خطاب الرئيس وأزمة ثقة

د. نور الدين صلاح

مركز الدراسات الإستراتيجية لدعم الثورة السورية

سيكثر الكلام والشد والجذب والآراء المتباينة والتحليلات المختلفة حول خطاب رئيس الدولة بشار الأسد، ولست بصدد مناقشة كل ما جاء فيه من تشخيص للواقع وتصور المشكلة وأبعادها ثم طرح الحلول لها، لكن هناك خطوط عريضة يمكن أن نناقش الرئيس فيها لنصل إلى نتيجة مفادها هل رهان الرئيس على هذا الخطاب في هذه المرحلة كان رابحاً أم كان خاسرا، لقد وجدت في هذا الخطاب ما يلي :

أولاً : عدم مواكبة الخطاب لمنطقية وتسارع الأحداث، فقد جاء متأخراً عنها، فعلى سبيل الافتراض لو كان هذا الخطاب هو الأول الذي ألقاه في مجلس الشعب فمن الممكن أن يكون مقبولاً وأنه يعني شيئاً وفيه ملامح تغيير في الخطاب، لكن هذا الخطاب لم يعد مقبولا لأنه لا يعالج مشكلة قائمة، فلا يوقف نزيف الدم، ولا يلبي طموحات المتظاهرين الذين اعترف هو بخطابه أنهم موجودون وأن مطالبهم ملحة ومحقة، والظاهر أن هذا الخطاب عنوانه (لقد بدأت أفهمكم) والظاهر أننا نحتاج إلى خطاب آخر (الآن فهمتكم) فهل ستتاح له الفرصة أم سيفهمنا بعد فوات الأوان !!!!

واعترف الرئيس بأن كثيراً من ملفات الإصلاح منتهية سابقاً وبعضها من سنين، فلماذا تأخرت ؟؟؟ ولقد اعترف أن الجميع يريد الإصلاح فمن الذي يمنعه ؟؟؟

لم يجب على هذين السؤالين الملحين

ثانياً : سلوك نفس الطريق بالتسويف والإكثار من (السين وسوف) والوعود المستقبلية، ولم يكن هناك أي صدمة إصلاحية يمكن أن تعيد قلب النظام المتوقف عن الإصلاح إلى العمل، وإن كان وسّع لنا بخياله الخصب أن الدستور نفسه يمكن أن تطاله يد الإصلاح جزئياً أو كلياً، ودائما الحديث عن المستقبل بمعزل عن اللحظة الراهنة، هناك قتلى وجرحى ومعتقلون ومفقودون ومشردون وبوادر انقسامات حقيقية وعميقة في المجتمع ودبابات في الشوارع وحواجز أمنية وعزل مناطق بأكملها وأزمة اقتصادية معيشية بدت ملامحها ومناخ عام سيء كان يتوقع الناس إجراءات عملية لزواله، لا مجرد وعود مطاطة وإجراءات فضفاضة

وهذا يوحي للمتظاهرين والثوار أن هذا الطرح لكسب الوقت وإعطاء الفرصة من جديد لكبح جماح التظاهر وقمع المتظاهرين بإبقاء مبرر قمعهم والتركيز عليه في الخطاب بوجود المندسين المسلحين بالأسلحة المتطورة والذين ينفذون مخططاً خارجياً

وعلى كل سوف نرى رد الشارع على خطابه لنعلم هل أفلح خطابه الإصلاحي في إقناع الثورة والثائرين أم لا ؟؟؟

ثالثاً : ما زالت رواية الدولة والمتمثلة في خطاب الرئيس في عرض الحقائق على الأرض غير قادرة على إثبات نفسها، فلم نجد أحداً محايداً يتبناها، ولم يستطع النظام أن يوجد آلية محايدة للدفاع عنها، والتي تقوم كل خطة الدولة في إدارة الأزمة على محورها الأساسي ألا وهي (وجود مخربين مندسين متآمرين) وبالتالي لا يستطيع الرئيس أن ينقلنا من مرحلة الخبر والحقيقة إلى مرحلة التحليل والنتائج، وعلى هذا عاد الخطاب إلى المربع الأول، فالمقدمات الخاطئة تعطي نتائج خاطئة، والتشخيص الكاذب لا ينتج علاجاً ناجعاً، وما زال خطابه كخطاب إعلامه الرسمي يخوفنا ويخوف الغرب من ظاهرة (الإسلام فوبيا) فقد ذكر التخريب والمخربين والعصابات التكفيرية مراراً في خطابه وذكر الحرية والكرامة مرة واحدة، ولا أدري من أين جاءت العصابات التكفيرية والكل يعلم أن الخطاب الديني في سوريا هو وسطي، هذه العصابات أين خطابهم ؟؟؟ أين إعلامهم ؟؟؟ وماذا يريدون ؟؟؟ وما هي أهدافهم ؟؟؟

ولقد رأينا أن تنظيم القاعدة والتي تُشن عليه (حرب عالمية) وتطارده جميع أجهزة الأمن في العالم له منابر معروفة ورأيه ومفرداته واضحة وهدفه معلن، لم نر واحداً من هؤلاء المندسين في قناة فضائية، ولم نر لهم موقعاً ألكترونياً ولم نسمع لهم خطاباً ولا مطالب، ولماذا يقتل هؤلاء المندسون المتظاهرين ومن المفترض أن يكونوا أصدقاء للشعب وأعداء للنظام ؟؟؟

ولماذا لا يظهرون في مسيرات التأييد ومن المفترض أن يندسوا بها لأن عددها أكبر كما يقول الإعلام والأعداء فيها متوافرون بنسبة أكبر ؟؟؟

ولماذا هذه العصابات تقتل الأمن والجيش وتدفنهم في مقابر جماعية ؟؟؟ هل هذا من قبيل إكرام الميت أم لهم هدف آخر لا نعلمه فليعلمنا النظام به !!! وإذا كان هدف العصابات الترويع ومثلوا بالجثث فلماذا يدفنونهم ؟؟؟ وإذا كان هؤلاء مندسين فهل لديهم الوقت الكافي للقتل والتعذيب والتمثيل والدفن !!!

رابعاً : الاعتراف بالأخطاء جاء صريحاً في بعض مفردات الخطاب وجاء موارباً ومتهرباً إلى الأمام في معظمه، فلقد اعترف صراحة بالظلم الصارخ الذي وقع على مدن بأكملها جراء أزمة الثمانينات (الصراع مع الإخوان المسلمين) كما خص بالذكر حماة وإدلب وأن ثلاثة أجيال ما زالت تجني الحقد والكراهية والتمييز والإهمال وتحرم من تكافؤ الفرص، وهذا جزء من الحقيقة فالعسف لم يكن خاصاً بهاتين المدينتين العظيمتين وريفهما الواسع، بل تناول شرائح كثيرة من تركيبة الشعب السوري المترامية على مدن وقرى القطر، واعترف بجريمة إنسانية كبرى في منع الجوازات والحقوق المدنية لأكثر من ثلاثين سنة لمعارضين وأبنائهم وذراريهم وخاصة في الخارج، واعترف بأن عنق الزجاجة هو الموافقة الأمنية التي تتحكم في الكثير من شؤون المواطنين الحياتية اليومية وذكر (120) منحى يتوقف على هذه الموافقات وأنه أمر بإلغائها، ثم جاءت الاعترافات المواربة في قضية الفساد، والمواربة جاءت في تشخيص هذه الظاهرة ومن المسؤول عنها ؟؟ وما هي أسبابها ؟؟ ومن المستفيد منها ؟؟ ومن الذي يحميها ويدافع عنها؟؟ ومن كان في الماضي ضحيتها وكبش فدائها ؟؟ ولماذا السكوت عن المفسدين الكبار ؟؟ ولماذا كان يسمح للفساد بأن يعشش هذه المدد الطويلة ليحفر في الأرض جذوراً ويطفو على سطح المجتمع على شكل مستعمرات طفيلية دون إيجاد أي آلية لمكافحته ؟؟

وهذه هي الحقيقة الكبرى التي سوف يمر بها كل زعيم مخلوع، فالسير في طريق الإصلاح يرافقه اعتراف بالفساد، ومهما حاول أن يقلل من شأن الفساد فلن يثق الشعب بأنه سيكون رجل الإصلاح، ولن يثق الشعب أن هذه التركيبة هي زمرة الإصلاح أو هي بحد ذاتها قابلة للإصلاح لأنها هي رأس الفساد والمفسدين، وعلى هذا فالسير في طريق الإصلاح الحقيقي هو سقوط لهذه الزمرة، المسألة ليست قضية شخصية إنما هي تركيبة متشابكة أخطبوطية لا يمكن الثقة بها

 واعترف الرئيس بمشكلة اللاجئين وناشد اللاجئين للعودة دون أي ضمان، والاعتراف الأخطر بأنه هو المسؤول المباشر عن إدارة الأزمة وأنه يتحمل كافة المسؤوليات المترتبة دون ترك أي هامش للمناورة ههنا، وهذا رد على كل من يزعم بتهميشه أو عزله أو أن الرئيس لا علاقة له بما يجري ولا علم له به

خامساً : لغة التعالي فقد مارسها في خطابه على الشعب، حتى لما أراد أن يشعره بقربه منه وأنه استقبل وفوداً منه من جميع الشرائح، لم نره يذهب إلى مواقع الأزمات والأحداث ولم نره في درعا ولا في تلكلخ ولا في جسر الشغور، ونرى لغة التعالي حتى على الآخرين الذين ينصحون النظام بأنه سيعطيهم الدروس، فلعله يقصد الدروس في القمع والمراوغة فهذا صحيح، وهؤلاء الذي يجتمع بهم الرئيس في نفس الوقت نجد وسائل إعلامه الرسمية تهاجمهم وتشوه صورتهم وتسمهم بكل أوصاف العمالة والخيانة والغوغائية وقلة الفهم والوعي، وعندما يريد الرئيس الحوار فهو يحدد كل مفرداته وأفراده بل ويحدد سقفه مسبقاً، ولا يوجد مناخاته الملائمة فحوار الدبابات والسجون والقمع والتهديد والوعيد هذا حواره المنشود، حتى بعض المحاورين اعتقل قبل وصوله إلى بيته، وما زلنا نعيش فكر المنحة والعطية والأريحية (قررنا أن نمنحكم وأن نعطيكم) بمعزل عن خطاب الحقوق والواجبات والمشاركة وخاصة في مثل هذه الظروف العصيبة التي تستدعي موقفاً جماعياً قوياً

سادساً : لغة المؤامرة، ومع ذلك لم يحدثنا عن المؤامرة ولم يوضحها للشعب ويبين مفرداتها وأهدافها حتى يتجنبها الناس، وهو يراهن على وعينا في تحطيمها ولا يراهن على وعينا في إسقاط نظامه ومعرفة المسؤول الحقيقي عن مشاكلنا، فنحن بنظر سيادة الرئيس قاصرون في الشأن الداخلي الذي نعايشه في واقعنا اليومي والمعاشي، واعون مبصرون أمام المؤامرة الخارجية بأدواتها الخفية وبعناصرها المندسة، لم نسمع من مفردات المؤامرة إلا فكرة تحطيم الصمود والمقاومة وضعف الممانعة، هذا هدف المؤامرة المعلن حتى الآن، وإذا سلمنا بهذا وأنا أعلم أن كثيراً من المعارضين لا يستبعدون وجود المؤامرة، لكن السؤال المطروح ما هي المفردات التي تخدم المؤامرة والمفردات التي تمنع منها ؟؟؟

إذا كان من مفردات المؤامرة (الطائفية) بكل عناوينها وتجلياتها على المجتمع والوطن، فمن الذي يذكي نارها وينفخ فيها ؟؟؟

أليس كل الممارسات على الأرض التي يراها الناس بأعينهم ويسمعونها بآذانهم فلا يحتاجون لإعلام (مؤامرة) خارجي لينبههم عليها ويذكرهم بها تدعم هذه المؤامرة !!! ومنها قمع المظاهرات السلمية وقتل المتظاهرين واعتقالهم وتعذيبهم وملاحقتهم وذويهم

أليس إضعاف انتماء الفرد إلى وطنه وذلك بإهدار كرامته وهتك حريته يخدم المؤامرة !!!

أليس نزوح المواطنين من بيوتهم وفرارهم داخلياً وخارجياً بسبب الممارسات القمعية والحملات التحريضية وإتاحة الفرصة للتدخل الخارجي يصب في مصلحة المؤامرة !!!

في الختام ستكثر التحليلات والآراء حول خطاب الرئيس ولكني أرى أن حقيقة الأزمة هي (أزمة ثقة) وحل هذه الأزمة كان يحتاج إلى إجراءات حقيقية جذرية على الأرض من قبيل سحب الجيش وكف يد الأمن على الأقل من قمع المظاهرات والمتظاهرين، ومحاكمة بعض المسؤولين عن الدماء التي أريقت وعدم تجاهل ذلك كله، وقيام الرئيس بزيارة فورية لمخيمات اللاجئين على الحدود وطمأنته لهم شخصياً بضمان سلامتهم إذا عادوا كان أفضل من توجيه نصائح العودة لهم دون أي ضمانة وما زالت يد القتل والعسف مطلقة، وإقرار المشاركة الحقيقية فوراً بإجراءات عاجلة جمعية تمثل المجتمع كله في الخروج من هذه الأزمة وليس الحل الإفرادي الذي يقترحه من هو بنظر الناس سبب الأزمة، والاعتراف بالثورة ومطالبها المشروعة في كل المجالات وعدم تقزيمها بمطالب حياتية بسيطة، إن أزمة الثقة لن يحلها خطاب للرئيس بل ولا  خطابات مليئة بالوعود المستقبلية التي يراها الناس أنها مسكنات أو كسب للوقت أو مضيعة له، ولن يحلها التضليل الإعلامي والتجاهل والتعامي والتغابي، وباختصار سأضم هذا الخطاب إلى الفرص الضائعة وما أكثرها !!!