يا دعاة السلمية
رسائل الثورة السورية المباركة (51)
الثورة السورية: المرحلة الثانية (17)
انظروا ماذا فعلت سلميّتكم
مجاهد مأمون ديرانية
الذين اخترعوا هذا التعبير دأبوا على استعماله تعليقاً على كل خبر مؤلم، كأخبار التعذيب والقتل والاغتصاب وأمثالها. وهذا السياق مضلّل لأنه يعتمد على "مفهوم المخالفة" ليوحي بأن الثورة المسلحة لا تتسبب في أيّ قتل وتعذيب واغتصاب، فهل هذا الإيحاء صحيح؟
يجب أن يدرك الناس أن السبب في المعاناة هو الثورة ذاتها وليس شكلها، فلو رضي السوريون بأن يستمروا في الحياة عبيداً للأسد وآل الأسد وعصابة الأسد هم وأولادُهم وأولادُ أولادهم لما قُتلوا وجُرحوا وعُذّبوا واغتُصبوا، أمَا وقد قرروا أن يكسروا تلك الحلقة الشريرة، حلقة الاستعباد والاستبداد، وأن يولَد لهم في الحرية والكرامة أولاد، فإنهم قد وافقوا -ضمناً- على دفع الثمن ولو غلا ولو زاد.
المنطق إذن هو المقارنة بين حجم الإصابات والآلام التي سيتحملها الشعب السوري في حالة الثورة السلمية وتلك التي سيتحملها في حالة الثورة المسلحة، وليس تحميل أيّ من الطريقين المسؤوليةَ عن تلك الإصابات والآلام حَصْراً وكأنّ الطريقَ الآخر لا آلامَ فيه ولا إصابات، وهذا الأمر يستحق نقاشاً واعياً عميقاً منصفاً ليس هنا محله.
حتى الآن لم أسمع أن أحداً سجل حقوق المُلكية لاستعمال التعبير السابق، فهو إذن تعبير مباح يستطيع من شاء أن يستعمله كيف يشاء، ومن ثَمّ فإن من حقي أن أستعمله بطريقتي كما استعمله غيري بطريقته، فاسمحوا لي أن أتحدث عمّا فعلته سلميّتكم يا دعاة السلمية، وهذا هو باختصار:
(1) أخرجتم إلى شوارع سوريا ملايين الشرفاء ليطالبوا بحرّيتهم غيرَ هيّابين موتاً ولا اعتقالاً ولا تعذيباً، من رجال ونساء وصغار وكبار في مدن ونواحي سوريا كلها.
(2) بدأتم بثلّة صغيرة من "المحتجّين" وانتهيتم بأمّة كاملة من "الثائرين"، ورفعتم سقف مطالب الشارع من عزل محافظ مدينة صغيرة إلى إعدام رئيس البلاد.
(3) حررتم مناطق واسعة من سوريا من سيطرة النظام جزئياً أو كلياً، لفترات قصيرة أو طويلة، وبالمحصّلة جعلتم النظام عاجزاً عن استعادة كامل سيطرته على كل المناطق في كل الأوقات.
(4) أدخلتم في قلوب جبابرة النظام الرعبَ وحَرَمتم مجرميه -صغارهم وكبارهم على السواء- من هناءة النوم في الليل وراحة البال في النهار، وصيّرتم حياتَهم قلقاً متصلاً من غد مظلم مجهول.
(5) بدأتم بتصديع الجيش السوري الذي أنفق النظام أربعين سنة في بناء ولائه المطلق، حتى صارت الانشقاقات وحوادث التمرد في صفوف العسكريين أخباراً عادية بِتنا نسمعها كل يوم.
(6) نقلتم سوريا إلى واجهة أخبار العالم، فصارت مظاهراتكم في صدر صفحات الجرائد وعلى رأس نشرات الفضائيات في شرق العالم وغربه.
(7) دخلت ثورتكم إلى المجتمع الدولي من أوسع أبوابه، فوصلت إلى الأمم المتحدة وإلى مجلس الأمن، وصارت الشغلَ الشاغل للمؤسسات الحقوقية والإنسانية الدولية والعالمية.
(8) حركتم بضحاياكم وشهدائكم ضمير الأمة الإسلامية، حتى صارت "القضية السورية" في هذه الأيام قضيةً محورية من أهم قضايا الأمة وصارت شغلاً شاغلاً للمسلمين في كل البلاد.
(9) فضحتم كذبة النظام السوري الكبرى التي أنفق عشرات السنين في ترويجها، فانقلب عليه الملايين من العرب والمسلمين الذين خدعَتهم في الماضي شعاراتُه الكاذبة عن الممانعة والصمود.
(10) القناع سقط بفضلكم عن وجه حلفاء النظام في لبنان الذين نسبوا حزبهم لله كذباً زوراً، وأحبطتم في أشهر قليلة خطةً أنفقت إيران في تنفيذها -لمدّ نفوذها في المشرق الإسلامي- ثلثَ قرن ومئات الملايين من الدولارات.
* * *
ما سبق ذكره قليلٌ من كثير مما صنعته الثورة السلمية حتى الآن، فيا دعاةَ السلمية: ارفعوا رؤوسكم عالياً وتيهوا فخراً على كل ثوار العالم؛ لقد صنعتم بسلميّتكم أعظمَ الثورات وأعجب الثورات في هذا الزمان. يا أيها الأحرار: احفظوا عني هذه الجملةَ فإني أحاججكم بها أو تحاجّونّي في الغد القريب: ثورتكم السلمية في وجه طاغية الشام الأكبر ونظامه الفاجر ليست لها سابقة وقد لا تكون لها لاحقة، فلا تعجبوا إن رأيتموها غداً مادة تُدْرَس في معاهد الدراسات وتُدرَّس في كبريات الجامعات.
على أنني قلت من قبل وسأكرر مرة ومرات: السلمية قرار تفرضه المصلحة، فالثورة اختارتها لأنها أقل كلفةً من المواجهة المسلحة، ولو ثبت العكس لتركتها وانتقلت إلى العمل المسلح.
حتى الآن يبدو أن السلمية أفضل وأقل كلفة، فأرجوكم حافظوا عليها حتى يثبت العكس. لكن لا تنسوا أيضاً أن السلمية المحمودة تختلف عن الاستسلام البغيض، وأن من حق الثورة أن تدافع عن نفسها وأن تطلب الحماية من عدوها السفاح. تحدثت عن هذه المعاني في مقالة سابقة كتبتها قبل شهر (حماية الثورة وحق الدفاع عن النفس)، ولكنها ما تزال حديثَ الساعة ومحلّ الخلاف الأكبر بين أطراف الثورة، فاسمحوا لي أن أناقشها مرة أخرى في المقالة التالية والتي بعدها، مع اعتذاري المسبق عن بعض التكرار الذي يفرضه السياق.