لغتي هويتي... رسالتنا لأطفالنا في الغربة
في ظل تزايد أعداد الجاليات العربية في بلاد المهجر، تبرز الحاجة الملحة لتعليم الأطفال اللغة العربية، لا بوصفها مجرد وسيلة للتواصل، بل كجسرٍ يربطهم بهويتهم، وثقافتهم، ودينهم، وتاريخ أمتهم. فاللغة ليست حروفًا تُنطق فحسب، بل هي روحٌ تنبض بالحياة، وذاكرة أمةٍ تعبر القرون.
إن الطفل العربي في بلاد الغربة ينشأ في بيئة لغوية وثقافية تختلف كليًّا عن بيئته الأصلية، مما يجعله عرضة لفقدان التواصل مع لغته الأم. وإذا ضاعت اللغة، ضاعت معها روابط الانتماء، وتلاشت ملامح الهوية. وكما قال الشاعر حافظ إبراهيم:
> لُغَـةُ الضّـادِ فِـي فُـؤادِي هَـوىً
وَلَـها مِـن نُفُوسِنـا تَـبجِيلُ
تعليم اللغة العربية للأطفال في بلاد المهجر لا يعني فقط تمكينهم من قراءة القصص أو أداء الصلوات، بل يشمل بناء شخصية متكاملة تدرك ماضيها، و تفتخر بجذورها، وتستشرف مستقبلها. ولنا في قصص النجاح أمثلة عديدة؛ أطفال وُلدوا في الغرب لكنهم أجادوا العربية نطقًا وكتابة، وشاركوا في مسابقات عديدة، وكتبوا الشعر، وألفوا القصص، فكانوا سفراء فخرٍ لأمتهم.
وقد لاحظنا من خلال التجربة أن الطفل الذي يتعلم لغته الأم يكون أكثر ثقة بنفسه، وأقدر على التواصل مع أسرته وأجداده، وأكثر انفتاحًا على التعددية الثقافية. فاللغة تُعلّم الأدب، وتزرع في النفس القيم، وتُرسّخ روابط المحبة والانتماء.
وفي هذا المقام، يقول محمد بن إدريس الشافعي:
في كـلِّ آفـقٍ لـي عـلاقةُ خِلَّةٍ ... تَهْوى الهُدى وبكـلِّ أرضٍ تُنْفَذُ
ما طالَ عهدي بالديارِ وإنما ... أنْسـى معاهِدَها أسىً وتَبَلُّدُ
ولقد مررتُ على المعاهدِ بعدما ... لَيْسَ البداوةُ رسمُها للمبتدِ
فاستنْجَدتْ ماءَ الدموعِ لعينِهِمْ ... فتبعتُ حتى توارى المنجِدُ
طَفِقَتْ تُسابِقُني إلى أمدِ الصِّبا ... تلك الربى ومثالُ شلْوٍ يُبْعِدُ
وفي هذا الإطار، جاءت أكاديمية القلم للغات كمبادرة رائدة أطلقناها بالتعاون مع البورد المدرسي الحكومي في كندا، لتكون منارة تعليمية تعنى بتدريس اللغة العربية إلى جانب لغات المجتمعات المغتربة الأخرى مثل: الباكستانية، والأفغانية، والفارسية، والدّاري، والمالطية. وتتميّز هذه الأكاديمية بأنها مجانية تمامًا لوجه الله تعالى، إيمانًا منّا بأن إحياء اللغة الأم للأطفال الذين يعيشون في بلاد الغربة هو سبيل لبناء جيلٍ واعٍ، واثق من نفسه، متجذر في هويته، ومحب لأصله وتراثه.
لقد أثبتت الأكاديمية من خلال أنشطتها أن اللغة ليست عبئًا على الطفل، بل هي مفتاح لارتباطه بجذوره، وأداة لفهم ذاته واحترام الآخرين. إن تعليم اللغات الأم، وعلى رأسها اللغة العربية، في بلاد الاغتراب هو مشروع نهضة حقيقية، يُعيد بناء الإنسان على أسس سليمة.
ختامًا، إن تعليم الأطفال اللغة العربية في بلاد الغربة ليس خيارًا ترفيهيًّا، بل هو واجبٌ قومي، وثقافي، وتربوي، يتطلب منا جميعًا الجهد والوعي والإخلاص، حتى تبقى لغتنا حيّة في القلوب والعقول، وتبقى أمتنا متجذّرة رغم اغتراب الجغرافيا.
وسوم: العدد 1128