لا لهيكلة أمن الدولة.. يجب إلغاؤه
أ.د. حلمي محمد القاعود
زار وزير الداخلية ومعه تسعة من معاونيه صباح الأحد 20/2/2011م ، كنيسة العباسية ، وعقد اجتماعا مغلقا مع رئيس الكنيسة ، لم يعرف فحوى ما دار فيه . وهذه بداية غير مبشرة ، وتذكر بما كان يفعله الوزير السابق وجهاز السافاك المصري ( أمن الدولة ) ، وإعطاء الكنيسة بعدا خاصا ومتميزا بما يجعل منها كيانا موازيا ، ويحولها إلى دولة فوق الدولة كما فعل النظام السابق ، وبما أن هذه الدولة سقطت مع سقوط النظام وعاد كثير من أبناء الطائفة إلى أحضان الشعب المصري ، حيث تمردوا على تمرد الكنيسة وتحالفها مع النظام الهالك ، وأسقطوا الخطة الانفصالية العنصرية التي وضعتها الكنيسة ، وانحازوا إلى بقية أبناء الوطن ، واختلطت دماء بعضهم مع دماء الأغلبية الساحقة ، وصلي أبناء الطائفة مع أبناء الأغلبية في ميدان الشهداء ، وقاموا بحماية المصلين المسلمين في أثناء الصلاة ، وقاسموهم السراء والضراء في الاعتصام الشهير ؛ فإن التعامل مع الكنيسة يجب أن يتغير.
الوزير قام بزيارة المفتي بعد زيارة الكنيسة ، وربما يزور شيخ الأزهر منطلقا من التصور القديم الذي يجعل لهذه الرموز وضعا خاصا في سياق اللعبة الطائفية التي كان ينتهجها النظام السابق بمعرفة السافاك المصري ( أمن الدولة ) ، وأعتقد أن هذه اللعبة يجب أن تنتهي ، وأن يعلم الوزير والجهاز الدموي المجرم أن الكنيسة دار عبادة ، وليست دار سياسة ، وأنها معنية بشئون الروح ،وليس بشئون الحكم والتشريع والدستور والقانون ، وإذا اقتربت من السلطة الزمنية ، فيجب محاسبتها على رءوس الأشهاد أمام القضاء .
لقد منح السافاك المصري الفرصة لبعض رجال الكنيسة كي يجعلوا من أنفسهم دولة موازية للدولة الزائلة بل فوقها ، وصدق هؤلاء أنفسهم ، فأفسدوا العلاقة بين الناس ، وشحنوا شباب الطائفة بأفكار عدوانية وإرهابية من قبيل أن المسلمين غرباء ، وأن العرب غزاة محتلون ، وأن اللغة العربية لغة احتلال ، وأن القرآن الكريم ألفه محمد ( صلى الله عليه وسلم ) . ..
وأعتقد أنه آن الأوان للتعامل مع الكنيسة في الإطار الذي يجعلها جزءا من المجتمع ، يجري عليها ما يجري على بقية الناس ، أما التعامل معها من خلال كيان خاص مناظر للسلطة ، فهذا هو المرفوض ،وهو ما يفرض أن نؤكد مرة أخرى ضرورة إلغاء جهاز أمن الدولة الذي أجرم في حق الوطن والمواطنين وأعطي للكنيسة هذا الوضع ، وليس هيكلته كما ترى بعض القوي السياسية .
إن هيكلة أمن الدولة ، وتحويله كما يطالب بعضهم إلى جهاز معلومات ، ليس إلا محاولة التفاف على الثورة ، وإعادة الجهاز الدموي ليحكم من جديد ، ويمارس هواياته البشعة في انتهاك الحرمات ، والقبض على الأبرياء ، وتعذيبهم وقتلهم ، وبعد ذلك وقبله تمكين النظام الحاكم من ممارسة الفساد والنهب وغسيل العقول والأموال وتضليل الأمة ، وتزوير الانتخابات ، تقسيم الأحزاب وإفساد العديد من الناس، وتحويلهم إلى جواسيس على أقرب الناس إليهم ، فضلا عن التدخل المفسد في شئون الجامعات والقضاء والنقابات والمؤسسات الاجتماعية والإنتاجية والأهلية المختلفة !
إن مهمة جمع المعلومات لا تحتاج إلى ضباط وجنود ، لأنها مهمة المؤسسات المدنية التي تتعامل مع المصادر التي تملأ الفضاء والشبكة الضوئية والصحف وغيرها ، وهي تعتمد على العقل والحساب أو علم الرياضيات ، وليس على ذلك المخبر الذي يرتدي البالطو الأصفر ، ويمسك جريدة مخرومة ينظر منها على طريقة إسماعيل يس لمن يتتبعه ويريد معرفة أخباره وأحواله ، وأعتقد أن الكمبيوتر بمعناه العام وليس كمبيوتر الداخلية يحمل كمّا هائلا من المعلومات أكثر مما لدى جهاز السافاك البائد، وهناك أساليب حديثة وعديدة تساعد على معرفة كل ما تريده الدولة دون استدعاء الناس أو تعذيبهم إلى درجة الموت ..
هناك جهاز خارج سلطة وزارة الداخلية هو جهاز المخابرات العامة الذي يقوم في صمت بدور مهم وأساسي في توفير المعلومات المختلفة حول الأشخاص أو المؤسسات داخل الدولة وخارجها ، فضلا عن قيامه بالعمليات التي تقضي بحماية الوطن في بطولة يعترف بها كل من يعلم طبيعة عمل هذا الجهاز .
لتكن صحيفة الحالة الجنائية ( الفيش والتشبيه ) ، بعد الكفاءة والخبرة ، هي الفيصل في التعيينات وتولي الوظائف العامة والمناصب المهمة ، أما الاتجاه السياسي أو معارضة النظام ، فلا أعتقد أن لها أهمية طالما كان النظام يعترف بكل الاتجاهات السياسية والمعارضة .. وبالنسبة لمن يمارس أو يقترف جريمة يدينه عليها القضاء ، فأمره يدخل في صحيفة الحالة الجنائية.
إذا لا ضرورة لجهاز السافاك ( أمن الدولة ) ، ولا ضرورة لتعذيب الناس وقتلهم في الغرف المصمتة والأقبية المظلمة ، وانتهاك حرمات الناس ، وتجهيز غرف جهنم لتخويف الأنصار والأتباع ، فالنظام الحر والمواطن الحر لا يليق به أن يكون السافاك ضمن أجهزته الأمنية . هل هناك سافاك في بريطانيا أو إسبانيا أو إيطاليا؟
من العار أن يكون السافاك المصري عميلا للمجرمين الذين أنشأوا سجن جوانتانامو ، ويقوم بتعذيب المتهمين ونزع اعترافات منهم عن دورهم الإرهابي المزعوم! يجب أن نبرأ من هذه الوصمة !!
ثم لا بد من استعادة الجيش للأمن المركزي ، وإلحاقه بوحداته من أجل خدمة العلم ، لا مجال للحديث عن تخفيض أعداده ، أو الالتفاف لإبقائه بحجة عزله في أماكن بعيدة واستخدامه عند الضرورة القصوى ، إن الأمن المركزي يجب أن يتحول إلى طاقة منتجة ومفيدة وذلك باستصلاح الأراضي ، والعمل في المشروعات الخدمية التي تخدم الجيش والمجتمع ، وفي هذا السياق سيعامل جندي الأمن المركزي معاملة إنسانية سوية ، تجعله مؤهلا ليكون مواطنا صالحا بعد خروجه من الخدمة !
ثم يجب أن نتبع إلغاء أمن الدولة إلغاء الحرس الجامعي والعناصر الأمنية التي تعمل داخل الجامعات والكليات ، فضباط الأمن وأفراده لهم مهمة أساسية هي حماية الناس والمجتمع ، وليس تعيين رؤساء الجامعات واتحادات الطلاب ، ومنع تظاهرات الطلاب ، أو تحويلهم إلى مجالس تأديب ظالمة بسبب انتماءاتهم الفكرية أو السياسية .
إن الوزير الجديد يجب أن يركز على بناء جهاز أمني جديد ينطلق من النقط والأقسام والمراكز والمديريات ، ويكون هدفه حماية المجتمع والمواطنين ، كما يكون أفراده مثالا للطهارة والنظافة والأخلاق والسلوك الرفيع ، ويعلم الضابط والجندي أن المواطن الذي يدخل إلى مكان الشرطة ليس لصا بالضرورة ، وليس بلطجيا أو قاتلا .. إن الذين يدخلون إلى مكان الشرطة يحتاجون إلى المساعدة ، وإلى العون لحل مشكلاتهم ، وتيسير أمورهم وتصفية خلافاتهم ، ليس بالضرورة بكتابة محضر وتحويله إلى النيابة ومن ثم إلى القضاء ، ولكن بالتوفيق بين أطراف المتخاصمين ومساعدة طالبي النجدة والإغاثة ، وحماية الحقوق والممتلكات ، والضابط المخلص (ابن الناس ) هو الوحيد المؤهل لحل المشكلات ، وإنهاء الخصومات ، وخاصة حين يترك مكتبه وينزل إلى الشارع والقرية ويتجول بين الناس ويستشعر ما يؤرقهم أو يقض مضجعهم أو يخيفهم أو يرعبهم ، وكم رأينا في الماضي من نماذج رفيعة من أولاد الناس هؤلاء ، تركوا ذكريات طيبة لا تنسى ، على عكس من كان الناس يرددون وراءهم : " إن كان دراعك عسكري اقطعه "!
هذا هو الجهاز الأمني العام الذي نريد أن يكون موجودا لخدمة الناس بدءا من رجل المرور حتى رجل المطافئ ، مرورا برجل الجوازات والخدمة المدنية ومكافحة المخدرات والأموال العامة والرقابة الإدارية ..
لا بد من إلغاء الأكمنة ودعم الدوريات المتحركة ، واستشعار الخطر قبل وقوعه لمنعه أو تحذير الناس .
ويستتبع ذلك تحسين أحوال الأفراد والضباط الأصاغر ، ماديا ومعنويا ، بحيث لا يستشعرون الغبن أو الظلم ، ولا يمدون أيديهم إلى ما ليس لهم .، ولا يكون هناك فارق مادي كبير بينهم وبين رؤسائهم من الضباط الكبار . يجب أن تنتهي أساطير الدخول الخرافية التي يتقاضاها بعض الضباط الكبار ، في الوقت الذي يعاني فيه صغارهم وأفرادهم من صعوبة العيش وبؤس الحياة .