قراءةٌ في المشهد السوري في ضوء تداخُل خَيارات الحلّ

قراءةٌ في المشهد السوري

في ضوء تداخُل خَيارات الحلّ

محمد عبد الرازق

بالنظر في الحلول المتداولة للخروج من الأزمة التي يشهدها المشهد السوري؛ نجد أن الأمر لا يعدو أحد حلول ثلاثة، هي:

1ـ أن يمسك النظام بزمام الأمور، و يبسط سيطرته من خلال الحل العسكري الذي مضى على الشروع فيه ما يقرب من عام، و ما تزال الحال على غير ما يريد ( الأسد )؛ ففي كل يوم تقلُّ فرص المناورة لديه، و هو الأمر الذي بات يشعر به حلفاؤه، و مناصروه في الداخل و الخارج. فلقد بِتْنا نصحو كل يوم على مزيد من الانشقاقات؛ التي أضحت تطال كبار القوم، و كان آخرها خروج العميد مناف طلاس إلى فرنسا، و انشقاق العميد عبد الرحمن الطحطوح ( رئيس فرع الأمن السياسي في دمشق )، و التحاقه بكتائب الصحابة . و هناك لائحة من الضباط الذين تظهر صورهم على المحطات وهم يعلنون انشقاقهم عنه، في مشهد يتكرر يوميًا. يطول الوقوف عندها.

 هذا فضلاً على موجة انشقاق السفراء؛ الذين عرف منهم لحدّ الآن كلٌّ من: نواف الفارس ( في العراق )، و فاروق طه ( في روسيا البيضاء )، و رياض نعسان آغا ( في سلطنة عُمان ).

 و يذكر في هذا الصدد أيضًا انشقاق محمد حبش ( النائب السابق )، و الحبل على الجرار في الحقل الإعلامي، و قوى الأمن الداخلي.

و بالطبع فإن سرد إحصائية الخسائر اليومية للنظام أصبحت تطول، و تطول لدرجة أنه أصبح من الصعب معها جردها في كل حديث يدور حول ذلك.

الأمر الذي جعل حلفاءه يفكرون في البدائل الممكنة بعده، و في النهاية المتوقعة له. فهوشيار زيباري و حكومة المالكي ليسا على الحياد فيما يجري في سورية، و هما مع تمكين الشعب من حقوقه المشروعة، و زيباري يتوقع له القتل، و هو يلقي باللائمة في مساندته على إيران، و ليس على العراق.

و الحال مع الصينيين باتت قريبة من التفكير في إيجاد مخرج من هذه الأزمة، بحسب تصريحات وزارة الخارجية الأخيرة. أمَّا الروس فعلى ما يبدو أن ما عُرِضَ عليهم ما زال دون المطلوب، و هم في انتظار ذلك.

و ليس معنى ذلك أن ( الأسد ) سيستسلم لقدره، و يضع الحبل في رقبته بهذه السهولة؛ فهو قد أعدَّ العدة لحرق البلد إذا خلت منه، و لا أدلَّ على ذلك من تصاعد الحملة العسكرية في الآونة الأخيرة، و تكرار مشهد المجازر بحق المناطق المنتفضة، و آخرها ما كان في ( التريمسة ).

لا بل إن هناك من بدأ ينظر بطرف عينه إلى ما يمكن أن يقدم عليه الأسد في الساعات الأخيرة من عمره؛ إذْ إنه قد يقدم على الزج بترسانته البيولوجية في حربه مع السوريين، و كان الأسد ( الأب ) قد قام به، حينما ألقى بحمم هذه الغازات على مدينة ( حماة ) في الثمانينات. و هو الأمر الذي تخشاه الدول المعنية بالشأن السوري؛ فهو قد يؤدي بالأمور إلى الخروج عن السيطرة على هذا النوع من الأسلحة؛ ممَّا يعني إمكانية وقوعه في أيدٍ تخشاها إسرائيل، و لذلك كان الحفاظ عليه في صلب مباحثات ( بوتين ) مع قادتها في زيارته الأخيرة لهم.

و لهذا أيضًا سارعت أمريكا إلى استنفار استخباراتها لمراقبة التحركات التي رصدت لنقل بعض من هذه الترسانة التي تعدُّ سورية الأولى في امتلاكها على المستوى العربي.

2ـ أن تسوق أمريكا، و حلفاؤها من الغربيين ، و النظام العربي الرسمي( الأطراف الفاعلة في الجامعة العربية ـ دول الخليج على وجه الخصوص ) للحلّ الذي يفرض رؤيتها على أرض الواقع. و تتمثل صورة هذا الحل في التغيير بتغييب الأسد، و أركان حكمه الأساسيين عن المشهد، مع القيام بعمليات تجميلية تبقي على شكل الدولة الحالي؛ الأمر الذي يضمن الاستقرار في المنطقة، و لا سيما للجارة الجنوبية التي باتت طرفًا أساسيًّا يؤخذ رأيه في شكل الحل القادم، في حال أنهم وجدوا أن صلاحية ( الأسد ) قد انتهت.

و قد تكفلَّت دول عدة بالتسويق لهذا الحل في كل المبادرات التي كانت، و لا سيما ( مجموعة أصدقاء سورية )، و لا تعدو خطة ( عنان ) أن تكون جزءًا من هذا الحل؛ فهي بمثابة إدراة للأزمة إلى أن تتهيأ الظروف المناسبة له.

و يبدو أن الدول الداعمة لهذا الحل تجمعها مشارب شتى، فدول الخليج يعنيها بشكل أساسي التخلص من الأسد، بغض النظر عن الجهة التي تتكفل بذلك؛ فهي من جهة ترى في تسليح الجيش الحر فكرة ممتازة، و وعدت بتقديم مبالغ مادية شهريًّا له، و قد كان شيء من ذلك ( دفع مرتب شهر واحد فقط، و وصلت كميات شحيحة من الأسلحة الفردية الدفاعية)، و هو الأمر الذي يفسر على أنه إبقاءٌ شعرة معاوية معهم، فلا هم ينجزون به مشروعهم المستقل، و في الوقت نفسه يمكن أن يُستَثمر ما يحققوه من مكاسب ميدانية في إعطاء فرص للحل الأمريكي ليغدو أقرب إلى التطبيق من مشروعهم هم.

و حتى تيار المستقبل في لبنان نراه قد اكتفى في دعمه لهذه الثورة بالمواقف السياسية، و كان بوسعه أن يثأر لإسقاط حكومة الحريري بتدخل من الأسد، و يرد له الصاع صاعين، بيدَ أن ميلَه لهذا الحل قد حال دون ذلك، و ترك أعمال الإغاثة للفعاليات الشعبية، و الجماعات الاسلامية هناك.

 هذا، و إنَّ أمريكا، و معها حلفاؤها الغربيون، و لا سيما فرنسا. لم تألُ جهدًا للخلاص من الأسد، و لكن على طريقتها هي، و في الوقت المناسب؛ الذي باتت الجارة الجنوبية هي الضابطة لتوقيته، فلا ترضى من الأمر بأقلَّ من تدمير سورية ( شعبًا، و مقدراتٍ ). و بذلك تضمن خروجها من المعادلة على غرار ما كان في العراق.

و أمريكا من أجل إنجاح مشروعها هذا لا تألوا جهدًا في البحث عن الأطراف، و الجهات الداعمة له من المعارضة، و يبدو أن هناك أطراف عدة منهم تتناغم معه، سواء من المجلس الوطني ( بسمة قضماني، رضوان زيادة، و أحمد رمضان، و أسامة المنجد، صاحب قناة بردى، سبق أن قدمت له أمريكا مساعدة بقيمة أربعة ملايين دولار، ضمن برنامج تحرير الشعب السوري )، و هناك من يرى في إقصاء برهان غليون عن رئاسته بسبب قربه من الإخوان المسلمين، و دعمه مؤخرًا لتسليح الجيش الحر، الذراع الطولى في المشروع الوطني للحل. و أمّا من هم من خارج المجلس فهم أكثر من أن يُحصَوا( منهم: ميشيل كيلو، و سمير العيطة، و حازم النهار، و جلّ أعضاء هيئة التنسيق). و يجمع هؤلاء على شتى انتماءاتهم الخشيةُ من هيمنة الإخوان المسلمين على المشهد مستقبلاً. و هم مضطرون في هذه المرحلة لمدّ يدهم  إليهم كونهم الرافعة الأقوى في الحراك المتنامي على الأرض ماديًّا، و تنظيميًّا. فهم المساهمون الأساسيون في مكتب إغاثة الداخل، و لديهم تجربة قتالية، بدأت تظهر بعض نتائجها الآن من خلال الاستعانة بخلاياهم النائمة في الداخل).

و يبدو أن التوجسات من الإخوان مستقبلاً دفعت بأطراف خارجية أيضًا للتعامل مع القضية السورية بشيء من الحذر الشديد، و هي في المحصلة النهائية جزء من هذا المشروع، و تزِنُ ما تقدمه للثورة السورية من دعم مادي، و سياسي في الميزان الذي يُمسك به رعاة هذا المشروع، فما يقدم من هذه المعونات لن يسمح لآثاره أن تتعدى مرحلة إضعاف الأسد بانتظار الوقت المناسب لإسقاطه وفق رؤيتهم. و بالتالي لن يقطف ثماره أصحاب المشروع الوطني. فهم بعض تفاصيله، و ليسوا رافعته الأساسية.

و فيما يظهر بحسب التحركات الجارية حاليًا أن رعاة هذا المشروع قد عثروا على بعض أدواته، فيأتي في ذلك موضوع انشقاق العميد ( مناف طلاس )، و بعض التحركات لكبار الضباط المنشقين، و لا سيما ما يطلق عليه ( القيادة العسكرية المشتركة )، و يمكن أن يصب في ذلك أيضًا موضوع انشقاق بعض السفراء، و رجال الأعمال، و البرلمانيين، و كذا ما ذكرته وسائل مصادر أمريكية عن انشقاق مقربين من الأسد لم يتم الكشف عنهم بعد.

3ـ أن يفرض المشروع الوطني رؤيته للحلّ، و هو المشروع الذي يقوم على كاهل الحراك الداخلي بشقيه ( السلمي، و العسكري )، و قد أصبح له الكلمة العليا في الميدان بعدما قويت شوكة كتائب الجيش الحر، و فرض سيطرته على نحو نصف سورية، و امتلك من العدد، و العُدَّة ما أصبح يمكنه من حماية الحراك السلمي، وأخذت رؤيته تتبلور شيئًا فشيئًا؛ لدرجة جعلت الآخرين يخطبون ودّه، و يدعونه لحضور المحافل الدولية على غرار ما كان في مؤتمر أصدقاء سورية في باريس. و حتى طهران أصبحت بفضل أدائه تدعو المعارضة للحوار، و التباحث بشأن إيجاد مسعى للحل.

و إنَّ الداعم الأساسي له هي تركيا ممثلة بحكومة ( أردوغان )، و معه عموم الأحزاب الاسلامية، و القومية. ما عدا الأحزاب المتعاطفة مع الأسد بحكم الانتماء الطائفي ( من أبرزها حزب الشعب الجمهوري)، و حزب العمال الكردستاني المعروف بعلاقاته أيضًا معه.

هذا و قد أكسب ذلك حكومة العدالة و التنمية مزيدًا من التأييد، و تشير آخر استطلاعات الرأي التي  أجريت منذ أيام إلى أنه إذا جَرت انتخابات الآن في تركيا فإنّ الحزب سيفوز بما يقرب الـ50 في المئة من الأصوات، فيما أبرز منافسيه سيحصل على قرابة 25 في المئة في أحسن الأحوال.

و تجدر الإشارة ههنا إلى أن عددًا من الدول العربية التي آزرت تركيا في موقفها هذا، قد انكفأت قليلاً تماشيًا مع الرؤية الأمريكية في الحل المشار إليه آنفًا. و قد تجلَّى ذلك تخلي الجامعة العربية عن أي قرار يدعو لحماية السوريين على غرار ما كان في ليبيا، و هو الأمر الذي انتظرته تركيا لفرض مناطق حظر آمنة تمكِّن المعارضة السورية من حماية نفسها من تغوّل الأسد في ملاحقتهم حتى في مخيمات النازحين .

و قد اشتكى وزير الخارجية التركي مرارًا من هذا التقاعس لجامعة الدول العربية، لا بل ظهر أثر ذلك لا حقًا في الفتور في التعاطي مع الملف السوري وفق الرؤية التركية، لدرجة أن تركيا شعرت أن هناك من يرغب في جعلها في فوهة المدفع، و حربة بلا رأس. و هو الأمر الذي تخشاه حكومة العدالة كثيرًا، و تتردد بشأنه؛ لأنه يخدم مخططات الأسد، و المعارضة الداخلية في زجها بحرب لا غطاء لها عربيًّا، أو دوليًّا.

و تركيا معذورة في هذا التباطؤ في التدخل في الملف السوري؛ فقد أظهرت الأزمة السورية أنّ هناك ثغرات خطيرة في السياسة المعتمدة في أمن الطاقة لدى تركيا، إذ لا يمكن لها أن تكون دولة قوية إقليميا في ظل اعتماد شبه كامل على الامدادات الخارجية من الطاقة للبلاد، ولا سيما الغاز منها . فروسيا على سبيل المثال تزوّد تركيا بنحو 60 في المئة من حاجاتها من الغاز، و بنحو 30 في المئة من النفط، فضلاً على الغاز الوارد من إيران. وقد حدّ ذلك بشكل ملحوظ من إمكان المناورة التركية في الملف السوري، ومن إمكانية اتخاذ مواقف جريئة في وجه موسكو نظرًا لحساسية الموضوع.

لا بل إنَّ أنصار العدالة، و التنمية ليسوا على رأي واحد في التعاطي مع الملف السوري؛ فلقد أشارت مصادر مطلعة إلى انقسامهم على ثلاثة أقسام رئيسية:

 ـ الأول: مؤيد لسياسة الحكومة في ما يتعلق باستضافة اللاجئين، ودعم المعارضة السورية مع ضرورة عدم التدخّل المباشر في الأزمة، على أمل أن يسقط النظام السوري من تلقاء نفسه جرّاء الأحداث.

ـ الثاني: موافق على سياسة الحكومة إزاء سورية، ومتحفز لدعمها إزاء ضرورة التدخل في الأزمة السورية؛ لمساعدة الشعب السوري للتخلص من بشّار الأسد، مع تحبيذها أن يكون ذلك عبر مشاركة المجتمع الدولي، وعبر الشرعية الدولية. ولكنها لا تمانع أن تقوم تركيا بذلك منفردة إذا تطلّب الأمر.

ـ الثالث: يرفض التدخل التركي في سورية، وهي شريحة لها ما يشبهها في العالم العربي؛ فهي تعتبر أنّ مثل هذا التدخل ضد النظام السوري إنما سيؤدي إلى إضعاف المعسكر المعادي لإسرائيل.

إنَّ الرافعة الأساسية لهذا المشروع الوطني هي عموم أبناء الشعب السوري، و هم في غالبيتهم من أبناء الطائفة السُنيَّة ( عربًا، و كردًا، و تركمان، و شركسًا، و شيشان)، و معهم نسبة كبيرة من الطائفة الدرزية، و لاسيما من يؤيد منهم مواقف الزعيم اللبناني الدرزي ( وليد جنبلاط )، و قلة من مثقفي الطائفة العلوية، و من المسيحيين.

و بناء عليه فإن وصف الحراك الشعبي بأنه ( سُنّي ) المذهب، أمر يأتي في سياقه الطبيعي؛ نظرًا لنسبة الثمانين بالمائة التي هي نسبتهم في سورية. و لا يمكن في أية حال من الأحوال أن يوصف المنادون بهذا المشروع بأنهم من أتباع التيار الديني، و لا سيما جماعة الإخوان المسلمين، على الرغم من كونها الداعم الأول له ماديًّا، و معنويًّا؛ للأسباب المشار إليها من قبل.

و عليه فإنَّ الهواجس التي يتخوف منها الليبراليون، و العلمانيون من عموم الطوائف، أو التي يبديها من يدعي الحرص على أبناء الديانات الأخرى، أو الطوائف غير السُنِّية أمر غير مبرر، و هو كمن يقاتل في ساحة لا معركة فيها، بل لا خصمَ فيها أصلاً, و هو في مسعاه هذا يمارس الإرهاب و الاضطهاد على الأكثرية بحجة حماية الأقلية. و هو أمر تأباه مبادئ الديمقراطية التي يدعون إليها، و يناضلون لتجسيدها في سورية المستقبل.

و عليهم أن يعطوا أبناء سورية حرية التفكير، و حرية اختيار النهج الذي يرَوْن صوابه؛ فهم قد شبُّوا على الطَوْق، و بلغوا مرحلة الرُّشد؛ التي تؤهلهم ليكونوا أحرارًا، بعد سنين قضوها، كانوا فيها قُصَّرًا في عهد الأسد ( أبًا، و ابنًا ).