك وعملك وحياتك الزّوجيّة ومتطلّباتها.

ثمّ ضحك يريد استفزازها:

من الواضح أنّك تحملين شيئا من شخصيّة والدك. فمن شابه أباه ما ظلم.

صدمها رأيه بها، فحملقت به وقد أخرست لسانها المفاجأة، ودار جزء من شريط الماضي أمام عينيها، لم تستطع أن تكبت دمعة تحرّرت عنوة، فعلقت بين رموشها قبل أن تستقرّ على كرسي خدّها. مسحتها بكفّها فورا بحركة غير إرادية.

شعر أمير أنّه كان قاسيا عليها، فاعتذر بشدّة نادما، قال:

  • سامحيني حبيبتي.. لم أقصد. أردت استفزازك فقط لا غير.

صمتت برهة ثم قالت:

لقد أصبت الهدف يا أمير.

  • وهل تسامحيني؟
  • لم تخطىء حتى أسامحك. معك حق.
  • معي حقّ بماذا.
  • أمّي هي من يجب أن تأخذ قرارها، يبدو أنّني تجاوزت حدودي. ولكن هذا ما أكّدته لي أكثر من مرّة، أكّدت أنّها ترفض أن تكرّر تجربة الزّواج.
  • لا عليك.. أكملي طعامك الآن، سنذهب عندها سويّا، فقد اشتقت لها ولكريم وكريمة.

 

30

وصلت براء إلى المنزل مع أمير، فاستقبلتهما ندى استقبالا جميلا، ونادت على كريم وكريمة:

  • كريم.. كريمة.. تعالا.. أنظرا من جاء عندنا.

ركضا نحو الباب، واندفع كريم نحو أمير فحمله يدور به في الهواء، وانتظرت كريمة دورها، ترفع يديها إلى أعلى، فضحك أمير ودار بها هي أيضا قبل أن يفاجئهما بعلبة تحتوي على المكعّبات البلاستيكيّة، إذ علم من براء نوع الألعاب التي يحبّانها، فاشتراها من محلّ تجاريّ خاصّ ببيع الألعاب للأطفال قريب من المطعم.

كان أمير سعيدا جدا بعلاقته مع الطّفلين. قضوا جميعهم وقتا جميلا وهم يتشاركون في بناء برج عال بالمكّعبات. ملأت صوت ضحكاتهم أرجاء المنزل، تمحو جزءا من ترسّبات الماضي.

تأخّر الوقت، فاستأذن أمير مودّعا. أوصلته براء إلى الباب، فهمس في أذنها يذكّرها بضرورة فتح الموضوع مع أمّها، ويطمئنها بأنّها إن وافقت سيتولّى هو الباقي.

احتارت براء، كيف تفتح الموضوع مع والدتها.

سألتها والدتها عن لقائها مع أمير اليوم، وعن علاقتهما، وإن كانت مرتاحة له.

أجابتها براء بأنّها سعيدة جدّا معه، وأخذت تبحث عن مدخل لفتح موضوع زواج العمّ عنان، فخطر ببالها فكرة، وجدتها مناسبة:

  • هل تعرفين يا أمّي، أمير مريح جدّا، له شخصيّة شبيهة بشخصيّة العمّ عنان.
  • حقّا، رائع.
  • العمّ عنان مريح جدّا يا أمّي اتّصل بي اليوم، وتحدّث معي بموضوع يخصّه.
  • وما هو هذا الموضوع؟

شعرت براء أنّها تورّطت ودخلت في موضوع لا ترغب أن تخوض به، ولكنّها فتحته الآن ومن الصّعب التّراجع.. ارتبكت.. صمتت قليلا ثم أجابت دون أن تلتقي عيناها بعينيّ أمّها التي كانت تثبّت زرّا في قميص كريم بالخيط والإبرة:

يريد أن يتزوّج من جديد، فقد مضى على طلاقه فترة طويلة.

أجابت ندى وهي لا زالت تثبّت زرّ القميص، دون أن ترفع رأسها وتنظر نحو ابنتها:

قرار سليم، وهل وجد العروس؟

صمتت براء لوهلة، فنظرت الأمّ إليها وسألت من جديد:

هل وجد سعيدة الحظّ؟

ازداد ارتباك ندى، فشغلت نفسها بضمّ خصلات من شعرها وربطها إلى الخلف على شكل ذيل فرس. نظرت الأمّ نحوها وسألتها من جديد:

هل وجد عنان العروس؟

  • نعم يا أمّي، وجدها، ولكنّه محتار كيف سيفتح معها الموضوع.
  • هل نعرفها؟
  • نعم، وقد طلب منّي أن أفاتحها بالموضوع، فهو صديق لأسرتها، وكان صديقا لزوجها المرحوم.

شعرت ندى شعورا غريبا، وكأنّها فهمت المغزى.

  • من هي هذه الأرملة؟

نهضت براء وتوجّهت نحو أمّها توسع لها مكانا بجانبها:

  • أنت يا أمّي، أنت سعيدة الحظّ.

تدفّق الدّم في وجنتي الأمّ، فتركت ما بيدها، ونظرت نحو ابنتها تستنكر قولها:

كيف تجرؤين على فتح موضوع كهذا معي؟ ألم تعلميه أنّني أرفض فكرة الزّواج من جديد؟

ارتاحت براء لموقف أمّها، وتلاشت مشاعر عذاب الضّمير التي اجتاحتها بعد حديثها مع أمير، وأجابت أمّها وهي تبتسم:

  • بالتأّكيد، قلت له ذلك، وتدخّلت الخالة حنان محاولة إقناعي بالتّدخّل وإقناعك بالارتباط بالعمّ عنان. ولكنّني أصرّيت على أنّك ترفضين الفكرة من أساسها.
  • أحسنت يا براء.
  • على أيّ حال يا أمّي، لن أتدخّل، هذا قرارك وحدك.. فكّري في الموضوع، الأمر يستحقّ التّفكير.

على الفور، انسحبت الأمّ من غرفة المعيشة وتوجّهت نحو غرفتها.

وما أن أنهت براء حديثها مع أمّها، وإذا بأمير يهاتفها كعادته؛ ليطمئنها بوصوله إلى البيت، وسألها:

هل تحدّثت مع الخالة ندى بخصوص موضوع زواجها من العمّ عنان؟

  • نعم، وكما توقّعت، رفضت الموضوع تماما.

ضحك أمير وسألها:

  • قولي لي بصراحة، هل حاولت إقناعها؟ أعني، هل بذلت مجهودا بإقناعها؟
  • لماذا تسأل؟
  • هو مجرّد سؤال.
  • لا أعتقد أنّه مجرّد سؤال يا أمير. ماذا تقصد؟
  • أقصد أنّني أعرفك جيّدا. ولا ألومك.
  • أنا حاولت يا أمير، ولكنّني بصراحة لم أضغط عليها، فهذا قرارها.
  • عليك أن تساعديها للنزول عن الشّجرة.
  • ماذا تقصد؟
  • أقصد أنّني أظنّ أنّها لن ترفض الزّواج من العمّ عنان، ولكنّها محرجة أن تعترف بذلك أمامك وأمام من أعلمتهم أنّها ترفض فكرة الزّواج.

أنا رأيت نوعا من الإعجاب يطلّ من عينيها تجاه العمّ عنان أثناء وجودنا في منزلكم، وأثناء حفل خطوبتنا يا براء. كان بينهما تناغما عجيبا.

براء.. عليك أن تشعريها أنّك تتقبّلين موضوع زواجها، بل وتشجّعينها عليه؛ لأنّه في مصلحتها ومصلحة الطّفلين. عديني أن تبذلي مجهودا كبيرا في ذلك. كفاها شقاء.

صمتت براء ولم تجب.. وصمت أمير ثم سألها ضاحكا:

أينك؟ هل غفوت؟ هل لا زلت معي على خطّ الهاتف؟

  • نعم... نعم.. أعدك يا أمير.. أعدك أن أدعمها قدر استطاعتي. شكرا لك.

ثم ضحكت قائلة:

  • لماذا درست الهندسة يا أمير؟ كان يجب أن تتخصّص في علم النّفس. تحليلك لوضع أمّي منطقيّ جدّا.. أعتذر.. قد أكون ظلمتها دون قصد منّي.
  • لا عليك.. أدري أنّ الأمر ليس سهلا عليك. أقدّر ذلك.. ولكن يبدو أنّنا في بعض الأحيان علينا أن نفكّر باتّجاه مختلف؛ كي نضمن أن نحقّق نتائج أفضل لمن نحبّ.

تصبحين على خير حبيبتي.

  • تصبح على خير حبيبي.

فور نقاش ندى وبراء بخصوص الزّواج، انسحبت الأمّ فورا من غرفة المعيشة إلى غرفتها، تبعتها براء، دقّت الباب تستأذن الدّخول. فسألت ندى ابنتها بعصبيّة:

هل هناك شيء جديد تريدين إعلامي به؟

  • لا يا أمّي.. أحتاج أن أجلس معك قليلا.
  • حسنا.. بشرط ألا تفتحي موضوع عنان مرّة أخرى.
  • بل سأفتحه يا أمّي لأنّني أحبّك، وأريد لكريم وكريمة أن يعيشا تحت جناحيكما سعيدين، فقد سبّب أبي لهما عقدا نفسيّة، علّ العمّ عنان يصلح ما أفسد أبي.
  • كيف تجرئين...؟
  • بل لماذا ترفضين؟ عيشي حياتك يا أمّي، فأنت تستحقّين الأفضل.
  • لن أكون عبدة لأيّ رجل مرّة أخرى، أنا حرّة الآن، أعشق حرّيّتي، لن أتخلّى عنها.
  • بل أنت عبدة لمخاوفك، كنت عبدة لأبي في حياته، والآن أصبحت عبدة لمخاوفك وهواجسك بعد موته... تحرّري يا أمّي.
  • وماذا سيقول عنّي النّاس؟
  • بل، بماذا أفادك النّاس؟ تركوك وحدك في مشوار حياتك عند أوّل محطّة، عانيت منهم الأمرّين، هل نسيت؟
  • أنا لن أكون "وفاء" أخرى.
  • بل أنت "ندى" الأمّ التي لم ولن تتخلّى عن أولادها، دافعتِ عنهم كالّلبؤة، دعمتِهم، وأعدتِ لهم ثقتهم بأنفسهم، ووفّرتِ لهم الشّعور بالأمن والأمان.
  • نعم.. ولكن....
  • أمّي.. أرجوك فكّري في الموضوع. سأتركك الآن؛ لتنامي وترتاحي، علّك تتّخذين في الصّباح قرارا يسعدك ويسعد أسرتنا.

تصبحين على خير.

طبعت قبلة على جبين أمّها.. وغادرت الغرفة.

رمت ندى جسدها على فراشها متعبة، أخذت تسترجع كلمات ابنتها، تذكّرت كلمات الكاتبة غادة السّمّان في نصوص عشقتها، آمنت بها، تكرّرها في كلّ مناسبة:

( أنا فراشة الحرّيّة، أنا عاشقة الحرّيّة، لا عاشقة الأزهار والمصابيح! الحبّ لا...

هل سمعتَ مرّة بفراشة عادت دودة طائعة إلى الشّرنقة؟

حبّ شهريار الشّرقيّ مرادف لامتلاك المحبوب

أو مرادف لقتله.. والفراشة طارت بعيدا،

وتعلّمت التّحليق كنسر، وانتهى الأمر.)

نعم، انتهى الأمر، لن أعود عبدة لشهريار، لن أتزوّج ولن أحبّ.

فسمعت صوتا داخلها يقول: شتّان ما بين صخر وعنان، فهما شخصيّتان مختلفتان، عنان إنسان حسّاس وراقٍ في تعامله مع الجميع، لقد لمستِ ذلك يا ندى، فلماذا لا تعطي نفسك فرصة أخرى، قد تعوّضك عن كلّ عذابات حياتك.. تحرّري من مخاوفك.

فردّ الصّوت الآخر يقول:

الرّجل الشّرقيّ يبقى شرقيّا. جميعهم وجهان لعملة واحدة.

فخرج صوت من القلب يقول:

بل هناك فرق، كان أبي لطيفا، لم يجرح والدتي يوما بكلمة، ولم يقسُ على زوجته منال رغم أنّها كانت مشاكسة، كان إنسانا بمعنى الكلمة، عنان أشبه بشخصيّة أبي -رحمه الله-.

وبينما كانت تحاور نفسها فإذا بوردة تتصّل بها:

  • مرحبا ندى، ضروري أن نلتقي غدا.. أنا بحاجة للتّحدّث معك.

ردّت ندى:

بل أنا بحاجة إليك يا وردة، أريدك بحديث خاصّ جدّا.

  • حسنا.. غدا الجمعة، ما رأيك أن تأتي أنت والأولاد ونتناول الفطور سويا في بيتي. هما سيلعبان ونحن نتحدّث.
  • لا يا وردة، أريدك على انفراد، فلنلتقي في الرّوضة غدا صباحا، فهو يوم عطلة ولن يزعجنا أحد هناك.
  • حسنا.. اتفقنا. سأكون هناك في تمام السّاعة العاشرة صباحا.
  • اتفقنا.

 

31

نهضت ندى صباح اليوم التّالي منهكة، فلم يغمض لها جفن طيلة ليلة أمس، شعرت نفسها أنّها بين المطرقة والسّندان.

هي تعلم أنّ عنان شخصيّة مختلفة تماما عن زوجها الرّاحل. اشتاقت إلى وجود شريك يحمل معها همّها، فهي الأمّ والأب في البيت. وقريبا ستتزوّج ابنتها وصديقتها براء، وستنشغل عنها ببيتها وزوجها ودراستها، فلن يكون لها متّسع في حياتها. هي تدرك ذلك تماما. ولكنها اعتادت أن تكون حرّة طليقة، سيّدة نفسها.

حاولت أن تتخلّص من أفكارها التي أقلقتها طيلة ليلتها، فتوجّهت إلى المطبخ لتعد وجبة الإفطار لأولادها قبل أن تذهب للقاء وردة، وإذا بابنتها ندى من خلفها تضمّها.. التفتت ندى إليها:

أهلا براء.. صباح الخير حبيبتي.

  • كيف كان ليلتك يا أمّي؟

ابتسمت الأمّ باستهزاء وقالت:

  • نمت الليل الطّويل بهدوء وسكينة، الحمد لله.

ثم نظرت إلى ابنتها.. فلاحظت براء عينيّ والدتها الذّابلة.

هزت رأسها.. ثمّ انفجرتا ضاحكتين، من باب شرّ البليّة ما يضحك.

قالت براء:

أدري يا أمّي أنّها كانت ليلة عصيبة عليك.

  • لم تغف لي عين يا براء.
  • إذا أنت تفكّرين بالأمر. أعني أنّك بدأت تقتنعين بحديثنا أمس، أليس كذلك؟
  • لا أدري...

لا تضغطي عليّ أكثر.. دعيني أفكّر بالأمر براحتي يا براء.

على أيّ حال، عندي اجتماع طارئ في الرّوضة الآن، تابعي كريم وكريمة في هذه الأثناء، لن تطول فترة غيابي عن ساعتين.

أقلقها كلام والدتها، هذا يعني أنّها لا ترفض فكرة الزّواج كلّيا. أي أنّها من الممكن أن تغيّر رأيها وترتبط بعنان.

وزاد قلقها حين علمت أنّ أمّها على موعد مع صديقتها وردة، فاليوم الجمعة ولا يوجد اجتماعات في الرّوضة.. وهي تعلم مدى تأثير وردة على أمّها.

ترى، هل سيصبح عنان يوما سيّد البيت؟ فعلى الرّغم من كرهها لمواقف أبيها وسلوكيّاته معها ومع أفراد الأسرة، إلا أنّها لا تستوعب أن يكون غيره سيّدا للبيت.

ضحكت بمرارة.. تناقضات غريبة تجتاح مشاعرها.. عجزت عن تفسيرها، وهي المختصّة بعلم النّفس البشريّة.. وهي التي كانت تحاول إقناع والدتها بالزّواج بشتى الطّرق ليلة أمس!

أوجعها ضميرها عندما زاد يقينها أنّها لم تفتح موضوع زواج أمّها إلا من باب رفع العتب، فقد كانت واثقة من أنّ أمّها ترفض الموضوع بشكل قطعيّ.

إذن.. هي تستكثر على أمّها أن يكون لها شريك يحمل معها عبء حياتها اليوميّة. إذا.. لم يظلمها أمير.. هي فعلا أنانيّة.

أمسكت رأسها بين كفّيها تهزّه بقوّة، تحاول أن تنفض مجموعة الأفكار السّلبيّة التي كانت تجتاحها؛ لتدخلها في دوّامة من التّيه. ثمّ حدّثت نفسها: لا.. أنا لست أنانيّة، أنا حاولت إقناعها بشكل جدّيّ، وأنا أوّل من سأفرح بزواجها من العمّ عنان، فهو إنسان رائع، وأمّي تستحق أن تكمل مشوار حياتها مع زوج بصفات العمّ عنان.

********

في تمام السّاعة العاشرة صباحا التقت الصّديقتان في مقرّ الرّوضة، وروت كلّ منهما روايتها مع العريس المنتظر.

قالت ندى:

  • يبدو أنّ سامر يحبّك يا وردة، وقد انتظرك طيلة الفترة السّابقة؟ فلماذا ترفضين الارتباط به؟

أجابت وردة:

لا أدري، سأعطي نفسي شهرا للتّفكير مليّا قبل أن أخطو هذه الخطوة التي ستؤثر على حياتي وحياة أسرتي، مع أنّني ابتدأت أقتنع بفكرة الزّواج، ولم أعد أعتبرها من المحرّمات.

صديقتي جميلة ارتبطت من جديد بزميل لها يعمل في البنك، مع أنّها رفضت فكرة الارتباط منذ وفاة زوجها. إلّا أنّ والدتها شجّعتها، فقد كانت هي أرملة أيضا، وقد عانت الأمرّين، اضطرّت أن تعمل في تنظيف البيوت؛ كي تربّيها هي وأخوتها.

ثمّ وجّهت الحديث إلى ندى:

وأنت يا ندى، لقد رأيت حبّ عنان يشعّ من عينيه، فلماذا ترفضين؟ لقد وقف معك وقفة أصيلة، كان أبا لبراء ولكريم وكريمة.

  • كرهت كلّ جنس الرّجال يا وردة، من الصّعب أن أخوض تجربة فاشلة مرّة أخرى، لم أعد أحتمل.
  • ولماذا تفترضين أنّها ستكون فاشلة؟ عنان يختلف عن المرحوم صخر.
  • بالتّأكيد.. لا يوجد أيّ شبه بين شخصيّتهما.. ولكنّني تحرّرت.. لن أكون عبدة لأحد بعد اليوم.
  • بل ستكونين سيّدة في بيتك.. وستتربّعين في حجرات قلب عنان ملكة يا ندى، فكّري بالأمر.

أعطي نفسك فرصة، فهي تستحقّ منك أن تسعديها بقرار يدخل الفرحة إلى قلبك، علّ الله يعوّضك عن كلّ ما مضى من أيّام لم تجفّ دمعتك فيها.

اجلسي معه وتحدّثي، وبدّدي مخاوفك. عنان مريح جدّا.

عادت ندى إلى المنزل، دخلت إلى غرفتها تسترجع حوارها مع براء ووردة، شعرت أنّها منهكة، فلم يغمض لها جفن طوال ليلة أمس.

تركتها براء تجلس مع نفسها طيلة اليوم، تجنّبت فتح الموضوع، وتابعت تدريس أخويها، وجهزت طعام الغداء، فجلسوا جميعا على سفرة الطّعام دون أيّ كلام على غيرعادتهم.

فسألت كريمة أمّها بقلق:

  • ما بك يا أمّي؟ أأنت مريضة؟
  • لا يا حبيبتي، هو صداع خفيف، لا تقلقي.

نهضت كريمة وتوجّهت مسرعة إلى خزانة الأدوية في المنزل، وأحضرت لها علبة دواء مسكّن للآلام.

ضحكت الأمّ وضمّت ابنتها، ودون أن تشعر سقطت من عينها دمعة، لم تعرف تفسيرها، فمسحتها كريمة بيدها الصّغيرة وقالت لأمها:

تناولي حبة من الدّواء، وبعدها سيذهب الألم على الفور.

تناولت ندى حبّة من مسكّن الألم، فقد كانت فعلا تعاني من الصّداع، واستأذنت قائلة:

  • أرجوكم.. دعوني أنام. أحتاج للنّوم كثيرا.

فأجاب كريم على الفور:

  • اذهبي للنوم يا أمّي، لن أدع أحدا يزعجك، فأنا رجل البيت.

ضحكوا جميعا، وتوجّهت الأمّ إلى غرفتها، وغطّت في نوم عميق حتى صباح اليوم التّالي.

33

طلّت الشّمس صباحا، تعلن عن مولد نهار جديد، دخلت براء إلى غرفة والدتها تصبّح عليها وتقدّم لها فنجان قهوتها على فراشها.

صباح الخير يا أجمل أمّ.

  • صباح الفلّ يا حبيبتي.
  • أقرأ في عينيك خبرا سعيدا يا أمّي.

نظرت ندى إلى ابنتها وقالت:

قولي لعنان أنّني أحتاج شهرا -على الأكثر- لأردّ على طلبه.

اندفعت براء نحو أمّها تضمّها وتقبّل وجنتيها، فقالت لها أمّها:

  • لا تستعجلي يا براء، فلم أتّخذ قراري بعد.
  • أدري يا أمّي، وأدري أيضا أنّك ستختارين الأفضل لك ولأسرتك، خذي وقتك يا أمّي. جميعنا ننتظر...

انتهى

وسوم: العدد 1023