المبادىء والمواقف بين التوفيق والتلفيق؟

بداية لا بد من وقفة مع دلالة مفهومي المبدأ والموقف ،أما المبدأ فهو الأساس أو القانون الذي ينطلق منه الإنسان في تفكيره ،و في قناعاته  الداخلية .، وأما الموقف فهو مجموع القرارات التي يتخذها الإنسان  تجاه أفراد أو هيئات مجتمعه. والعلاقة بين المفهومين علاقة جدلية  حيث يؤثر كل واحد في الأخر ، ويتأثر به ، ذلك  أن المبدأ هو المحرك للموقف أو هو صانعه ، كما  أن  الموقف يكون  دليلا أو مؤشرا على المبدأ .

 ولا بد أيضا من التعريف بمفهومي التوفيق والتلفيق ، وهما مفهومان على طرفي نقيض . أما التوفيق ،فيدل على الملاءمة بين شيئين أو أمرين يكون بينهما جامع أو قواسم مشتركة  بغية جعلهما أكثر انسجاما  ، وأما التلفيق، فهو ضم شيئين إلى بعضهما تعسفا  دون أن يكون بينهما  جامع أو قواسم مشتركة .

و قد يكون التلفيق  فيما هو مادي كالتلفيق على سبيل المثال بين شقي ثوب لجعلهما ثوبا واحدا منسجما  بالرغم مما قد يكون بينهما من اختلاف في الشكل واللون ، والحجم  كما هو الحال في بعض  ما يلبسه من مرقعات  أتباع بعض الطرق الصوفية . كما  يكون التلفيق فيما هو معنوي  من أفكار أو قناعات أو وجهات نظر أو إيديولوجيات  أو عقائد أو توجهات سياسية أوحزبية .

وإذا كان ما ينتج عن التوفيق إيجابيا ومحمودا في الغالب ، فإن التلفيق لا  يترتب عنه  إلا  ما هو سلبي ومذموم ، لهذا تستعمل هذه  اللفظة  عموما استعمالا قدحيا كقولهم : " فلان لفقت له تهمة " ،  أي نسب له ما لم يقترفه ، كما تطلق على  كل أمر ملفق عبارة " حيص بيص "  دلالة على لبسه وغموضه .

والناس باعتبار التوفيق أو التلفيق بين مبادئهم ومواقفهم صنفان : صنف موفق في توفيقه بينها، وهو منزه عن أي انتقاد ، وآخر يقع  في التلفيق بينها ، الشيء الذي يعرضه للانتقاد ، بل قد يصل الأمر في انتقاده إلى  حد نعته بالنفاق  والعياذ بالله.

ومعلوم أنه على رأس المبادىء المعتبرة عند الإنسان قناعته الدينية مهما كان نوع دينه أو تدينه ،الشيء الذي يفرض عليه وجود انسجام تام بين قناعة الدينية والمواقف التي تقتضيها أو تفرضها عليه ، وهو ما تعكسه عبارة :" الإيمان ما وقر في القلب وصدقه العمل " ، حيث يكون الإيمان مبدأ ، ويكون العمل موقفا.

والذي دعا إلى طرق هذا الموضوع هو ما يقع فيه كثير من الناس من تلفيق بين المبدأ وبين الموقف وهم يعتقدون أنهم مصيبون في التوفيق بينهما . فإذا أخذنا على سبيل المثال  مقولة أحد المناضلين ، وهو مشهور في الساحة الوطنية باستماتته  انتصارا للقضية الفلسطينية ، ومناهضة للتطبيع مع الكيان الصهيوني ، هي مقولة منقولة عن أحد الفيديوهات المتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي  : " أنا يساري على كتاب الله وسنة رسوله " ، ولا ندري أقالها  يوم صرح بها جادا أم  قالها هازلا ؟ نجد أنفسنا أمام  عبارة  تناقضها صارخ أو لنقل هي مثال لحالة تلفيق بين مبدأ وموقف إن كان صاحب العبارة جادا، وهو يظنه تلفيقه توفيقا بين مبدإ وموقف على طرفي نقيض ، ذلك أن مفهوم يساري  يدل على القناعة أو الإيديولوجية الماركسية اللينينية أو الشيوعية الماوية ، وشعارهما : " لا إله والحياة مادة "، كما أنهما يعتبران الدين أفيون الشعوب ، وعليه لا يستقيم التوفيق بين القناعة اليسارية بهذا المعنى أو بهذه الدلالة  وبين عبارة " يساري على كتاب الله وسنة رسوله " , بل هو محض تلفيق لا يستقيم به الجمع بين الدين  الذي له مواقفه الخاصة به  واللادين الذي له أيضا مواقفه  الخاصة به .أما إذا صار لليسار معنى آخر  غير ما عرف به عندنا ، فحينئذ سيكون لنا رأي آخر .  

والتلفيق  بين المبادىء والمواقف لا يقتصر عن ادعاء الإنسان اللاديني التقيد بالمواقف التي يقتضيها الدين ، بل له عدة تمظهرات كأن يدعي أيضا الإنسان المتدين التقيد بالمواقف التي يقتضيها اللادين ، وبهذا يستوي المتدين واللامتدين في اعتماد التلفيق بين مبادئهما وبين مواقفهما  المختلفة  اختلاف تنافض.

وداخل دائرة التدين أيضا قد تعتمد الطوائف التي تنتسب إلى الدين الواحد التلفيق بين المبادىء التي تعتمدها في ممارسة تدينها ، وبين مواقف غير منسجمة معها تكون مما تقتضيه ممارسات تدين أخرى ، ويكون الدافع وراءها المجملة أو المداراة أو المداهنة كأن يُظهرعلى سبيل المثال  السلفي من المواقف ما يخدع به  الطرقي ، أو يظهر الحركي من المواقف ما يخدع السلفي والطرقي معا، والعكس صحيح أيضا . وقد يخدع كل هؤلاء عموم المسلمين ممن ليسوا منضوين تحت  طائفة معينة أو جماعة أو فرقة ، فيظهرون لهم  تلفيقا مواقف  تموه على ما تخفيه إملاءات  انتماءاتهم ، وذلك لحاجة في نفوسهم  من قبيل استدراجهم إلى ما هم عليه من توجهات  أو ابتزازهم... أو غير ذلك مما يكون خفيا.

ومن تمظهرات التلفيق بين المبادىء والمواقف أبضا أن يظهر من ليسوا على دين الإسلام مثلا  مواقف مما يقتضيها ، وتكون على طرف النقيض مع ما تقتضيه أديان أخرى ، فنرى على سبيل المثال احتفال غير المسلمين بأعياد المسلمين أو احتفال المسلمين بأعياد من ليسوا على دينهم ، و قد يسمى ذلك التلفيق تسامحا أو تعايشا أو شيئا من هذا القبيل، بينما الحقيقة أن هؤلاء وأولئك إذا خلوا إلى أنفسهم  عضوا الأنامل من الغيظ على بعضهم البعض أو يكون  أقل ما ينالهم من  إساءة بعضهم لبعض السخرية والاستهزاء ، ويكون الدافع وراء ذلك هو المصلحة ، وربما معها الخديعة أيضا  

ومن تمظهرات التلفيق بين المبادىء والمواقف أيضا  أن يتبادل المتدين والعلماني  في البيئة الواحدة إظهار الاحترام لمواقف كل منهما على ما بينها من تناقض صارخ مرده إلى تناقض المبادىء ، ويكون الدافع وراء ذلك أيضا هو المصلحة ، وربما تكون معها الخديعة أيضا .

وعند التأمل نجد أن التلفيق بين المبادىء والمواقف هو في نهاية المطاف ما سماه القرآن الكريم والسنة النبوية المشرفة نفاقا ، وهو لغة إظهارالإنسان خلاف ما يبطن ، وهل هذا شيء آخر غير التلفيق بين المبادىء والمواقف ؟ ويقسم أهل العلم النفاق أو التلفيق إلى نفاق أكبر أو تلفيق أكبر، وهو التظاهر بالتدين على طريقة المؤمنين مع إضمار الكفر، وإلى نفاق أصغر أو تلفيق أصغر، ويحصل من خلال مواقف مناقضة لمبادىء الدين أو التدين كالكذب ،وخيانة الأمانة ، ونقض العهد ، وغش، وتدليس ، وخذلان  ...وما  شابه ذلك أيضا من قبيل إظهار المودة لمن نهى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم  عن إظهارها  لهم أوحتى إبطانها .

وأخيرا  ننبه إلى خطورة قضية التباس التوفيق بالتلفيق بين المبادىء والمواقف  لدى كثير من الناس ، ويكون ذلك عند البعض عن قصد وسبق إصرار، وهؤلاء هم الأخطر في المجتمع  ، بينما يكون عند البعض الآخر عن جهل أو غفلة  قد ينجليان عن البعض مع مرور الوقت ، وقد يصيران دأبا وديدنا لدى البعض الآخر .   

وسوم: العدد 1123