دمشق في المعادلات العربية والدولية

د. ضرغام الدباغ

[email protected]

محنة النظام السوري تكمن أنه لا يريد أن يفهم أن العالم قد تغير، فيغمض عينيه عن رؤية حقائق مادية ملموسة، ويصم أذنيه عن سماع النصائح والمقترحات، وإن حدث أن تعامل معها، فذلك من أجل مزيد من المماطلة، واللعب على الأوراق، ولكن في الواقع أن حصيلة كل ما يفعله هو أنه يغطس أعمق فأعمق في أزمته التي لم يعد الخروج منها من الاحتمالات المنظورة، والنظام يعتقد أنه توصل بذكاء وعبقرية بربط مصيره بمعادلات محلية داخلية وعربية وعالمية.

ففي الداخل يطرح نفسه أنه الخيار الأوحد، فيمضى بعيداً ويستمرئ اللعب بالأوراق الطائفية، وهو يدرك أن هذه الأوراق غير مشرفة، تحرق من يدخلها في حساباته أو يلعب بها، إلا أن النظام يستعرض خطورتها، على نحو أبتزازي: أنا أو جهنم الطائفية.

بعض أركان النظام لا يخجل من التباهي بأن استمرار وجود النظام ضروري لضمان أمن إسرائيل، يقولها بهذه العبارة أو تلك ليلعب على أعصاب الولايات المتحدة والغرب، ويطرح نفسه مبتزاً هذه المرة أيضاً ضرورة استمرار وجوده، وبندرة لا مثيل لها في اعوجاج المنطق، يعتبر فشله في استعادة الأراضي السورية المحتلة ممانعة ... بل هو يسوق ويتاجر  بمواقف على هذا الأساس، ولا يقول لنا ما هي هذه الممانعة، أيعتبر النظام امتناعه عن استعادة الأرض ممانعة ..؟ وإن كان النظام يعتقد أن ذاكرة الناس يمكن أن تنسى، إلا أن الصور والفيديو تنشط الذاكرة، فهم اجتمعوا مراراً وتكراراً سراً وعلانية حول موضوعات عديدة ابتداء من اتفاقية فض الاشتباك في جنيف، إلى مدريد، إلى الاجتماعات السرية والعلنية التي أدت لأتفاق رابين.... ولكن النظام يعتبر ذلك ممانعة باستخدام مطاطي سحري ساذج لهذه الكلمة التي سترتبط بهذا النظام.

النظام يدغدغ هواجس الولايات المتحدة والغرب بتوزيع التهم على المتطرفين والإسلاميين والسلفيين، ثم يبلغ ذروة مجده عندما يتهم القاعدة بإدارة عمليات في سوريا، النظام يقول للغرب، أنا أفضل من يفهمها، دخلنا لبنان بإشارة، وانسحبنا منها بنصف إشارة، ذهبنا لحفر الباطن كما شئتم، ولم يبدر منا ما يكدر الخاطر، لا تجازفوا برؤية غيرنا في سدة الحكم.

النظام أعتبر لأسباب عديدة، سياسية / اقتصادية / طائفية أن النظام الإيراني حليف أساسي له، عندما أدرك النظام السوري أن إيران الخمينية تعمل بهارموني سياسي مع الغرب منذ وصولهم الحكم، بل هم في حلف وثيق سري وعلني مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما أستحق لأن تقدم  لهم دمشق قلعة العروبة مساعدات ثمينة في حربهم ضد جناح العروبة في العراق، ثم أن التحالف مضى يتعمق بفعل العقد والأزمات الداخلية، لدرجة أن فقدت دمشق شخصيتها حيال نظام الملالي في إيران، فلم تعد سوى جرماً يدور في فلكها وسياستها التوسعية العاملة بالتحالف مع الولايات المتحدة وإسرائيل، وذراعها في العالم العربي، وقاعدة لنشاطها التخريبي، ثم تمضي أكثر من ذلك، فتتحول إلى قاعدة للإرهاب الإيراني عندما تكتشف دول خليجية أن عناصر مخربة تلقت تدريبها في دمشق.

لم يسبق لدول عربية تقدمية كانت أو رجعية، ملكية أم جمهورية أن عقدت تحالفاً أستراتيجياً بهذه الدرجة من العمق مع نظام أجنبي، ولا سيما مع نظام يجعل من معاداة البلدان العربية في مقدمة أهدافه، بل لا هدف آخر له سواه، وذلك ما حدث وتجذر بعد وفاة الرئيس الأسد الأب الذي كان يقود هذه السياسة السورية بحكمة ودهاء، ولكن في عهد الأسد الابن، غدت دمشق تابعة للنظام الإيراني بشكل يدعو للأسف حقاً، في تحالف تقوده إيران دون أدني درجة من التكافؤ في العلاقة، وانغمست جراء ذلك في مشكلات عديدة في المنطقة وخارجها، ومنها دورها في لبنان، الذي أوصلها إلى المحكمة الدولية بشأن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الحريري، المسلط كالسيف، على مواقع سيادية وعناصر مهمة في النظام.

النظام يقول للروس، أنا الوحيد من يفتح لكم الموانئ، وإذا سقطت فلن ترسو سفنكم في ميناء، متجاهلاً أن صفقات تدور هنا وهناك، فوق وتحت الطاولات، ووراء الكواليس تنجم عنها اتفاقات تتنازل حتى  بمغادرة كريمة لرئيس النظام.

في ذلك لا تعاب الدبلوماسية السورية، لأن من يقود السياسة الخارجية ليس الجسم الدبلوماسي السوري، فهي سياسة محكومة بتأثيرات وتداعيات التحالف المشؤوم مع النظام الإيراني الذي يلعب بأوراقه القريبة والبعيدة لمصلحته ومنها النظام السوري، وقد أرتضى النظام السوري أن ينضوي تحت خيمة الإيرانيين بهذه الدرجة من التبعية، بدون داع جوهري وحقيقي، إلا من أجل إضافة عنصر آخر قد يمنحه المطاولة أمام شعبه.

هناك مئات الإفادات التي تزج بأركان النظام إلى قفص الاتهام، في محكمة محلية أو دولية، اليوم أو غداً أو بعد غد. ومن يتشبث اليوم بزورق ينجيه، قد لا يجد غداً حتى قشة واهية في خضم الأمواج العاتية، فكل من يراهن على عناصر خارجية خارج إطاره الوطني، كأوراق حاسمة، هي أوراق سياسية سيخسرها في ظروف معينة كما كسبها في ظروف معينة. 

النظام السوري يفقد بصفة متواصلة عناصر وسمات مهمة في هويته، بعد أن خسر ثقة واحترام شعبه، فهو لم يعد نظاماً قومياً، ولا اشتراكياً، ولا ديمقراطياً .......... فما هي الصفة الأساسية لهذا النظام .....؟

الجواب هو: لا شيئ، فاليوم النظام لم يعد نظاماً، هو ليس سوى دبابات تطلق النار على الشعب، ويستخدم مصطلحاً عسكرياً بلا خجل بقوله: نحن من يمسك الأرض، كأنه يقاتل جيش احتلال، ويعتقد أن السحق والإبادة تطيل عمر نظام قد انتهت صلاحيته منذ عهد بعيد... نظام  يلعب في الوقت الضائع، وسيكتشف متأخراً أن لا سداً ولا درعاً يحميه أما فيضان الثورة الشعبية.

هذه المقالة جزء من مقابلة تلفازية مع إحدى القنوات العربية بتاريخ 19/ ديسمبر / 2011