الخَيَالُ التاريخيُّ هُوَ نَوْعٌ أدبيٌّ تَجْري أحداثُه في بيئةٍ مَا تَقَعُ في المَاضِي ضِمْن ظُروفِها الاجتماعية ، وخَصائصِها الحقيقية ، مَعَ الحِرْصِ عَلى بِناء عَالَمٍ تاريخيٍّ يُمْكِن تَصديقُه ، والاهتمامِ بالسِّيَاقاتِ الثقافية ، وكَيفيةِ تَفَاعُلِ الشَّخصياتِ مَعَ عَناصرِ الزَّمَانِ والمكان ، ومُرَاعَاةِ العاداتِ والتقاليدِ والبُنى الاجتماعية والمَلابس وطبيعة الكلام المَوجودة في ذلك الزمنِ البعيد .

والأعمالُ الأدبية ذات الصِّبْغَة التاريخية يَنْبغي أنَّ تَعتمد عَلى التَّحليلِ النَّفْسِيِّ لِكَينونةِ الإنسانِ ومَشاعرِه ، وَتَقْدِيمِ التاريخِ مِنْ مَنظور الناسِ العاديين الذينَ يَتَحَرَّكُون في الواقع ضِمْن سِياقِ الأحداثِ اليومية ، مَعَ ضَرورةِ اختيارِ العالميَّة والإنسانيَّة المُشْتَرَكَة .

والرِّوايةُ التاريخيةُ لَيْسَتْ تاريخًا ، وإنَّما هِيَ مَنظومة مِنَ الأفكارِ والمَشاعرِ بأُسلوبٍ فَنِّي وجَمَاليٍّ تَتناول جوانبَ الحَيَاةِ والفِكْرِ الإنسانيِّ في المَاضِي ، مِنْ أجْلِ رَبْطِ القُرَّاءِ المُعَاصِرِين بالتَّجَارِبِ المُعَاشَةِ في تِلْك الفَترةِ الزَّمنيةِ التي مَضَتْ وانقَضَتْ ، وَمَرَّتْ عَلَيها سَنَوَات طويلة .

والرِّوائيُّ لَيْسَ مُؤرِّخًا ، وإنَّما هُوَ صانعٌ للأحداثِ المُتَصَوَّرَةِ وَالوَقائعِ المُتَخَيَّلَةِ ضِمْن نَسَقٍ أدبيٍّ يُعيدُ تَكوينَ الزَّمَانِ وَبِنَاءَ المَكَانِ ، وَيُفَسِّرُ العَلاقاتِ الإنسانية بَيْنَ الشَّخصيات ، ولا شَكَّ أنَّ هَذه العَلاقاتِ تَتَأثَّر بالأحداثِ التاريخية ، ولكنْ يَنْبغي التَّركيز عَلى المَشاعر الإنسانية المُشْتَرَكَة العابرةِ للحُدُودِ التاريخيةِ والجُغرافية ، والكاسرةِ لِكُلِّ القوالب الجاهزة .

إنَّ الخَيَالَ التاريخيَّ هُوَ أدَبٌ مُسْتَوْحى مِنَ التاريخِ ، وَلَيْسَ إعادةَ سَرْدٍ للأحداثِ التاريخية ، والهَدَفُ لَيْسَ نَقْلَ التفاصيلِ بشكلٍ مُتَسَلْسِل ، وإنَّما ابتكارُ شَخصياتٍ تَأثَّرَتْ بالتاريخِ ، والعملُ على تَحليلِ أفكارِها ، واستنباطِ مَشاعرِها ، وإظهارِ أحلامِها ، وتَفْكِيكِ ذِكرياتِها ، وتَفْسيرِ صِرَاعَاتِها . والتاريخُ لَيْسَ إلا إطارًا جامعًا لِكُلِّ هَذه العَناصرِ والتَّراكيبِ . وَمَهْمَا كانَ التاريخُ مُثيرًا للاهتمامِ ، وَمُغْرِيًا بالبَحْثِ ، فإنَّ الرِّواية التاريخية هي قِصَّة تَدُور أحداثُها في التاريخ ، وَلَيْسَتْ قِصَّةً عَن التاريخ .

والبَحْثُ المُستمر عَن العَوالمِ الغامضةِ والمُشَوِّقَة ، يَقُود أحداثَ الرِّوايةِ التاريخية إلى تَحديدِ الفَترةِ الزمنية التي تَتَنَاولها ، لأنَّ طبيعة الأفكار تُحدِّد إطارَها الزَّمنيَّ ، وطبيعة الشَّخصيات تُحدِّد إطارَها المَكَانيَّ . وهُنا تَبْرُزُ أدواتُ الخَيَالِ التاريخيِّ الذي يَقُوم على ضَبْطِ التفاصيلِ ، والسَّيطرةِ عَلَيْهَا ، مِنْ أجْلِ جَعْلِ السَّرْدِ الرِّوائيِّ سَلِسًا وَحَيَوِيًّا وقابلًا للتَّصديقِ . وهَذا لا يَتَأتَّى إلا بتصميمِ مَشَاهِد رِوائية مُتماسِكة تَشتمل عَلى حِوَارات مُؤثِّرة ، وصِرَاعات بَيْنَ الأضداد ، وُصولًا إلى ذِرْوَةِ العملِ .

وَالمَشْهَدُ هُوَ حَجَرُ الأساسِ في الرِّواية ، لأنَّه عَالَمٌ مُصَغَّر ، يُلخِّص التناقضاتِ الحياتية ، وَيَخْتزِل المَشاعرَ الإنسانية المُخْتَلِطَة ، مِمَّا يَجْعَل أحداثَ الرِّوايةِ أكثرَ ارتباطًا بالواقعِ ، وَتَبْدُو الشَّخصياتُ كأشخاصٍ حقيقيين مِنْ لَحْمٍ وَدَم ، يَتَشَابَهُون مَعَ القارئِ ، مَهْمَا كانت الاختلافات الثقافية .

إنَّ رِوائيَّ الخَيَالِ التاريخيِّ والمُؤرِّخَ يَعْمَلان عَلى إيصالِ الحقيقةِ ، ولكنَّ الفَرْقَ بَيْنَهما هُوَ أنَّ الرِّوائيَّ يَعْتمد عَلى الحُرِّيةِ الإبداعية الفَنِّيةِ التي تَقُومُ عَلى حَرَكَةِ الشَّخصياتِ ومَشاعرِها وصِرَاعاتِها، أمَّا المُؤرِّخ فَيَعْتَمِد عَلى البَحْثِ المَنهجيِّ المُتواصِل للأحداثِ الماضيةِ المُتَعَلِّقَةِ بالبشرية عَبْرَ الزمن . والرِّوائيُّ يُحلِّل الأحلامَ والذكرياتِ والتأمُّلات ، والمُؤرِّخُ يُحَلِّل المَصادرَ التاريخية ، وَيُفَسِّر الأحداثَ كَمَا وَقَعَتْ عَلى الأرضِ ، وَلَيْسَ كَمَا يَتَخَيَّلها أوْ يَتَمَنَّاها . والرِّوائيُّ يَخترع تاريخًا جديدًا، لأنَّ الأدبَ انقلابٌ عَلى الواقعِ ، وَصِناعةٌ لواقعٍ جديد ، والمُؤرِّخُ يُحلِّل الأحداثَ التاريخية القائمة المُستمرة ، لأنَّ التاريخَ دِراسة المَاضِي كَمَا هُوَ مَوصوف في الوثائقِ المَكتوبة .

يُعْتَبَرُ الأديب الإسكتلندي والتر سكوت ( 1771 _ 1832 ) مُؤسِّسَ الرِّوايةِ التاريخية . في عام 1814 ، وَضَعَ رِوايته الأُولَى " ويفرلي " ، وعالجتْ مَرحلةَ مِنْ مراحل التَّمَرُّد اليعقوبي عام 1745 في التاريخ الإسكتلندي ، ولاقتْ نجاحًا فَوْرِيًّا كبيرًا . وَقَدْ نَشَرَها تَحْتَ اسْمٍ مُستعار ، وَهُوَ مَا دَأبَ عليه بعد ذلك ، فَعُرِفَ بـِ " المجهول العظيم " إلى أن اضْطَرَّهُ إفلاسُه للكشف عَنْ هُوِيَّته عام 1827 .

ظَلَّ سكوت في السَّنَوَاتِ الخَمْسِ عَشْرَة التالية ، يُصْدِرُ رِوايةً إثرَ أُخْرَى ، تَتناول الحَياةَ في إسكتلندا في القَرْنَيْن السابع عَشَر والثامن عَشَر.ثُمَّ مَا لَبِثَ أنْ وَسَّعَ مَسْرَحَ رِواياته زمانًا ومكانًا،فكتب " إيفانهو " (1819)، وهي أشهر رواياته على الإطلاق . وقد اشْتُهِرَ وعُرِفَ بفضل هذه الرِّواية التاريخية الحديثة ، وأُطْلِق عليه " أبو الرِّواية الحديثة ". وفي نَفْسِ العام مُنِحَ سكوت لقب سير. وفي عام 1822 ، حِينَ زارَ المَلِكُ جورج الرابع إسكتلندا ، كان سكوت عُضْوًا في لجنة الاستقبال ، وحِينَ تَعَرَّفَ إلَيْهِ المَلِكُ أُعْجِبَ بِه كثيرًا .

يُعَدُّ سكوت واحدًا مِنْ أَهَمِّ مُبْدِعي الرِّواية التاريخية في الأدب الإنجليزي . وَمُعْظَمُ الذين خاضوا كِتابةَ الرِّواية التاريخية بَعْدَه ، إنَّمَا اهْتَدَوْا بأساليبه ، وساروا على خُطاه . وبذلك ، يَكُون أحدَ كِبار الرِّوائيين في العَالَمِ في هذا المَجالِ . ويَعْتبره الكثيرون أَحَدَ أهَم أدباء الحركة الإبداعية الرُّومانسية في الأدب الأوروبيِّ .

وَقَدْ عَاصَرَ سكوت حُروبَ نابليون ، واهتمَّ بالبحث في شؤون الآثارِ والتُّرَاثِ . وَشُغِفَ مُنذ طُفولته بالقصصِ والتُّرَاثِ الشَّفَهِيِّ الذي يَرْويه الكِبَارُ في عائلته حول إسكتلندا ، مِمَّا أمَدَّه بالكثير مِنَ المادة التاريخية التي استخدمها في كِتاباته فِيما بَعْد .

تُعْتَبَر الكاتبة الكندية أليس مونرو ( 1931 _ 2024 ) سَيِّدَةَ القِصَّةِ القَصيرة بِلا مُنَازِعٍ ، وأوَّلَ مُؤلِّفة للقِصَصِ القصيرة تَحْصُل على جائزة نوبل للآداب ( 2013 ) ، وأوَّلَ كندية تَفُوز بِهَا، كَمَا أنَّها فازتْ بجائزة البوكر ( 2009 ) . تُلَقَّبُ بـِ " تشيخوف الغرب " نِسْبَةً إلى الكاتبِ الروسي أنطون تشيخوف ( 1860 _ 1904 ) أعظم كاتب قِصَّة قصيرة في التاريخ ، وَنَظَرًا لِمَا تَتَّسِمُ بِهِ كِتاباتُها مِنْ حِسٍّ إنسانيٍّ ، وَنَظْرَةٍ إلى أعماقِ النَّفْسِ ، فَهِيَ تُوَثِّقُ التَّجْرِبَةَ البشرية بكثيرٍ مِنَ التسامحِ في تَصويرِها لِتَعقيداتِ الحياةِ والعَلاقاتِ ، وأيضًا بسبب قُدرتها على استعراضِ مُكَوِّنَاتِ الحَياةِ في المَناطقِ الريفية ، عَلى صَفَحَاتٍ مَحدودة ، لِتَخْتَزِلَ فِيها كثيرًا مِنَ المَعَاني والأفكارِ والصُّوَرِ عَن الحَياةِ والناسِ، وَتَدْمُجُهَا جَميعًا بِأُسلوبٍ أنيق، في قِصَّة قصيرة مَليئة بتفاصيل مُتناغِمة .

تَتَحَدَّثُ مُعْظَمُ قِصَصِها عَن الحُبِّ والصِّراعِ والحَياةِ في الريفِ ، وَتَتَضَمَّنُ نُصُوصُها وَصْفًا مُتَدَاخِلًا لأحداثٍ يَومية ، لكنَّها تُبْرِزُ القَضَايا الوُجودية . وَتُوصَفُ مونرو بأنَّها بارعةٌ في التَّعبيرِ في بِضْع صَفَحَاتٍ قصيرة عَنْ كُلِّ التَّعقيدِ المَلْحَمِيِّ للرِّواية . وَتَتَمَيَّزُ كِتاباتُها ببساطةِ الأُسلوبِ وَعُمْقِ المَضمونِ ، والكَشْفِ عَن تناقضاتِ الحَيَاةِ ، والجَمْعِ بَيْنَ السُّخريةِ والجِدِّيةِ في آنٍ مَعًا .

وقالت الأكاديميَّةُ السويدية : " مونرو تَتَمَيَّزُ بِمَهارة في صِياغة الأُقْصُوصَةِ التي تُطَعِّمُها بأُسلوبٍ واضح وواقعيَّةٍ نَفْسِيَّة " . وتابعتْ تَقُول : " إنَّ قِصَصَها بِمُعظمها تَدُور في مُدُنٍ صغيرة ، حَيْثُ غالبًا مَا يُؤَدِّي نِضَالُ الناسِ مِنْ أجْلِ حَياةٍ كَريمة إلى مَشَاكِل في العَلاقاتِ ، وَحُدُوثِ نِزَاعاتٍ أخلاقية ، وَهِيَ مَسألة تَعُود جُذورُها إلى الاختلافاتِ بَيْنَ الأجيال ، أو التناقضِ الذي يَعْتَري مَشاريعَ الحَيَاةِ " .

ظَلَّتْ مونرو عَلى يَقينٍ مِنْ أنَّ القِصَّة القصيرة لَيْسَتْ أقَلَّ شأنًا مِنَ الرِّوايةِ ، لَذلك حَرَصَتْ عَلى كِتابةِ القِصَصِ بعاطفةٍ مُفْعَمَةٍ بالصِّدْقِ والتَّحْليلِ النَّفْسِيِّ ، معَ الاعتمادِ عَلى الحَبْكَةِ الجَيِّدةِ ، وَعُمْقِ التفاصيل . والأبطالُ في قِصَصِ مونرو فَتَيَاتٌ وَسَيِّدَاتٌ يَعِشْنَ حَيَاةً تَبْدُو عاديَّةً ، لَكِنَّهُنَّ يُصَارِعْنَ مِحَنًا مُؤلمة، كالتَّحَرُّشِ، أو الزَّوَاجِ المَأسَاوِيِّ ، أو مَشاعرِ الحُبِّ المَقموعة ، أوْ مَتَاعِبِ الشَّيْخُوخة .

كانتْ مونرو مِنْ أوائلِ مَن ابتكرَ تِقْنيةَ السَّرْدِ غَيْرِ الخَطِّي، والذي يَقْفِز فيه الساردُ بَيْنَ الحاضرِ والماضي والمُستقبَلِ . وهَذا الأُسلوبُ الأدبي لا يَعْتَمِد على التَّسَلْسُلِ الزَّمَنِيِّ للأحداثِ، بَلْ يَعْتَمِد عَلى الاسترجاعاتِ الزَّمنية ، أو الوَمَضَاتِ المُستقبلية ، أوْ سَرْدِ قِصَص مُتَعَدِّدَة في وَقْتٍ واحد .

تَدُورُ أحداثُ العَدِيدِ مِنْ قِصَصِ مونرو في مُقاطعة هورون ، أونتاريو . وَيُعَدُّ التركيزُ الإقليميُّ القويُّ أحدَ سِمَات أدبِها . وعِندما سُئِلَتْ بَعْدَ فَوْزِها بجائزة نوبل : " ما الذي يُمْكِنُ أنْ يَكُونَ مُثِيرًا للاهتمامِ في وَصْفِ الحَيَاةِ في بَلْدة كَندية صغيرة ؟ " ، أجابتْ : " يَكْفِي أنْ تَكُونَ هُناك " . وَيُقَارِنُ الكثيرون بيئات بَلْدتها الصغيرة بِمَناطقِ جَنُوبِ أمريكا الرِّيفيِّ ، غالبًا مَا تُوَاجِهُ شخصياتُها عاداتٍ وتقاليد راسخة .

نُشِرَتْ أوَّلُ أُطروحة دُكتوراة حَوْلَ أعمالِ مونرو عام 1972 . وفي عام 1984 ، نُشِرَ مُجَلَّد ضَخْم يَجْمَع الأوراقَ البحثية المُقَدَّمَة في أوَّلِ مُؤتمر لجامعة واترلو حَوْلَ أعمالِها ، بِعُنوان : " فَن أليس مونرو : قَوْل مَا لا يُقَال ". وَفي عَامَي 2003 و2004 ، نَشَرَتْ مجلةُ " الرِّسالة المَفتوحة" الكندية ، وَهِيَ مُرَاجَعَة فَصْلِيَّة للكتابةِ والمَصَادِرِ ، أرْبَعَ عَشْرَة مُسَاهَمَة حَوْلَ أعمالِ مونرو .

أحدثتْ أعمالُ مونرو ثَورةً في عَالَمِ القِصَّة القصيرة ، لا سِيَّمَا في مَيْلِها إلى التَّقَدُّمِ والتراجعِ في الزَّمَن ، وَدَمْجِها لِدَوراتٍ قصصية قصيرة ، أظهرتْ فِيها بَرَاعَةً سَرْدِيَّةً . وقِيل : " إنَّ قِصَصَها تُجسِّد أكثرَ مِمَّا تُعْلِن ، وَتَكْشِف أكثرَ مِمَّا تَسْتَعْرِض " .

رَغْمَ النجاحِ الذي حَقَّقَتْهُ مونرو، وَحَصْدِها مَجموعة مِنَ الجوائز الأدبية العالميَّة خِلال أكثر مِنْ أربعة عُقود، لَمْ يَكُنْ حُضُورُها صَاخِبًا ، بَلْ آثَرَتْ حَيَاةَ الكِتمانِ ، والبُعْدَ عَن الأضواءِ ، عَلى غِرَارِ شخصياتِ قِصَصِها ، وَمُعْظَمُها مِنَ النِّسَاءِ اللواتي لَمْ تَكُنْ في نُصُوصِها تُركِّز عَلى جَمَالِهِنَّ الجَسَدِيِّ إطلاقًا .

وَقَدْ رَوَتْ في حَديثٍ صَحَفِيٍّ أنَّها كانتْ تَحْلُمُ مُنْذُ أنْ كانتْ مُرَاهِقَةً في مُنْتَصَفِ أربعينياتِ القَرْنِ العِشرين بأنْ تُصْبح كاتبةً ، " لكنَّ الإعلان عَن هَذا النَّوع مِنَ الأُمُورِ لَمْ يَكُنْ مُمْكِنًا في ذلك الزمن . لَمْ يَكُنْ مِنَ المُسْتَحَبِّ أنْ يَلْفِتَ المَرْءُ الانتباهَ . رُبَّما كانَ للأمر عَلاقة بِكَوْني كندية ، أوْ بِكَوْني امرأة ، وَرُبَّمَا بِكِلَيْهِمَا " .

في عَالَمِ مونرو ، تتألَّقُ شخصياتٌ لا تَعْكِسُ أيَّةَ حِنْكَة . تَظْهَرُ أمامَ أعْيُنِنا وكأنَّنا الْتَقَيْنَا بِها صُدفةً في السُّوقِ . أفرادٌ عَادِيُّون يأخذون بأسبابِ حَياةٍ مَحدودة مُهَمَّشَة ، لِتَمثيلِ البشرية بِأسْرِهَا بِلُغَةٍ تَتَرَاوَحُ بَيْنَ المَكْبُوحِ والصَّرِيحِ .

وَقَدْ تَمَيَّزَتْ الكاتبةُ بِقُدرتها على نَسْجِ قِصَص مُعَقَّدَة ذات عُمْق فِكري وعاطفي ، باستخدامِ لُغَة بسيطة وواقعية ، والتركيزِ عَلى تفاصيلِ الحَياةِ اليوميةِ في المُجتمعاتِ الصغيرة ، والكَشْفِ مِنْ خِلالِها عَنْ جوانب عميقة مِنَ الطبيعةِ البشريةِ والعَلاقاتِ الإنسانية . وَقِصَصُها تَتْرُكُ أثَرًا عميقًا في نُفُوسِ القُرَّاءِ ، وتَدْعُوهُم إلى التأمُّلِ في قَضايا الحَيَاةِ والوُجودِ بطريقةٍ جديدة ومُختلفة .

أطياف بشرية تعددت أشكالها وأحجامها، مقيدة أعناقها، بينما تراوحت أقدامها في الارتفاع، فمنها ما بلغ حد الشنق، ومنها من يتربص به القدر استعداد لذلك ثمة سيدة ربما تتساءل عن مصيرها في العراء، وهناك، حصان، وطير، ومخلوقات أخرى. كل ذلك تجلل باللون الأسود خالطه بعض من خطوط بيضاء ربما لتمكن الرائي من لتمييز حقيقة الأمور! أو هل تعطي مسحة من أمل؟!

تلكم كانت تفاصيل غلاف الرواية الموسومة "ذئاب منوية" للراحل أحمد أبو سليم في طبعتها الثانية الصادرة عام 2024 عن دار الفينيق في عمان في نحو 220 صفحة من القطع المتوسط.

مهلا، فربما أثار هذا العنوان ظنونا عند طائفة من القراء، وربما بعض النقاد، فتأهب للنيل من هذا العمل أو إدانته بما لا ينبغي له دون أن يمضي في عمق العمل ويحاول فهم أبعاده الثقافية والنفسية، وقد أعجبني في هذا السياق ما ذهب إليه الأستاذ موسى أبو رياش حول رأي أحد النقاد الذي وصف العنوان بأنه "دعارة ثقافية" فقال في مقاله المنشور في جريدة"القدس العربي" الصادرة في نوفمبر 2016:

"فالذئب هو الحيوان الأكثر توظيفا في الأدب، والمنوية مصطلح بيولوجي متداول بين الجميع وفي الصفوف المدرسية. أما ما يوحيه العنوان، فهو مسؤولية القارئ"

بينما قال الكاتب على لسان علي بابا إحدى شخصيات الرواية :" جعلونا يا صديقي مجرَّد ذئاب منويَّة، تتصارع على بويضة واحدة، واحدة فقط، وأَقنعونا بأَنَّ الثَّاني خاسر مثل الأَخير."

ترى من هو الصادق الذي أشار إليه الكاتب وهو يمهد لهذا العمل ويهديه؟ وما هي حكاية القرى التسعة! والقرية العاشرة؟ والطرد ثم الإبادة، أنا لم أستطع المرور بهذه الكلمات دون ربطها بما جرى في فلسطين، أما الاعتراف بالشهداء فموضوع آخر متشعب ولعل فيه صورة من صور البحث عن الحقيقة،

أنتقل إلى المسرح الرئيس ويبرز مخيم الزرقاء، ولا بد من الإشارة إلى إنني أطل لأول مرة على مخيم الزرقاء والزرقاء كجزء من البعد الجغرافي لعمل أدبي، فكيف رسم أحمد أبو سليم صورة هذه المدينة في الرواية؟ يقول على لسان إدريس الإبن: "الزرقاء مدينة تغلي بالفقر والجوع والحرمان والتردد والتوحُّد والتفرُّد، مدينة الحزن، والكلاب الضالة، والجرذان، والخواء، الزرقاء أمست مدينة آيلة للسقوط".ص14

على حافة المقبرة يعيش إدريس الإبن "إدريس2" الذي اكتشف أنه لقيط هذا ما أكدته له جدته، وسوف يتولى السرد على مدى الرواية بالتبادل مع والده "إدريس1"، ويتشكل السرد حوارا في بعض مقاطع من الشهادتين. بقي أن أقول إن أول ما باح به إدريس الإبن كان مشهد عودته من الدير بصحبة الأب الراعي لهذا الدير "ميخائيل" ليبدأ حياته في "بيته".

المخيم، والسور، والمقبرة، وسكة الحديد، هل ثمة ما يوحي بلمحات من سيرة ذاتية؟ قد لا تخلو الرواية من معالم سيرة ذاتية ولكن مجمل مضمون الرواية يتعدى هذا، لست بصدد تلخيص الرواية فهي ليست قصة بطل ونهاية وحسب بل هي مشاهد لصراع ومصائر ومآلات.

فلسطين حاضرةفي الرواية بقوة، لانستطيع القول بأنها الصورة الخلفية ففي ذلك إضعاف للدور الذي شغلته عبر السرد، لعلها كانت مظلة لكل ما كان، حيثما كان حتى في أفغانستان التي أرسل إليها إدريس الإبن منفيا بمؤامرة من فتحي وربما بأمر من جعفر .

إدريس (الأب والإبن) كانتا الشخصيتان الرئيستان في الرواية، ولكل تجاربه وعذاباته، وجعفر وفتحي بدرجة أقل وإن لم يغيبا عن حكايات إدريس الإبن على وجه الخصوص. ثم "آذار" شريكة الروح لإدريس الأب وأم إدريس الإبن التي عذبته جدته بنكرانها ، و الأب ميخائيل، والجدة، ورقية الضحية التي لم تتوان عن استغلال إدريس، وعلي بابا الذي بات يعيش على هامش الحياة مع كأس العرق ولفافة الهيشي وناي الجدة أحيانا، وأمينة الأرملة الثكلى التي تعد نفسها بالانتقام من الذي غدر بزوجها، وأمل ومكيدتها، وعدد من رفاق في النضال وفي السجن. السجن! مسمى يقودنا إليه إدريس الإبن خلال حواره مع رقية:

  • "ماذا يفعل بالسجن رجل مثل جعفر؟"
  • "ما يفعله البشر بالسجون" تجيب رقية

كان للسجن في الرواية أشكال كثيرة؛ سجون لدول، منظمات، أشخاص وبينما كانت أفعال الشنق، والحجز لسنين، والتحقيق والتعذيب حاضرة بقوة وبقسوة، فقد سجل "تحقيق العدالة" غيابا تاما. شكل السجن كمسرح الأحداث مساحة واسعة من السرد .وهنا تجلى بقوة سؤال حول "من يملك الحقيقة؟"

وجعفر ذلك الرعب الماثل من أول الرواية إلى آخرها، بانتمائاته المشبوهة، و أدواره الشائنة، وممارساته الغارقة في الموبقات حتى أخسها وأدناها، ترى كم جعفر ضمت الثورة الفلسطينية في عصرها الحديث أو عصر ما بعد النكبة؟ كانت صورة جعفر في الرواية إقرارا وإدانة لهذا الجزء من الممارسات تصدى لها الكاتب بجرأة واضحة.

وحكاية الصندوق الأحمر وتنقلاته، وانشغال قادة الثورة بتفاصيله كان مثلا آخر لانشغالات أخرى كثيرة، شكلت تحد آخر وتصدٍ للبحث عن الحقيقة انبرى المؤلف للخوض فيه بشجاعة.  

كان إدريس الأب مثالا للبطولة في أدوار عديدة، وكان صاحب المبدأ عندما رفض الانحياز الفوري والآني لحركة الإنشقاق، وكان ضحية لمكيدة أمل، "وشتان ما بين معنى المكيدة والأمل ومدلولاتها"، تلك التي كلفته مايقارب نصف عمره في السجون .ثم مفاجأته بإبن يحمل تفاصيل كثير ويعاني من انفصام الشخصية ولعل أهم ما فيه أنه "كل ماتبقى له من "آذار"

معظم من تبقى من الشخصيات كانوا ضحايا، كان إدريس الإبن ضحية الجدة ومافعلته بالحقيقة من تزوير حول حفيدها، وكان ضحية لرقية التي استغلته جنسيا للبحث عن الحقيقة بطريقتها، وضحية لفتحي وجعفر، وكان الآخرون ضحايا بقدر متباين من المعاناة؛ رقية وأسعد، والزوجة التركية، وعلي بابا حتى فتحي على بشاعة أدواره بصفته صنيعة وإمعة لجعفر مع كل التفاصيل إلا إنه كان ضحية بطريقة ما، هل كان موته عند قلعة جانفي في أفغانستان بهذه الطريقة تحقيق للعدالة ضد كل من ظلم!؟ وهل كان انتقام أمينة على هذا النحو صورة أخرى لتحقيق العدالة؟!

يسجل للمبدع الراحل أحمد أبو سليم إلى جانب الجرأة في الطرح والتناول على أكثر من صعيد، تلك اللغة الشاعرية الرقيقة برغم قسوة المواضيع المطروحة وهذا التدفق السردي الذي شعرت به يتخذ طابعا مسرحيا يوشك فيه السارد وربما القارىء على الصعود للمسرح واعطاء الجمل والعبارات حقها من التعبير الصوتي.

برغم قتامة الصور وتعمق الأحزان عبر السرد بما اقتضاه الظرف إلا إن الكاتب لم يشأ أن يترك القارىء دون صورة جميلة فقد قال إدريس الإبن في دفاعه عن نفسه خلال لقائه الأول مع رقية: قال نقلا عن الأب ميخائيل:

"كلُّ كلمة جميلة، كل موسيقا تعيد عزف هذا الكون من جديد، كل أغنية، كل قصيدة، كل همسة روح، تضيف مساحة جديدة من الجمال إلى هذا الكون، وتجعل الظلمة تخطو خطوة إلى الوراء"

أنا لا أشك في أن الأمر لم تكن فيه مبالغة كثيرة، فهذه القصيدة التي لم يختلف حولها السودانيون" كعادتهم" اختلافا عنيفاً، كأقصى ما يكون العنف، بل أظهروا لها الاذعان والتسليم، تستحق فعلاً منا التحايا والهتاف، والتصفيق، لشاعرها المرهف "مدني يوسف النخلي"، الذي نعد شعره الغنائي الملتهب الذي أحرق فؤاد صاحبه، هو مضرب المثل في جودة السبك، وعذوبة التعابير، وسمو المعاني، ودقة التصوير، فالصور المتراكمة، المزدحمة، التي أوشكت أن تختنق في حنايا "النخلي" استدعت منا تلك الأحاديث الطويلة المتشعبة، في المحافل والأسمار، فغزارة صوره الشعرية التي نهيم بها، ونحبها، ونعجب بها كل الاعجاب،  لم تكن في الحق سريعة عارضة، ولكنها كانت بطيئة متلاحقة، تظهر لنا حقيقة العمق النفسي الذي يكمن وراءها، يخبرنا الصريح من هذه الصور والمضمر، عن اختلاجات جوانح فاطرها، وعن شوارعه الطاردة، التي لم ينزوي مطرها الحزين، في قصيدتة الشامخة التي تغنت بها "ذات مبدعة"، تلك الذات العذبة، التي أضحى صوتها الثري مدعاة للفخر، ومظهراً للتفرد، وجسراً للتعبير، فنحن نتباهى "بمصطفى سيد أحمد"، ونزهو بتوهجه الابداعي، ونقدس تجربته المكتملة الطرح والرؤية، ساهم" النخلي" بنحو أربعة عشر عملاً في تأثيلها.

و"النخلي" في رؤيته للمكان الذي وقف فيه واجماً، بازاء تلك الحوادث الكبرى التي زلزلت حياته، تجاوز حتماً الأشكال الجغرافية المختلفة، فهو لم يقف أصلاً على مكوناتها، ولم يعي ذهنه الشارد، هل تبدلت معالمها، أم ظلت حاوية لكل قديمها، فذهن "النخلي" الذي أسبغ عليه صاحبه من الخيال ما عجزت عنه الحقيقة، كان يحتفي بأشياء أوسع من ذلك وأعمق، فالمكان الذي وثّق أواصر تحالفه مع الحزن والأنواء، لم تستدعه ضرورة فنية، تحتاج إلى تفصيل وايضاح، ولكن أوجدته فكرة" التداعي" المسيطرة على مهجة "النخلي" المستسلمة إلى حزنها، فهي لم تنتظر حتى تهدأ عواصفها، لتعاود المسير، فما أن دنا منها ورجاها، انفجرت عليه بالصواعق والحنين، وهنا تتفاوت الروعة، ويتباين الابداع، فالهم الذي أضحى حالة راهنة، ونتيجة حتمية لضياع الحلم، يعصف بروح النخلي ويزري بها، ويجعلها محتبسة في عوالم مكفهرة، أبدع "النخلي" في صياغة كل حرف جسد ملامحها وفصولها، وقناعتي التي لا ينازعني فيها شك، أن "النخلي"، رغم الشقاء والبؤس الذي تقاذفه في تلك العوالم، إلا أنه كان لا يود أن يطرأ عليها أي تغيير أو تبديل، كان يريد لرئتاه أن تستنشق من عبير سرابها لأطول فترة ممكن، وألا تمضي الريح لشأنها،  وأن يظل قمرها غائباً، وأن يغسل وكف مطرها الغزير المتواصل، صهوات طرقها، وردهات شوارعها، كان "النخلي" يريد من الطبيعة القاسية، أن تكون رائدته في هذه الحياة، تتعبه، وتتضنيه، وتجهده في سبلها المتشعبة، كان النخلي يريد أن تظل سمات هذه المعالم، وخصائصها، مغروسة في دواخله، يريد حقاً أن يظل شيئاً ملموساً وقائماً من تداعياتها وأحداثها، يجعل روحه تظل في طيران وتحليق، روحه التي كانت تلتمس أجدى أسباب الارتباط، وأغنى دعائم الامتزاج، التي تمكن ذاته الشفيفة من أن تحتضن ظلالها، وتعانق أغصانها، يريد باختصار رؤاها المترسبة في أحناء صدره، أن تظل حاضرة بأشكالها المختلفة، تمد إليه أعناقها في سفره ومقامه.

و"النخلي" الذي ينتابه الشجن من ويلات العودة إلى منعطفات دروبها التي فدحتها الحياة، وحصرتها في انطباعات حادة لا تتغير، ظلّ يؤكد هذا الملمح في قصيدته التي اكتوى فيها بنار الانتظار، لحبيب تناءى عنه، فعدد من الدلائل التي نوضحها الآن، تشير إلى هذا الحزن الموروث بعضه،والحادث بعضه الآخر، فالأسى الذي يتناسل ويتوالد بكثرة وكثافة، في جميع أبيات هذا الدفق الشعوري، هو الجوهر الضمني الكامن، في جميع المعطيات الحسية، التي زخرت بها أبياتها الشعرية، فالليل فتح شرفة من وجع، والقمر رحل وفارق سماه، وأضواء المصابيح البعيدة، التي كان يتهادى على نورها الشاعر، انخزلت وتراجع سناءها ثم خمد، والمشاوير التي لم يدفع بها الشاعر بعيدة عن ذاته ، ممدودة في نبض التعب، ونحن هنا نلمح الجدة، والطرافة، والنبوغ في التشبيهات، تشبيهات يتعين علينا معرفة قواعدها، وفحص طرقها من الاستدلال والبرهنة،  فالتشبيهات ارتبطت بالمواقف التي تسببت في حدوثها، وبالتأويل في معاني النكبات التي ترتبت عنها كنتائج لها، تستطع لنا رزيئة الانتظار الممض الطويل، التي تمخض  عنها تلك الصورة المألوفة والملحة للخيبة، التي تستحق أن نعيد النظر فيها من الأساس، فالاخفاق يندس دائماً في العواطف المحضة، ويتسرب إليها.

ولعل الشجى الذي تحصفت أسبابه في هذه القصيدة، هو قطعا شجى حقيقي، مؤسس على تجربة صادقة خاضها الشاعر، فالصياغة الشعرية التامة، التي تسايل الدم من جبينها، يجعل مزاعمنا تستمد صحتها من استقراء وحدس صحيح، ولكن هذه القصيدة الحافلة بالجوى، لا ينبغى لنا أخذ صورها، ورموزها، ودلالتها، بمنتهى البساطة التي أعطاها لنا شاعرها، بل يجب أن نجتهد في الوصول إلى المعاناة التي تطاولت أيامها، يجب ألا تختلط علينا حقائق أفكارها، وإسقاطاتها، ويذهب بعضها في بعض، فهذه القصيدة بمعايير حرارة عاطفتها، وبعتبة أحساسيها المتعاقبة الصادقة، التي يستعصى علينا تحديد نقطة انبثاقها، أو نمط تميزها، فتيار مشاعرها الجارف، ومضامين وجْدَها العاصف، يرسل لنا احصائيات لها رأي، ولها إرادة، فنحن نعدها اتساق منطقي، لأنماط البنية الشعرية، وللانطباعات التي سبقت صياغتها.

أما ايقاع هذه القصيدة، وجرسها الموسيقي، فهو وواضح وبين، وقد وضع له النخلي" تشريعاً استثنائياً خاصاً بها، تناثر في جميع عناصرها، أبصرناه في أفق القافية التي لا ينضب معينها، فالرتم الموسيقي لهذه القافية، ليس على شاكلة الموسيقى الداخلية التي نحبها ساعة، ونكون إلى جانبها، ثم نمجها وننصرف عنها، فتقاطيع القصيدة المحكمة البناء والصنع، تنسجم لها أرواحنا على الدوام، لأنها تضاعف لنا معنى الوله في النفس.

أما اللغة والأسلوب، فقد أديا المهمة التي كانت ملقاة على عاتقيهما على أكمل وجه، فقد عبرا عن صور من العسير حصرها بكيفية دقيقة، صور شامخة مستساغة، صاغها النخلي في عبارات مستقلة، اقتضت تراكيب معينة، لا يمكن استعادتها أو استنساخها، أم أساليبها فلا نجد غضاضة ولا ضرر إذا نعتناها  بالأدوات التي كانت تحت رهن إشارة صاحبها، وحققت له أمنيته الوثابة، فقد استوعبت جميع القضايا الصادقة التي تطرق لها النخلي في قصيدته الفينانة، التي لم تكن ضئيلة أو تافهة، كما هو الشأن في الكثير من قصائد الشعر الغنائي.

 

  1. العنوان كبوابة كونية

ليس من السهل أن يُطلق الشاعر على عمله عنوانًا يتجاوز حدود الزمان والمكان، لكن إياد شماسنة يفعل ذلك ببراعة في "سِدرَة المُشتهى". إننا أمام تركيب لغوي مشبع بالدلالة الصوفية، إذ تحيل "السِّدرة" إلى "سِدرة المنتهى"، المحطة القصوى في رحلة المعراج النبوي، بينما تكسبها "المشتهى" دفئًا إنسانيًا، فتربط السمو الروحي بحرارة الرغبة الأرضية.

العنوان، بهذا المعنى، ليس لافتة خارجية، بل هو ميثاق تأويلي يوجّه القارئ نحو قراءة النصوص باعتبارها رحلة كونية، تمتد من العاطفي الحميم إلى الرمزي المقدس.

  1. هيكل الديوان ورحلة المعنى

الديوان يتوزع على نصوص تتفاوت في الطول والكثافة، لكنها تشترك في نسيجها العاطفي والفكري. يمكن تقسيمه موضوعيًا إلى ثلاثة مسارات متداخلة:

المسار الوطني المقاوم: حيث تتجلى القدس وفلسطين كأيقونة للهوية والصمود، تحضر المدن والأماكن كما لو كانت شخصيات تنبض بالحياة.

المسار الصوفي الفلسفي: فيه يتحول النص إلى معراج لغوي، حيث يبحث الشاعر عن الحقيقة في الماوراء، مستخدمًا مصطلحات "المقام"، "المحراب"، "المعراج"، "السِّر".

المسار الوجداني الغزلي: هنا يتجسد الحب كقوة مقاومة، والمرأة كرمز للأرض والأمل، وكشريك في الحلم والنزيف معًا.

  1. لغة تسكن بين النص المقدس والأسطورة

إياد شماسنة يبني لغته على تداخل المرجعيات:

التناص القرآني والنبوي: يقتبس ويحاور النصوص المقدسة، لكن لا يكررها، بل يعيد تأويلها في سياق معاصر.

الأسطورة والتاريخ: من بلقيس إلى الهدهد، ومن كربلاء إلى معابد المحاربين، تتقاطع الرموز في نسيج النص.

اليومي المعيش: على الرغم من قدسية المعاني، فإن الشاعر لا يقطع خيطه مع الواقع، بل يُسقط الرموز الكبرى على تفاصيل اللحظة الفلسطينية.

هذه اللغة ليست للزينة البلاغية، بل لتوليد طبقات من المعنى، تجعل النصوص قابلة للقراءة في مستويات متعددة.

  1. الرموز الكبرى في الديوان

لا يمكن قراءة "سِدرَة المُشتهى" دون التوقف عند شبكة الرموز التي ينسجها الشاعر بعناية:

القدس: ليست جغرافيا فقط، بل معراجٌ ومعشوقة، تُحاصر وتُفتدى، وتبقى منارة المعنى.

الحصان: رمز الفروسية والانطلاق نحو الحرية، أحيانًا جريح وأحيانًا جامح.

الهدهد: حامل الرسالة وبشير الغيب، يستحضر إرث النبوة في زمن التيه.

النار والمطر: النار للتطهير والدم، والمطر للبعث والخصب.

المرأة: تتجاوز كونها موضوع غزلي إلى كونها تجسيدًا للوطن، وللاستمرار ضد الفناء.

  1. البنية الإيقاعية والأسلوبية

يتنقل الشاعر بين:

النثر الشعري: حيث تتدفق الصور والمعاني دون قيود الوزن، مما يمنحه حرية في التشكيل.

القصيدة الموزونة: حين يحتاج الإيقاع إلى قوة الجرس والتكرار، فيستدعي التفعيلة أو البحر ليضبط النبرة.

التكرار والتوازي: أدوات موسيقية داخلية تمنح النصوص إيقاعًا روحيًا، كالترديد في حلقات الذكر الصوفي.

  1. جدلية الحرب والحب

هذه الثنائية تمثل العمود الفقري للديوان. لا يقدّم الشاعر الحب كمهرب من الحرب، بل كوجه آخر لها. القبلة هنا ليست نقيض الرصاصة، بل هي فعل مقاومة. والحرب ليست غيابًا للحب، بل امتحان له. هذا المزج يخلق حالة شعرية نادرة، حيث يتحول الحميمي إلى سياسي، والوطني إلى وجداني.

  1. البنية الشعورية

يتأرجح المزاج العام بين الحنين والفقد من جهة، والتمرد والأمل من جهة أخرى. في لحظات، نشعر أن النصوص هي مناجاة صوفية، وفي لحظات أخرى، هي هتاف في ساحة معركة. هذا التذبذب العاطفي ليس تناقضًا، بل هو انعكاس لحالة الفلسطيني المعاصر، العالق بين الذاكرة والحلم.

  1. القيمة الإبداعية والتميّز

"سِدرَة المُشتهى" يقدّم إضافة نوعية للشعر العربي المعاصر لأنه:

يمزج بوعي بين التراث العربي واللغة الحديثة.

يخلق نصًا متعدد الطبقات قابلًا للقراءة في السياق الفلسطيني والإنساني معًا.

يحقق توازنًا بين جمالية الصورة وقوة الرسالة.

يمنح القارئ تجربة حسية وفكرية وروحية في آن واحد.

  1. الخاتمة: القصيدة كمعراج وملاذ

في النهاية، يمكن القول إن هذا الديوان هو أكثر من مجموعة نصوص شعرية؛ إنه معراج شخصي وجماعي، حيث يصعد الشاعر من تفاصيل الأرض إلى رحابة السماء، ويعود محملًا بما يراه خلاصًا: أن الحب والمقاومة وجهان لعملة واحدة، وأن الكلمة قادرة على أن تكون رصاصة ووردة في آن.

"سِدرَة المُشتهى" بهذا المعنى هو دعوة لأن نقرأ الشعر كفعل حياة، لا كترف لغوي، وكوصية بأن نرفع الحلم إلى مقام السِّدرة، حتى في زمن الانكسارات.

المزيد من المقالات...