احتمالات الحرب على غزّة
صلاح حميدة
تدور على حدود قطاع غزّة حرب ومواجهات عسكريّة، ترتفع حدّتها وتخفت بين فترات زمنيّة غير متباعدة بشكل كبير، ومع كل ارتفاع في حدّتها ينشط المحلّلون في تفسير وتوقّع ما يمكن أن تسفر عنه الأحداث في الأيّام القادمة.
بعض المحللين يرى أنّ ما يجري عبارة عن محاولة لإفساد أجواء الفرح في قطاع غزّة بعد إتمام الجزء الأول من عمليّة تبادل الأسرى، وأنّ التّصعيد العسكري لا يعدو عن كونه محاولة أخرى لتخويف المقاومة، وأنّ عملاً عسكريّاً جوهريّاً لن يتم لأنّ الاحتلال غير مستعد لدفع ثمن مجازفة حرب جديدة مع غزّة في ظل قدرات المقاومة الفلسطينيّة المتصاعدة.
البعض الآخر من المحللين يرى أنّ ما يجري ليس إلا تصاعد طبيعي وتجهيز حقيقي لحرب على قطاع غزّة، وأنّ التّوقيت والمبرر هو ما يلزم الاحتلال للتّنفيذ في ظل وضع عربي عام مرتبك.
تشكّل غزّة في الثّقافة الإسرائيليّة حالة فريدة في الصّراع، فقد مثّلت للجمهور الإسرائيلي " جهنّم" الحقيقيّة، فقد كان الجنود الإسرائيليون الّذين يخدمون في قطاع غزّة قبل عام 1987م يكتبون شعارات على جدران تل أبيب ومدن أخرى في الدّاخل الشّعار الآتي ( عزّة = مافت) أي ( غزّة = الموت) وإذا تخاصم إسرائيليان كان يقول أحدهما للآخر:- ( ليخ لعزّة) أي (إذهب لغزّة) وهي كناية عن شتيمة ( إذهب لجهنّم) وبعد انطلاق انتفاضة الحجارة عام 1987م أعرب إسحق رابين عن رغبته بأن يفيق من نومه ويجد ( غزّة وقد ابتلعها البحر) وهذا التّمنّي يعني العجز المبكّر عن السّيطرة على قطاع غزّة ومن فيه، فضلاً عن تطويعهم لإرادة الاحتلال، إستمرت حالة عدم القدرة التي عانى منها الاحتلال فيما يعرف ب" عقدة غزّة" حتّى وصلوا لقناعة بأنّ القدرة على البقاء هناك لم تعد واردة، فالسلاح كان يدخل غزّة من تحت أقدامهم وهم فيها، ولم يكونوا يستطيعون السّيطرة على تهريبه للقطاع، ولذلك كان قرار الخروج هروباً وعجزاً وليس رغبة في تحقيق سلام أو انسحاباً من أراضي محتلّة.
فعقدة غزّة هي المانع الأوّل والرّئيس الّذي يمنع من محاولة اقتحام غزّة والسّيطرة عليها مجدّداً، وكل سياسي إسرائيلي يطرح هذا الموضوع يتمّ سؤاله: هل ترغب بالعودة لغزّة وحكمها من جديد؟ فيجيب تلقائيّا (لا) لأنّه يعرف ثمن العودة والبقاء هناك، كما أنّ تجربة الحرب السّابقة على القطاع بيّنت قدرات المقاومة الفلسطينيّة وحدود قوّة الاحتلال في هزيمتها، فكيف بالوضع الحالي؟.
المانع الآخر مانع سياسي، فاحتلال غزّة من جديد له أثمان سياسيّة ليس بمقدور دولة الاحتلال دفعها، فالعبء الإداري للقاطنين في القطاع سيقع بالمطلق على كاهل الاحتلال، والاحتلال لا يرغب مطلقاً بتحمّل هذا العبء من جديد، فلا يوجد أحد في الدولة العبرية مستعد لزيادة الأعباء والأسئلة الوجوديّة التي تواجههم هذه الأيّام.
بعد توتّر علاقات دولة الاحتلال مع تركيا يسعى بعض ساسته – وبضغط دولي- لتحسين العلاقة مع مصر الجديدة وتقليص أضرار التّحوّل لحكم الشّعب بعد سقوط نظام مبارك، ومن المسلّم به أنّ حرب شاملة على القطاع ستستفز الشّعب المصري بطريقة قد تجلب ردود أفعال قد تفوق ما جرى باقتحام السّفارة الاسرائيلية في القاهرة، وقد تفلت الأمور من يد المجلس العسكري الّذي بالكاد يستطيع إدارة الأمور في مصر، وهذا آخر ما تتمنّاه دولة الاحتلال والقوى الدّوليّة الدّاعمة لها والتي تحاول جاهدة احتواء الثّورة المصريّة وتقليص قدرة القوى الحيّة في مصر على السّيطرة على مراكز صنع القرار فيها.
وقد يكون التّصعيد الاسرائيلي عبارة عن رسالة للمقاومة الفلسطينية بأن تلزم الصّمت في ظل احتماليّة شن حرب على إيران، وأن ما جرى ليس إلا " بروفة" لما هو أكبر إن قامت المقاومة الفلسطينية بالاشتراك في المواجهة القادمة المفترضة، أو من الممكن أن يكون ضرب المقاومة الفلسطينيّة رسالة لها و لأطراف أخرى متحالفة معها بأنّ سيف دولة الاحتلال لا زال مشرعاً وجاهزاً للقتال، وأنّ العمل ضدها له أثمان كبيرة.
جبهة غزّة تعتبر الجبهة الوحيدة التي لا تنطفىء جذوتها أبداً، فالصّواريخ لا تتوقّف أبداً عن السّقوط في المدن والبلدات المحتلّة، واللاجئون في غزّة يقصفون المستوطنين الّذين طردوهم من مدنهم وقراهم، فكيف سيستطيع اللاجىء الفلسطيني أن ينام وهو يرى عبر السياج من يعيش في بيته ويفلح أرضه وهو يعيش في أكثر بقعة مكتظّة بالسّكان على وجه الأرض؟ ولذلك قد يكون التّصعيد - بين الفينة والاخرى- عبارة عن رسالة تذكير من اللاجئين بأنّ لهم حق سيستعيدونه، وكذلك رسالة ردع من الاحتلال لمن يعمل للعودة لأرضه.
تعطي البنود السّابقة إنطباعاً بأنّ حرباً شاملةعلى قطاع غزّة لن تقع، وأنّ ما يجري تضعيد تحت السّيطرة فقط، وقد يكون هذا صحيحاً، ولكن بدراسة طبيعة من يحكمون دولة الاحتلال هذه الأيّام، أمثال نتنياهو وليبرمان وغلاة اليمين الاسرائيلي، وبسماع تصريحات ليبرمان التي دعا فيها قديماً لضرب غزّة والسّد العالي في مصر بقنبلة نوويّة، وتصريحاته الحديثة بأنّ على جيش الاحتلال اقتحام غزّة قبل إطلاق صاروخ واحد منها، مع أنّ هذا غير واقعي ولا منطقي لدرجة السّخرية، إلا أنّه يدلل على أنّ هذا الشّخص -ومن يفكّرون على شاكلته- من النّوع المغامر الّذي يستسهل التّقتيل مهما كانت النتائج، وهو يشبه في سلوكيّاته ( أرناط) ملك الكرك في زمن الحروب مع الفرنجة، وقد لا يستطيع بعض العقلاء والمؤسّسات البحثيّة والأمنيّة كبح جماح ساسة من أمثاله عن تطبيق مغامرات دمويّة، لأنّ أمثال هذا من قادة السّقوط والانحدار الحضاري يفكّرون بغرائزهم وليس بعقولهم، ولذلك فإنّ احتماليّة شن حرب على غزّة تتساوى بين استبعادها أو ترجيحها، وقد يكون احتمال حدوثها راجحاً نظراً لطبيعة تفكير غلاة التّطرّف والعنصريّة عندما يمتلكون قوّة فتّاكة.