هل يمكن أن تنجح الثورة السلمية في إسقاط النظام
رسائل الثورة السورية المباركة (36)
الثورة السورية: المرحلة الثانية (2)
هل يمكن أن تنجح الثورة السلمية
في إسقاط النظام؟
مجاهد مأمون ديرانية
كثيرون سألوا وما زالوا يسألون: هل يمكن لثورة سلمية أن تُسقط نظاماً مجرماً؟ سأقص عليكم قصة قصيرة. تقولون: ليس هذا وقت القصص! لن أطيل، لكني عجزت عن مقاومة إغراء يدفعني إلى بداية المقالة بهذه القصة، يبدو أن الاستطراد عادة عندي سأحاول أن أتخلص منها في المستقبل.
في مثل هذه الأيام من السنة الماضية كنت مشغولاً بقراءة بضع وعشرين رواية، هي الروايات التي وصلت إلى التصفيات النهائية في مسابقة للرواية نظمها واحد من المواقع الأدبية المرموقة، وقد تكرم عليّ منظّمو المسابقة فضموني إلى لجنة التحكيم وأرسلوا لي الروايات لقراءتها وتقويمها. لن تتوقعوا بالتأكيد أن ألخص لكم تلك الروايات، ولكن اسمحوا لي أن أعرض عليكم ملخصاً لواحدة منها ذكّرتني بها ثورتنا العظيمة في سوريا.
الرواية تحكي مأساة طفل صغير يتيم الأم يعيش مع أب جلف قاس ويعاني من قسوة أبيه ومن ظلمه ما يستدرّ الدمعَ من العيون. ولأن الشقق صغيرة ومتقاربة فإن الأصوات تنتقل بينها بسهولة، وهكذا فإن الجيران يسمعون دائماً صراخ الأب وأصوات الضرب وبكاء الطفل واستغاثاته المتكررة، حتى عجز الجار القريب عن الاحتمال فتدخل مرة لإنقاذ الطفل من بطش أبيه، فناله بعض الأذى، ثم تطورت الأمور إلى تدخل بقية الجيران ومدير المدرسة وصاحب البقالة المجاورة، كلهم لم يستطيعوا الاستمرار في السكوت وهم يراقبون قسوة الأب المجرم، بعضهم تحرك بوازع من نفسه وبعضهم بضغط من الزوجة أو الأولاد، حتى اضطروا أخيراً إلى الاستعانة بالشرطة لوقف تلك المأساة... إلى آخر أحداث الرواية التي انتهت بمرض الأب وندمه وعودة الحياة الطبيعية إلى البيت، النهاية التي يحبها القراء.
لقد صنع الجيران في الرواية ما سيصنعه أي واحد منا في الحياة الحقيقية. أنا لا أستطيع أن أستمر في حياتي اليومية الطبيعية وجاري يضطهد أبناءه ويضربهم ويكاد يورثهم عاهات لا تزول، وكأنه سجّان في "تدمر" وهم المسجونون، ولا بد أن أتحرك وأن أصنع شيئاً لوقف هذه المجزرة، ولو لم أفعل وكنت ميت القلب معدوم النخوة فلا بد أن تتحرك زوجتي أو يضغط علي أولادي، ولو لم يتحرك أحد منا فلا بد أن يتحرك غيرنا من الجيران... هذا وضع لا يسكت عنه الناس. لكن من المؤكد أنني لن أقتحم على الرجل بيته منذ اليوم الأول، بل ينبغي أن أبدأ بنصحه بكلام خاص بيني وبينه، ثم أكرر النصح، ثم أشتدّ فيه وأحتدّ، وفي مرحلة ما سوف أبدأ بتنسيق موقف موحد مع بقية الجيران لأن الجماعة أقوى من الفرد، وربما توسطنا ببعض من له عند الأب وجاهة، وأخيراً وبعد اليأس الكامل سنتوجه إلى السلطة التي بيدها القوة والتي تستطيع تنفيذ القانون بالإكراه بعدما عجزنا عن تنفيذه بالنصح والرجاء.
هذه السلسلة الطويلة لا يمكن أن تستمر إلا باستمرار العنف في بيت الرجل وابنه المسكين، ولو أن الأب ارعوى ذات يوم فكف شرّه فلن تستمر السلسلة، وحتى لو استمر الأب في قسوته ولكن الطفل توقف عن الشكوى والعويل وانقطع صوته فسوف يظن الجيران أن المشكلات انتهت إلى سلام وسوف تتوقف السلسلة أيضاً. الأمل الوحيد لاتصال سلسلة الأحداث السابقة واستمرارها وصولاً إلى الحل الحاسم هو بقاء الجو المشحون واستمرار المصادمات.
تلك الرواية تصلح لحكاية ما يدور في البيوت بين الآباء والأبناء، وتصلح أيضاً لحكاية ما يدور في البلدان بين الحكام والمحكومين. غيّروا المسمّيات، من الأب القاسي إلى النظام المجرم، ومن الطفل المظلوم إلى الشعب المعذَّب، والجيران هم الجيران لكنهم صاروا دولاً بدلاً من الأسر، وكما أن للمجتمع شرطة يحمون ضَعَفته من عدوان أقويائه فكذلك المجتمع الدولي له شرطة يحمون الشعوب من بطش جلاديها. وتبقى النقطة الأخيرة في الحالتين سواء: الزمن. لا بد من مراحل تمر بها المشكلة وصولاً إلى الحسم، وقد قطعت الثورة أكثرها وبقي القليل.
* * *
لا شك أن معاناة الشعب السوري في الشهور الأخيرة كانت كبيرة جداً، ولعل استمرارها وزيادة الضغط الذي يمارسه النظام على الثورة هو السبب في حالة الإحباط التي بدأت تتسلل إلى قلوب الناس وتدفعهم إلى التفكير في البدائل التي حرّموها على أنفسهم من قبل، أعني الانتقال إلى الكفاح المسلح والترحيب بالتدخل العسكري الخارجي.
هل يعزّيكم -يا ثوارُ- أن تعلموا أنكم لستم وحدكم من يعاني؟ بل هل يعزيكم أن تعلموا أنكم لستم الأكثر معاناة من بين الجميع؟ تعالوا نفكر في الأطراف التي تشترك في المعاناة:
(1) الشعب يعاني، بالطبع هو كذلك، بل لا يمكن تخيل أن لا يعاني لأنه آلى أن يُسقط نظاماً أمنياً من أشرس وأعتى الأنظمة القمعية في العالم في هذا العصر. هل يمكن أن يصنع ذلك بلا معاناة؟
(2) النظام يعاني أيضاً، هذا هو الخبر الجيد، بل ربما كانت معاناة النظام أشد من معاناة الشعب. كيف؟ الجواب جزء من المقالة القادمة، فاقرؤوه فيها غداً.
(3) دول الجوار كلها تعاني من القلق بدرجات متفاوتة، لأن خروج الأمور عن السيطرة في سوريا يمكن أن يعرّض استقرارها وأمنها إلى الخطر. تركيا هي أكبر المتضررين في حالة انزلاق سوريا إلى الفوضى لأن حدودها معها هي الأطول، ولأن المشكلة المشتركة بين البلدين هي الأخطر: مشكلة الأكراد. إسرائيل ستتعرض لخطر أكيد في حالة الفوضى لأن الجبهة السورية لن تكون تحت أي رقابة ويحتمل أن تخترقها أية مجموعات مسلحة. الوضع القلق في العراق لا يحتمل أي قدر إضافي من الاضطراب على الحدود، وأيضاً لن يرحب الأردن بحالة فوضى على حدوده الشمالية.
(4) الفلسفة نفسها تنطبق على المجتمع الدولي، فالقوى العالمية ترتب علاقاتها ومصالحها في توازنات دقيقة، ولا شك أنها تتابع بقلق أي حادثة كبيرة من شأنها أن تخلّ بتلك الموازنات. سوريا طرف أساسي في موازنات العلاقات الدولية بين الشرق والغرب، وفي موازنات النفوذ الإقليمي بين تركيا وإيران، وفي موازنات الحرب والسلام، وهذه الموازنات ستتعرض للخطر عندما يضطرب استقرار سوريا أو تنهار إلى الفوضى. توجد أيضاً مشكلة أخرى تقلق القوى الدولية والغرب كثيراً وتجبره على التدخل قبل خروج الوضع عن السيطرة: إن سوريا مستودع هائل للأسلحة، وعندما تفقد الدولة سيطرتها على الأرض ولو جزئياً فإن احتمال تسرب الأسلحة إلى جهات مجهولة سيصبح احتمالاً كبيراً، وهذه الفكرة تسبب الذعر للدول الغربية ولأميركا خاصة.
ألم تتابعوا مؤخراً ما نُشر عن قلق عارم في الأوساط الأميركية والغربية بسبب فقدان كمية من الأسلحة من المخازن الليبية في خضم الفوضى الأخيرة التي سبقت سقوط النظام؟ لقد اختفى نحو 480 من الصواريخ المحمولة المضادة للطائرات في الأيام القليلة الماضية من بعض مخازن الأسلحة التي تخلت عنها كتائب القذافي، ومن بينها صواريخ قادرة على إسقاط طائرات تجارية! أيضاً تتحدث التقارير عن حالة ذعر من وصول أحد عشر طناً من غاز الخردل (كانت جزءاً من ترسانة القذافي للأسلحة الكيماوية) إلى أيد غير صديقة. اضربوا هذه الدرجة من الذعر في خمسين لتعرفوا حجم القلق الذي ستحس به الحكومات الغربية من فكرة انتشار الفوضى في سوريا وفقدان كميات هائلة من الأسلحة أو تسربها إلى جهات مجهولة. إن هذه الدول مستعدة للتدخل بأي صورة للإسراع في إسقاط النظام إسقاطاً مسيطَراً عليه بدلاً من انتظار سقوطه سقوطاً عشوائياً يقود إلى الفوضى.
باختصار فإن الكل يريدون استقرار سوريا ويضرّهم سقوطها في هاوية الفوضى، وهم يراقبون المواجهة بين الشعب والنظام بقلق واهتمام، وبما أن الشعب ماض في ثورته -رغم كل ما يناله من أذى وما يواجَه به من قمع- فإن الانهيار السياسي والاقتصادي والأمني في سوريا بات قريباً جداً. عندما تشتدّ المواجهة بين الشعب والنظام وتطول مدتها تتعرض مؤسسات الدولة لخطر السقوط، ليس لأن الثورة تستهدف تلك المؤسسات بالضرورة، ولكن لأن النظام يركز اهتمامه على المؤسسات التي يحتاج إليها للبقاء (الأمنية بشكل أساسي) ويهمل ما عداها، بل قد يدمر -عامداً- المؤسسات الأخرى للضغط على الشعب، وهذا ما نراه الآن في تداعي المؤسسة الصحية على سبيل المثال. لو استمر تداعي وسقوط مؤسسات الدولة فسوف تسقط الدولة كلها بالنتيجة مع بقاء النظام، وهذه الحالة تسبب قلقاً متزايداً لدى دول الجوار ولا بد أن تدفعها إلى التحرك في مرحلة ما.
(5) أخيراً فإن استمرار الثورة والقمع والقتل واقتحام المدن يزيد الاهتمام ويرفع درجة التعاطف بين شعوب العالَمين العربي والإسلامي، وكلما تأخر الحسم واستمر القمع تزداد حدة الانفعال الشعبي في تلك الدول، والشعوب تضغط على الدول بطريقة أو بأخرى، بل لقد بات الضغط الشعبي أمراً ذا بال تحسب له الأنظمة الحسابات! كما أن الثورة ذاتها مرضٌ مُعْدٍ لا تلبث عدواه أن تنتقل عبر الحدود، والأنظمة العربية في غنى عن مصدر وباء جديد، فهي إما أن ترتاح من الثورة سريعاً بمساعدة النظام على قمعها أو ترتاح منها بالتحرك لإسقاط النظام، وبما أنها فشلت في الاحتمال الأول (المفضل بالطبع) ويئست من قدرة النظام السوري على إنهاء الثورة -سواء بالقوة أو بالسياسة والإصلاح- فقد وجدت نفسها أمام الخيار الوحيد المتاح، وهو التخلص من النظام وإعادة ترتيب عناصر المعادلة.
مما سبق تجدون أن النظرة المتعجّلة تقودنا إلى ملاحظة معاناة الشعب السوري منفرداً بسبب الثورة، وقد تقودنا هذه النظرة الانتقائية الضيّقة إلى اليأس والإحباط، لكننا لن نلبث -بمزيد من التأمل- أن ندرك أن الذين يعانون بسبب الثورة كثيرون، وأنهم لن يستطيعوا (أو أنهم لا يحبون) أن يستمروا في المعاناة طويلاً، لذلك سيفعلون شيئاً ما للتخلص من الكابوس.
وبإدراكنا هذه الحقيقة المغيَّبة سوف نهتدي إلى النتيجة الأهم: إن مفتاح المستقبل لا يملكه إلا جمهور الثورة بإذن الله، هو في يد الشعب السوري لا في يد غيره، فلو قرر السوريون إنهاء ثورتهم والعودة إلى بيوتهم فسوف يتنفس العالم كله (وليس النظام فقط) الصعداء ويقول: ليبقَ كل شيء على حاله. أما إذا استمر الشعب في ثورته فسوف يسقط النظام، ليس فقط لأن النظام -الذي يتعرض للضغط الشديد- لن يحتمل الضغط إلى الأبد، بل لأن العالم كله لا يستطيع الصبر على الضغط والقلق لفترة طويلة ولا بد له من حسم المسألة.
أما كيف يكون الحسم وكيف يمكن للثورة أن تُسقط النظام، فهذا ما سنحاول استطلاع مساراته المحتمَلة في المقالة الآتية بإذن الله.