الفلسطينيون والانتفاضة السورية

فلسطين ليست "ضرة" للحرية!

محمد شاويش-برلين

في عدد 22/6/2011 نشرت القدس العربي تعليقاً للكاتب محمد منصور يتابع فيه مواقف الإعلام السوري من الانتفاضة المشتعلة منذ نحو ثلاثة أشهر ونصف بعنوان "دريد لحام زار لاجئي غزة ونسي لاجئي بلاده ومديرة التلفزيون اعتبرتهم سياحا يزورون اقاربهم".

لا أعرف من هو الذي وضع هذا العنوان: أهو الكاتب أم هو محرر من محرري الجريدة، ولكنه يتضمن "هفوة" أو زلة لسان كادت تغيب عمن علق على الموضوع، وإنها لهفوة مهمة كانت تستحق التعليق والتحليل أيضاً. لا نحتاج لفرويد لنكتشف محتوى لا واعياً كامناً في القول إن دريد لحام حين زار غزة فإنه "زار اللاجئين الفلسطينيين"، إذ تعبر زلة اللسان هذه عن معتقد يكمن في لا وعي بعض العرب يقول إن فلسطين بلد غير موجود وإنما الموجود هم "لاجئون فلسطينيون" التصق بهم اسم اللاجئين دون أسباب تاريخية معروفة، فكل فلسطيني هو لاجئ منذ الأزل وإلى الأبد! وإلا فكيف يكون دريد لحام بزيارته لغزة قد زار "اللاجئين الفلسطينيين"، وهي بلد فلسطيني وأهلها الذين زارهم دريد ساكنون في بلدهم وإن كان عندهم لاجئون كثر لم يكونوا هم بالذات المقصودين بالزيارة؟

ولكن ما هو مزعج في هذا العنوان يزيد عن هذه الهفوة الهامة الدالة على نقص خطير في فهم التاريخ القريب لا البعيد للمأساة الفلسطينية، إذ العنوان نفسه يحتوي على تناظر أو تضاد بين زيارة لحام لغزة وعدم زيارته لمخيمات اللاجئين السوريين في تركيا، وكأنه يقول: "ألم تكن زيارة اللاجئين السوريين أولى من زيارة "اللاجئين الفلسطينيين"؟".

أعتقد أنه ما من أحد يفهم ويقدر معاناة اللاجئين السوريين على الحدود أكثر من اللاجئين الفلسطينيين لأنهم هم ذاقوا هذه الكأس المريرة أكثر من أي شعب عربي آخر، وهم يعرفون معنى أن تترك دارك وأرضك ووسائل رزقك وتلتجئ إلى بلد ليس لك فيه إلا خيمة معارة وبطاقة تموين من جمعية الهلال أو الصليب الأحمر، لكن فلسطين والانشغال بالقضية الفلسطينية يوضع في سياقات توحي بإيحاءات مصدرها خبث مقصود أحياناً وغباء وانعدام وعي غير مقصود أحياناً أخرى.  تقدم القضية الفلسطينية وكأنها عبء غير مبرر على المجتمعات العربية، وأي نظام أو أي شخص يزاود بالمسألة الوطنية على الفلسطينيين أن يتحملوا عواقب مزاودته وكأنهم هم من دفعوه لهذه المزاودة  أو كأنهم استفادوا حقاً منها، ولكي لا نظل في حالة التعميم لنخصص بذكر حالة النظام السوري بالتحديد: لقد كان بإمكان الثوريين البعثيين الأوائل (مثل غيرهم من ثوريي الخمسينات والستينات من ناصريين وقوميين عرب وسوريين قوميين اجتماعيين وإخوان مسلمين إلى آخره..) أن يدعوا أنهم ناضلوا في سبيل تحرير فلسطين، ولكن هؤلاء جميعاً ما كان واحد منهم يعتقد أنه بهذا يقوم بعمل خيري لصالح الشعب الفلسطيني حصراً (وهذا الاسم نفسه لهذا الشعب هو تطور لاحق إذ كانوا حتى الستينات اسمهم الشائع "عرب فلسطين") وهو ما ينساه معظم المتكلمين حالياً في المسألة، إذ أن هذا الجزء من سوريا الجنوبية كان يعتبر جزءاً من سوريا الطبيعية اقتطع قسراً منها ومن العرب عموماً كما اقتطع لواء اسكندرون، فاستعادته كانت عملاً يتم لصالح الأمة (العربية أو السورية أو الإسلامية) بمجملها، تماماً كما أن حلب لو احتلت فاستعادتها لا تكون منّة يمنها المحررون على أهل حلب، وكما أن استعادة الجولان الآن واجب على السوريين (إن لم نعده واجباً على العرب أو المسلمين أو "الأمة السورية" بمفهوم أنطون سعادة) لا يمنون به على أهل الجولان. هكذا كانت النظرة لقضية تحرير فلسطين. ومع مجيء حافظ الأسد إلى السلطة مترافقاً مع مجيء السادات إلى السلطة في مصر ظهرت عند الاثنين النظرة الواضحة إلى القضية على أنها قضية "إزالة آثار العدوان" واستعادة ما فقد عام 1967، واعتباراً من عام 1974 صارت المسألة الفلسطينية مسألة تخص الفلسطينيين وحدهم، وكانت السياسة الارتجالية التي قادتها منظمة التحرير  تشجع هذه النظرة القصيرة الضارة بالهدف النهضوي الجوهري الذي طرحته الثورة العربية عام 1916 على نفسها وتبناه القوميون العرب بمجملهم ألا وهو هدف الوحدة العربية الذي لا يتصور بدون تحرير فلسطين لأنها صلة الوصل بين مشرق الأمة ومغربها ولأن المحتلين موجودون لعرقلة كل نهضة للأمة العربية. ومنذ ذلك الحين صارت العلاقة التي يبنيها النظام السوري مع المنظمات الفلسطينية علاقة مصلحية تعتبر الشعار الفلسطيني ورقة تفاوضية في يد النظام تحسن من فرصه للضغط على الأنظمة العربية الأخرى ولا سيما الغنية منها وعلى الكيان الصهيوني ومناصريه، وفوق هذا وذاك تهب النظام شرعية تاريخية عند شعب له تاريخ قومي عربي متجذر هو الشعب السوري الذي كان يئن تحت القبضة الدكتاتورية، وما كانت السلطة لتستطيع أن تبرر مصادرتها للحريات الأساسية وتركها الشعب يئن تحت وطأة وضع معيشي متزايد التدهور منذ بداية الثمانينات دون المزاودة بالشعار الوطني.

هل الفلسطينيون مسؤولون عن ذلك؟ وبالعودة إلى موضوع السيد دريد لحام: لا ريب أن فلسطينيي غزة يشكرونه على زيارتهم ويقدرون له ذلك، ولكن: أهم طلبوا منه أن لا يزور مخيمات اللاجئين السوريين؟

هذا السؤال يجب أن لا يفهم على أنه توضيح للواضح، بل على أنه تذكير بحقائق يراد لها أن تنسى، ذلك أن وضع فلسطين وكأنها "ضرة" للحرية صرنا نجده عند قطاعات معينة عربية وسورية بالجملة، ومن هؤلاء من يسمون أنفسهم "لبراليين" ومنهم من يطرح شعار "سوريا أولاً" بالتناظر مع شعار أردني ولبناني، ويقصد منه القول إن النظام السوري استنزف طاقات البلد في "نضالاته" المتعلقة بالقضية الفلسطينية. يقول معلق بالأسلوب العامي، الذي شاع في مواقع الإنترنيت كشكل يعكس كل سطحية التفكير عند أجيال جديدة بولغ في تقريظها ومديحها في الفترة الأخيرة على أحساب أجيال قديمة كانت أبعد نظرا وأعمق فهماً للتاريخ، على مقال في جريدة "الأخبار" اللبنانية نشر في 22/6/2011 للكاتب بشير البكر بعنوان "سوريا: فاتورة الاستقرار": " الخطأ الذي وقع به النظام, كما اسلفت استاذ بشير. انو تخّنّها كتير بموضوع العروبة وفلسطين. يعني كمان نحنا بدنا نعيش. ليش بس نحنا ولبنان عم نتحمل هالعبء".

توضع الحرية في سياق الموقف من الانتفاضة السورية القائمة وكأنها نقيض للوطنية لا يجتمعان، وكأن الجمع بين تأييد الحرية وتأييد موقف وطني أمر غير ممكن أوهو "الثالث المرفوع" عند المناطقة، أو بتعبير أكثر إلفة: كأن الحرية هي "ضرّة" الوطنية تأبى أن تتعايش معها أو تساكنها. هذا هو موقف قوى وطنية عربية عديدة أعجبت "بممانعة" النظام واعتراضه على الاحتلال الأمريكي للعراق وقبله على كامب ديفيد وبدعمه للمقاومة اللبنانية. وهذا الموقف يأخذه أيضاً من خلفية معاكسة "اللبراليون" العرب الذين يؤكدون أن ثورة الشعوب العربية التي نشهدها اليوم إنما هي ثورة لأجل الحرية وأنها ثورة دفنت "الشعارات البائدة" (ويعنون الشعارات الوطنية) واستبدلتها بشعار "نهاية التاريخ" الفوكويامية: إن النموذج اللبرالي الغربي هو النموذج الوحيد الذي يسمح للشعوب أن تحتذي حذوه وتحاول تطبيقه عندها.

حين أتأمل بهذا المشهد السوري أعيد إلى شاشة ذاكرتي مشاهد عشتها منذ زمن الصبا: في عام 1974 وكنت يومها في المرحلة الإعدادية، وكان الزمان زمان مد يساري قبل أن يفقد اليسار نفوذه على الشباب في نهاية السبعينات لصالح الإسلامانيين،  جلست مع طلاب من مخيم اليرموك كانوا قد وزعوا بياناً (بالاشتراك مع طلاب سوريين على ما أظن) يدين قيام النظام آنذاك بتوقيع اتفاقية فك الارتباط مع العدو الصهيوني، كان الشبان قد خرجوا من السجن بعد أن قضوا فيه ستة أشهر (سيتغير هذا في زمن الثمانينات الهستيري الذي كان سيكلف من يقوم بفعل كهذا مدة من السجن لا تقل عن عشر سنوات) وقصوا علي متفكهين لقاءهم مع ناجي جميل قائد القوى الجوية آنذاك الذي قال لهم غاضباً: "أتقولون أننا انبطحنا أمام الصهاينة؟ نحن لا ننبطح إلا على نسائنا!". لا بأس. التعبير يعبر عن شيء من السوقية ولكنه يدلك على زمان كان فيه الخلاف بين المعارضة والنظام السوري يقوم في جزئه الأساسي على موقف النظام من المسألة الوطنية الذي كان يبدو للمعارضين ليس وطنياً بالمرة أو ليس وطنياً كفاية.

كان الزمان زمان تحرر وطني وكان النضال ضد الاستعمار لا زال مشتعلاً في بلادنا ضد الاحتلال الاستيطاني الصهيوني وفي أماكن أخرى ضد التدخل الأمريكي في فيتنام والهند الصينية. وكانت ذكريات حرب التحرير الجزائرية لا زالت في الأذهان مثالاً يحتذى. وقد ابتكرت الحركة الشيوعية مفهوم "الثورة الوطنية الديمقراطية" على اعتبار أن الشعوب يجب أن تمر بمرحلة التحرر الوطني لبناء الدولة القومية التي هي قاعدة التطور الرأسمالي الحديث وعلى أساس هذا التطور يمكن المشي إلى الأمام في سبيل الاستقلال الاقتصادي الذي نظر إليه على أنه استكمال للتحرر الوطني.

وقد اعتقل المعتقلون الشيوعيون الأوائل (مثل حكمت أبو جمرة) من تنظيم "الحزب الشيوعي السوري-المكتب السياسي" عام 1977  بسبب قيامهم بتظاهرة جامعية معارضة للتدخل السوري في لبنان لصالح الكتائب والقوى الانعزالية. وحين أسست هذه المعارضة "التجمع الوطني الديمقراطي" في مطلع الثمانينات، فقد كانت تدمج شعارين معاً: الوطنية والديمقراطية. وفي جريدة "الراية الحمراء" "لرابطة العمل الشيوعي"-لاحقاً "حزب العمل الشيوعي" كان النظام يوصف بأنه "دكتاتوري لا وطني".

وما كان يحدد وطنية نظام أو لا وطنيته كان خياراته الاقتصادية والسياسية: هل كانت تسير في اتجاه فك الارتباط الاقتصادي بدول الاستعمار الجديد وفي اتجاه حل المسألة الوطنية عبر تصفية الكيان الصهيوني أم كانت تسير على العكس في اتجاه التبعية الاقتصادية والصلح مع الكيان الصهيوني؟. علاوة على ذلك كان ثمة معيار مهم عند هذه القوى للوطنية وهو سياسة النظام الداخلية: هل هي ترسخ الوحدة الوطنية أم هي تقسم المجتمع عمودياً على أساس انتماءات ما قبل رأسمالية؟

لم يكن الشعار الوطني إذن فيما مضى خصماً للحرية بل كانت الوطنية هي التعبير الجماعي عن التطلع للحرية، ولكنه الآن يصبح كذلك "بفعل فاعلين" لا فاعل واحد: بعض هؤلاء من الساحة الوطنية ممن يرى أن الحرية يمكن حقاً في مكان وزمان معينين أن تتناقض مع الوطنية، وهذا هو حال كثير من الوطنيين اللبنانيين (حزب الله و الأحزاب المتحالفة معه) وبعض الوطنيين العرب من غيرهم في تعاطيهم مع الانتفاضة السورية القائمة، حيث يرون أن الانتفاضة ضد نظام مستهدف أمريكياً وصهيونياً أمر غير جائز،  وبعض هؤلاء هو على العكس من الساحة التي تسمى أحياناً "الساحة اللبرالية" وهي تتغذى من "مزاج شعبي" معين في بعض الشرائح السورية صار شعاره "نريد أن نعيش" وهو يذكرنا بشعار مماثل في "ثورة الأرز" التي ابتكر لها شاعر متحول عن أقصى اليسار التمييز الثنائي بين "ثقافة الحياة" و "ثقافة الموت"، حيث حزب الله طبعا هو صاحب الثقافة الثانية. يحول النقص الكبير في حرية التعبير في سوريا دون أن يبلور هذا المزاج خطاباً منسجماً ولكنك يمكن أن تراه في مواقع الإنترنيت حيث يعبر بعض السوريين عن ابتهاجهم من كون الثورات العربية لم تطرح شعارات لها علاقة بالصراع مع الصهيونية، وما تراه حين تقرأ لهؤلاء أنهم يأخذون على النظام السوري أنه في نظرهم وطني أكثر من اللزوم!

ساهم في هذا التطور طبعاً سقوط المعسكر الاشتراكي الذي كان نصيراً للحركات التي تريد الاستقلال عن التبعية السياسية والاقتصادية للغرب وإخفاق الحركة القومية واليسارية في تحقيق أهدافها نتيجة للحرب الشعواء ضدها ولأخطائها وقصور وعيها أيضاً.

في المقابل تحمل الحركات الإسلامانية في زماننا راية الاستقلال الوطني ولكن مع قصور فادح في رؤية البعد الاقتصادي لهذا الاستقلال، سيذهلنا مثلاً أن مفكراً واسع الأفق مثل راشد الغنوشي حين يجيء ليتكلم عن الاقتصاد التونسي لا يجد من حل إلا استجلاب المزيد من الاستثمارات الأجنبية، ولا يخطر له على بال ضرورة ابتكار حلول مستقلة محلية لا تعتمد على الخارج وتقطع مع آليات العولمة المتمركزة التي توجهها القوى الكبرى في المتروبول الإمبريالي القديم. إن قصور الفهم الاقتصادي للإسلامانيين يعادل في أهميته وتأثيره المخرب على مستقبل هذه الحركة التي كانت واعدة قصور فهم أهمية بعد الهوية الثقافية في الحركة القومية واليسارية التي كانت آخذة زمام المبادرة حتى سبعينات القرن الماضي.

لا يجوز أن توضع الحرية في وجه الوطنية فهما جناحا النهضة، وجريمة أكبر من هذه بعد أن توضع فلسطين والقضية الفلسطينية في وجه الحرية. لقد نسيت شرائح كثيرة مسيسة عندنا الحقيقة التي كانت تعلنها الحركة القومية عندنا، وإن لم تكن هي الحامل الأقدر للبرنامج الذي يترتب على الإقرار بها: إن تحرير فلسطين هو الشرط الأساس لكل حرية عربية.