العنف والإصلاح

صلاح حميدة

[email protected]

منذ انطلاق قطار الثّورة العربيّة والعرب يتناقشون ويتجادلون حول مصطلحي الإصلاح والعنف،  وللعنف والإصلاح منطق ورجال وحالات، ولا يمكن حصر صفة العنف أو الإصلاح في أشخاص أو فئات بعينها، كما لا يمكن تصديق كل من يدّعي بأنّه مصلح إلا بالتدقيق في سلوكيّاته وخلفيّاته، بالإضافة إلى البحث في أسباب ومشروعيّة استخدام العنف، إن كان من السّلطة الحاكمة أو من قبل من يعارضونها.

ونبدأ بالاصلاح، ففي فترة حكم المتطرّفين اليمينيين -عهد بوش الإبن- في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ظهرت ( موضة) الإصلاح في العالم العربي، ومارست الإدارة الأمريكيّة ضغوطات على حلفائها للقيام ببعض الإصلاحات السّياسيّة والإقتصاديّة، ولكن هذه الضّغوطات توقّفت بعد فوز من لا تريدهم الولايات المتّحدة في الانتخابات، وبسبب تغليبها للمصلحة على الأخلاق والمبادىء، فقد عقدت صفقات مع تلك الأنظمة الفاسدة القمعية، تقوم تلك الأنظمة بمقتضاها بمحاربة أعداء الولايات المتّحدة في العالم، وكانت نتيجة الحديث عن الإصلاح زيادة للفساد والقمع وانتهاك حقوق الانسان، فقد تسابقت الأنظمة العربيّة والاسلاميّة -على اختلاف تصنيفاتها- لمحاربة ما يعرف بالارهاب، و للمرة الأول أصبح هناك قاسم مشترك بين كل تلك الأنظمة المختلفة مع الولايات المتّحدة وإسرائيل، وأصبح زعماء دول ( ثوريّة) يفاخرون بخدمتهم للجهد الأمني الأمريكي في العراق وأفغانستان ولبنان واليمن وليبيا وسوريا وغيرها، بل فاخر أحدهم بأنّ احتلال العراق وأفغانستان لم يكن ليتم لولا مساعدة وتواطؤ و تسهيلات دولته،  وكان كل هذا – بالطّبع - مقابل صمت وتواطؤ أمريكي- غربي عن فساد وقمع تلك الأنظمة، في حين لم ينس بعض هؤلاء تخريج الفساد بثوب جديد.

فحاولت الأنظمة الفاسدة الإيحاء بأنّها ستقود عمليّة الاصلاح، وقد صرّح قائد سياسي عربي عن قيادة الفاسدين للإصلاح بالقول:- " إنّ الله لا يصلح عمل المفسدين" وكان كلام الرّجل في محلّه، فقد تمخّضت عمليّة الإصلاح التي قادتها الأنظمة الفاسدة عن فساد وقمع أكبر من ذي قبل، وتبيّن أنّ الأبناء أكثر فساداً وإجراماً من آبائهم، وكانت هذه القناعة الشّعبية مطلقة شرارة الثّورة الشّعبيّة العربيّة الكبرى، مطالبة بالاصلاح بأجندة وطنيّة شعبيّة وليس عبر طلبات ومقاسات أمريكيّة وأوروبيّة.

فقد ثبت بالقطع أنّ هذه الأنظمة غير قادرة على إصلاح ذاتها، بل هي غير قابلة للإصلاح، فالأنظمة التي سقط رأسها فقط لا زالت تقاوم وتعرقل عمليّات الإصلاح بكل طاقتها، والأنظمة الفاسدة الأخرى تحيك المؤامرات لاحتواء الثّورات وإجهاضها ومنعها من تحقيق أهدافها، ولذلك فعمليّة الاصلاح تحتاج لاستمرار المراقبة الشّعبية وإتمام انتقال السّلطة ليد ممثلي الشّعب الحقيقيين الّذين يأتون عبر صندوق الاقتراع.

ولكن كيف يتمّ الإصلاح؟ بالعنف أم بطرق سلميّة؟ من الواضح والمؤكّد أنّ جماهير العرب خرجت بطريقة سلميّة للمطالبة بحقوقها ولتصلح ما أفسده الحكّام المستبدّون، وقد ووجهت بعنف لا مثيل له من قبل الأنظمة، ومن الأنظمة من سقط ومنها من استمرّ في القتل والإجرام بحق شعبه، فهؤلاء يرون أنّهم يمتلكون شرعيّة استخدام العنف بكافّة أشكاله ضد شعوبهم، و أنّ خروج الجماهير للشّارع للمطالبة بحقوقها هو التّآمر و الفتنة والفساد بعينه، ولذلك يرون أنّ هذا الفساد لا يمحى إلا بالدّم والدّمار، فالاصلاح بعرفهم هو استمرار القمع والفساد. وبالتّوازي مع هذا المنطق السّلطوي ضد ثورة الشّعوب، توغل تلك الأنظمة في دياثتها وجبنها عندما يتعلّق الأمر باستخدام العنف ضدّ العدوان الخارجي، فالإستئساد يكون فقط ضد الشّعب، أمّا إن طالب الخارج بوقف قتل النّظام لشعبه، فيتذكّر هؤلاء أنّ لهم عدوّاً خارجياً، ويبدأون وينتهون بالتّهديد للخارج، أمّا القتل فيقع فقط بحقّ الشّعب المظلوم، ولعل هؤلاء يعتقدون أنّ هناك من يصدّق أنّ من يرسل جيشه لقتل شعبه يحضّر أو يستطيع مهاجمة الآخرين، فالجيش والأمن الّلذان يقتلان شعبهما لا ينتصران، ولا ننسى حقيقة أنّ أسرع طريقة لإفساد الجيش هي إقحامه في معركة داخليّة مع شعبه.

ولكن لماذا تلجأ الشّعوب للعنف لإصلاح أنظمتها؟  من الطبيعي أن يلجأ للعنف من يمنع من أن يطالب بحقوقه بطرق غير عنيفة، وتستخدم ضدّه كافّة أشكال العنف، ومن يمنع النّاس من التعبير عن أنفسهم بطريقة سلمية، لا يحق له أن يتواقح ويتّهمهم بأنّهم يلجأون للعنف في مطالبتهم بإصلاح الفساد، فوجود قنوات مفتوحة للتعبير الحر والاصلاح يمنع أي إمكانيّة للجوء للوسائل العنيفة.

يعتبر الخذلان من الأسباب المهمّة للجوء الشّعوب للعنف، فترك الشّعب وحيداً أمام إجرام النّظام القائم يعتبر دعوة صريحة للجمهور للإنتقال للعنف، فعندما يخذل العرب والمسلمون والعالم الثّورة السّلميّة، ويشعر النّاس بأنّ النّظام فهم ذلك الخذلان بأنّه ضوء أخضر ومؤامرة ضدّ ثورة الشّعب السّلميّة، وفي هذه الحالة لا يمكن لوم الشّعب للجوئه للعنف للدّفاع عن نفسه، فمن لا يريد للشّعب أن يلجأ للعنف، عليه أن يمنع النّظام من ممارسة العنف ضدّه.

استفزاز النّاس في معتقداتهم ومقدّساتهم يعتبر من الأسباب المؤدّية للجوء الشّعب للعنف، فعندما يجبر النّاس على السّجود لصور الحاكم المستبد الفاسد، وعندما يجبرون على تأليهه مكان الله، وعندما تقصف المساجد وتحرق ويقتل النّاس على اللحية، وعندما ينكّل بالأئمّة والمشايخ ويستهزأ بالمقدّسات والعلم الشّرعي، وعندما تحرق المصاحف وتمزّق وتداس بالأقدام، وعندما يمنع النّاس من الصّلاة في المساجد، فمن سيلوم النّاس إذا لجأوا للعنف؟.

" أنا إنسان مش حيوان" ... بهذه الكلمات كان يصرخ مواطن سوري هرب من جسر الشّغور إلى تركيا، وهو يشكو من إهانة وتحقير وانتهاك آدمية السّوريين على يد قوى الأمن السّوريّة، مع أنّ هذا المواطن المسكين يعلم أنّ الحيوان أصبح له حقوق يتمتّع بها أكثر من الانسان العربي في ظل أنظمة الفساد والقمع، فمن يشاهد كيف يهان النّاس ويضربون ويشتمون ويداس عليهم وتصبح أفواههم مكاناً لسجائر الشّبّيحة، وعندما تصبح للإهانة طقوس جماعية تحظى بتصوير وتفاخر بين من يقومون بها، فمن يستطيع أن يقول لمن يتعرّضون لكل تلك الإهانات لا تلجأوا للعنف؟.

عندما يحارب النّاس في أرزاقهم وتنهب محلّاتهم التّجارية وتسرق أموالهم وتدمّر حاجيّاتهم وأثاثهم وتهدم وتحرق منازلهم و مزارعهم وتقتل أبقارهم ودوابّهم وتدمّر درّاجاتهم وسيّاراتهم، وعندما تكون لقمة عيش المواطن عرضة لابتزاز قوى الأمن وعصابات الأنظمة، فهذه دعوة لكل هؤلاء للجوء للعنف.

عندما يطعن النّاس في أعراضهم وتغتصب بناتهم وتقطّع أوصالها أو تلقى في البساتين أو تغتصب أمام زوجها والمعتقلين، وعندما تختطف الفتيات من الشّوارع والمدارس والمتاجر، وعندما يغتصب الرّجال في المعتقلات، وعندما تقطّع الأعضاء التّناسليّة للأطفال والرّجال، فبأيّ وجه سيلاقي هؤلاء الضّحايا دعاة عدم لجوء الشّعب للعنف.

وما الّذي يستطيع المرء قوله للنّاشطين السّياسيين عندما يرون زملاءهم يسلّمون أنفسهم أو يعتقلون ثمّ يعودون مقتولين تحت التّعذيب مقطّعي الأوصال ومسروقة أعضاؤهم لصالح تجارة المافيا بالأعضاء البشريّة؟.

قد يقول قائل بأنّ ما ذكر أعلاه عبارة عن تبرير وتشجيع على استخدام العنف لإحداث التّغيير في العالم العربي، ويرى هؤلاء بأنّ مساوىء العنف في التّغيير أكثر من حسناته، وأنّه سيجر لحروب أهليّة وسيفتح جروح كبيرة في جسم الشّعوب، وأنّ العنف لا ينتج عنه بالضرورة نظم ديمقراطيّة، بل يحرف بوصلة التّغيير نحو الانتقام فقط. ولكن ينسى هؤلاء بأنّ من ينظّر من الخارج ليس كمن يعيش تحت الألم وأنّ مسيرة البشر والتاريخ لا تخضعان لقوانين ثابتة، كما يتجاهل هؤلاء أنّ عدداً من الدّول الدّيمقراطيّة حدثت فيها حروب أهليّة، فقد جرى التّغيير في الأغلب بطرق عنيفة، وعندما وصل بعض البشر للتّوافق على آليّات التّغيير السّلمي وتداول السّلطة، بقي بعضهم يأبى أن يصل لهذه المرحلة ويصرّ على البقاء في السلطة حتّى لو أباد الشّعب عن آخره، فهل هناك إمكانيّة لإحداث إصلاح في ظل بشر من هذا النّوع؟