ميج وميراج - 10

د. خالد الأحمد

حرب التحرير الشعبية، هذه اللازمة كانت تُرَدِّدُها إذاعةُ دمشق عشرات المرات في اليوم الواحد، ولا يجرؤ مسئولٌ - كبيراً كان أو صغيراً - التحدثَ أمامَ الجمهور إلاَّ ويكرِّر هذه اللازمة، حرب التحرير الشعبية عن وعي أو غير وعي، ففي حرب العصابات الطويلة التي يقوم بها الشعبُ يقلق المستعمر ويضطر إلى الرحيل، تماماً كما حصل في الجزائر عندما قامت ثورة الفاتح من نوفمبر 1954م ضدَّ حلف الأطلسي كله، مما أنهك فرنسا واضطرها للانسحاب عن أرضه، بعد سبع سنوات ونيف من الحرب، واستقَلَّت الجزائر بعد أن قدمتْ مليوناً ونصف من الشهداء رحمهم الله.

وقد انطلقت الرصاصةُ الأولى من منظمة فتح الفلسطينية كبداية لحرب التحرير الشعبية في الفاتح من عام 1965م، وكانت حدودُ الأردن وسوريا منافذَ للفدائيين، يضربون اليهود ثم يعودون إلى قواعدهم، وقد بَثَّتْ عملياتُهم الرُّعبَ والقلق والذعر في قلوب اليهود، وصار اليهودي يتوقَّع وجودَ الفدائي في الحافلة أو النادي أو أينما ذهب وحَلَّ، وقامت هذه العملياتُ بِكَبحِ جماح الهجرة اليهودية إلى فلسطين، خاصة من أوربا وأمريكا، وكانت الضفة الغربية آنذاك تحت إشراف الحكومة الأردنية، والضفة أعظم منطقة لإقامة قواعدَ سريةٍ للفدائيين، حيث تشكِّلُ حدوداً طويلةً مع العدوِّ يسكنُها الفلسطينيون، وقد أقلقتِ اليهودَ حتى اضطروا للهجوم في وضح النهار على قرية السموع في نوفمبر 1966م بالدبابات والطائرات وفصائل المشاة.

*        *       *

كان الفلسطينيون يُنَفِّذُون حربَ التحرير الشعبيةَ بأرواحهم، وكانت الأردن تتلقَّى ضربات اليهود الانتقامية، وكان النظامُ الأسدي يملأ أبواق الإذاعة وصفحات الجرائد اليومية بحرب التحرير الشعبية، ويقول فيها: إن العرب لا يخافون أمريكا لأن حرب التحرير الشعبية تهزم أمريكا كما هزمتها في فيتنام. وكانت سوريا هي المحرضة على الحرب، فقد أدلى وزير الدفاع السوري وقائد سلاح الطيران اللواء حافظ الأسد بتصريح لصحيفة الثورة السورية يوم (20 /5 / 1967م ) جاء فيه : ( .. إنه لابد على الأقل من اتخاذ حد أدنى من الاجراءات الكفيلة بتنفيذ ضربة تأديبية لإسرائيل تردها إلى صوابها ... إن مثل هذه الإجراءات ستجعل إسرائيل تركع ذليلة مدحورة، وتعيش جواً من الرعب والخوف يمنعها من أن تفكر ثانية في العدوان . إن الوقت قد حان لخوض معركة تحرير فلسطين، وإن القوات المسلحة السورية أصبحت جاهزة ومستعدة ليس فقط لرد العدوان، وإنما للمبادرة في عملية التحرير ونسف الوجود الصهيوني من الوطن العربي  إننا أخذنا بالاعتبار تدخل الأسطول السادس الأمريكي  وإن معرفتي لإمكانياتنا تجعلني أؤكد أن أية عملية يقوم بها العدو هي مغامرة فاشلة، وهناك إجماع في الجيش العربي السوري الذي طال استعداده ويده على الزناد، على المطالبة بالتعجيل في المعركة، ونحن الآن في انتظار إشارة من القيادة السياسية . وإن سلاح الجو السوري تطور تطور كبيراً بعد ( 23/2 /1966م ) من حيث الكمية والنوع والتدريب، وأصبحت لديه زيادة كبيرة في عدد الطائرات، وهي من أحدث الطائرات في العالم، كما ازداد عدد الطيارين وارتفع مستوى التدريب.

وفي يوم 7 أبريل (1967م) الذي يحتفل فيه البعثيون بعيد تأسيس حزبهم اخترقتِ الطائراتُ الإسرائيلية الأجواءَ السورية، وحلَّقَتْ فوق العاصمة دمشق، وأسقطتْ سِتَّ طائراتٍ سورية، رُقِّيَ على إثرها (مردخاي هود) قائدُ سلاح الجَوِّ الإسرائيلي إلى رتبة جنرال.

أما سوريا فاتخذت ذلك ذريعةً لِتُعلن أنها في قلب المعركة وحدَها، تشير إلى عبد الناصر وتغمزه لأنه يضع قوات الأمم المتحدة بينه وبين العدو، حتى زاد الغمزُ واللمزُ في عبد الناصر الذي رَكِبَ رأسَه وأمر بسحب قوات الطوارئ الدولية، واحتلَّتِ القواتُ المصريةُ مواقِعَها في سيناء ([1])، ونشطت البواخرُ المصرية في إعادة الجنود المنهكين المهلهلين من اليمن إلى سيناء.

(وأرسل عبد الناصر قواته في صورة مظاهرة علنية لدرجة أنها اجتازتْ شوارعَ القاهرة في وضح النهار إلى سيناء، والعلنية هذه مقصودة لإشعار العالم أن هناك أزمة، ومن المستحسن تَدَخُّل الأطراف الدولية للحيلولة دون هجوم إسرائيل) ([2]).

 *       *        *

وبات من المؤكَّد أن إسرائيل تُعدُّ لهجومٍ على سوريا قد تَصِلُ فيه إلى دمشق، لذلك سارع أزلام النظام الأسدي إلى عبد الناصر، وتظاهروا بنسيان خلافاتهم معه من أجل عقد اتفاقية الدفاع المشترك، كما حضر الملك حسين إلى القاهرة من أجل تصفية الأجواء العربية، ومن أجل معاهدة الدفاع المشترك اضطر عبد الناصر وتحت إلحاح النظام السوري إلى سحب قوات الطوارئ، ونشر القوات المصرية في سيناء بعد سحبها من اليمن.

 *        *       *

عندما مالت نسمات أيار (مايو) إلى الدفء، أيقن العربُ أن إسرائيل تعد لهجوم تطمع من خلاله في التوسُّع والاستيلاء على أرض جديدة، لذلك تَمَّ الاتفاقُ على أن تبدأ مصرُ هجومَها ليلةَ الجمعة 25/5/1967م، لأن البدهيات العسكرية تعرف أن نصر اليوم غالباً لِمَن يتمكن من الضربة الجوية الأولى.

وباتت الطائراتُ المصرية على مدارجها مستعدةً للإقلاع مع أول ضوء في الصباح، لكن مكالمةً لاسلكية تمت بين (آرام) والموساد قبل يوم (ي) المصري بأربعٍ وعشرين ساعة، لعلم (آرام) بساعة ( س ) المصرية، لذلك قبل أول ضوء كانت الطائرات الإسرائيلية في سماء الأرض المحتلة تحيط بها، فألغي الهجومُ المصري لانعدام عنصر المفاجأة، وهي ضروريةٌ للضربة الجوية، وبات من المؤكد - لمن يَعقِل - أن جاسوساً يهودياً في القيادة المصرية أو أكثر من جاسوس، لكن لو كانوا يعقلون.

في يوم 28/5/1967م كان (آرام نوير) وعبد الناصر وسائر القيادة المصرية في طائرة نقل عسكرية متوجِّهة إلى سيناء، وقد أبرق (آرام) إلى الموساد قبل يوم كامل عنها، وكان ينتظر صاروخاً يُسقط الطائرةَ بين الحين والآخر، لكن عاد إلى القاهرة بعد انقضاء جولة الرئيس رائد القومية العربية، ولم تسقط طائرته مع علم الموساد بها، ودهش (آرام) من تخطيط الموساد، بل حنق عليهم، لماذا لا يضربون الطائرةَ ويُنهُون الحربَ دون إراقة دماء غير دماء القادة؟! أليس عبد الناصر عدوَّنا اللدود كما يقول ونقول؟! لماذا لا نقتله وقد سَنحتِ الفرصةُ أن نقتلَهُ مجاناً؟! أم أنهم لا يثقون بي؟! ويل لهم وألفُ ويل.. لقد بعثوني للقضاء على سلاح الجَوِّ المصري، وهذه الطائرةُ تَضُمُّ قادةَ الأسلحة كلَّهم، والقائدَ الأعلى لهم، فلماذا لم يضربوها؟!!!.

بناءً على طلب الموساد وصل (آرام) عن طريق استامبول إلى تل أبيب ليلةَ 30/5/1967م، وهي أبشع ليلة خطط فيها لإذلال العرب والمسلمين، وفي قاعة العمليات العسكرية وقف (آرام) ينظر إلى (موشي ديان) وزيرِ الدفاع الجديد، و(ليفي أشكول) و(مردخاي هود) و(دافيد أليعازر) و(فيشل).

- منذ ستة عشر عاماً بدأت الموساد عملياتها الفذَّة في تاريخ الجاسوسية، وقد قاربت على تحقيق كامل أهدافها، بل أكثر مما رجوناه. قال (فيشل).

- فَرِّغْ لنا ما تحفظه في ذهنك على الخارطة يا (آرام). قال (ديان).

فتقدَّم (آرام) إلى مُصوّر كبير فَرَّغ عليه الوحدات المصرية البرية والجوية من حيث العدد والعدَّة، وأماكنها وأسماء قادتها، وجاهزيتها، ثم وَجَّهَ إليه (ديان) و(أليعازر) عدداً من الأسئلة أجاب عنها، وَوُضِعتْ إشاراتُها على الخارطة، ثم قال له (هود).

- إلى أي ساعةٍ تستمرُّ حالةُ الاستنفار في القواعد الجوية؟

- حتى السابعة صباحاً بتوقيت إسرائيل.

- وبعدها؟

- في السابعة والنصف يخلع الطيارون ملابسَهم الجويَّةَ، ويَنصَرِفون إلى الطعام، وكذلك المسئولون عن الرادار.

- وَمَنْ يَبقَ عند الرادار؟

- لا أحد ، وتُغلَقُ الأجهزةُ لمدة نصف ساعة.

- أي حتى الثامنة بتوقيتنا؟

- نعم.

- أنت متأكد أنهم يُغلقون الرادار لنصف ساعة؟

- نعم ، وقد عرفتُ ذلك من الجولة التفتيشية التي قمتُ بها.

- هذا غير معقول.

وهنا يتدخَّل (فيشل) فيقول:

- أليس من دورنا خلال ستة عشر عاماً أن نجعل هذا معقولاً؟

وانتبه (مردخاي هود) إلى (فيشل)، وقد ذُهِلَ تماماً، وأردف يقول:

- لو تأكَّد لي ذلك فإني أُصرُّ على تغيير ساعة (س).

- نعم ، كل ما يقوله (آرام) صحيح، وأنا أثقُ به.

ثم يقول (ديان):

- وماذا ستفعل يا (آرام) الآن؟

- الحفلة يا سيدي الجنرال.. الحفلة.

يضحك (ديان):

- أيّ حفلة يا (آرام) ؟

ويتدخل (فيشل) ويقول:

- لقد عوَّدْنا الطيارين المصريين على حفلة شهرية منذ عدة سنوات، وقد حُرِمُوا منها منذ ثلاثة شهور،والآن لو تمكَّن (آرام) من إقامة الحفلة عاشَتْ إسرائيل.

- أُقيمُ الحفلةَ إذا ساعدتُموني بتصريحاتِكُم التي تُؤَكِّدُ فواتَ وقت الحرب، ليُفَكّ الاستنفارُ هناك ونقيم الحفلة.

- ولكن لماذا تُقامُ الحفلة ؟!

- قلتُ لقد تعوَّدنا عليها، أولاً: كما أننا منتصرون. ثانياً: إذا أعلنتم فواتَ وقت الحرب. المهم وَقِّتُوا لي الحفلة ورمزها كوثر، حَدِّدُوا لي الليلة.

وبناء على ذلك تعدَّلتْ ساعةُ (س) الإسرائيلية من أول ضوء إلى 7,15 بتوقيت إسرائيل، بناءً على اقتراح (هود) وموافقة (فيشل)، أما رئيس الأركان فقد عارض لأنه يَثِقُ بمقدرة الطيارين اليهود، وكان يطمع في تدمير الطيارين المصريين داخلَ طائراتهم.

              

([1]) ) عندما سافر المشير عامر إلى باكستان عام 1966م، أرسل مِن هناك برقيةً شفرية إلى عبد الناصر يقترح إرسالَ قوات إلى شرم الشيخ، ولم يعرف سبب ذلك وقتذاك، ولا الآن. انظر: مذكرات محمد فوزي - حرب السنوات الثلاث.

([2]) أحمد بهاء الدين . وتحطَّمت الأسطورة عند الظهر . ص38.