خوازيق السياسة الفلسطينية (1)

أوهام البطولة لقيادات الشعب التاريخية

فراس حج محمد /فلسطين

[email protected]

تعاقب على هذا الشعب المقهور والمغلوب على أمره قيادات أشبعها صانعوها وهما لا حد له، ونفخوها نفخ البالونات حتى إذا ما نفدت مدة الصلاحية، أتوا عليها فنكشوها بدبوس صغير فأصبحت لا قيمة لها، والغريب والعجيب أن الشعب لم يتعلم ولم يتعظ فإنه يضع ثقته في تلك القيادات التي لم تقده يوما إلى بر الأمان، ولكنها تدفعه كل مرة نحو غياهب المجهول والطريق اللامتناهي، فأصبح الشعب شقيا بقيادته، وشقيا بوعيه الزائف والمزيف!!

نستعرض محطات التاريخ الموثقة لأعمال تلك القيادات، وبكل تأكيد فإن الوثائق التاريخية لا يماري فيها أحد إلا جاهل أو غبي، وأما من احترم قيمة العقل الموهوب له فإنه سيتوصل إلى أن تلك القيادات كانت إمعات ومشتراة بأبخس الأثمان، كلهم كانوا يعدون القضية الفلسطينية مشروعا وطنيا، ويا لله كم كرهت هذا التعبير، لما يثيره في النفس من عقيم الرؤى، وما يدل عليه من نفعية ذاتية آنية.

فمنذ بدأت تتشكل الأفكار الوطنية على هذه الأرض بدأ الخلل، فقد أوجدوا قيادات تطالب بالاستقلال والانفصال عن الدولة العثمانية أولا، فأوجدوا ظاهر العمر ودعموه وأعطوه ما يستطيع به أن يقاوم العثمانيين ليقطع أول جزء من بلاد الشام ليستقلّ به، وقد ساعده في ذلك على ما تذكر المصادر التاريخية الأسطول الروسي، وعلى الرغم من فشله في تلك الرؤية إلا أنها شكلت أساسا في وعي القيادات اللاحقة في زاويتين؛ الأولى فكرة الانفصال، وإنشاء دولة قطرية هزيلة لا مقومات حقيقية لحياتها، وفكرة التبعية الغربية لتكون القبلة دول الاستعمار القديم بريطانيا وفرنسا، ودولة الاستعمار الحديث أمريكا، والمنظمات الدولية من مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وغيرها، فيما بعد، فصارت التبعية سياسية واقتصادية وثقافية، وكلها تباركها القيادات الفلسطينية بكل فخر واعتزاز، بل وتدعو لها دون حياء من الله أو من عباد الله!!

 وهكذا فإن كل القيادات التي مثلت الشعب الفلسطيني بعد ذلك طالبت بما طالب به ظاهر العمر، وكانت رؤيتها في هذه المطالبة الاعتماد على بريطانيا وألمانيا (أمين الحسيني)، وأمريكا لاحقا عندما أصبحت لاعبا أساسيا ومهما في المنطقة العربية من الشرق الأوسط، وصار الاعتماد على هيئة الأمم المتحدة مطلبا وطنيا بارزا، تجند له الطاقات وتحشد له كل الإمكانيات، ولم يسلم من هذه العقدة حزب من أحزاب اليسار أو اليمين، إسلاميين أو علمانيين، فكلهم كان متوجها بفكره نحو موسكو أو واشنطن أو لندن، فأضاعوا النفس والأرض وضيعوا العباد وتركوهم في أوهام القيادات المناضلة.     

لقد مارست هذه القيادات ضد بعضها حروبا أدت إلى التصفيات الجسدية، وفي أحسن الأحوال الإهمال والمحاربة في القوت عدا ما تعرض له البعض إلى التأديب بإصابات غير مميتة تحذيرا وتوجيهاً لرسالة شديدة اللهجة، وليس بمستغرب أو مستبعد أن بعض القيادات من الصف الأول في أحزابنا الفلسطينية قد تمت تصفيتها بقرار من أعلى شخص يمثل هذا الشعب، وما أسهل التبرؤ من تلك التهمة، فالشماعة جاهزة ومعدة جيدا، فـ"إسرائيل" هي من اغتالت هذا أو ذاك، وبعدها تصدر البيانات والكتب الممجدة لتلك الشخصيات وتسرد على مساكين الشعب السيرة النضالية لهذا القائد أو ذاك، إنها سنة مؤكدة في عرف السياسة الفلسطينية وخوازيقها، والأمثلة كثيرة، لا داعي لأن ننبش عظام الموتى، فبالتأكيد لو أنهم كانوا في موقع القاتل لأحدثوا الخراب نفسه وربما بصيغة بلاغية أشد وضوحا، فالعقلية واحدة، عقلية الدكتاتور والفرعون وعقلية ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الشقاء والتردي والموت والهاوية المفتوحة على الهباء والخواء والضعف الأبدي.

لا تظنوا أيها السادة أن الشعب مسكين أو أنه لم يفهم اللعبة، لقد أدركها والله وعرف دقائقها، ولكنه لم يكن مستعدا لأن يخطو الخطوة الأولى نحو التخلص من تلك القيادات، بل بقي يصفق لها في العلن، وفي سره يلعنها ويلعن ذلك اليوم الذي أصبح فيه فلان زعيما أو قائدا، ولم يكن مستعدا للتنازل عن بعض الفتات الذي يأتيه من القادة الصغار المرشحين لمناصب أعلى، فظل مخدرا بتلك الأوهام عسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده، فقد أتى الفتح العظيم بالخراب الكبير، وتربع الشعب على خازوق شكّ جسده كله حتى خرج من رأسه، وبقي ضاحكا مسرورا، فمن رضي بالخازوق فليبارك الله له فيه، وليكن أكبر وأعظم في المرات القادمة!!