الناس في بلادي
قدري شوقت محمد الراعي
لا أخال ضمير الدكتور " عصام شرف " رئيس وزراء الحكومة الإنتقالية في مصر –البلد الحبلي بالثورات – غافلاً عن الحكمة القائلة : " إذا أردت يوماً أن تكون في الصدارة فلتكن نفسك مهيأة لقبول النقد " .
والناس في بلادي اليوم لم يعد يساورهم أدني شك في أن حكومة "شرف" أخفقت اخفاقاً ذريعاً
في أن تكون المرآة النقية الصادقة التي تعكس أهداف الثوار . وتحافظ علي توجهات ثورة 25 يناير ومكتسباتها .
وفشلت في إخماد جذوة السخط المتنامي والغضب العارم في قلوب المصريين الذين عانوا علي مدي ثلاثة عقود متوالية من سياسات القمع والقهر والإفقار .
كانت سيرة الرجل المرهون عليه تحقيق أهداف الثورة وأحلام الثوار رغم عمله السابق في نظام الحكومة القمعية المخلوعة تشهد له بنقاء السريرة وشرف الضمير وتقطع بأن يده نظيفة لم تتلوث بشرور النظام السابق.
لذا فقد علق الناس في بلادي رهانهم عليه , ومنحوه في الميدان ثلاثاً : الثقة , والبيعة , والمهلة .
ومكثوا ينتظرون عسي أن يأتي التغيير المنشود علي يده .
وكلما انقضي شهر , وسقطت من شجرة الثورة ورقة علي الأرض المخضبة بدماء الشهداء
وعبرات الحياري المكلومين التواقين إلي أنوار الحرية والعدالة .
تململ الشعب , ولعبت برأسه الظنون .
ثم لا يلبث أن يعود إلي حسن ظنه بالرجل ويردد في أعماقه متلمساً له العذر: لعل طبخاً في الخفاء لم يزل يُطهي ولم ينضج بعد ..!!
ولكن طال الإنتظار ...
ولم يعد في جراب (الحاوي) ما قد يثير حفيظة الشعب اللهم إلا سخطه وغضبه ويأسه.
لقد أسفر قادم الأيام عن خسران الرهان , وأن كلاً من الراهن والمرهون عليه خاسران.!
والقضية الجوهرية مشرفة هي الأخري علي البوار...!!
فالرجل الذي نزل ذات يوم في الماضي القريب أرض الميدان واختلط بجموع الثائرين الذين
حملوه فوق الأعناق في مشهد مهيب ومنحوه الشرعية والبيعة لم يكن سوي رجل " نوايا "
فقط ....والجعبة المزعومة لم تكن ملأي سوي بالأحلام..!
ولم يكن صاحبها النبي المنتظر الذي يتوق الوطن الجريح إلي ظهوره , ليدور في ربوع البلاد الحزينة ممتطياً جواده الأبيض , متلبساً بأهداف الثورة
فيحرر العبيد...
ويزرع في الأرض الظمأي بذور الكرامة والعدالة...
ويكسر أغلال الليل الظلوم..
ويأتي بالصبح الجديد.!
إن الجبل الشموخ قد تمخض عن فقر وخواء .
وحكومة "الترانزيت" قد كشفت عن وجهها الحقيقي خالياً من مكياج التصريحات الكاذبة
والترهات الفارغة .
فإذا الأحلام والأماني أضحت سراباً وخيالات !
وإذا المحاكمات التي تنعقد في أروقة القضاء ودهاليز جهات التحقيق المعنية بالفصل في محاسبة رموز الفساد وقتلة الثوار يغلفها الغموض والإبهام ..!
وإذا العدالة العمياء التي لاتعرف المحاباة حين يمثل بين يديها العظيم والحقير كلاهما سواء
تحكم بحزم لا يفسده التردد , وتزن الأمور بمكيال واحد , قد صار لها عينان مبصرتان
فانتشت ورقصت , ومضت كالذاهلة الغير مصدقة من فرط السعادة تهرول في ساحات القضاء
متعثرةً يمنة , ومضطربةً يسرة . فاذا ما ارتجل الحاجب وتحركت شفتاه تعلنان أسماء الحيتان والقروش والتماسيح التي كانت تحيا في محيط النظام الفاسد ...تتمرغ في نعيمه ورغده .!
تلكأت العدالة وتلعثمت , وأحالت قضاياها إلي التأجيل والمماطلة .!
والناس في بلادي الحزينة يتساءلون في حيرة : لم سيف العدالة في مصر مشرع دائماً في وجه الضعيف ..؟!
هل سن الرعاة قوانين العدالة وأحكام القضاء في دساتيرهم العظيمة لتكون نصلاً لا يسدد إلا في صدور الغلابة..ولا يُغمد إلا في قلوب الثكالي ..؟!
هل كتب علي الناس في بلادي الحزينة أن يظلوا أساري لأحلام الطغاة , والأغبياء , والحمقي المفتونون بالسلطة ..؟!
والناس في بلادي الحزينة يضربون أخماساً في أسداس , ولا يفارقهم التعجب من مجريات الأمور صباحاً ومساءاً ..
فإذا قالوا : نريد تطهير البلاد من الفاسدين
قالت حكومتنا : رويدكم , هانحن اليوم قد قطعنا أشواطاً نحو هذا الحلم البهي ..!
وإذا قال الناس في بلادي : نطالب بالإنجاز والسرعة في محاكمة الفساد حتي نغلق دون الحواة أبواب التلاعب والتحايل فلا تضيع دماء الشهداء هباءاً وهدراً
قالت حكومتنا : إن هذا شكل من أشكال الضغط من شأنه أن يؤثر في مجريات التحقيق , ويحدث نوعاً من التشويش والتأثير النفسي علي القضاة ربما قد يؤدي بهم إلي استصدار
أحكام عشوائية ترضية للثائرين والمحتجين ..!
وإذا قال الناس : نحن والميدان علي موعد قريب .
قالت حكومتنا : أنتم تريدون ذلك ؟ ترونه حقاً لكم ؟ حسناً أنتم أحرار ولكن ذلك عبث وحماقة
تعطيل الأعمال , والإضرابات المستمرة , والتظاهرات المليونية في الميادين العامة رجس من عمل الشيطان ..!
غباء يقطر من عقيدة الكسالي..!
سلوك أرعن يهدد مستقبل البلاد الطلسمي ..!
ومدية حادة تستقر في صدر الإقتصاد المتهاوي ..!
أحري بكم أيها الشعب أن تتركونا نعمل في صمت دون إزعاج أو جلبة ..دعونا نتفرغ بالكامل لإنجاز ما وعدناكم به , وإعادة ترتيب البيت من الداخل علي النحو الذي تحلم به الثورة ..!
والناس في بلادي الحزينة معذورون , وصبرهم قد نفذ
فقد مضي علي الثورة في مصر ستة أشهر , نصف عام وحفنة من الأيام
والحال لم تزل بالية ورثة ..
والفكر القديم مازال قائماً..
ولم تشهد البلاد تغييراً حقيقياً ..
نفس الوجوه القميئة التي تعاني الشيخوخة وفساد الرأي , تتعاطي في الليل العقاقير
وتلوح للشعب في وضح النهار منهكة واهنة .!
ترسم علي محياها إبتسامة صفراء , وتكرس حناجرها في الصباح للدعوة إلي العمل الدؤوب
والتوكل الصادق فيما عقولها ترقد منذ أزمان في التقاعس والكسل
وحين تصحو لا يفارقها الإتكال ..!
لا جديد ..
القتلة طلقاء في الشوارع , وربما يستمتعون بأوقاتهم في أحد المصايف .
منحهم القضاء في مصر حريتهم ..!
الحكومة في مصر تخرج لسانها للشعب ..!
تتاجر بالألم النبيل ..
تهزأ بمشاعر أسر الشهداء التي لم يبرد حزنها ولم تجف دموعها ..
تصدر قرارات عنترية لتجريم التظاهر والإعتصام , وتسعي إلي تفعيل هذه القرارات .
تستجدي رجال الأعمال عساهم يقبلوا اعتماد علاوة ال (15%) في أجور القطاع الخاص
تستجديهم في ذلة كقطة ظمأي فيما يراوغ أرباب رأس المال في تأبٍ وكبرياء مهددين بتسريح العمالة وإضرام النار في الهشيم ..!
تعبث بأحلام البسطاء وتلوح لهم بالجزرة في أعقاب الثورة , فيهرع الشعب بالملايين إلي مكاتب البريد مناشدين الجهات المعنية أملاً في الفوز بفرصة عمل أو شقة .
ثم لا يلبث أن تنكشف أبعاد اللعبة وتفاصيل الخدعة..
فما الوظيفة إلا وهم , وما الشقة إلا سراب ..!
والحكاية في الأصل عبث وتدليس ومهزلة كبري ..!
لا شيئ سوي حقنات " بنج " وجهها حواة الحكومة إلي الشعب الحزين لتخديره ..!
الناس في بلادي يا دكتور "شرف" لا تحفل بالأسماء ولا بتغيير المواقع والرتب بقدر ما تحفل بالعدالة ..
إن كثيراً منهم ليسوا "فلولاً" ولا "أذناب" ولا "ثوار" ...!
لا يعرفون شيئاً عن "محمد بوعزيزي" ولا "خالد سعيد" ..!
لم يتسني لهم أن يقرأوا دساتيركم أو يتفهموا طلاسم مهاراتكم السياسية أو يدخلوا نواديكم ومنتدياتكم ليعرفوا كيف تصنعون القرار ..!
بل إن كثيراً منهم لا يدري أي الفريقين حق : " الدستور أولاً" أم " الإنتخابات أولاً"
"الدولة المدنية" أم "الدولة الإسلامية"
"القصاص" أم "الدية "
فرنسا التي أصدرت حكماً علي أحد رعاياها سنة مع إيقاف التنفيذ لمحاولته الإعتداء علي رئيس حكومتها مراعية في ذلك الحكم مستقبله المهني والشخصي ..!
أم مصر التي أحالت مدرساً إلي الجنايات لإتهامه بالضرب والتعدي علي أطفال صغار بإحدي دور الحضانة بدعوي قيامه بتعليمهم وتقويم اعوجاجهم في تلك السن المبكرة ..!
انهم يا سيدي بسطاء هذا الشعب الحزين ..
الناس الطيبون في بلادي الحزينة ..
ربما شيخ كبير , أو امرأة لا عائل لها , أو شاب خذلته مرارة الواقع , أو طفل يتيم ..!
المهمشون ... المثمنون كالتراب بلا ثمن ... الموصوفون في احدي قصائد "نجيب سرور" بأنهم "من هول الحياة موتي علي قيد الحياة " !!
أولئك الذين يتسامرون في الليل أمام بيوتهم بكسرة خبز وبراد شاي , ويتحاكون بأخبار " أبي زيد الهلالي"
وإذا ألقي الليل أستاره لاذوا إلي مضاجعهم يحلمون بالنبي المنتظر ..!
فهلا أقلت عثرتهم يا دكتور شرف ..؟!
أمدد يدك إليهم ..
أقم العدل فيهم ولا تخذلهم ..
امنحهم حريتهم ..
أطلق إكسير الكرامة في شرايينهم , افتح كل النوافذ والأبواب كي تهب ريح التغيير في حكومة الكسالي والعجزة والمتغطرسين ..!
إنها رصاصات الرحمة فأطلقها بربك لا تخف ..علي الجسد العليل
حتي يستريح ..
ويرتاح الناس في بلادي الحزينة ..!!