الخبيث والطيب
ناديا مظفر سلطان
أعترف أنني منذ بداية الثورة السورية وأنا لم أجرؤ على مشاهدة صورة أو فيلم للمجازر التي ارتكبت في الأراضي السورية.
ففي الأيام الأول لانطلاقة الثورة ،وكنت في غاية الحماس لمعرفة ما يجري ، وقعت عيناي على مشهد حي لشاب أصابته رصاصة أودت ب نصف وجهه ، فلم يبق منه سوى العينان والأنف ، وكان الفتى في حال احتضار ، ورفيقه يلقنه الشهادة بحرص وجزع ، وكأن هول الموقف أذهله عن إدراك أن الشاب لا يستطيع النطق ، بعد أن فقد فكه ولسانه ، وجزء من رقبته .
تصدع قلبي حزنا وألما ، وتخيلت أم الشاب وهي ترى فلذة كبدها يصارع سكرات الموت بهذه الطريقة المفجعة ، فعشت حال الأم لأيام ، لم يجف فيها دمعي ، ولم يغمض فيها جفني .
ومنذ ذلك الوقت وأنا أشيح بوجهي عن كل الصور ومقاطع الفيديو المسجلة لمجازر العصابة الحاكمة
وأكتفي بالقراءة كي أعيش معاناة ، وطني المنكوب.
ومنذ بداية الثورة وحتى اليوم وأنا لم التق إنسانا عربيا أو غربيا إلا وبدا أنه لا يملك القدرة على التعبير عما تتعرض له سوريا من عنف تقشعر منه الأبدان وتتفطر له القلوب... باستثناء بعض السوريين ذاتهم!
في البداية ظننت أن هذه الفئة هي بين مكره مغلوب على أمره ، أو خائف جبان يخشى على نفسه ، ثم تبين لي أنه هناك فعلا من هو مؤيد للنظام !... لا إكراها ولا جبنا في إثبات دامغ ، لحقيقة أمدنا بها القرآن ، بأن الأبصار لا تعمى ، ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
وهكذا فإن مشاهدة صور الجثث المتورمة من التعذيب والأخرى الممثل بها ، ممن اقتلعت حنجرته وبترت أعضاؤه ، لا يكفي كي يقنع هذه الفئة لشجب النظام السفاح ، في حقيقة علمية تؤازر القرآن بأن سلامة العين من آفات النظر ليست كافية لرؤية سليمة ، طالما أن الصورة تتشكل في الشبكية بالمقلوب، ولا تستقيم إلا في الدماغ ، ومن كان يعاني من علة دماغية تجعله يخلط بين الصواب والخطأ ، يستحيل أن يفرق بين الحق والباطل .
"ولو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون ، لقالوا إنما سكرت أبصارنا بل نحن قوم مسحورون"15-16
والذرائع التي تتعلل بها هذه الفئة ، لمناصرة النظام تثير الدهشة ، فالغضب ، فالأسف بل والرثاء
ومثلا فئة من الناس، سخطت على من يتظاهر لإسقاط الحكم، لأن هذه المظاهرات أفسدت حياتهم ، وعطلت مصالحهم ، فضاعت إجازة الصيف دون لهو من سهر وسمر... ومنهم من قال أن حلب –ما شاء الله، منعا لشر حاسد إذا حسد - لم تتأثر ، فمازالت النوادي مزدحمة بطلابها، والمطاعم متخمة بروادها بدليل اجتماع عشرات الألوف في ساحة سعد الله الجابري يهللون للفاضلة الفنانة رغدا –رمز الحكم بكل أخلاقياته - ويطربون لعاصي الحلاني ، وأمثاله!
، كيف يمكن للإنسان أن يتردى إلى هذا الدرك من السخف والجهالة والانحطاط في القيم والمعايير الأخلاقية؟؟ كيف يمكن للإنسان أن ير أخاه يذبح ثم يهلل للقاتل ويشد على يد لوثتها الدماء ، ويطأ على جثة أخيه المقتول- ظلما وغدرا- ليرقص ويطرب ويهلل؟؟
والقرآن يمنحنا رؤية موضوعية متوازنة لمجريات الحياة ، رغم فظاعتها أحيانا ، كي نرأف بأنفسنا فلا تقتلنا الحسرة على المظلومين ، ولا يأخذنا الغضب من الظالمين ، في سنة إلهية وحكمة لا يعلمها إلا
" هو" ، للتمييز بين الخبيث والطيب .
وفي آل عمران "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب ، وما كان الله ليطلعكم على الغيب ولكن الله يجتبي من رسله من يشاء"179
وإذ انقضى عهد الرسل ، فإن التمييز بين الخبيث والطيب ،لا يكون إلا بالمحن التي تعصف أحيانا بالخلق.
وفي شأن سوريا ينقسم العالم اليوم بين عصابة استباحت الدماء والأعراض ، ومؤيديها ، من شبيحة مأجورين ، وتجار منتفعين ، وعلماء دين منافقين ، وجهلة مصفقين لا تشفع لهم جهالتهم ، وسياسات عربية وعالمية متواطئة ، في وليمة تضافرت فيها أطماع اللئام ،في كم خبيث هائل متراكم... وبين فتية خرجوا وقالوا :سلمية ، فقط نريد حرية... فقتلوا! . وفي سورة الأنفال
"ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون".37
وهكذا ومع وعد الله الحق ، يشرق الأمل ، ويسكت الغضب ،فتهدأ النفس وتطمئن إلى عدالة إلهية ، لا تأخذها سنة ولا نوم.
وحسب السياق القرآني فإن الخبث له بريقه ،وإن كان خداعا ،ولكنه يجتذب القلوب السقيمة ،وما أكثرها!
"قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث"
ولكن يبدو أن حماة مدينة لا تعاني- لا من خبث ، ولا من قلة - فخرجت عن بكرة أبيها، لم يتخلف فيها طفل ولا شيخ ولا امرأة . فكانت ولازالت هدفا للخبثاء.
لافتة غطت نواعيرها منذ أسابيع ، وقبل أن يتحول عاصيها إلى مجمع جثث . تقول اللافتة باللغتين العربية والانكليزية:
"فقط طلبنا أن نعامل كالبشر فقتلونا" . تعبير صادق ، بسيط ، موجز، عن مأساة سوريا ، لم يكن وقعه في نفسي أقل ألما من صور المجازر المروعة.
وفي سورة الأعراف
"والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا كذلك نصرف الآيات لقوم يشكرون"58
هنيئا لك يا حماة زرعك الطيب المنزّه عن الخبث ، هنيئا لأرضك - لحد الشهداء- منذ ثلاثين عاما وحتى اليوم ، هنيئا لسوريا بك ، فالحرية لن تشرق شمسها إلا من سماؤك ، وسحقا لمن طاب له الرقص على جراحك .