صراع على المتوسّط
صلاح حميدة
قبل الفتح الإسلامي للشّام وشمال إفريقيا، كان البحر الأبيض المتوسّط يسمّى بحر الرّوم، وبعد الفتح الاسلامي وغزو العرب للبحر أصبح المتوسّط بحيرة عربيّة إسلاميّة، لم تقبل الدّول الأوروبيّة ببقاء المتوسّط بحيرة عربيّة إسلاميّة، وسعت لتحطيم القوّة البحرية العربيّة الإسلاميّة وتحجيمها، وفي سبيل ذلك تمّ تدمير أسطول مصر محمد علي باشا، وتمّ تحجيم الأسطول البحري العثماني بشكل كبير.
ولكن سيطرة العرب على مياه المتوسّط لم يتم تدميرها وتحجيمها بشكل شبه كامل إلا بعد أن قام الأسطول البحري الأمريكي باقتحام المتوسّط ومهاجمة طرابلس الغرب وخوضه لمعارك طاحنة مع المحاربين الليبيين بعد أن أسروا بارجة بحريّة أمريكيّة بكامل طاقمها وعتادها العسكري، فقد كانت أساطيل العرب في شمال أفريقيا تفرض رسوم عبور على كل السّفن التي تريد دخول مضيق جبل طارق، ومن كان يخالف كان يؤسر ويسترق حتّى يتمّ دفع فديته.
بعد تدمير القوّة البحريّة العربيّة والاسلاميّة وسقوط المنطقة العربيّة تحت الاحتلال الغربي، أصبح المتوسّط نهباً لتلك القوى، واستحدثت قوانين تمنع إعاقة الملاحة البحريّة، وفرض ما أصبح يعرف بالمياه الإقليميّة للدول، والمياه الدّوليّة التي يحق للجميع الإبحار فيها، وحرصت القوى الغربيّة على إبقاء وجود عسكري فاعل لها في المضائق البحرية والممرات المائية، وأقامت قواعد عسكرية لها في العديد من الجزر في المتوسّط وغيره، وتمّ ضرب أي نظام عربي سعى للتّحكّم بالمضائق البحريّة والممرّات المائيّة وفرض السّيادة الوطنيّة عليها، وهذا ما حدث تحديداً مع جمال عبد النّاصر عندما قام بتأميم قناة السّويس وهدّد الملاحة البحريّة في مضائق تيران في البحر الأحمر، وإغراق البحريّة المصريّة لغوّاصة إسرائيليّة بكامل طاقمها كانت تبحر بمحاذاة السّواحل الشّماليّة المصريّة.
فضلاً عن السّيطرة الغربيّة على المتوسّط، فقد أصبح في عصر " السّلام" بحيرة إسرائيلية بامتياز، فقد ذهب الإسرائيليون حتّى شواطىء تونس وقصفوا واغتالوا القيادات الفلسطينيّة، وقاموا بعمليّات إنزال على شواطىء لبنان وقطاع غزّة، وقاموا بتخريب بواخر وسفن في موانىء بحريّة أوروبّيّة كانت تبغي الإبحار إلى شواطىء فلسطين في محاولة منها وراكبيها لنصرة القضيّة الفلسطينيّة، بل قامت البحريّة الإسرائيليّة باعتراض العديد من السّفن التّجارية والقوارب الخاصّة وسفن الرّكّاب في المياه الدّوليّة، وقامت بتفتيشها ومصادرتها وحمولتها وقطرها لموانىء فلسطين المحتلّة، وتوّجت عمليّات القرصنة والاستباحة الاسرائيليّة باعتراض أسطول الحرّيّة وقتل المتضامنين الأتراك على متن السّفينة مرمرة.
صحيح أنّ حادثة مرمرة مثّلت التّحول الأبرز في مجال العلاقات التّركيّة- الاسرائيليّة، إلا أنّها تعبّر عن تعارض طموحات تركيا العثمانيين الجدد مع تفرّد إسرائيل في العربدة في المياه الدّوليّة للمتوسّط، واعتبارها المتوسّط " بحيرة إسرائيليّة" وأظهرت هذه الحادثة أنّ صراعاً من نوع جديد نشأ بين قوة طامحة تسعى للعب دور إقليمي ودولي، وبين دولة قامت على أسنّة الرّماح وبقوّة السّيف، وأنّ هذا الصّراع يأخذ بعداً إقتصادياً أيضاً، من خلال الخلاف على المقدّرات النّفطيّة والغازيّة في المتوسّط، وعبر التّلويح بمرافقة البحريّة التّركية للسّفن التّجاريّة والمدنية التّركيّة في المتوسّط.
هذا الصّراع على المتوسّط ليس تركياً - إسرائيلياً فقط، فقد دخلت إيران على خط الصّراع، فقد وصلت إلى قناعة هي الأخرى بأنّ إيجاد متّسع في المتوسّط لنفوذها يحتاج للقوّة، فقد تعرّضت سفنها التّجاريّة وسفن حلفائها اللبنانيين للقرصنة والعربدة الاسرائيليّة في عرض المتوسّط، ولذلك حرصت على نقل حركة بحريّتها من المحيط الهندي والبحر الأحمر إلى البحر المتوسّط، وبالرّغم من اعتراض الدّولة العبريّة وحلفائها على الاستعراض الإيراني، إلا أنّها ابتلعت الإهانة وأصبح هذا الوجود أمراً معتاداً، وهنا أيضاً يأخذ الصّراع بعداً اقتصاديّاً عبر تهديد نصرالله بضرب منصات الغاز الاسرائيلية في المتوسّط، وبفرض حصار بحري على السّواحل الفلسطينيّة المحتلة في حال فرض حصار مماثل على الشّواطىء اللبنانيّة.
روسيا الطّامحة للعودة إلى المياة الدّافئة في المتوسّط، تستميت هي الأخرى في الدّفاع عن النّظام السّوري الّذي يمنحها قاعدتين لبحريتها في اللاذقيّة وطرطوس، وهي لا تريد أن تخرج خالية الوفاض من الصّراع على كعكة المتوسّط الّذي تشكّل الحركة من خلاله قلب العالم.
دخل قطاع غزّة المحاصر على خط الصّراع على المتوسّط عبر البابين العسكري والاقتصادي بعد عمليّة إيلات، فقد أعلنت القناة العاشرة الاسرائيلية وراديو الجيش الاسرائيلي أنّ المقاومة الفلسطينيّة ضربت بارجة حربيّة إسرائيليّة بصاروخين من طراز أرض بحر خلال موجة الاغتيالات التي تبعت العمليّة، وبعد الاعلان عن الانفجار العنيف الّذي هزّ قطاع غزة بسبب هذا القصف، قبلت الدّولة العبرية إعادة التّهدئة، وهذا يكشف عن حقيقتين وهما، أنّ إمكانيّة سرقة الغاز الفلسطيني على شاطىء غزّة أصبحت متعذّرة، وأنّ إمكانيّة العربدة البحرّية على شواطىء القطاع أصبحت تخضع لحسابات كثيرة، وأنّ لاعباً جديداً دخل على ساحة الصّراع في المتوسّط.
قراءة الصّورة في المتوسّط تكشف أنّ المدخل لأي وجود إستراتيجي واقتصادي لا يمكن أن يتمّ إلا عبر القوّة العسكريّة البحريّة أو تلك التي تحد من إمكانيّة هذه الحركة، وهذه رسالة توجّه للقوى الثّوريّة العربيّة الصّاعدة في العالم العربي، وفي دول شمال أفريقيا ومصر على وجه التّحديد، وهي أنّ الباب أصبح مفتوحاً للدّول العربية بقيادة مصر للعب دور يليق بحجمها في المتوسّط.