لماذا يجب أن نرفض الضربات الجوية؟

مجاهد مأمون ديرانية

رسائل الثورة السورية المباركة (39)

الثورة السورية: المرحلة الثانية (5)

مجاهد مأمون ديرانية

انتهينا في المقالة السابقة إلى أن "التدخل الخارجي" له أشكال منها دخول مراقبين دوليين مستقلين إلى سوريا، واعتبرنا أن هذا الشكل من أشكال التدخل مفيد ومأمون العواقب، وأنه خيار عظيم للثورة وينبغي عليها أن تحرص عليه وتسعى إليه من خلال فعالياتها في الداخل والخارج. ثم ناقشنا فكرة الحظر الجوي ووجدنا أنها غير مجدية في حالتنا الراهنة أو أنها قليلة الأثر وبطيئة المفعول، كما أنها باهظة الكلفة وسوف تتسبب في تحطيم جزء كبير من الجيش السوري ودفاعاته الجوية. وتوقفنا أخيراً عند الخيار الثالث الذي هو "التدخل العسكري الغربي" بمعناه الواسع.

الذين طالبوا بالتدخل العسكري لم يوضحوا شكل التدخل المطلوب، لذلك استعنت بخيالي وحصرت أشكال التدخل الممكنة بالاحتمالات الخمسة التالية:

(1) عملية عسكرية شاملة أرضاً وجواً، على الطريقة العراقية.

(2) ضربات جوية مركزة لتدمير القوة العسكرية على الأرض، على الطريقة الليبية.

(3) عمليات نوعية (خاصة) لضرب أهداف إستراتيجية، منشآت أو أشخاص.

(4) توفير منطقة آمنة تصلح مركزَ عمليات وانطلاق للقوات المنشقّة.

(5) إمداد القوات المنشقّة بالسلاح والذخيرة والمساعدة اللوجستية.

الشكل الأول لن يوافق عليه عاقلٌ لأنه احتلال مباشر، وهو غير وارد أبداً فيما أحسب. الشكل الثاني له مؤيدون للأسف، لكنهم ما يزالون قلّة لحسن الحظ، وسوف أناقشه في المقالة القادمة (لماذا يجب أن نرفض عسكرة الثورة؟) لأنه سيؤدي إلى النتيجة نفسها التي ستؤدي إليها عسكرة الثورة، في الحالتين سوف تتحول الثورة السلمية إلى حرب (ليبيا مثالاً).

الاحتمالات الثلاثة الأخيرة جيدة ومقبولة -برأيي المتواضع- لو طالت الثورة وزاد الضغط على المدنيين. ولننظر إلى كل منها على حدة: الخياران الأخيران هما توفير الأرض والسلاح للجيش المنشق الذي يمكن أن يقوم بدور كبير في حماية المدنيين وإعاقة حركة القوات الأمنية المعتدية، وهو أمر مفيد جداً وسوف يساعد الثورة دون أن يقدح بسلميّتها، وسوف أعود إلى مناقشته بإذن الله في حلقة قادمة من هذه السلسلة (إعادة تعريف السلمية) حيث سأتحدث بالتفصيل عن دور الجيش المنشق في مرحلة الثورة الثانية التي نعيشها اليوم.

يبقى الخيار الثالث: عمليات نوعية (خاصة) لضرب أهداف إستراتيجية (منشآت أو أشخاص): يجب أولاً تحديد الأهداف المطلوبة، وينبغي أن تُختار على أساس أهميتها بحيث يفقد النظام تلقائياً -في حالة ضربها- جزءاً من قوته الضاربة التي يواجه بها الثورة السلمية. قائمة الأهداف يمكن أن تشمل قيادات ومقرّات الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة في دمشق وضواحيها، وقيادات المخابرات العامة والمخابرات العسكرية في كفرسوسة، وعُقَد الاتصالات التابعة للأركان العامة، والقصور الرئاسية، ويمكن تنفيذ هذه الضربات بواسطة قوات خاصة على الأرض أو بصواريخ موجّهة تنطلق من الجو أو من البحر، على أن تُضرب الأهداف بدقة عالية لتجنب سقوط ضحايا من المدنيين.

لا أريد أن يُنقَل عني ما لم أقله، لذلك سوف أعيد التأكيد: الذي أؤيده هو ضرب أهداف أمنية وعسكرية "محدودة ومنتقاة ويُتوقَّع أن تشلّ قدرة النظام على الاستمرار" وليس ضرباً جوياً موسَّعاً، بل إني أفضّل أن تُضرَب هذه الأهداف من الأرض بعمليات تخريبية خاصة وليس من الجو. وإنما أعيد هذا التأكيد لكيلا يظن أحدٌ أنني أدعو إلى ضربات جوية واسعة على الطريقة التي نفذها الناتو في كوسوفو.

ذلك أن جزءاً من السيناريو السابق ورد ضمن تقرير نُشر قبل ثلاثة أسابيع على أنه خطة وضعها حلف الناتو لتوجيه ضربة عسكرية لسوريا واعتقال الرئيس بشار الأسد وأركان نظامه، وهي تشبه الخطة التي نفذها الحلف في يوغسلافيا السابقة وانتهت باعتقال الرئيس اليوغسلافي وأركان نظامه سنة 1999 كما يقول التقرير، ويقول أيضاً إن تنفيذ الخطة متوقف على توفير الغطاء المالي والسياسي للعملية التي تستغرق شهرين وتكلف نحو خمسة عشر مليار دولار. تلك الخطة المزعومة نشرها موقع "الحقيقة" نقلاً عن جنرال روسي قال إن اسمه ديمتري روغوزين، وبما أن موقع الحقيقة معدوم المصداقية (وصاحبه معروف لمن يعرفه، فلا داعي للتعريض به هنا) فإنني أتحفظ كثيراً على مصداقية الخبر، وإن كنت لا أنفيه أيضاً لأني لا أملك دليلاً قاطعاً، مع العلم بأنني أمضيت ساعات وأنا أنقّب في الشبكة عن خبر من هذا النوع باللغة الإنكليزية، وكما توقعت فإنني لم أعثر على أي شيء.

سواء أكان هذا جزءاً من خطة شاملة للحلف أم لم يكن فإني أجده مفيداً لو طُبّق تطبيقاً صحيحاً، ولا أرى بأساً في أن تتبناه المعارضة في حوارها مع القوى الدولية في الأيام القادمة، مع التأكيد مرة أخرى على الانتقاء الصحيح للأهداف والتسديد الدقيق في حالة القصف الجوي لئلا يسقط ضحايا من المدنيين، وعلى أن لا يُسمَح -تحت أي ظرف من الظروف- بتحويل العملية إلى هجوم جوي شامل على طريقة حملات الناتو السابقة في ليبيا وكوسوفو. وأيضاً، وهو الأهم، أن لا تتوقف الثورة الشعبية السلمية، لأن قصف بعض الأهداف المنتقاة على التفصيل السابق سيساعد الثورة ويخفف عنها بعض العبء ولكنه لن ينجح وحده في إسقاط النظام، وذلك خلافاً لما يزعمه التقرير المضلّل الذي أشرت إليه قبل قليل.

اسمحوا لي أن أستطرد قليلاً لأهمية الموضوع: ذلك التقرير "المفبرَك" يوحي بأن القصف الجوي نجح في إسقاط طاغية البلقان الكبير ميلوسوفتش، وقد أحزنني أن يتلقف كثيرون من أنصار الثورة السورية الطعمَ بحيث راحوا يكتبون ويطالبون بتدخل الناتو على الطريقة اليوغوسلافية "التي نجحت بإسقاط نظام ميلوسوفتش المجرم". لماذا لا يقرأ الناس التاريخ؟ لو أراد الواحد منكم أن يقضي إجازته في دولة من الدول فسوف يسأل عدداً من أصحابه الذين سبقوه إليها ليتعرف على أفضل الفنادق وأحسن الأماكن حتى لا يضيع عليه وقت أو مال في رحلته، وما تلك إلا مغامرة سياحية يقتصر أثرها على عشرة أفراد في أحسن الأحوال، فما بالكم بمغامرة عسكرية تؤثر في حياة عشرين مليون إنسان؟ كيف يغامر الواحد منا بارتجال رأي حاسم بشأنها بلا تدبّر ولا استقصاء؟ تعالوا أولاً نتعرف على ما حصل في ضربات الناتو تلك ثم نقرر إن كانت تصلح لنا اليوم، قبل أن نرفع الصوت مطالبين بها ومتوهمين أنها ستحسم المواجهة مع نظام الأسد المجرم لصالحنا.

التضليل الأول الذي تقدمه هذه الرؤية هو أن التدخل العسكري للناتو كان لإسقاط النظام، والتضليل الثاني هو زعمها بأن النظام سقط بسبب الضربات. الحقيقة أن الناتو تدخل لأن الجيش الصربي شن حرباً ضد إقليم كوسوفو. لتوضيح الصورة وبلا دخول في التفاصيل: الإقليم استولت عليه يوغسلافيا بعد الحرب العالمية الثانية، ومنذ عام 1947 مُنح حكماً ذاتياً ضمن اتحاد الجمهوريات اليوغسلافية، وفي عام 1989 ألغى الرئيس الصربي سلوبودان ميلوسوفتش الحكم الذاتي وبدأ بسياسة اضطهاد وقمع لسكانه الألبان. في أواسط عام 1990 أجرى أهالي كوسوفو استفتاء عاماً كانت نتيجتُه رغبةَ الغالبية العظمى بالانفصال عن صربيا وإنشاء جمهورية مستقلة، لكن الصرب رفضوا الاستفتاء فتطور النزاع إلى مواجهة عسكرية بينهم وبين ميليشيات عسكرية ألبانية تشكلت باسم جيش تحرير كوسوفو، ومع استمرار الصراع المسلح بين الطرفين بدأ الجيش الصربي بارتكاب مذابح ضد المدنيين الألبان في كوسوفو في عام 1998، وعندها بدأ المجتمع الدولي بالتحرك وصولاً إلى التدخل العسكري (الجوي) لحلف الناتو في الرابع والعشرين من آذار عام 1999.

الحقيقة الأولى المهمة هنا هي أن الوضع الميداني كان حرباً مسلحة بين بلدين، بلد مستقل (صربيا) وبلد يسعى للاستقلال (كوسوفو)، فهي إذن مواجهة بين إقليمين متجاورين وليست ثورة شعب على نظام. والحقيقة الثانية هي أن العملية الجوية الأطلسية انتهت بإجبار الجيش الصربي على الانسحاب من كوسوفو، لكن نظام ميلوسوفتش لم يسقط. وللعلم فقط فإن الغرب (الناتو) لم يحرّك حملته الجوية على صربيا إلا بعد أن سقط أكثر من أحد عشر ألف قتيل من الألبان في كوسوفو وهُجِّر نحو مليون في حركة تهجير وتطهير عرقية نفذها الصرب ضد سكان كوسوفو الألبان.

هل تريدون الحقيقة الثالثة، وهي الأهم على الإطلاق؟ لقد نجا إقليم كوسوفو من الصرب، ولكنه لم يحصل على استقلاله الكامل قط، فقد انتقل إلى الوصاية الدولية ووُضع تحت حماية الأمم المتحدة وحلف الأطلسي، فدخلته قوات حفظ السلام (كيفور) في الثاني عشر من حزيران عام 1999 وما تزال فيه إلى اليوم، كل ما هنالك أن عددها انخفض من خمسين ألف جندي إلى نحو عشرة آلاف. هؤلاء الجنود قَدموا من 39 بلداً، ولكن الغالبية العظمى منهم من بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، وكان قادة القوات غالباً من ألمانيا أو بريطانيا خلال السنوات الماضية. وأخيراً حصل الإقليم على الاستقلال عن صربيا أوائل عام 2008، ولكن من المؤكد أن جزءاً لا بأس به من القرار السيادي لكوسوفو ما زال بيد القوات الأجنبية (شبه المحتلة).

وماذا عن خسائر المدنيين؟ استمرت ضربات الناتو لمدة تسعة وسبعين يوماً (24/3-10/6/1999) وتسببت في سقوط عدد كبير من الضحايا بين المدنيين قُدِّر بنحو 1200، حتى إن المؤرخ العسكري مايكل أورن قدّر أن أربعة مدنيين سقطوا ضحايا مقابل كل جندي صربي قُتل في القصف. القصف لم يقتصر فقط على الأهداف العسكرية الإستراتيجية بل شمل أهدافاً تشكل البنية التحتية للاقتصاد والحياة في صربيا، فخلّف دماراً واسعاً في المنشآت الحكومية والمصانع ومحطات الطاقة والمياه ومحطات الإذاعة والتلفزة والطرق والجسور، حتى انتهى أخيراً باستسلام ميلوسوفتش وسحب الجيش الصربي من كوسوفو.

لماذا استطردت هذا الاستطراد الطويل؟ لأن بعض الأصوات ارتفعت هنا وهناك -من الداخل والخارج- تطالب بهذا النوع من الضربات الجوية، معتبرة أنه لا يوصلنا إلى نموذج الحرب الليبية وأنه سوف ينجح في إسقاط نظام الأسد في سوريا كما نجح في إسقاط نظام ميلوسوفتش في صربيا. أرجو أن تردوا على أصحاب تلك الأصوات وأن تقنعوا من اقتنع بمقالتها: هذا النوع من الضربات الموسعة سيدمر سوريا ويتسبب في ضحايا كثيرين من المدنيين، وهو لن يسقط النظام. لذلك لا نريد شن هجوم من هذا النوع في سوريا أبداً، لا نريد هذه الخدمة لا من حلف الناتو ولا من الولايات المتحدة، مهما ساءت الظروف في سوريا لا سمح الله.

نرفض هذا النوع من الضربات الواسعة ولكننا نرحب بضربات محددة ضد أهداف منتقاة يمكن أن تُضعف قدرة النظام على البطش أو تعطله جزئياً، وقد مثّلتُ لها بقيادة الحرس الجمهوري والقصور الرئاسية وعُقَد اتصالات هيئة الأركان، وهذه الضربات يمكن لمن يريد مساعدتنا أن ينفّذها بقصف من الجو أو بعمليات نوعية (خاصة) على الأرض، والأخيرة أفضل لأنها أشد تركيزاً ولأنها يمكن أن تستهدف أيضاً -بالإضافة إلى المنشآت الحيوية- رؤوسَ النظام الكبار وتؤدي إلى تصفيتهم أو اعتقالهم، وسوف تكون أكثر فائدة عندما تترافق مع عملية "شراء" جماعية لعدد كبير من المتنفذين الكبار في النظام، فإذا ترافق هذا مع هذا فسوف ينهار النظام انهياراً مفاجئاً كاملاً بإذن الله.

أما إذا طال الصراع بين النظام والثورة وازدادت الانشقاقات في صفوف الجيش فسوف تنشأ حاجة إلى إمداد القوات المنشقة بالسلاح والذخائر، وهذا هو الباب الثاني الذي تستطيع القوى الخارجية مساعدتنا فيه، وليس وراء هذا وهذا باب للمساعدة العسكرية بأي صورة من الصور والله أعلم.

رسائل الثورة السورية المباركة (40)

الثورة السورية: المرحلة الثانية (6)

بعدما استثنينا التدخل العسكري الشامل على الطريقة العراقية لأنه احتلال عسكري كما قلنا، وهو خيار يستبعده الجميع بحمد الله، وبعدما استبعدنا الضربات الجوية المركّزة على الطريقة الكوسوفية لأنها تؤدي إلى تدمير البلاد دون أن تؤثر تأثيراً حقيقياً على النظام، وبعدما وجدنا أن الحظر الجوي عملية معقدة ومكلفة وغير مجدية ولا يمكن أن تؤدي وحدها إلى سقوط النظام، بعد ذلك نصل إلى خيار العملية العسكرية الجوية الشاملة مع دعم التحرك العسكري الوطني على الأرض وصولاً إلى إسقاط النظام، أو باختصار: النموذج الليبي.

قرأت مرة حكمة تقول إن أفضل طريقة لتجنب الحروب هي منع البدء بأي حرب جديدة قبل نشر كل الكتب عن الحرب السابقة. أرجو أن يعرف شعبنا السوري الثائر المصابر كم دفع إخوانه في ليبيا في سبيل النصر العسكري قبل أن يفكر في نسخ التجربة ونقلها إلى سوريا، فهل اطلعتم أولاً على التقدير المبدئي الذي صدر قبل أيام والذي يقول إن الضحايا قد يصلون إلى خمسين ألفاً؟ هذا في ليبيا الصغيرة ذات الستة ملايين إنسان، وبما أن سكان سوريا أربعة أضعاف سكان ليبيا فمن المنطق تماماً أن نتوقع مئتَي ألف ضحية في سوريا. والمدن؟ هل شاهدتم صور مصراتة والزاوية وأجدابيا والزنتان وغيرها؟ لقد تحول أكثرها إلى ركام. والمعاناة الإنسانية؟ ألا تعلمون أن عشرات الآلاف سيكملون حياتهم مع عاهات دائمة؟ ألم يأتكم نبأ العدوان على الأعراض؟ ألف حالة سُجِّلت في مصراتة وحدها؟ فكم عرضاً انتُهك في ليبيا كلها قبل الوصول إلى طرابلس وإسقاط نظام القذافي؟

ما سبق هو الجزء البشري والمادي من خسائر الحرب، وهو ليس كل شيء، بل إنه ليس أسوأ شيء. الأسوأ هو ارتهان القرار السياسي لبلدنا ونقله من يدنا إلى يد الدول الغربية، والولايات المتحدة تحديداً. مَن يجرؤ على أن يقول إن الولايات المتحدة صديق لنا أو أنها تحب لنا الخير؟ هل سنخرج بعد كل تلك التضحيات من تحت الدلف إلى تحت المزراب (كما يقول العامة في أمثالهم)؟

رغم ذلك الثمن الباهظ ما زال يوجد من يدعو إلى الحرب، ويقولون: إذا كانت الحرب ستوصلنا إلى إسقاط النظام بعد سنتين بربع مليون شهيد فهي أفضل من الموت البطيء بلا نتيجة حتى الآن. ربما كان لهذا الرأي وجاهة لو كانت الحرب هي الطريق الوحيد لإسقاط النظام، ولكنها ليست كذلك. لأثبت أنها ليست كذلك كتبت هذه السلسلة من المقالات ورتبتها ترتيباً مقصوداً؛ بدءاً بإثبات أن الثورة حققت الكثير حتى الآن، ثم بتأكيد أن ضغط الثورة السلمية يمكن أن يسقط النظام، ثم رسمت أكثر من طريق يمكن للثورة السلمية أن تسلكه وصولاً إلى النصر. أمام ذلك كله سأكرر طرح السؤال: لماذا يريد قومٌ أن يضحوا بسوريا وأهل سوريا وجيش سوريا واستقلال سوريا في سبيل التخلص من النظام الأسدي الحالي إذا كانوا يستطيعون سلوك طريق آخر للوصول إلى النتيجة نفسها؟ نعم، هو طريق صعب محفوف بالآلام والتضحيات، ولكن ألا ترون أن الطريق الآخر الذي تختارونه أكثر آلاماً وأحفل بالمآسي والتضحيات؟

لقد ثبت أن التدخل الغربي العسكري بالصورة التي جرى بها في ليبيا مكلف بشرياً ومادياً وسياسياً، والأسوأ من هذه الكلفة كلها أنه سيعيدنا إلى نقطة الصفر لأنه سيوقف الثورة الشعبية السلمية فوراً. ألم تفكروا في هذه النقطة تحديداً؟

في اللحظة التي يبدأ فيها تدخل من ذلك النوع سوف تتحول المواجهة التي يقف الشعب الأعزل في أحد طرفَيها والنظام المجرم في طرفها الآخر، سوف تتحول إلى حرب بين دول، بين سوريا والقوات الغربية المتحالفة. في حرب كهذه سيصبح الشعب في موقف حرج، فإما أن يهدأ تماماً ويتوقف عن ثورته السلمية، أو يستمر فيها فيصبح هدفاً مشروعاً للنظام ليتعامل معه معاملة المحاربين. لو حصل ذلك فقد تستطيع قوات التحالف المهاجمة أن توفر بعض الحماية للمدن عن طريق قصف القطع العسكرية، ولكن هذه الحماية ستكون محدودة جداً وبطيئة جداً، وإلى أن تصل إلى إدلب ستكون حمص قد أبيدت، وأثناء انشغالها بالدفاع عن حماة ستحترق درعا. أمَا رأيتم كم صرف التحالف الغربي من الوقت في قصف وتدمير القوة القتالية للقذافي؟ هل خطر ببالكم أن تعقدوا مقارنة بين الجيشين الليبي والسوري؟ سأوفر عليكم الوقت: الجيش السوري يملك 4950 دبابة و5940 عربة مدرعة وحاملة جند، أي 10890 قطعة قتالية برية. بالمقابل كان للجيش الليبي قبل الحرب 1514 دبابة و1740عربة مدرعة، أي 3254 قطعة قتالية برية. التحالف الغربي أنفق خمسة أشهر لتعطيل القدرة التدميرية للجيش الليبي، فإذا اشتغل بالمعدل نفسه فسوف يستغرق خمسة عشر شهراً في سوريا!

إذن فإن الثمن الأسوأ للتدخل العسكري الغربي -حتى لو اقتصر على التدخل الجوي- هو توقف الثورة الشعبية. الثمن الثاني هو استرجاع النظام لجزء كبير من قوته التي فقدها في مواجهته مع الشعب، فسوف تلتفّ حوله أطراف كثيرة ضعف ولاؤها له خلال الفترة الماضية، وسوف يحسم كثير من المترددين الذين كانوا يقتربون من الثورة، سيحسمون موقفهم للاصطفاف مع النظام في مواجهته للعدوان "الهمجي" الخارجي كما سيروج إعلامه المنافق.

أسوأ من ذلك كله هو أن القصف من الجو لن يحسم المعركة. لم يحصل قط في التاريخ العسكري كله أن حُسمت معركةٌ في السماء، المعارك لا تُحسَم إلا على الأرض. ليبيا لم تكن استثناء، القصف الجوي خفف الضغط عن المقاتلين على الأرض، لكن أولئك المقاتلين هم الذين حسموا المعركة. إذن فإن التدخل العسكري الغربي سوف يجرّ الثورة إلى الحرب لا محالة، أو أنه سوف يوقفها لا محالة، احتمالان لا أرى لهما ثالثاً، ومن كان عنده ثالث فليتحفنا به وله الشكر.

*   *   *

أنا مقتنع بأن القوى الدولية، والغربية منها خاصة (الولايات المتحدة وحلفاءها) جادّة في إسقاط النظام، فلماذا نمنحهم الفرصة لابتزازنا وتدمير جيشنا؟ سوف ندفع ثمن هذه العملية مرتين، مرة ثمن التدمير ومرة ثمن إعادة البناء، وفي الحالتين ستذهب أموالنا إلى أميركا وحلفائها من دول الناتو، وسوف نرهن جزءاً لا بأس به من قرارنا المستقل، وسوف تولد سوريا الجديدة ناقصةَ الحرية كما حصل في ليبيا للأسف الشديد.

لسنا مضطرين إلى ذلك كله، بل يمكننا أن نصبر ونثبت ونمارس الضغط ونقول للجميع: إننا ماضون في ثورتنا اعتماداً على أنفسنا، نريد منكم فقط أمرين: (1) الحماية ومنع النظام من ارتكاب مذابح، ولو أنكم أرسلتم مراقبين مستقلين فسوف يقتصد النظام في القتل والإجرام، ولو استطعتم أن تفرضوا على النظام دخول الصحافة الحرة فسوف يَرعوي أكثر ويوفر على الشعب المزيد من المعاناة. (2) الأمر الثاني هو دعم الوحدات العسكرية المنشقّة، وذلك بتوفير العتاد والذخائر بما يمكّنها من الاستمرار في حرب العصابات التي تنفذها الآن وتساعدها على حماية المدنيين. إذا لم يبلغ الجنون بالنظام درجة دكّ المدن بالطيران الحربي وبالصواريخ فلا نريد منكم إلا ما سبق، أما لو فعل فسوف تتغير كل قواعد اللعبة، وعندئذ لكل حادث حديث.