كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله
أ.د
. عبد الرحمن البرأستاذ الحديث وعلومه بجامعة الأزهر
وعضو مكتب الإرشاد بجماعة الإخوان المسلمين
وعضو الإتحاد العالمي لعلماء المسلمين
«مصر هي الملعب الأكبر لنشاطات جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلي، وإن العمل في مصر تطور حسب الخطط المرسومة منذ عام 1979م (يعني منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد) لقد أحدثنا الاختراقات السياسية والأمنية والاقتصادية والعسكرية في أكثر من موقع، ونجحنا في تصعيد التوتر والاحتقان الطائفي والاجتماعي لتوليد بيئة متصارعة متوترة دائما ومنقسمة إلى أكثر من شطر في سبيل تعميق حالة الاهتراء داخل البنية والمجتمع والدولة المصرية، لكي يعجز أي نظام يأتي بعد حسنى مبارك في معالجة الانقسام والتخلف والوهن المتفشي في مصر».
هذا ما قاله الجنرال (عاموس يادين) الرئيس السابق للاستخبارات الحربية الإسرائيلية في خطاب تنحيه، الذي نشرته الصحف في 2/11/2010م.
ربما لم يقع في خلد الرجل وهو يفتخر ببطولاته تلك أن الأيام كانت حبلى على وشك المخاض بثورة متفردة ستقدم بها مصر نفسها إلى العالم من جديد، بلدا متوحدا يجتمع مسلموه ومسيحيوه، شبابه وشيوخه، رجاله ونساؤه، على إعادة الشباب لوطنيته من جديد، ويخلعون عنه رداء الطائفية المقيت الذي ظن الصهاينة وإخوانهم من أهل الفساد في النظام المخلوع أنه لا يمكن خلعه من غير تقطيع اللحم المصري، فإذا بهذا الشعب العظيم يسل عنه رداء الطائفية كما تسل الشعرة من العجين، ويقوم ميدان التحرير شاهد صدق على أن جهود الصهاينة والمتصهينة قد ضاعت سدى، ولأول مرة في تاريخ الدنيا كلها (لا في تاريخ مصر وحدها) يتعاقب المصلون النصارى والمسلمون في إقامة صلواتهم في مكان واحد، ولا يحتاج أي من الفريقين أن يخلي المكان للآخر أو يغادر المكان عندما يأخذ الآخر في صلاته، فما أن ينتهي القداس المسيحي حتى تبدأ صلاة الجمعة بحضور الجميع مسلمين ومسيحيين، ولأول مرة ترى الدنيا صلاة جمعة يحتشد لها أربعة ملايين من البشر، يهتف خطيبها المبارك حفظه الله: «أيها الناس، أيها المصريون، أيها المسلمون، أيها المسيحيون»، وتسجل الدنيا شهادة ميلاد جديدة للوطنية الحقيقية التي تستعيد مصر من الحقبة الصهيونية، وتكشف وجهها العربي الإسلامي الناصع، ويتذكر المصريون الكلمات الرائعة لمكرم عبيد باشا: «نحن مسلمون وطنا, ونصاري دينا. اللهم اجعلنا نحن المسلمين لك, وللوطن أنصارا، واللهم اجعلنا نحن نصاري لك, وللوطن مسلمين»، ومن قبله كلمات غالي شكري: «إننا ننتمي كعرب من مصر ـ إلي الإسلام الحضاري والثقافي».
ويتذكر الجميع ما قاله نيافة الأنبا يوحنا قلته الكاثوليكي «كلنا مسلمون حضارة وثقافة، وإنه ليشرفني وأفخر أنني مسيحي عربي, أعيش في حضارة إسلامية, وفي بلد إسلامي, وأساهم وأبني مع جميع المواطنين هذه الحضارة الرائعة» وغير هذا كثير.
لقد كشفت الثورة الكريمة في 25 يناير الحقيقة التي ظن الصهاينة والمتصهينون أنهم نسفوها، وهي أن المصريين جميعا نسيج وطني واحد وعرق واحد، يجري فيهم دم واحد، وأن من الصعب على أي إنسان أن يفرق في الواقع بين مصري مسلم ومصري مسيحي، لأن العادات الاجتماعية واحدة، والتعبيرات المستخدمة في التعاملات اليومية واحدة، والقبول المشترك من كل طرف للآخر علامة مميزة للحالة المصرية.
كشفت بعض الوثائق التي ظهرت أثناء الثورة الكريمة أن النظام المخلوع وأجهزة أمنه كانت تعمل لحساب أجندة خاصة ضيقة النظرة تلاقت مع الأجندة الصهيونية، وأن تلك الأجهزة هي من كان يدبر ما يسمى بالحوادث الطائفية، أو على الأقل تغض الطرف عنها، أو تتعمد تقديم العلاج الخاطئ لها، وهي إذ تفعل ذلك تغفل عن أنها تلعب بالنار التي ستحرقها، أو لعلها ظنت أنها بذلك تتحكم في الوطن، وتتمكن من ابتزاز المواطنين، وابتزاز المجتمع الدولي إذا فكر أحد في الدعوة للإصلاح أو التغيير، ودائما ما كان الرئيس المخلوع يقول: أنا أو الفوضى.
والحمد لله أن شعبنا العظيم أثبت ذكاء غير عادي في تفويت الفرصة على الصهاينة وأزلامهم، وقدم ميدان التحرير صورة مشرقة للحالة المصرية الحقيقية، متجاوزا كل المؤامرات ومبطلا كل ما زعم (عاموس يادين) أنه حققه من إنجازات.
لهذا لم يكن من السهل على العصابة الصهيونية أن تتجرع مرارة تلك الهزيمة، فسعت إلى محاولة الاستفادة من رجالها الذين قال (عاموس يادين) إنه زرعهم في كل مكان، وفي المقدمة منهم فلول النظام الفاسد البائد الذين التقت مصالحهم الضيقة مع مصالح الصهاينة وضد مصلحة الوطن العليا، فخرجت قضية كنيسة صول، وقضايا المتحولين والمتحولات إلى الإسلام، وأخيرا قضية كنيسة المريناب، وحاول عملاء الصهاينة من الفلول وغيرهم استغلال العاطفة الدينية التي عرف بها الشعب المصري بمسلميه ومسيحييه في إذكاء نار الفتنة، ومما يؤسف له أن بعض الوطنيين المخلصين من الطرفين وقعوا في الفخ المنصوب، وأسهموا في ترويج الشائعات وتأجيج العواطف على كلا الجانبين، وساعد على ذلك وجود متشددين على الضفتين، يندفعون خلف الشائعات بغير وعي ولا بصيرة، حتى كانت الأحداث الأخيرة المؤسفة التي اندس فيها من لا يريد بهذا الوطن خيرا، ولا يريد لهذه الأمة استقرارا، والتي –للأسف- لم يحسن الجيش والشرطة التعامل معها بشكل صحيح، فسالت كل تلك الدماء البريئة، وأزهقت أرواح بغير حق، مما يوجب على العقلاء في هذه الأمة من كل الأطراف أن يبادروا بالتحرك في الاتجاه الصحيح لإبطال مؤامرة الفلول والصهاينة.
وقد رأينا أن تلفزيون الصهاينة يواصل تحريضه ضد المجلس العسكرى والجيش المصرى بصفة عامة، وينشر تقاريره الملفقة عما يعانيه الأقباط من تفرقة عرقية بين المسلمين والمسيحيين وعما يواجهه الأقباط مما زعم أنها عمليات اضطهاد ديني فى جميع أنحاء مصر، ويحرضهم على الاستمرار فى مظاهرات الغضب، وذلك لإسقاط ما سماه (نظام الجنرالات) ويدعو الولايات المتحدة الأمريكية لعدم بيع الأسلحة لمصر رداً على أحداث ماسبيرو. وهي لوثة صهيونية تكشف جانبا ممن يجري من وراء الستار، وتؤكد التورط الصهيوني في صنع الأحداث أو على الأقل في استغلالها.
إن هذا كله يفرض على كل العقلاء في هذا الوطن سرعة التدخل لإطفاء نيران الغضب، وإحياء روح الأخوة التي صاحبت ثورة 25 يناير، وإعادة اللحمة للنسيج الوطني الواحد، وعلى العقلاء من الأخوة الأقباط عدم إعطاء الفرصة لأعداء الوطن في الداخل والخارج لإثارة الفتن والقلاقل في هذه المرحلة الحساسة، فالمطالب المشروعة لها قنواتها القانونية ولها طريقتها السلمية ولها وقتها الذي يناسبها، والحكمة تقتضى الصبر والتأني، وانتظار الحكومة التي تستمد شرعيتها من الشعب، وتدفع عنه المظالم التي أغرقه فيها النظام البائد، لا سيما ونحن على أعتاب الانتخابات الحرة التي ينبغي التعجيل بإجرائها للوصول بالبلاد إلى حالة الاستقرار والشرعية الشعبية والدستورية، حتى لو اقتضى ذلك أن يقوم المجلس العسكري بتعديل الجدول الزمني بما يختصر المدة إلى أقصر مدى ممكن.
وفي ذات الوقت فإن على الحكومة والمجلس العسكري سرعة التحقيق في تلك الأحداث المؤسفة وسرعة إعلان النتائج بمنتهى الشفافية، وتطبيق القانون بكل حزم، حتى لا يفلت المتورط من العقاب كائنا من كان، وسرعة إصدار قانون العزل السياسي لكل من أفسد الحياة السياسية، ووضع الضوابط واتخاذ الإجراءات التي تحول دون نجاح تلك المؤمرات المستمرة.
وأنا على يقين بأنها مؤمرات فاشلة بإذن الله، ما دام الشعب يقظا لحراسة ثورته وحماية مكتسباته، وأن الله سيطفئ هذه النارالتي لا يستفيد من إشعالها سوى أعداء البشرية من اليهود، مصداقا لقوله تعالى ﴿كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [المائدة: 64].