الشخصيات الهاربة من مستقر الرحمة إلى درك العذاب

وخزة ضمير (13)

الشخصيات الهاربة من مستقر الرحمة

إلى درك العذاب

فراس حج محمد /فلسطين

ferasomar@maktoob.com

شيءٌ ما يشبه كلام الروايات، ويستعير من خيال مؤلفيها بعض الرؤى والمعاني، لعلها تساهم في حمل النبض والألم والوجع الهارب من تلافيف الذاكرة المحنطة، ليصطدم بواقع تنعب فيه الغربان، وتسرح فيه الفئران، ويعلو فيه التافه والجبان، ويخفت صوت الملائكة لتعلو أصوات الشياطين، وتصبح الصناديق الفارغة مفاتيح للأوهام الناشفة كغصون شجرة زيتون تسلط عليها أعداؤها فحروقها وجففوا الندى الذي يحاول أن يبلل عروقها ببعض ماء!

رحم الله الشاعر الطغرائي، الذي اكتوى بنيران واقعه، فعايش الخواء والهواء والغباء والسفاهة والدناءة، ما جعله يقول نافثا روحه مع أبيات قصيدته المسماة لامية العجم، التي يقول فيها:

ما كنتُ أُوثِرُ أن يمتدَّ بي زمني

حتى أرى دولةَ الأوغادِ والسّفَلِ

تحاصرك الأسماء ومسماياتها، فتحتار بم تصفها، تتجمد اللغة وتتيبس المعاني، وتفقد روحها الحروف، لا تجد من الألفاظ والجمل والتراكيب ما يشفي صدور الكتاب والمكظومين غير العافين عن البلادة في أسوأ انحطاطاتها البشرية، تهرب الجمل لتتلفع أثواب المجاز فتخسر  وخزتها الحادة، وتعود لتكشف عن أعصاب الخراب، فيصاب الكاتب بالعُصاب، تمتلئ النفس بحقد كتابي مر، لا تشفيه أغاني المغنين ولا شجو الملحنين، فترى تصلب الدم في شرايين الجنون!!

هذا هو واقع من اكتوى بالنار، وغمس كل جوارحه فيها، وأدرك بحسه وعقله أن الجنون رتبة عقلية خاصة غير ممنوحة إلا لمن رضي الله عنهم، ليكون شفاءهم من هذا السبخ الفاضح  الملطخ لنضرة الحياة، فترى وقد اربدّت بكل أوحال الطين، فغاب الشكل والمضمون، ولم تعد إلا هلاميات متحركة في فضاء لولبي تسير على حبال الأكروبات!!

تضطرب النفوس بما لديها، وتفزع إلى مشخصاتها الفكرية والروحية، تستنجد بالخيال والرؤى وأضغاث الأحلام، فتعود والهة تفتش عن أدلة جديدة، عطشت من صحارى الروح، ونفد الماء  الصراح، وحل الكدر والطين في مياه الطهارة والنقاء، تحاول أن تسير كما تسير الحياة، فتصطدم بجدران الفصل العنصري بين الذات والذات وبين غرفات القلب الواحد، فينقلب البصر وهو حسير، يعاني من الكلالة والوحدة والهوان والضيم والتشرذم.

يا له من نفث جنوني في واقع أشد جنونا، فهل تتوقعون أن نكون عقلاء وقد انقلبت الموازين في ظل سريان الوهم في رؤوس الضالين المضلين، "ربنا إننا أطعنا سادتنا وكبراءنا فأضلونا السبيلا، ربنا آتهم ضعفين من العذاب والعنهم لعنا كبيرا"، جزاء ما أشاعوه من خراب في أرواحنا، فأفسدوا طهارتها ونقاوة أصلها وصفاء معدنها!!