ميج وميراج - 7

د. خالد الأحمد

رسمت (صوفي) الخطةَ جيداً، وفحوى دفاعها إذا انكشفت خطتُها وكُشف أمرُها، وصَمَّمَت على تنفيذ ما وَصَّى به مديرُ العمليات بعد ثلاث سنوات من المتابعة، وبعد أن اشترى لها سيارةً فخمة كانت تقودها إذا خرجا إلى الفسحة بعيداً عن القاهرة، واستغنى عن المكتب وسيارات الأجرة، وكاد أن يطمئن إلى (صوفي) وحبِّها له، لولا أنه مَلَّها، وهو الذي لم يَعِشْ هذه الفترةَ الطويلةَ مع واحدة لوحدها.

 ثم جاءت المغامرةُ عندما تركته (صوفي) بعد ساعات من الدَّنَسِ والعُهر عنده في الفيللا، تركته شِبهَ عارٍ وتظاهرت أنها على موعد يكادُ يَفُوتُها، فودَّعَته وخرجتْ من غرفته.

 وبعد ساعة - وهو يُفكِّر في (صوفي) وذَهابها المفاجئ لأول مرة من عنده - دَقَّ جرسُ الفيللا، ودخلت الخادمةُ وانتبه (آرام) إلى وَقعِ خُطَى أقدام الخادمة في الحديقة، وتذكَّر أنه لم يسمع وقع أقدام (صوفي) لمَّا ذهبت، لذا صرف الخادمةَ، وأغلق الأبوابَ كلَّها، وبحث داخل الفيللا، فوجد (صوفي) مختبأةً في الغرفة المجاورة لغرفة مكتبه والتي يُخابرُ منها إسرائيل، وقد اصفَرَّ وجهُها عندما رأته، وتَعَلَّلَتْ بأنها تغار عليه، وسألته:

- مَنِ التي دَخَلَتْ توّاً ؟

- ما دَعاكِ إلى هذا؟

- غيرتي عليك، أريد أن أتأكَّد أنك لي وحدي.

- وهل كذبتُ عليكِ يوماً وقلتُ أني لك وحدَك؟

 ارتَجَفَتْ (صوفي) خوفاً، وتلعثم لِسانُها ولم تقدر على الإجابة، عندئذ أطبق يدَه على فمها، وقال :

- أنت أيتها الحمقاء العاهرة تضحكين على (آرام)؟! سأقول لك ما تريدينه ولكن لن تستطيعين نقلَهُ لأحد.

 راحت (صوفي) تتوسل إليه، وهو يسمح لها بقليل من الهواء بين الفينة والأخرى، ثم أعطاها ورقةً وقلماً كانا جواره، وقال لها:

- اكتبي .. مَن أنتِ؟

- سأقولُ لك كلَّ شيء إن عَفَوتَ عني.

- قولي الآن.

- أنا من المخابرات، كلفني (زكريا محيي الدين) بمراقبتك.

- وماذا قلتِ لهم؟

- قلتُ لهم إنني لا أشك فيه أبداً، فطلبوا مني أن أختبئ هنا لأعرفك جيداً.

 ضحك (آرام) بعد أن أخذ منها الورقةَ وَشَدَّ يدَهُ على رقبتها حتى خَنَقَها، وقبل أن تقضي قال لها:

- قولي لهم اسمي (باروخ ماندل) تلميذ (فيشل) رئيس الموساد ذات الأصابع الطويلة في كل مكان، أيتها العربية الحمقاء.

 ولَمَّا فارقتِ الحياةَ قام إلى جهاز اللاسلكي وكسره ثم دفنه بالحديقة، ثم أحرق الورقةَ التي كتبت عليها (صوفي) توّاً.

 

* * *

 صرف البوَّابَ في إجازة ثلاثة أيام، وانتظر الظلام فحملها إلى السيارة جثةً هامدة خارج القاهرة على طريق الإسكندرية، حتى إذا اقترب من طنطا نزل من السيارة ودفعها إلى الترعة، ثم تدحرج على الأرض بقوة وكدم رأسهُ بحجر أسال منها الدم، ثم ألقى بنفسه في الترعة وصار يصيح ويستغيث، وما أن وصل الناسُ إليه وأخرجوه من الترعة حتى تظاهَرَ أنه في غيبوبة، لم يفق منها حتى اليوم التالي في مستشفى القوات المسلحة بالمعادي الخاص بكبار الضباط، وكان يُرَدِّد بين الحين والآخر:

- (صوفي) .. (صوفي) .. حبيبتي (صوفي) .. أين (صوفي)؟

 ولما تظاهر بعودة الوعي سأل (لطفي) الذي هُرِعَ إلى جواره:

- أين (صوفي) ؟

 ثم مَدَّ يدَه إلى رأسه فتحَسَّسَ الشاشَ والأربطة.

- ما هذا؟ يا لطيف .. أين (صوفي)؟ ماذا حَلَّ بنا؟

 تقدَّم منه (لطفي ).

- الحمد لله على السلامة .... هل تُحِسُّ بألم؟

- أسألك عن (صوفي) أين هي؟ ما لكم؟ أين (صوفي)؟

 نظر أصحابُه في وجوه بعضهم، ثم أطرقوا إلى الأرض حُزناً ومشاركةً له، ثم تَشَجَّع (لطفي ) وقال :

- البقية بحياتك.

 ورغم أنه شعر بارتياح وسرور ما بعدهما سرور، إلاَّ أنه تظاهر بالألم فصرخ:

- حرام تموت .. حرام حرام ..

 وتنهمر دموعُ التماسيح من عينيه، ثم يدفن رأسَه بغطاء السرير وينتحب، فيمدُّ (لطفي ) يده ويمسك يديه ويقول :

- الحمد لله على سلامتك، أما (صوفي) فقد انتهى أجلُها وقادها طيشُها إلى حَتْفِها، دائماً كنتُ أخافُ عليك من سيارتها لأنها متهوِّرة بالقيادة جداً، المهم أنك سالم.

- لكن لماذا ماتت؟

- وُجِدَتْ داخلَ السيارة بالترعة، ولم تستطع الخروجَ منها فغرقت.

 ويُجهِشُ (آرام) بالبكاء مرةً أخرى..

 

 * * *

 كان المسئولون في المخابرات العسكرية بلهاء، بل مشكوك في هويتهم، ومنهم (الدجوي) الذي رَأَسَ المحكمةَ التي حاكمتْ (سيد قطب) رحمه الله عام 1965م، كان (الدجوي) حاكماً لقطاع غزة أيام الاحتلال اليهودي عام 1956م، وكان غرض اليهود آنذاك هو تهجير المصريين والفلسطينيين من قطاع غزة، فساعدهم (الدجوي) على ذلك، وصار يَحُثُّ المصريين والفلسطينيين على مغادرة القطاع، وخطب في الإذاعة الإسرائيلية عدة مَرَّات يُبَيِّنُ عَوراتِ الحكم في مصر، وَوَصَفَ العربَ بأوصاف يَندَى لها الجبين.

 وقد تصَدَّى له آنذاك قاضي غزة الشيخ (محمد مأمون الهضيبي)، حيث استطاع مع بعض المُخلِصِين أن يُفسِدَ خطةَ اليهود وعميلهم (الدجوي)، وتمضي الأيام ويَمْثُلُ (الهضيبي) قاضي غزة أمامَ المحكمة التي يرأَسُها (الدجوي) لتحاكم المسلمين.

 

 * * *

 لم تكن حادثةُ مقتل (صوفي) المكلَّفةِ من قِبل (زكريا محيي الدين) بالذات، لم تكن كافيةً عند المخابرات المصرية لِلشَّكِّ في (آرام نوير)، لأن التعامل هنا مع غير الإخوان المسلمين، أما مع أصدقاء أو أقارب أو حتى رفاق الدفعة في الكلية أو المتهمين بالإخوان المسلمين فالأمر مختلف تماماً.

 كانت المخابرات المصرية تريد القبضَ على (يحيى حسين) وهو متخرج من كلية الزراعة، ثم درس في معهد الطيران المدني، وصار طياراً في شركة مصر، هذا الرجل هرب من البلاد عندما أحَسَّ بقرب اعتقاله، فماذا كان من المخابرات المصرية؟ لقد قبضت على رِفاق دفعته في كلية الزراعة، وفي معهد الطيران، ثم أقاربه وأصدقائه مِمَّن ليسوا من كلية الزراعة أو معهد الطيران، وخلال ساعات قلائل اعتقلوا ما يقرب من مائة شخص خشيةَ أن تكون لهم صلةٌ ب (يحيى حسين)!.

 هذا (عبد الرؤوف عبد الناصر) صيدلي وطيار لا علاقة له بالدِّين أو السياسة أيامها، سِوَى أنه من دفعة (يحيى) في المعهد، أُخِذَ من مطار القاهرة إلى المعتقل وضُرِبَ حتى أوشك على الموت ورأسه إلى أسفل ورجلاه إلى أعلى، ولما شاهد زُملاءَهُ في شركة مصر للطيران قال فيما بعد:

- ظننتُ أن الحكومةَ تريد تأديب العاملين بشركة مصر للطيران لفسادهم وسوء أخلاقهم.

 حيث لم يكن هؤلاء من ذوي الصبغة الدينية، بل هم خلاف ذلك تماماًَ، لكن لأنهم زملاء (يحيى حسين) في العمل!.

 لم يكن الحذرُ من شخصٍ أجنبيٍّ يتعامل مع سلاح الجَوِّ المصري، بل من مفتشٍ لهذا السلاح، لم يكن الحذرُ منه لازماً في عُرفِ المخابرات المصرية الناصرية، أما الحذر من أصدقاء وأقارب مَن يُتَّهَمُ بالإخوان المسلمين فأمر واجب وضروري.

 يقول ( أحمد رائف): "كنا نَقِفُ وَوُجوهُنا معصوبة إلى الحائط، لا ندري متى ذهب الليلُ وجاء النهار، وعلى كُلٍّ منا أن يُكَرِّرَ عبارةً واحدة لا معنى لها مثل: البحر فيه ملوخية. ولكل معتقل كوب ماء واحدٌ في اليوم، أما قضاء الحاجة فَلْيَقضِها حيث هو، وفي صبيحة يوم وجدتُ نفسي في المحمصة وأخذت الطريحة، وهي علقة لا تقلُّ عن مائتي هراوة، ثم عُلِّقتُ على الحديد عارياً كي آخذ هذه العلقة كل ساعة ونصف، وبقيتُ هكذا كل ساعة ونصف دون نوم، واقترب الرائد (ف.ع) مني وبيده وَلاَّعة رونسون مشتعلة، صُعِقتُ عندما رأيته يُقَرِّبها من جسدي العاري وأنا معلَّق على الحديد، رأسي إلى أسفل وقدماي إلى أعلى، وظننت أن هذه الشعلة ستميتني، لكنه حرق بها أجزاء متفرقة من جسدي، ولم أمت، رغم أني كنت أشم رائحة شواء اللحم المحترق"، ثم يقول: "ماذا تعرف عن (يحيى حسين)؟ ثم جاء يوم 6/9/1965م، بعد صدور قرار من الرئيس الذي ينصُّ على اعتقال كلِّ مَن سبق اعتقاله في 1954م، ويفوِّض وزيرَ الداخلية باعتقال كل مَن يُشتَبَهُ بهم، فوصل إلى معتقل القلعة في يوم واحد (700) سبعُمائة معتقل، أُمرُوا بخلع ملابسهم وحوصروا في مكان ضيِّق، ثم بدأوا يضربونهم فارتسم في وجوههم الهلع، وهم يرون جُثَثَنا معلقةً على الحديد وقد سالت منها الدماء، وفاحت رائحةُ الصديد، وكانوا يسقطون من الخوف والذعر".

 

* * *

- ماذا يقول تقريرُ الطبيب؟ قال مديرُ المخابرات العسكرية.

- يقول ماتت خنقاً عندما غرقت في الترعة. أجاب مدير العمليات.

- ألم يُفَرِق لنا بين الخنق والغرق؟

- لا، يقول هكذا ماتت خنقاً عندما غرقت في الترعة.

- هل لك ملاحظات على الحادثة؟

- ملاحظة واحدة وهامة، وهي أن موت (صوفي) في هذه الحادثة حدث بعد أن طلبت منها أن تختفي عنده في بيته مباشرةً.

- وهذه نقطة جديرة بالانتباه.

- لكن لا نملك الحريةَ لِلتَّحَقُّقِ من فرضياتنا يا سيدي، لأن (آرام) من كبار أصحاب (شمس الدين بدران) و(لطفي حبيب).

- لا تنسَ أننا مُفوَّضون من قبل (زكريا محيي الدين) بالذات بالبحث عنه.

- لكلِّ تكليفٍ حدود يا سيدي، حتى الرئيس يثق ب(آرام) وَوَجَّهَ له الشكرَ والثناء أكثر من مرة، ودعاه إلى حفلات العشاء عدة مرَّات، ورأيتُهما يتحدَّثان على انفراد كأنه مستشارُهُ الخاص، لذلك أقترح أن نقفل البحثَ لأن الأمر فوقَ طاقتنا.

- لا، لا يمكن ذلك، بل نراقبه في إحدى أسفاره إلى الخارج، ابعثْ وراءَهُ (كمال) فهو مُتَمَرِّس في الرحلات الخارجية.

- هل هذا أمرٌ يا سيدي؟

- نعم.

- إذن، حاضر.