إلغاء الداخلية هو الحل!

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

لا أجاوز العقل ، ولا اشطح بالخيال بعيدا عن الواقع إذا قلت إن حل الفوضى الأمنية أو الانفلات الأمني يكمن في إلغاء وزارة الداخلية تماما ، وإنهاء مهمتها التاريخية في إذلال الشعب المصري وقمعه وتعذيبه واستعباده !

ومع احترامي للشعارات التي تتحدث عن الشعب والشرطة إيد واحدة ، والشرطة في خدمة الشعب ، والشرطة في خدمة القانون ..إلخ، فإن الواقع يختلف عن الشعارات ، خاصة بعد أن تخلت الشرطة في ثورة يناير عن دورها ، وانسحبت من الشارع بعد أن قتلت ما يقرب من ألف شهيد ، وجرحت وأصابت وضيعت أكثر من ثمانية آلاف جريح ومعاق ومفقود..

الشرطة منذ الاحتلال الانجليزي في مصر هي اليد الباطشة للإنجليز ، ثم السلطة الوطنية التي حكمت منذ ستين عاما ، أي بعد انقلاب 1952 ، فزرعت في نفوس الناس وخاصة العامة الذين لا يملكون سلطانا ولا نصيرا ، الرعب والهول والخوف من مجرد الاقتراب من أماكن الشرطة في العاصمة أو الأقاليم أو المدن الصغيرة ، بل القرى التي تتضمن نقطة صغيرة من رجال الشرطة يعرفهم أهلها ويألفونهم .. الرعب والهول والخوف ، جعل الناس يصوغون مثلا لا يمحى من أذهانهم وصدورهم وتراثهم ؛ يقول : إن كان دراعك عسكري اقطعه ! مع أن هذا العسكري هو الابن أو الأخ أو الوالد أو الشقيق أو القريب أو البلديات ابن الأصول !

وفي الستين عاما الأخيرة كان للشرطة القدح المعلى في ثلاثية الرعب والهول والخوف ، وشاركها أحيانا المخابرات الحربية أو الشرطة العسكرية ، فكم من سجين دفن في صحراء مدينة نصر بعد أن قتله التعذيب ، وقيدوا أمامه في سجلات السجون والمعتقلات فرّ من السجن أو المعتقل ، وكم من حفلات للتعذيب الغشيم التي لم يسبق أن مارسها بشر ، وكم من اعتقالات ومحاكمات استثنائية تمت بمعرفة أجهزة الرعب ، ويتم بعدها تلميع الجلادين على شاشات التلفزة ، بوصفهم حراس الوطن ! بوساطة أبواق المنافقين والأفاقين والعملاء والكذبة الذين لا يستحون .

وفي العقود الأخيرة مُنحت الشرطة وأجهزتها ميزانيات بلا حدود ولا لزوم ، فاقت ميزانيات البحث العلمي والتعليم والجيش في بعض الأحيان ، وكان يتم استيراد أحدث أدوات القمع والتعذيب والتجسس على الشعب المسكين البائس التعيس ، وبدلا من أن تتطور الفلسفة الأمنية إلى حماية المجتمع ومساعدة المواطنين ، انتقلت الفلسفة الأمنية إلى التأكيد على سيادة رجال الشرطة وعبودية الشعب ، وهو ما صرح به لواء فاسد  في دمنهور بعد الثورة في إحدى جولاته مع بعض رفاقه من جلادي أمن الدولة المجرم ، ولسوء حظه فقد سجل له بعض المواطنين مقولاته ومقولات أتباعه من الجلادين !

هل توجد في بلاد الدنيا ظاهرة البودي جارد التي تحرس الشخصيات العامة والبارزة والمؤسسات المختلفة بصورة تنبئ عن جيش عرمرم من البودي جاردات ؛ في وجود وزارة للأمن قوامها مليون ونصف مليون رجل ، وتمثل أكبر جيش للشرطة في العالم كله ؟

كيف يلجأ الناس إلى البودي جارد ولديهم أكبر وزارة للشرطة في العالم ؟

النظام السياسي في مصر لم يكن ابن هيئة التحرير ولا الاتحاد القومي ولا الاتحاد الاشتراكي العربي ولا حزب مصر العربي الاشتراكي ، ولا الحزب الوطني الديمقراطي ، كما لم يكن ابن تلك الحكومات التي شكلها الرؤساء الأربعة محمد نجيب وجمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك ، وأيضا لم يكن ابن المؤسسات الهيكلية التي صنعها الحكام في ستين عاما :مجلس النواب أو مجلس الأمة أو مجلس الشعب أو مجلس الشورى أو المجالس القومية المتخصصة . النظام كان يتكئ على  البوليس كما كان يسمى في عهد الانجليز الحمر، أو الشرطة في عهد الإنجليز السمر . كانت الشرطة هي النظام والنظام هو الشرطة ، ولذا عندما انهارت الشرطة وولت الأدبار في ثورة يناير ، انهار النظام وسقط رأسه ، كما سقط الخوف والرعب والهول ، وبدأ الشعب يأخذ زمام المبادرة .

كان مركز الدائرة في الشرطة أو النظام الأمني ذلك الجهاز اللعين المسمى أمن الدولة ، كان هذا الجهاز هو الذي يمنح شهادات الحياة لأتباع النظام ، وشهادات الموت والإقصاء والرعب لمن يعارضون النظام وخاصة من ينتمون إلى الحركة الإسلامية . ولذا كان من أبرز معالم الثورة أن هوجمت مقرات هذا الجهاز المجرم ، وأشعلت فيها النيران ، وتم العثور على وثائق مخزية ودلائل فاضحة ، وعلامات مؤلمة !

كان من الضروري أن يلغى هذا الجهاز المجرم البشع الذي لا يقل بشاعة عن جهاز السافاك الإيراني الذي أسسه شاه إيران واستعان بخبراء صهاينة وأميركان لدعمه وتدريبه من أجل تعذيب معارضيه وقتلهم وتأمين حكمه الذي انهار في ثورة 1979.

للأسف تم الالتفاف على هذا الإلغاء ، وإعادة الجهاز الدموي اللعين مرة أخرى تحت اسم الأمن الوطني ، وصدرت تصريحات عديدة تتكلم أنه جهاز للمعلومات ، ولا شأن له بالسياسيين ولا بالمؤسسات الأخرى في الدولة التي كان يتدخل في شئونها ، بدءا من تعيين الخفير حتى تنصيب الوزير ! 

كان من ضمن جرائم هذا الجهاز اللعين اعتقال أكثر من ألف وخمسمائة من السياسيين ورجال الفكر والرأي في عام 1981م ، مما أدى إلى مقتل رئيس الدولة آنئذ ، ثم إشعال الحرب على الحركة الإسلامية فتم اعتقال عشرات الآلاف ، وسالت الدماء ، وعاشت البلاد سنوات العنف والعنف المضاد ،وبالطبع كان إعلان الطوارئ مطلبا أساسيا أشار به الجهاز لتبقى البلاد ومن فيها تحت رحمته ومزاجه إلى الأبد ! وفي السياق ذاته شن الجهاز المجرم حربا ضروسا ضد الإسلام وكل من يعلن الانتماء إليه ، وصارت هناك قوائم بالإسلاميين الممنوعين من السفر والوظائف الحكومية بل ومن عضوية النوادي الرياضية والاجتماعية ، وصارت هناك قوائم ترقب الوصول للإسلاميين وغيرهم حيث يتم اصطياد المئات كل يوم وخاصة في موسم العائدين لقضاء إجازاتهم ، واحتجاز جوازاتهم بالساعات أو احتجاز أصحاب الجوازات أنفسهم إلى أجل غير مسمى دون سبب واضح اللهم إلا إثبات أن الجهاز اللعين موجود وفوق  جميع الرقاب .

بعد حوالي ستة أشهر من قيام جهاز الأمن الوطني بدأت روائح كريهة لجهاز أمن الدولة اللعين تفوح من جديد . احتجاز مسافرين من الإسلاميين لأداء العمرة بالساعات في مطار القاهرة . احتجاز قادمين إلى مطار القاهرة بعد سحب جوازاتهم ، استدعاء أئمة وخطباء إلى بعض فروع الجهاز في دمياط وغيرها ، التدخل في انتخابات جامعة القاهرة وتصنيف الأساتذة تصنيفات سياسية وسلوكية ، مطاردة بعض السياسيين وتثبيتهم وسلب سياراتهم ومتعلقاتهم مثلما حدث مع بعض الناشطين السياسيين من الإخوان وغيرهم ، إيقاف طبع بعض الصحف ورفع موضوعات بعينها وذلك بفرم الكميات المطبوعة وطبع كميات جديدة خالية من الموضوعات التي تسببت في إيقاف الطبع ، إيقاف بث قناة الجزيرة مباشر من مصر ، إنذار قنوات أخرى . ومنع ترخيص قنوات جديدة ذات حضور مهني وخلقي يتسم بالصدق والاتزان بعد أن منحت التراخيص لقنوات مشتبه في تمويلها أو توجهاتها. استمرار العناصر الموالية لأمن الدولة في الصحافة والإعلام والثقافة والجامعة دون أن يمسها إبعاد أو تحديد لمجال حركتها ، توجيه الرصاص الحي  للمتظاهرين عند السفارة ليلة 9/9/2011 وقتل ثلاثة وإصابة أكثر من ألف ،  ثم كانت الطامة الكبرى بتمديد قانون الطوارئ وتفعيله ، مع أنه سقط بحكم الإعلان الدستوري  .

الأمن الوطني هو أمن الدولة ، وكما قلت في مناسبات سابقة أحمد هو الحاج أحمد ، وهناك إصرار من وزارة الداخلية على حماية الجلادين والدفاع عنهم ، بل إن الوزارة تحملت أتعاب المحامين الذين يدافعون عن الجلادين المتهمين بقتل الشهداء في ثورة يناير ، وتمت ترقية رجال الأمن الذين غيروا شهاداتهم من الإثبات إلى النفي ، وإحالة من تمسكوا بأقوالهم وشهاداتهم إلى التقاعد ، وقد سمع الناس في إحدى الجلسات وزير الداخلية المتهم بقتل المتظاهرين يقول للشاهد التاسع متوعدا مهددا : بتشهد على يا حسن ؟!

الناس تشعر بحالة أمنية منفلتة بافتعال واضح ، مما يعني أن هناك من يريد شرا بالبلد وأهله ، ومعروف مصدر هذه الحالة ، ووزارة الداخلية مشغولة بحماية جلاديها وراء القضبان أو خارجها ، وهو مما يجعل إلغاء هذه الوزارة ضرورة وطنية عاجلة على أن يحل محلها تشكيل أمنى جديد تماما يمكن تدريبه بوساطة دول صديقة ، ويعتمد هذا التشكيل كما اقترحت في مناسبات سابقة على خريجي كليات الحقوق لمدة ستة أشهر ، ويمكن لو كانت الدفعة ثلاثة آلاف مثلا أن تتبعها دفعة أخرى فيكون لدينا بعد تخريج أول دفعة وعلى مدى عام واحد بعدها ستة وثلاثون ألفا من الضباط الجدد الذين لم يتلوثوا بفلسفة السياسة الأمنية القائمة التي أسسها الإنجليز الحمر ونماها الإنجليز السمر وتحكمها عقدها السادة والعبيد !

وحتى ذلك الحين يمكن للشباب في الأحياء والقرى أن يقوموا بعمليات الحماية بمساعدة الشرطة العسكرية ، وإنهاء مرحلة الانفلات الأمني إلى الأبد ..

أما الأجهزة التي تخدم الجمهور في مجال الوثائق والجوازات والجنسية والمطافي ونحوها فيمكن أن تتحول تبعيتها إلى المحليات أو تصبح هيئات مستقلة .