وقفة مع حادثة انتحار الطبيب المقيم بالمستشفى الجامعي بمدينة الدار البيضاء

وقفة مع حادثة انتحار الطبيب المقيم بالمستشفى الجامعي بمدينة الدار البيضاء بسبب سوء معاملة أستاذه المشرف على استكمال تخصصه الطبي

اهتز الرأي العام الوطني عموما ، والأطباء المقيمون والداخليون بالمرتكز الاستشفائية الجامعية خصوصا على إثر فاجعة انتحار الطبيب الشاب  ياسين رشيد ، الذي كان في سنته النهائية لاستكمال تخصصه في جراحة المسالك البولية ، والذي عزي إقدامه على الانتحار إلى سوء معاملة أستاذه المشرف الذي أفاض كل من تعامل معه من أطباء مقيمون وداخليون في وصفه بأوصاف مشينة معيبة  تنم عن سادية وعدوانية مبالغ فيهما بذريعة الظهور أو التظاهر بالصرامة والجدية  في المهنة وفي الإشراف .

ولقد أجمع كل من شملهم سوء معاملته على  أنه أسوأ نموذج في المركز الاستشفائي الجامعي بالبيضاء بمن في ذلك من تخرجوا وأنهوا تخصصهم ، وهم يمارسون مهامهم اليوم .

وأول ما يؤسف له شديد الأسف أن وطننا الغالي  قد ضاع ضياعا كبيرا وخسارة لا تعوض  بفقد طبيب مختص هو في أمس الحاجة إليه باعتبار العدد  القليل للأطباء المختصين قياسا مع  نسبة عدد المواطنين ، بعدما أنفق عليه هذا الوطن سنوات منذ تمدرسه في أول قسم ولج إليه  إلى غاية قرب إنهاء تخصص ، فضلا عن فاجعة أهله وذويه فيه ، وقد أنفقوا هم أيضا  على دراسته  الغالي والنفيس ، وأغلى ما في هذا الغالي تطلعهم إلى يوم يسعدون فيه بتخرجه.

وثاني ما يدعو إلى الحسرة الشديدة هو وجود أستاذ، وهو محسوب  ـ يا حسرتاه ـ على النخبة العالمة والمثقفة بسلوك همجي مع طالبه المنتحر، والذي آثر الانتحار على المعاملة اللانسانية الممتهنة لكرامته . ولو تعلق بحالة فريدة كحالة هذا الأستاذ السادي  ،وعديم الضمير الذي لا  إنسانية له تجاه من أوكل إليه تدريبهم بما يلزم من رفق  لهان  الأمر ، لكن الداعي إلى  القلق هو أن تتعدد هذه الحالة ، ويكون مثل هذا الأستاذ في كل المراكز الاستشفائية الجامعية وغيرها من المراكز الجامعية الأخرى ببلادنا .

ولا شك أن وباء السادية المعدي والمتفشي في أوساط الأساتذة الجامعيين مع كل الاحترام والتقدير والإجلال لذوي الضمائر الحية  من الشرفاء  منهم هو وباء انتقل إلينا من المحتل الفرنسي الذي كان كل موظفوه ببلادنا زمن الاحتلال يتصرفون مع المواطنين بسادية ويحتقرونهم كأشد ما يكون الاحتقار . ولقد وقر في أذهان كثير ممن تعلموا  وتدربوا على أيديهم أن السلوك المطلوب منهم والسوي هو أن يحذوا حذو المحتلين بحيث يتصرفون باستعلاء، وغطرسة وشعور بالتفوق والامتياز، والمبالغة فيما يعتبرونه صرامة وجدية وهميتين . ومن الكلام المأثور في ثقافتنا العربية قولهم : " تشبه زياد بن أبيه بعمر بن الخطاب فجاوز الحدود ، وتشبه الحجاج بن يوسف بزياد فأهلك الناس " ، ومثل وهذا الكلام ينطبق على كثير من أطرنا العليا الذين تلقوا تعليمهم أو تكوينهم على أيدي من كانوا يحتلون وطننا فبصموهم بصاماتهم ، والمؤسف أنهم يعتبرون ذلك سلوكا حضاريا يدل على الرقي ، وهم بذلك في الدرك  الأسفل من سوء التربية.

وليست المراكز الاستشفائية الجامعية وحدها من تعشش فيها السادية والعدوانية واللإنسانية  وانعدام الضمير بل كل المراكز الجامعية في وطننا يحدث فيها شيء من ذلك  ، ولو جمعت أخبار ما يدور فيها من أحاديث عن مآس عانى منها المنتسبون إليها من طلاب علم  ولا زالوا يعانون إلى ساعتنا هذه على أيدى بعض الأساتذة لسودت مجلدات، علما بأن دار لقمان لا زالت على حالها  بالنسبة لمؤسساتنا الجامعية ، ولا زالت سادية وعدوانية أطرها هي المعاملة السائدة بل الطاغية . ولا يقتصر الأمر على ذلك بل يتعداه  أحيانا إلى فضائح أخلاقية كما تطلع على ذلك وسائل الإعلام بين الحين والآخر. ولو فتح تحقيق في ملفات من لحقهم الضرر من  الضحايا الذين كانوا في طور الدراسة أو التكوين لسمعنا من كل عجب عجاب .

وفي غياب الرقابة على قطاع التعليم العالي بمختلف المراكز الجامعية بحيث لا يوجد جهاز مراقبة لأن أطر هذه المراكز يعاملون على أساس أنهم فوق كل مراقبة ، ويتصرفون كتصرف أصحاب الضياع في ضياعهم .

ومن المفروض أن  تكون حادثة انتحار الطبيب الشاب مناسبة مراجعة قوانين المراكز الجامعية ، وعلى رأسها إحداث جهاز مراقبة عتيد  من مختلف التخصصات العلمية لمراقبة أطر التعليم العالي سواء  من جانب مردوديتهم وعطائهم أو من جانب  سلوكهم وطرق وأساليب معاملاتهم مع من يخضعون لتعليمهم أوتدريبهم . ويشترط أن يكون جهاز المراقبة مستقلا ، وغير منحاز ، ولا يجامل ، ولا يحابي ، ولا تصدر إليه أوامر فوقية تحد من صلاحياته . ويلزم كل الأطر الإذعان لمراقبته  دون تعال عليها أو رفض لها ، وعلى كل من يرفض الإذعان لها أن يسرح  من الخدمة غير مأسوف عليه أيا كان .

 وليس من العدل أن يخضع التعليم غير العالي للمراقبة ،  و في المقابل يستثنى من ذلك التعليم العالي، الشيء الذي  وطد لكل الممارسات الشاذة ، وغير اللائقة بسمعة هذا التعليم الذي هو نهاية المشوار بالنسبة لسابقيه .

وحتى لا يظن أحد الظنون بما جاء في هذا المقال، نختم بالقول إننا نربأ بالشرفاء من أطر التعليم العالي أن يلحق بهم شيء مما انتقدناه من سوء المعاملة، ومن الغطرسة والاستبداد وكل ما يصم من لا ضمائر ولا إنسانية لهم .

 ونهاية القول أن كل نفس بما كسبت رهينة ، ويوم  العرض على الخالق ، والوقوف بين يديه سبحانه وتعالى ستجزى الجزاء الأوفى  .

وسوم: العدد 997