يكفيكم خداعاً , ويكفينا خسارة
د. إيمان مصطفى البُغا
من الطبيعي أنه لا يمكن لأحد في هذه الدنيا أن يُكره أحداً على اعتقاد ما لا يريد , والإكراه إذا حصل فستكون نتيجته ظاهرية لأن الله أعلم بما في القلوب والعقول , لذلك قال الله الحكيم : { لا إكراه في الدين }*
ولكن لا أحد يملك الحرية في إسقاط الاعتقاد على الحقائق , فالحق ثابت رغم من أبى , وواحد + واحد = 2 شاء من شاء وأبى من أبى , والله واحد لا شريك له رغم المشركين , ونهر النيل في أفريقيا رغم أعمى البصر .. ولو كان الحق خاضعاً لحرية الإنسان في اختيار وجهة نظره لوقعنا في التناقض الذي يعني : أن الله واحد وليس بواحد , وأن نهر النيل في أفريقيا وليس في أفريقيا .. نعم : الإنسان حر في أن يعتقد بما يشاء من الناحية المدنية , ولكنه ليس بحرّ في أن يشكّل الحقائق كما يريد , وأن يتعامل معها كما يريد .. ولذلك عندما يرفض الإنسان الحقائق التي أمره الله بالإيمان بها سيعذب بالنار , وما ذاك إلا لأن الحقيقة مفروضة عليه وهو ليس حرّاً بأن يرفضها وإن لم يُرغم على الإيمان بها : قد تبين الرشد من الغي , فالرشد : رشد , والغي : غي
وكثيراً ما نسمع في هذه الأيام مقولة : كل يرى الحق من وجهة نظره .. هذه العبارة تدخل الناس في الجدار .. الحق يفرض نفسه ولا يتشكل كما أريد وحسب وجهة نظري , ولست حرة في أن أتناوله كما أريد لا جملة ولا تفصيلاً ...
الحكم يجب أن يكون لله : نحن نعتقد ذلك , العلمانيون يقولون : لا , يجب أن يكون للجميع ويقصدون ما يريدونه بأهوائهم وما أخذوه من عقول مجانينهم أو عقلائهم , هل نقول يجب أن نفتح الصدور للجميع ونتسع للجميع ؟ لا : هذا تناقض , فالأول ضد الثاني , ولكن الحق أين ؟ يجب أن يطبق الحق شاء من شاء وأبى من أبى ..
عبارة : هات يا فلان وجهة نظرك . في الواقع ليس هناك حقيقة تستخرج من عقل أحد , لأن العقل يكتسب الحقائق من مصادرها , إن هذا السؤال يعني : هات ما استنتجته من علومك التي درستها , وليس من عقلك الذي سيخترع معلومات : لن يفعل العقل هذا يوماً .. إن وظيفته أن يؤلف ويستنتج من ما يكتسبه بواسطة حواسه بل حتى الرياضيات هي نتيجة أقيسة منطقية يقوم بها العقل وهي مفروضة عليه ..
فليس هناك شيء : يتمتع الإنسان بالحرية في أن يشكله كما يريد وكما يعتقد , عليه أن يؤمن به كما هو في الحقيقة
وعندما يسمع أهل الأهواء الذين يريدون التملص من تهمة الهوى هذا الكلام يرددون بكل إلحاد لأبسط ما يستلزمه العقل السليم : يرددون قولهم : ومن يملك الحقيقة ؟؟
مع أن الجواب لا يحتاج إلا إلى ضغطة على الزناد , فالحقيقة الفيزيائية تملكها التجربة , والحقيقة الجغرافية تملكها المشاهدة , والحقيقة الرياضية تملكها الأقيسة المنطقية , والحقيقة الشرعية يملكها الوحي .. فلم قبلوا بأن 1+ 1= 2 , وأن الماء يساوي H2O, ورفضوا أن يكون الهادي في أمور حياتنا السياسية والاقتصادية والتربوية هو الخالق لأنه أعلم بما يصلحنا ؟ وهو الأقدر على وضع القوانين التي تهدينا إلى الصلاح بدل تخاريف فلان وعلان ..
أين الهداية في الوحي إذا لم يهدِنا إلى كيفية التصرف في أمور الحياة الاقتصادية والسياسية والتربوية والمدنية ؟؟ أتركنا الله إلى عقولنا في هذه النواحي المهمة ولم يتركنا لعقولنا في معرفة 1+1= 2 وإنما وضع لنا قياساً منطقيّاً سرنا عليه ؟؟
لذلك لا نجد العلماء يختلفون في جدول الضرب ولا يختلفون في الفيزياء ولا الكيمياء وغيرها من العلوم المادية , ذلك أنهم أخذوها من مصادرها , وفرضتها عليهم مصادرها من الأقيسة المنطقية والتجارب والمشاهدات , لكنهم أتوا إلى الأمور التي مصدرها الوحي فتطاولوا وكفروا وعلت أصواتهم ليغرقنا منهم في الاشتراكية ومنهم في الرأسمالية , وليغرقونا في الاستبداد أو الفوضى , وفي الكبت أو الانحلال .. ليعيش الناس حيارى وما تركهم ربهم حيارى , ولكنهم إذ لم يختاروا الخسارة في الطب والفيزياء والرياضيات والجغرافيا ؛ اختاروا الخسارة في أمور حياتهم المعاشية إلا المؤمنين بشرع الله , ولذلك قال تعالى : { والعصر * إن الإنسان لفي خسر * إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات} ..
فيكفيهم .. يكفي العلمانيين خداعاً ويكفينا خسارة
* ملاحظة : من يرفض الاعتقاد بالحق لا يجبر إلا على أداء حقوق الآخرين , ويمنع من إشاعة الموبقات .