عينان مطفأتان ، وقلب بصير(1)

عبد الله الطنطاوي

عينان مطفأتان، وقلبٌ بصير

    عبد الله الطنطاوي  

[email protected]

    الفصل الأول

توقّفت السيارة بالقرب من فتى يافع لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره، ومدَّ الحاج فاتح رأسه من نافذة السيارة، ونادى:

- يا ولد.. يا ولد.. أنت يا ولد.
 

توقّف الفتى عن تلاوة القرآن، وسأل:

- هل تناديني؟

أجاب الحاج فاتح:

- وهل هناك غيرك في هذه القرية، حتى أناديه؟

نهض الفتى من جلسته في ظلّ الجدار، وتقدّم نحو صاحب الصوت، ثم قال:

- اسمي صالح. ويدعوني أهل القرية بالشيخ صالح.

نظر الحاج فاتح نحو ابنه فؤاد الذي كان يجلس بجانبه، ثم نظر إلى الفتى، وظهر له أنه ضرير، ولكنه -فيما يبدو- ذكي وفصيح.. ثم قال له:

- السلام عليك يا ولدي يا شيخ صالح. هل تركب معنا، لتدلّنا على منزل المزرعاوي؟

سأل الشيخ صالح:

- من أنت أولاً يا عمي؟

أجاب الحاج فاتح:

- أنا فاتح. اسمي فاتح، ويدعونني بالحاج فاتح.

- والذي معك؟

- معي ولدي فؤاد، وهو في مثل سنّك.

ثم التفت إلى ابنه وقال له:

- سلّمْ على الشيخ صالح يا فؤاد.

مدّ فؤاد يده مصافحاً، فأخذ الشيخ صالح كفّه الناعمة بين كفّيه الخشنتين، وقال له:

- أهلاً بك وبأبيك يا فؤاد.. أنتم بين أهلكم.

صعد الشيخ صالح إلى السيارة، واستأذن فؤاد أباه في الجلوس إلى جانب الشيخ صالح، في المقعد الخلفي، فأذن له.

قال الشيخ صالح:

- امش يا عمي على بركة الله.

- إلى أين؟

- إلى بيت المزرعاوي.

سأل الحاج فاتح:

- من أين أسير؟

فدلّه الشيخ صالح:

- تمشي مئتي خطوة إلى الأمام، ثم تنعطف إلى اليمين، أو تقف في الساحة التي على اليسار، لأنّ بيت والدي المزرعاوي لا يبعد أكثر من عشرين خطوة من الدخلة الضيّقة.

سأله الحاج فاتح باهتمام:

- هل أنت ابن أبي صالح المزرعاوي؟

فضحك الشيخ صالح وهو يقول:

- أنا صالح، وهو أبو صالح، فمن أكون إذن، إذا لم أكن ابن أبي صالح؟

ضحك فؤاد، وضحك معه أبوه، وشاركهم الشيخ صالح في الضحك، فيما كان الحاج فاتح يصفّ سيارته الفخمة في الساحة التي أشار إليها الفتى صالح.

ترجّل الثلاثة من السيارة، وسار الشيخ صالح بين الوالد وولده، رافع الرأس، بارز الصدر، ثابت الخطو، كأنه بصير يرى طريقه، ويتحاشى الحفر والنتوءات الصخرية، ويحذّر صاحبيه منها:

- انتبه يا عمي الحاج.. انتبه يا صديقي فؤاد.. قريتنا -كما تريان- مهملة، والدروب فيها مُتْرَبة، وصخرية، تعلّم راكبي السيارات على الرقص.

فقال فؤاد وهو يبتسم:

- هل علّمتك الرقص يا شيخ صالح؟

ابتسم صالح وهو يقول:

- لو كان عندنا سيارة، لعلّمتني.. ولكنّي عرفت هذا عندما ركبت سيارتكم، وهي المرة الأولى في حياتي، التي أركب فيها سيارة.

- في حياتك؟

- نعمْ.. لم أركب سيارة قطّ، ولم أخرج من قريتي إلا إلى الحقل لأساعد أبي في الحراثة والبذار والحصاد، وأساعد أمي في جمع الحطب، وحمله، وتنقية التربة من الحجارة والأشواك والأعشاب الضارة بالمزروعات.

قال فؤاد في دهشة:

- أنت تقوم بكل هذه الأعمال؟

فأجابه أبوه:

- لو لم يقم بتلك الأعمال، وبغيرها، ما دعوه بالشيخ صالح، ثمّ إنه مزرعاوي.

قال صالح:

- وصلنا.. هذا هو البيت.

تقدّم صالح وقرع الباب، ثم فتحه وهو يصيح:

- يا الله.. يا أمّ صالح جاءنا ضيوف كرام.. أعطينا الطريق.

ثم التفت إلى الضيفين، وقال وهو يدلّهما على البيت:

- تفضّل يا عمي.. تفضل يا سيّد فؤاد.

دخل الضيفان خلف صالح، وخرج أبو صالح مرحّباً بهما، ومعانقاً، فسأله ابنه صالح في مكر:

- هل تعرف الحاج فاتح يا أبي؟

فصاح الأب:

- كيف لا أعرفه يا ولدي وهو وليّ نعمتي التي تعيشون فيها بعد الله؟ ثم كيف لم تعرف أنت الحاجَّ فاتحاً يا صالح؟

ثم أقبل من جديد على الضيوف مرحّباً:

- أهلاً بك يا حاج فاتح.. أهلاً بك يا أيها الفتى النبيل.

فقال صالح:

- فؤاد.. هذا صديقي فؤاد، ابن الحاج فاتح يا أبي.

فتابع الأب:

- أهلاً بك يا ولدي يا فؤاد.. لكنْ.. أين الحاجة أمّ عدنان؟ وأين السيد عدنان، والسيد كامل، والآنسة غالية؟

وقال صالح:

- نسيت السيد أنس يا أبي.

فقال فؤاد:

- إذن أنت تعرف أسماءنا كلّها يا شيخ صالح؟

قال صالح، وإكليل من البسمات العِذاب  يرتسم على شفتيه السمراوين اليابستين:

- لقد عرفتكم من اللحظة الأولى التي نطقت بها اسمك يا عمي، ولذلك لم أسألك عمّا تريده من بيت المزرعاوي.

- ولكنك لم تُظْهِرْ لنا أنك تعرفنا.

قال صالح:

- الاحتياط مطلوب يا عمّي..

وقال أبو صالح:

- صالح هكذا يا حاج..

فقاطعه الحاج فاتح:

- اسمه الشيخ صالح يا أبا صالح.. أليس كذلك يا شيخ صالح؟

- بلى يا عمي.. أنا أحبّ أن ينادوني بالشيخ صالح.. كل أهل القرية ينادونني بالشيخ صالح، وكذلك يفعل أبي أمّا أمي وإخوتي فلا ينادونني بالشيخ صالح..

ثم أخذ يقلّدهم:

- صالح.. يا صالح.. أين أنت يا صالح.

وضحك صالح، وضحك معه أبوه وفؤاد، أمّا الحاج فاتح، فقد استغرق في الضحك، فانتابته نوبة سعال كادت تقضي عليه، لولا أنّ الله سلّم، فقد أسرع أبو صالح، وجاء بإبريق ماء، وكأس، فتناول الحاج فاتح منه بضع قطرات، ومسح وجهه بباطن كفّه المبلل بالماء، فسكت عنه السعال وهدأ، ولكنّ عينيه العسليتين الواسعتين ما تزالان تسحّان الدموع..

لاحظ أبو صالح أن ولده يريد أن يلقي نكتة جديدة، فصاح به:

- اترك الحاج يستريح يا صالح.. كاد يموت من مزاحك يا صالح.

ثم التفت إلى الحاج فاتح وقال:

صالح يخفف دمه مع من يعرف، ومع من لا يعرف، بشرط أن يأنس به، ويطمئن إليه.

ابتعد صالح قليلاً عن الحاج فاتح، ولاحظ أبوه ارتجاف بدن الحاج، فالتفت إلى صالح، وسأله:

- ماذا فعلتَ يا شيخ صالح؟

قال صالح:

- لاشيء.. كنت أقلّد أمّي: صالح..

فصرخت به أمّه من صحن الدار:

- كفّ عن هذا يا صالح.. ما صدّقْنا أنّ الحاج استراح.

فقال الحاج فاتح:

- بالله عليك يا أمّ صالح.. لا تناديه بعد الآن إلا بالشيخ صالح.

قالت في أدب وقد اقتربت من باب الغرفة:

- أمرك يا حاج.. أمرك..

ثم نادت:

- يا صالح..

فانفجر الجميع بالضحك، وعادت أمُّ صالح أدراجها وهي تقول:

- هذا الولد سوف يجنّنني.. يريد أن يكون شيخاً، ويريد أن نعترف بمشيخته.. هذا يجوز، وهذا لا يجوز.. أعوذ بالله.

ناداها زوجها:

- نريد قهوة يا أمّ صالح.

ردّت عليه من بعيد:

قل للشيخ صالح يعمل القهوة.. أنت لا تحبّها إلا من يده.

فنهض صالح وهو يقول:

- أمرك يا أمي.. أحلى قهوة سوف تشربونها من يد الشيخ صالح.

خرج صالح من الغرفة، واتجه نحو المطبخ، وهو يسترضي أمَّه، بينما كان الحاج فاتح مندهشاً من حركة صالح، وكأنه بصير.

لاحظ أبو صالح هذا التساؤل في عيني ضيفه، فقال له:

- عندي هذا الولد أعجوبة.. لا ينقصه إلا النظر.. ذكيّ جداً.. تصوّر يا حاج أنه حفظ القرآن الكريم قبل سنتين.. كان في العاشرة عندما تنافس مع إمام المسجد على حفظ القرآن.. تحدّى الإمام الذي يعلمه القرآن واللغة العربية، ثم جلسا يحفظان، واعترف الإمام بأن حفظ صالح أقوى من حفظه هو..

سأل الحاج في انبهار:

- حفظ القرآن وهو ابن عشر سنين؟

- نعمْ.. وترتيله جميل.. وتجويده -كما يقول الإمام- سليم جداً.

سأله الحاج:

- وكيف دراسته؟

أجاب أبو صالح:

- نال الشهادة الابتدائية في العام الماضي، كان يذهب إلى القرية المجاورة.. عشرة كيلو مترات يمشيها كل يوم ذهاباً وإياباً من أجل المدرسة.

- ولماذا لم تسجّله في الإعدادية؟

- البلدة التي فيها إعدادية بعيدة جداً.. أكثر من ثلاثين كيلو تبعد عن قريتنا، ولا يوجد لنا قريب هناك حتى يسكن عنده.

ثم نظر إلى الحاج فاتح نظرة ذات معنى، فيما كانت أمّ صالح تقف خلف الباب وتقول:

- والله يا حاج فاتح، لو أننا نستطيع أن نعلّمه لما قصّرنا، ولكنّ العين بصيرة، واليد قصيرة.. يا حسرة على ذكائه..

وقال أبو صالح:

- وهو ضرير، ويحتاج إلى من يخدمه.

فجاء صوت صالح:

- أعطيني الطريق يا أمي..

ودخل يحمل صينية القهوة، ويتقدم بها نحو الحاج فاتح، وهو يقول:

- هل سمعتَ كلام أمّ صالح يا عمّي؟ قالت: يحتاج إلى من يخدمه، وهاأنذا أخدمهم وأخدمكم.

ضحك الجميع إلا الحاج فاتحاً، فقد تناول فنجان القهوة في صمت، وكأنه ذاهل عمّا يتحدّث به صالح وأمّه وأبوه.

قال أبو صالح:

- ويحك يا شيخ صالح.. كأننا ليس لنا حديث غيرك.. أفلا تأخذ فؤاداً لتريه القرية؟

قال صالح ضاحكاً:

- الحمد لله الذي أعماني حتى لا أرى هذه القرية... ماذا فيها حتى يراها؟ هل أريه أزقّتها الضيّقة، أم بيوتها الطينية، أم دوابّها؟ أم ماذا؟

قال أبوه:

- ويحك يا ولدي، لقد أخجلتني بكلامك هذا.

قال صالح:

- لا تخجل من هذا يا أبي، فليس الذنب ذنبك..

قال أبو صالح مؤمّناً على كلام ابنه:

- كلامك صحيح يا ولدي، فأنا عاجز مثلك.

فانتفض صالح قائلاً ومقاطعاً:

- أنا لست عاجزاً يا أبي.. العمى ابتلاء من الله، ولن أكون عاجزاً بسببه.. أنا أذكى من زملائي المبصرين.. كنت الأول في المدرسة، وحفظت القرآن الكريم قبل الإمام، وأنظم الشعر، وزملائي وأقربائي، وأبناء قريتي والقرى المجاورة كلّها ليسوا خيراً مني، بل ليسوا مثلي، وأنت تعرف هذا يا أبي، وكلّ أهل القرية يعرفون، ولذلك أسموني الشيخ صالح.

قال الأب في انكسار:

- الحمد لله الذي وهبك هذه المشاعر يا ولدي.

وبعد قليل، قال:

- اذهب بصديقك السيد فؤاد إلى الكرم، وكلا من التين والعنب، واقطفا لنا أيضاً.

قال صالح:

- أمّا هذه فنعمْ.. هيّا يا فؤاد.. هيّا يا صديقي استأذن أباك..

قال فؤاد:

- هل تسمح لي يا أبي؟

فهزّ الحاج رأسه موافقاً، وسحابة من الاهتمام والتفكير بادية على محيّاه.

بعد أن خرج الفتيان، همَّ أبو صالح بالكلام، فقال له الحاج فاتح:

- ما رأيك -يا أبا صالح- في تعليم ابنك في المعهد الشرعي في المدينة؟ إنه مدرسة داخلية، يأكل فيها الطلاب وينامون، ويتعلمون، وهناك علماء أفاضل يعلّمونهم أمور دينهم، ويحصلون في نهاية المرحلة على الشهادة الثانوية التي تؤهلهم للانتساب إلى كلية الشريعة في الجامعة.

زفر أبو صالح شواظاً من نار ثم قال:

- يا ليت.. يا ليت.. يا حاج..

قال الحاج فاتح:

- أعطني أوراقه، وسوف أسجّله بإذن الله، وسيكون بمثابة ولدي فؤاد الذي سجّلته فيه.

- ولكنه أعمى يا حاج فاتح.

- وليكن.. انظر إلى الأزهر الشريف.. كثير من طلابه ومشايخه من العميان.. العمى ليس عاراً ولا عيباً، ولن يكون عقبة في طريق الأذكياء والمجدّين.. أم تريدني أن أضرب لك الأمثال بعشرات الشعراء، والكتّاب، والأدباء، والمفكرين، والعلماء، والمتفوّقين وممّن ابتلاهم الله بعاهة العمى؟

قال أبو صالح:

- أنت تعلم حالي يا حاج فاتح.

فقاطعه الحاج فاتح:

- قلت لك: إنه سيكون مثل ولدي فؤاد.. اسمح لي أن أوضح لك.. سوف أقدّم له مثل ما أقدّم لولدي من المصروف، واللباس، وكلّ ما يلزم.

قال أبو صالح:

- ولكنّ هذا كثير يا حاج..

قال الحاج:

- ليس كثيراً.. الخير موجود ولله الحمد، ثم.. ألسنا أصحاباً؟ أليس بيننا خبز وملح كما يقولون؟.. ثم.. لا إله إلا الله.. ناد أمَّ صالح.

فنادى أبو صالح زوجته:

- يا أمّ صالح.. تعالي.. تعالي يا أم صالح.

جاءت أم صالح مسرعة ووقفت خلف الباب، وقالت:

- خيراً إن شاء الله؟ الطبخة قاربت على النضج.. ساعة ويكون الطعام جاهزاً ياأبا صالح.

قال أبو صالح:

- اسمعي يا أمّ صالح.

وقال الحاج فاتح:

- كنت في (المحلّ) فخطرتم على بالي، وشعرت بشيء يدفعني إليكم، فقمت إلى السيارة ولحقني ابني فؤاد، وتركت المحل لعدنان، وجئت إليكم، لأتعرف على قريتكم، وبيتكم، ولعل الله ساقني إليكم من أجل الشيخ صالح.

قالت الأمّ خائفة:

- مالك وللشيخ صالح يا حاج؟

فحكى لها زوجها عَرْض الحاج فاتح، فصاحت:

- لا يا حاج.. إنه ضرير.. معاق يا حسرة.. يحتاج إلى من يخدمه.

قال الحاج فاتح:

- هناك من يخدمه كما يخدم سائر الطلاب.. مدرسة داخلية يا أمّ صالح، وأنا أشرف عليه، وعلى مسؤوليتي كلّ ما يحتاج إليه.. وكلّ مشايخ المعهد يعرفونني، ويسعون لإرضائي.

- ولكنه أعمى.. غربة وعمى.. مصيبتان يا حاج.. ضربتان على الرأس يا حاج.. لا.. لا يا حاج..

وما زال بها زوجها والحاج فاتح حتى رضيت وهي تقول:

- حسبي الله ونعم الوكيل.. سلّمتك لله يا ولدي يا صالح..

فقاطعها الحاج فاتح:

- يا شيخ صالح..

فضحكت، وهي تلتقط دموعها بكفّيها:

- يبدو أنه سيكون شيخاً، كما يسمّونه هنا وهو صغير.

قال الحاج فاتح:

- جهّزيه يا أمّ صالح، فسوف آخذه معي اليوم.. إذا سمحتم..

سأل أبو صالح:

- لمَ العجلة يا حاج؟ الدنيا صيف، والأولاد الآن في العطلة الصيفية.

قال الحاج فاتح:

- أريد أن يعمل دورة على القراءة والكتابة.

فصاحت أم صالح:

- إنه أعمى يا حاج..

قال الحاج فاتح:

- سيعمل دورة على طريقة برايل.

وعندما استوضح أبو صالح عن طريقة برايل، قال:

- هذه الطريقة خاصة بالمكفوفين.. تعلمهم القراءة والكتابة.. وهي تقوم على تحويل الحروف الهجائية إلى نظام حسّي ملموس من النقاط البارزة التي تتشكّل بدلاً من الحروف الهجائية. هل تفهم ما أقول يا أبا صالح؟

ابتسم أبو صالح وهو يقول:

- أكون كاذباً إذا قلت لك: إني فهمت شيئاً مما تقول.

فابتسم الحاج فاتح وقال:

- أنا أيضاً لم أفهم ما قيل لي عن هذه الطريقة، إلى أن رأيتها بعينيّ هاتين.

قال أبو صالح باهتمام، وقد فتح عينيه وأذنيه وعقله جيداً:

- اشرحها لي يا حاج فاتح أرجوك.. أنا لا أصدق أن الأعمى يقرأ ويكتب وهو بلا عينين.. كيف يا حاج أرجوك؟

قال الحاج فاتح:

- هناك آلة بسيطة مثل المسطرة.. هل تعرف المسطرة؟

- طبعاً أعرفها..

- مسطرة معدنية مثقوبة عدّة ثقوب، ومعها مخرز بدلاً من القلم، بهذا المخرز يكتب أو سوف يكتب ابنك صالح.

قال أبو صالح مبتسماً:

- تعني الشيخ صالح..

- عفواً عفواً.. الشيخ صالح سوف يثبّت المسطرة على ورق كرتون.. ورق سميك، بمثبتين على اليمين وعلى الشمال، ثم يمسك بالمخرز، ويكتب ما يريد.

أدارها أبو صالح بعقله، فلم يستوعبها، فقال:

- وهل في رأس المخرز حبر أم رصاصة يكتب بها؟

ابتسم الحاج فاتح، وتابع شرحه لطريقة برايل:

- ليس في المخرز ولا في رأسه حبر أو رصاص، إنما يغرز الشيخ صالح المخرز في تلك الثقوب، فيثقب الكرتونة أو الورقة التي تحت المسطرة، ولكل حرف رمز من تلك الثقوب، فالثقب في أعلى اليسار يساوي ألفاً، والنقطتان فوق بعضهما على اليسار تعني باء، والنقطتان الأفقيتان في الأعلى تعنيان سيناً، وهكذا..

قال أبو صالح:

- وكيف يرى صالح تلك النقاط حتى يقرأها؟ فهّمني يا حاج فاتح أرجوك.

قال الحاج فاتح:

- إن ابنك سوف يقرؤها باللمس.. باللمس يا أبا صالح..

قال أبو صالح وهو ينهض من مجلسه على الطراحة:

- سوف آتيك بالمصحف، وسوف تغمض عينيك، وتلمس حروفه بأصابعك، وسوف أرى ما إذا كانت أناملك تميّز النقاط من الحروف.

أمسك الحاج فاتح بيد صاحبه أبي صالح، وجرّه إلى مقعده وهو يقول:

- اجلس يا أبا صالح.. اجلس لأشرح لك..

وبعد أن جلس الرجل قال الحاج:

- إذا غرزنا المخرز بالورقة، ولمسنا ظهر الورقة، أفلا نحسّ بأنّ هناك ثقباً؟

- بلى.

- هذا الثقب نقطة، والثقبان نقطتان.. وهكذا يمرّ القارئ الكفيف برؤوس أنامله على تلك الثقوب التي تعني حروفاً، والحروف تشكّل كلمات يقرؤها الكفيف بسهولة ويسر.

قال أبو صالح في استنكار:

- لا يا حاج.. ليس هناك سهولة ولا يسر، بل هناك ما يحزنون.. وأنا مستعد الآن أن آتيك بكرتونة ومخرز لتثقبها به، ثم لتقرأها أمامي ولو بصعوبة وعسر.

فاستغرق الحاج فاتح في الضحك ثم قال بعد أن سكت عنه الضحك:

- يا أبا صالح، يا حبيبي.. طبعاً لا أستطيع قراءتها.. هل تعرف لماذا؟

- طبعاً أعرف.. لأنها لا تُقرأ.

قال الحاج ضاحكاً:

- هذا صحيح.. لا تُقرأ.. لماذا؟ لأنها خرابيش.. مجرد ثقوب خالية من أيّ دلالة.. ولذلك.. سوف يدخل الشيخ صالح دورة مع عدد من الأكفّاء، ليتعلم الكتابة والقراءة بهذه الطريقة التي اسمها؟

قال أبو صالح:

- نسيت اسمها.

قال الحاج فاتح:

- احفظ اسمها جيداً يا أبا صالح، واحذر أن تنساه.. اسمها: طريقة برايل لتعليم المكفوفين القراءة والكتابة.

قال أبو صالح:

- لا أستطيع أن أحفظ اسمها إلا بعد أن يتعلمها ولدي الشيخ صالح، ويعلمني إياها.

- وماذا تعمل بها، وأنت ذو عينين واسعتين؟

- حتى أذاكر مع الشيخ صالح، لأعرف مدى حفظه وفهمه، ولأطمئن إلى إملائه، فأكثر الأولاد وحتى الكبار الآن يغلطون في الإملاء.

يتبــــع