"المكونات" ولعبة الكشاتبين

"المكونات" ولعبة الكشاتبين ...

وبعض الحكاية مع المجلس الوطني

عقاب يحيى

ونحن صغار كانت تثير دهشتنا تلك اللعبة : الكشاتبين، أو الورقات الثلاث.. حين يقوم "لاعب" مختص يتعيّش منها بتدويخ " الضحايا" وهو يسرق أموالهم بطرق" نزيهة" حيث يقوم أمام أعينهم بتحريك كرة صغيرة تحت كشاتبينه الثلاث، أو أوراق اللعب المعروفة وهو يجعلك ترى" بأمّ عينك" وجودهما قبل التحريك..وغالباً ما يكون لديه بعض الشركاء الذين يبيعون الربح وهماً وهم"يكتشفون" مكان الكرة الصغيرة، أو موقع الورقة المعنية، وهو يسلمهم البملغ" المغري المتفق عليه، جاذباُ بذلك عديد الحالمين بالربح السهل.. ولكن هيهات.. فاللاعب غشاش يتقن إخفاء الكرة والورقة، والضحية يصعب عليه كشف الملعوب.. وقد احتجنا زمنا، وشيئاً من "فتح العين والمخ" كي ندرك أن الكرة يخبئها تحت إظفره، والورقة يضعها في كمّ سترته..

ـ من سنوات درج مصطلح" المربع الأول" ولعل كثيرين يرددونه دون معرفة أصله وفصله، ولعلي منهم، وأنا أتأمل ماذا يعني المربع الأول، ولماذا لم يقولوا المستطيل الأول، أو الدائرة، أو شبه المنحرف، وأيضا يحتاج المرء إلى وقت ليدرك القصة ..

ـ مع الثورة السورية درج ـ مثل الماء ـ مصطلح المكونات على لسان جلّ السوريين، خاصة المعارضين منهم. سأترك الجانب المقصود بالمكونات الدينية والمذهبية والقومية والإثنية والعرقية، و .. وسأقف عند ما يعرف بالمكونات السياسية ودخولها ميدان المبارزة، والبازارية، والمحاصصة، وهات يا نفخ، وهات يا تضخيم، وهات يا تقزيم.. وسأخصّ منها حالة المجلس الوطني السوري..

ـ فجأة.. خرج" مكون" اسمه جماعة استانبول، وبغمضة عين أعلن عن تشكيل مجلس وطني معظم أشخاصه غير معروفين في عالم المعارضة.. رغم العقود الطويلة لحكم الطغمة. وفجأة صاروا حقيقة كالأمر الواقع، وفيهم ما يقال عن الحراك السوري الذي بات مثل متاهة لا يعرف المرء أولها من مخرجها، وهل هؤلاء، وغيرهم هم فعلاً لهم علاقة بالداخل والحراك على الأرض، ام مجرد حراك فيسبوكي، واختلط الحابل بالنابل، ثم زاحمت مكونات، بعضها حقيقي، وبعضها جديد المنشأ، وبعضها نعرف حجمه وحقيقة وجوده لتشكيل ما يعرف ب"أعمدة المجلس" الذين تقاسموا المواقع في الأمانة العامة والمكتب التنفيذي، ثم صاروا" قدر" المجلس وأصحاب القول الفصل الذين يمسكون مفاتيح جنة الدخول إليه، أو التحجيم .

ـ بعض المكونات معروفة بتاريخها في المعارضة، وبوجودها الحقيقي على الأرض، بغض النظر عن المبالغة في ما يطرح عن ذلك الوجود الذي نعرف الكثير عنه، وبعضها نفخت فيه العوامل كموج الريح العاصفة فصار بين عشية وضحاها مكوناً، ورئيساً أيضاً..يشترط على غيره، ويقرر، ويفصّل..

ـ هنا أذكر حادثة طريفة.. جرت معنا عام 1989 حين تشكلت في مؤتمر عقد في جنيف تحت عنوان" التضامن مع الشعب السوري والفلسطيني واللبناني" لجنة من المعارضين السوريين بهدف البحث في قيام جبهة عريضة واسعة، واستضافتنا منظمة التحرير في تونس بترحيب من الرئيس الشهيد أبو عمار، ونحن نضع أسس الجبهة، ومنها مبدأ التكافؤ والمساواة بين جميع الأطراف(قبل اكتشاف واستخدام مصطلح المكونات) تحقيقاً للديمقراطية، ومنعاً للمبالغة في الحجوم الموهومة.. اعترض بشدة المرحوم، الشاعر أحمد سليمان الأحمد، أخ بدوي الجبل، لأن حزبه العرمرمي منتشر في جميع قرى ومناطق سورية ولا يمكن ـ أبداً ـ ومع التشديد على أبداً ـ أن يقبل مساواته بحزب صغير..علماً أن ذلك الحزب العرمرمي كتبت فكرته ووثائقه على طاولة في مقر" التحالف الوطني لتحرير سورية" في بغداد لغايات معروفة عند السوريين والعراقيين، ولم يتجاوز حجمه كمشة من المنتفعين .

ـ اليوم، وعبر لجنة ما يعرف بإعادة الهيكلة.. يتنطح البعض لوضع شروط على الآخرين، ومعظم هذا البعض لم تنبت شعر لحيته المعارضة سوى بالأمس، وما زالت زغباً لدى البعض.. بينما هناك من أمضى عمر العمر في أحضان التلفيق والتصفيق للطغمة.. وإذ بذلك البعض يشترط، ويخيط، ويقص كي يمنح بركاته بالموافقة على مشاركة" المكونات الصغيرة" بالحصة التي يقررها هو، ووفق ما يتحدث عن شروط موضوعة لم تعرف الثقوب ولا العيوب، ولا التدخلات الجانبية، والعلاقات الشخصية، وغيرها مما نعرف.., وإذ، مثلاً، تصبح الكتلة الوطنية الديمقراطية السورية مكوناً صغيراً.. لا يستأهل أكثر من بضعة أنفار يكملون ما يعرف بالتوسعة.. والبعض يعتقد أن لعابنا سيسيل على هذا الكرم الذي يغرقنا به ذلك البعض..

ـ لن نحتاج إلى النفخ والتوريم، ولا إلى استعراض تاريخنا.. وبطولاتنا، ودورنا.. كما يفعل كثير الاستعراضيين.. الذين ما زالت رائحة الجدّة تبخّر وجودهم ومقاعدهم، ولن نتحدث عن التصنيع في المكونات، ودور المال السياسي في عقد المؤتمرات الكبيرة، وتشكيل التيارات والقوى والمكونات.. وغيرها ..لأننا بالأصل لم نعمل لأجل هكذا أهداف، ولم يكن المجلس الوطني طموحاً، وهدفاً، وحلماً، ونيشاناً، ووساماً. لقد تعاملنا بمسؤولية وجدية مع فكرة وجود ممثل حقيقي للثورة السورية يحمل أهدافها ومطالبها ويسعى إلى تحقيقها، فدعمنا الفكرة، وشاركنا جزئياً في عضوية المجلس، وعندما أعلنت الكتلة الوطنية الديمقراطية تأسيسها الرسمي، وخاضت حوارات طويلة لوحدة المعارضة، وتقدمت بمشروع رؤية مشتركة لاقت قبول الأغلبية، والتي كانت ستقدم كمذكرة مشتركة للجامعة العربية.. رفضنا الدخول في بازار المحاصصة، وحين التقينا أواخر الشهر الأول بالمكتب التنفيذي في القاهرة أبلغناه أن اهتمامنا منصّب على مهمات الكتلة ووضع برنامجها على سكة العمل، وأن مشاركتنا في المجلس ستأتي لاحقا.. وأجابنا الدكتور برهان ـ رئيس المكتب التنفيذي ـ آنذاك ـ بأن هذا حقكم، وأغمضنا العين عن هذا الحق نتيجة تقويمنا لمسار وبنية المجلس، حيث وجدنا أنه يعيش أزمة بنيوية وصفناها بصراحة، وعلناً بأنه وُلد مشوهاً، والخوف أن يكون التشوه عصياً على العلاج. وانطلاقا من روح الحرص على المجلس وتطويره تقدمنا منذ خمسة أشهر بمذكرة طويلة حللنا فيها واقع المجلس وأزمته، واقترحنا ما نراه ممكنا للخروج من الأزمة، والتقينا، عبر مؤتمر المعارضة في استانبول بالدكتور برهان، وبالعديد من أعضاء المكتب التنفيذي وتحدثنا بكل وضوح عن رؤيتنا واقتراحاتنا.. لكن لا حياة لمن تنادي لأنه لا وجود لمؤسسة تدرس وتناقش وتحاور وتقرر.

ـ وحين تداعى عدد من المخلصين إلى تشكيل لجنة تضع خارطة طريق لعلاج أوضاع المجلس والثورة ، وكان منها رئيس الهيئة التنفيذية في الكتلة، ثم صدر قرار إداري من رئيس المكتب التنفيذي باعتمادها فيما عرف، ولو مجازاً ب"لجنة العقلاء"، أو "الحكماء" من عشرة أعضاء.. واجتمعت أياماً تضع تصوراتها ومقترحاتها.. وحين سافرت إلى استانبول .. ألقي بها جانباً ككبش فداء للخلاف داخل المكتب التنفيذي، خاصة مع الدكتور برهان، وتم تشكيل لجنة من " المكونات" المعتمدة في المجلس، عملاً بشطر بيت الشعر" وداوني بالتي كانت هي الداء"، بما كان يعني أنه لا توجد نيّة حقيقية لإصلاح المجلس وإعادة هيكلته جذرياً، بل القيام بعملية ترقيعية وتجميلية، وتوسعة شكلية من بعض " المكونات الصغيرة" وقد اعتبرنا البعض من ذلك البعض أحدها  علنا نوافق فندخل لعبة الكشاتبين في عمر لم يعد يسمح بأن تنطلي علينا أسرار تلك اللعبة.

ـ نعم نحن مع المجلس الوطني باعتباره أهم تشكيلات المعارضة القائمة، ومع إصلاحه، وتطويره، ودعمه، ورفض تهديمه.. وكثير مما قلناه وكتبناه، ومع استمرار علاقات التفاعل معه.. لكن لا يعني ذلك أن وجودنا فيه، أو خروجنا منه هو المقياس والمحدد لتلك العلاقة، كما أن موقفنا لا علاقة له البتة بأية حصة، لأننا لو قررنا المشاركة فعلياً فلن نقبل إلا أن نكون "مكوناً" رئيساً مثل بقية المكونات المعتمدة لا أكثر ولا أقل، كوننا في حقيقة الأمر، ومن حيث الكفاءات والقدرات والتاريخية والتوزع الجغرافي، والعدد، وحتى ما يسمونه ب"المكونات" نمتلك كل المقومات التي صنفوها شروطاً لحساب حجم المكون الرئيس..

ـ الموقف أبعد من ذلك، لأنه يرتبط بنظرتنا لواقع المجلس وحقيقة الإصلاح فيه، وتقديرنا لمستوى الجدية عند أصحاب القرار فيه على القيام بعملية هيكلة فعلية وتكريس الانتخابات والديمقراطية أسلوباً ونهجاً.. والذي هو، على كل حال، رهان المتفائلين على اجتماع الهيئة العامة التي نأمل أن تكون عند حسن توقعاتهم فتقوم بالممكن الضروري..والذين سيواجهون حقيقة النتائج لاتخاذ الموقف الذي يمليه عليهم الضمير الوطني، وما يرفعونه من شعارات ..