من وحي حشد المظاهرات المؤيدة (العفوية)

ابو عمرو محمود

إن إحدى أهم وسائل مواجهة الأنظمة الديكتاتورية معارضيها هو حشد الشارع في مظاهرات ومسيرات تهتف بشعارات تؤيد السلطة القائمة، وتمجدها؛ ليستندوا إليها إعلاميا في الحديث عن الشرعية، وهذا ما لا نراه في الأنظمة الديمقراطية ؛ حيث إننا لا نرى مظاهرات مؤيدة يُحشد لها البشر والشجر والحجر تهتف بشعارات تمجد الحكومات الديمقراطية، وتؤله رؤساء تلك الدول؛ لأنهم ببساطة ليسوا بحاجة إلى مثل هذه الشرعية؛ إذ الركيزة في الشرعية عندهم هي صناديق الانتخابات الحرة النزيهة, فهموها بقا يا موالين!

إن حشد مظاهرات التأييد لم نرها إلا في ساحات دول تُحكم بدكتاتورية متسلطة قمعية وقحة أيما وقاحة، فبينما جيوشها وعصاباتها تدك أنحاء الوطن شرقا وغربا نجد  تلك الأنظمة المتسلطة تعمل باسم تنظيمات شبابية وأوصاف وطنية براقة مثل ( يوم للوطن ) أو ( حب الوطن ) أو ( تأييد للإصلاحات ) أو غير ذلك ـ وما هذه التنظيمات ولا هذه التوصيفات في الحقيقة إلا وجه آخر من وجوه هذه الأنظمة التسلطية الفاشية؛ بل إن كل التجمعات في ظل هذه الأنظمة البائسة تحت مختلف الشعارات من تجمعات عشائرية إلى هيئات نقابية إلى تنسيقيات شبابية وغير ذلك من التجمعات ذات التسميات البراقة ما هي في الحقيقة إلا وجه من وجوه السلطة الدكتاتورية المقيتة.

إن وقاحة تلك الأنظمة لا تقف عند حد، فبينما الدماء تسيل وترعب القاصي والداني ترى هذه الأنظمة ترقص على الجراح، وتعد مهرجانات الكذب والنفاق تمجد فيها القتلة ومصاصي الدماء.

إن العدو يبدو أكثر مصداقية من هذه الأنظمة؛ إذ إنه يسفر عن وجهه الحقيقي، ويعلن عن نفسه بكل وضوح، فهو عدو، ولا يتحرج من ذلك، فعندما يقتلك أو يدمر بيتك أو يستبيح الحرمات لا يدعي أنه يدافع عنك؛ إنه يعلن بصراحة أنه يدافع عن نفسه ووجوده ضد من يهدده.   

أما هذه الأنظمة اللعينة فهي تقتلك باسم الدفاع عن الوطن، وتشردك باسم الحفاظ على الوطن، وتدمر بيتك باسم بناء الوطن،  وتستبيح كل الحرمات باسم حماية الوطن، وتنشر الرعب والخوف باسم أمن الوطن، وتسرقك باسم اقتصاد الوطن، وتلعن ماضيك وحاضرك باسم مبادئ الوطن.

فأي تدمير للوطنية تمارسه تلك الأنظمة الساقطة!

والله لقد غدونا في ظل هذه الأنظمة لا نشعر بأي ارتباط بهذا الوطن الذي يحكموننا باسمه ... اسمعوا ليش

لقد غدت أعياد الوطن تمجيدا للرئيس، وغدت أعلام الوطن صورة الرئيس، وغدا اسم الوطن يقترن باسم الرئيس، وغدا دين الوطن يمجد الرئيس، وغدا جيش الوطن يدافع عن الرئيس، وغدا اقتصاد الوطن يمر من خزانة الرئيس، وغدت مؤسسات الوطن تخدم الرئيس، وغدا الوطن مزرعة لآل بيت الرئيس، واختزل الوطن كله بماضيه وحاضره بشخص السيد الرئيس.

إننا لم نشعر بمعنى الوطن- ونحن قد ولدنا ونشأنا في ظل حكم الرئيس وابنه – إلا في الفترة الراهنة ؛ حيث نعيش أحداث الثورة المباركة التي أعادت لنا الشعور بالوطن بعد أن تمزق هذا الشعور دهورا طويلة، وتاه في أودية الضياع.

لقد عرفنا الآن في ظل هذه الثورة المباركة معنى حب الوطن، ولمسنا حقيقة الدفاع عن الوطن، ورأينا دماء الأحرار تقدم هدية للوطن، ورأينا المال يبذل للوطن بعدما كان يسرق باسم الوطن، ورأينا التضحيات العظيمة من أجل حرية الوطن، ورأينا الصغار والكبار يهتفون للوطن دون أن تسوقهم المخابرات كالأغنام إلى ساحات النفاق باسم الوطن زورا وبهتانا.

لقد رأينا اليوم بكل وضوح الفرق بين حشد الآلاف في ساحة السبع بحرات وسط دمشق في ظل صورة السيد الرئيس، وتحت علم من القماش يبلغ طوله آلاف الأمتار، وبين خروج المظاهرات في كل أنحاء الوطن تحت وابل النيران، وقد اصطبغت بدماء الشهداء وبياض براءة الأطفال وخضرة نفوس الأحرار المعطاءة وسواد حقد الأعداء الذي يحاصر الأبطال، فرسموا بهذه الألوان الصادقة علم سوريا الحقيقي.

وبضدها تتميز الأشياء. كنا لا نرى إلا مظاهر الخداع. أما اليوم فقد مثلت أمامنا صورتان واضحتان جليتان هما: بزوغ الفجر وجلاء الظلام.