شباط الأسود وأيامه الحزينة
محمد فاروق الإمام
[email protected]
شباط الأسود وأيامه الحزينة كان ولا يزال قدر هذه الإمة مع طغاتها وجلاديها.. شباط
هذه الأيام يشهد أكبر مجزرة في القرن الواحد والعشرين، حيث تتعرض المدن الليبية وفي
مقدمتها العاصمة طرابلس إلى أبشع هجمة بربرية يقودها طاغية ليبيا العقيد معمر
القذافي في مواجهة الشعب الليبي الأعزل الذي خرج إلى الشوارع بصورة سلمية وحضارية
مطالباً بالحرية والعدالة وتأمين العيش الكريم وإيجاد فرص العمل لشبابه والتوزيع
العادل لثروة ليبيا وهي من أهم دول النفط في العالم إنتاجاً وتصديراً، والقضاء على
الفقر حيث يعيش أكثر من 20% من الليبيين تحت خط الفقر.
وكان رد فعل الديكتاتور الليبي الأرعن هو التصدي لهذا الشعب المسالم الأعزل وصب جام
غضبه عليه من السماء قصفاً بالطائرات ومن الأرض بالرصاص المضاد للطائرات، ومواجهة
هذه الجماهير بفرق الموت الإفريقية المرتزقة التي أعدها مسبقاً وجهزها بأفتك
الأسلحة تحصد الناس على غير هدًى ودون تمييز حيثما يتواجد الناس أو يظهرون في الزقة
أو الشوارع أو من شرفات منازلهم.
ولعل من سوء طالع العقيد الأرعن معمر القذافي أن عالم الاتصالات تطور وغدت جرائمه
مكشوفة للعيان لا يستطيع التستر عليها أو حجبها، حيث القنوات التلفزيونية والأقمار
الصناعية والأنترنت ترصد كل ما يدب على أرض ليبيا وما يحدث فيها بالصوت والصورة.
هذه
الصورة البشعة التي نشاهدها اليوم في ليبيا عبر وسائل الإعلام المرئية والمسموعة
والمقروءة غاب مشهدها عن جريمة أفظع وأشنع ارتكبها نظام الحكم في سورية في شباط عام
1982 في مدينة حماة السورية بما عرف بـ(مجزرة العصر)، حيث لم تكن هناك قناة الجزيرة
ولا قناة الحوار ولا قناة بي بي سي ولا قناة المستقلة ولا قناة العربية ولا القناة
الفرنسية ولا القناة الروسية، ولا صحيفة القدس العربي ولا صحيفة الحياة ولا صحيفة
الشرق الأوسط ولا صحيفة العرب اليوم.
لقد
كانت مجزرة حماة بحق هي أكبر مجزرة في العصر الحديث، على حد قول دبلوماسي سوفياتي،
لا يمكن طبعاً أن يشك بعدائه أصلاً للنظام السوري في حينها. هذا الدبلوماسي
السوفييتي يقول: (لقد كان هناك على الأقل 10.000 (عشرة آلاف) قتيل، ولكن مصادر أخرى
تتحدث عن (30.000) (ثلاثين ألفاً) وهو رقم قريب من الواقع إذا تذكرنا أنه قد زج
النظام بآلاف من سراياه، كما أنه قصف المدينة بالطيران فوق سكانها المدنيين، مما
أدى إلى هدم أجزاء كبيرة من المدينة).
في
حين ذكرت مجلة الفيزد الفرنسية في عددها الصادر في أيار 1982: (وكان القمع مميتاً
أكثر من يوم حرب الكيبور (يوم الغفران).
وتضيف الصحيفة قائلة: (كانت المدفعية الثقيلة تطلق قذائفها على الآمنين. وطوال أربع
وعشرين ساعة تساقطت آلاف القذائف والصواريخ على حماة. كل مجمّع سكني وكل منزل كان
مستهدفاً).
ويقول دبلوماسي غربي مندهش مما حدث: (إنه أعنف قصف حدث منذ حرب سورية في عهد
الانتداب الفرنسي عام 1941 بين أنصار حكومة فيشي من جهة وأنصار فرنسا الحرة
والبريطانيين من جهة أخرى).
ويختم الدبلوماسي حديثه قائلاً: (يمكن القول إن ما جرى في الأسبوع الماضي في حماة
هو "فرصوفيا أخرى" أي مثلما حدث لفرصوفيا أثناء الحرب العالمية الثانية... إنه
فعلاً، موت مدينة).
كما
ذكرت مجلة الإيكونومست في عددها الصادر في آذار 1982 تحت عنوان أهوال حماة:
(إن
القصة الحقيقية لما جرى في شهر شباط في مدينة حماة الواقعة على بعد 120 ميلاً شمال
دمشق العاصمة لم تعرف بعد وربما لن تعرف أبداً. لقد مرّ شهران قبل أن تسمح الحكومة
السورية للصحفيين بزيارة خرائب المدينة التي استمرت تحت قصف الدبابات والمدفعية
والطيران ثلاثة أسابيع كاملة. ونتيجة لذلك فإن قسماً كبيراً من المدينة القديمة
القائمة في وسط البلد قد مُحي تماماً، وسوّي مؤخراً بواسطة الجرافات.
وإن
عدد القتلى يرتفع إلى أكثر من 30.000 شخص كما تقول تقديرات الصحفيين. ولم يوفر
القصف لا المساجد ولا الكنائس.
أما
جريدة ليبراسيون الفرنسية، فقد ذكرت على لسان الصحفي شارل بوبت، وهو صحفي فرنسي
محرر في صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية استطاع أن يدخل إلى قلب مدينة حماة أثناء
الأحداث،
وكان
الصحفي الوحيد من بين كل الصحفيين العرب والأجانب الذي تمكن من الدخول إلى هذه
المدينة... وبحيلة ذكية، وقضى في المدينة وقتاً لا بأس به، ثم سلم نفسه للسلطات
السورية تمويهاً.. وبعدما عاد إلى فرنسا نشر تحقيقاً مطولاً يعتبر أخطر ما كتب في
الصحافة العالمية عن هذه المذبحة.
لقد
قدم هذا الصحفي للعالم شهادة حية عن فظاعة ما حدث في حماة، وقيمتها مزدوجة الطابع،
لأن صاحبها محايد في الصراع، وموضوعي في الحكم، ولأنه ثانياً، لم ينقل أخباراً
سمعها عن روايات وصلته بالتواتر، وإنما يحكي لنا هنا ما شاهده بنفسه، ورآه من ماسي
وأهوال.
ومما رواه هذا الصحفي الفرنسي قوله: (كنا ننتقل من بيت إلى بيت. ومن فوقنا تمر
طائرة هيلوكبتر. وأمامنا عائلات بأكملها تبكي، جثث تجر من أرجلها أو محمولة على
الأكتاف، أجساد تتفسخ وتنبعث منها رائحة قاتلة، وأطفال تسيل منهم الدماء وهم يركضون
لاجتياز الشارع. امرأة ترفض أن تفتح لنا منزلها. إنها ليست زيارة متفقاً عليها.
إنني غير مرغوب في مثل هذه الساعات. ونهيم على وجوهنا أنا ومرافقي - أحد أبناء
المدينة الذي تطوع بهذا العمل- ولكن كنا محتاجين لأن نبقى ضمن الأحياء التي تضيق
رقعتها شيئاً فشيئاً. وأخيراً تستجيب المرأة لتوسلات مرافقي وتفتح لنا. إنها تخبئ
زوجها. ها هو ذا أمامنا مسجَّى على الأرض، دونما رأس، ميتاً منذ 5 شباط!!! وهكذا
فإن كثيراً من الناس يخبئون جرحاهم، خشية أن تجهز عليهم القوات الحكومية. أما
الأموات فإن أهاليهم يدفنونهم بسرعة. إذا أمكن، فيما أصبح يطلق عليه اليوم مقبرة
الشهداء في الزاوية الكيلانية. (التي تم نسفها كلياً فيما بعد).
بضع
طلقات نارية صوب الجنوب تتبعها رشقات قوية. وخلال عشر دقائق كانت القذائف تتساقط
كالمطر أينما كان، وحيثما تسقط كنت تسمع صرخات الرعب ونداءات التوسل إلى الله على
بضعة أمتار منا، شاهدنا رجلاً يتمزق تماماً ويسقط فوق جدار، كما لو أنه هيكل عظمي.
ولم أصدق عيني، ولكن عندما ظهرت الطائرات من جديد فوقنا، دفعني مرافقي لتحت منزل،
صارخاً "هاهم يعودون).
ويختم الصحفي الفرنسي تقريره عن ماساة حماة بقوله: (أترك حماة بمزيج من الرعب
والفزع... الفزع حين أتذكر أنه ولا مرة واحدة خلال هذه الأيام والليالي التي قضيتها
هناك سمعت صوت المؤذن يدعو المؤمنين إلى الصلاة، كما لو أن المآذن نفسها قد انكمشت
على نفسها تلقائياً).
ونشرت صحيفة دي تسابت الألمانية بتاريخ 2/4/1982 تقريراً عن مجازر حماة تحت عنوان:
(مذبحة كما في العصور الوسطى - كيف ابتلى أسد مدينة حماة بالموت والدمار) جاء فيه:
(إن
ما حدث في مدينة حماة قد انتهى - كان هذا تعليق الرئيس السوري حافظ الأسد - على
أخطر أزمة داخلية هزت سورية منذ توليه السلطة عام 1970، فقرابة أربعة أسابيع في
شباط أُغرقت حماة بالدماء والآلام من قبل قوات بلغت 11 ألف رجل (مدرعات ومدفعية
وطائرات مروحية ومظليين وقوات حماية النظام الخاصة وقوات حماية أمن الدولة) لقد
انتهت فترة القتل والنهب والحرق التي تذكر بالقرون الوسطى، وسكتت المدافع وغدت
المدينة أنقاضاً ورماداً.
إن
مدينة حماة التي ذكرت في الإنجيل (في الوصايا القديمة) تقع على نهر العاصي.. هي
واحدة من أقدم مدن العالم (يقال إن الرب قد خلقها وهي الوحيدة التي تعرف عليها بعد
عودته إلى الأرض، نظراً لأنها لم تتغير) لم تعد الآن موجودة. لقد توقفت النواعير
الأسطورية التي كانت منذ قرون تملأ القناطر ومستودعات المياه، ولم يبق من المدينة
ومن متاحفها ذات الماضي البابلي والآشوري والسليماني إلا بقايا تعيسة. ويلجأ
الملحقون العسكريون الغربيون إلى انطباعات وأسماء من الحرب العالمية الثانية لتصور
أبعاد الدمار الـذي حـل بـالمدينة، أسماء وانطباعات عن مثل برلين عام 1945
وستالينغراد).
نعم
إنه شباط الأسود ولياليه الحزينة مر على حماة سورية قبل 29 عاماً وهاهو يمر على
طرابلس وبني غازي والبيضاء والزاوية، وإذا كان – كما قلت – من سوء طالع الديكتاتور
الأرعن معمر القذافي وجود الأعين الإعلامية التي ترصد جرائمه بالصوت والصورة
والكلمة ساعة وقوعها، فإنه من سوء طالع مدينة حماة وأهلها غياب هذه العيون والتعتيم
الكامل على كل ما جرى في حماة عام 1982حتى عن أهل سورية!!