فخامة الرئيس... ارحل من أجل مصر
حسام مقلد *
لا يمكن لأحد من جهابزة الحزب الوطني أن يجادل بعد الآن في أن أغلبية الشعب المصري الساحقة ترفض نظام الحكم الحالي في مصر، وتريد التغيير بشدة، وتتوق إليه بشغف، فمئات آلاف المتظاهرين الغاضبين الذين واجهوا جحافل الأمن المركزي في يوم الغضب المصري الخامس والعشرين من أكتوبر عام2011م في معظم المدن المصرية قد كشفت الحقيقة، ونسفت بجرأة كل حجب الباطل والزيف والبهتان، وفندت كل إدعاءات الشعبية الكاسحة التي يدَّعي كهنة الحزب الوطني أنها تؤيده، لقد هبت الجماهير المسحوقة، وتحركت الأغلبية الصامتة المهمشة التي اغتصب هذا النظام الفاسد حقها في الحياة الحرة الكريمة، وعلى مدى عقود فرض عليها البؤس والفقر والحرمان، واستغل الأفاكون المبطلون صبرها الجميل وصمتها الطويل، وزعموا أنها تؤازرهم وترضى عن فسادهم وغشهم وخداعهم، لكن صبر هذه الأغلبية بدأ ينفد، وراحت تؤرخ بالفعل لبداية عهد جديد، نسأل الله تعالى أن يكون عهد رشد وخير وبركة وتمكين ونصر وعزة في مصر والعالمين العربي والإسلامي.
إن هتافات الجماهير الهادرة، وزفرات الناس وأناتها المتوجعة، وصرخاتهم الصادقة ومطالبهم العادلة، وكلامهم الصريح، وتعليقاتهم الحاسمة، كل ذلك أظهر بوضوح تام مدى اشتياق هذا الشعب الصبور لتغيير حقيقي في نظامه السياسي المتكلس الجاثم على صدره منذ عقود طويلة مارس خلالها كل فنون الفساد والإفساد، وبرع في ممارسة لعبة التضليل والخداع، بنفس الوجوه الحجرية الكئيبة التي لا تمل الكذب، ولا تسأم الغش والتزوير.
وإذا كان استلهام شباب مصر وأبطالها لتجربة أشقائهم في تونس، بعد أن بهرت العالم وقلبت الطاولة على الجميع في ثورة شعبية بيضاء، واجهت فيها جموع الشعب التونسي بأجسادها العارية آلة القمع والجبروت التي سامتهم سوء العذاب على مدى نحو ربع قرن ـ إذا كان هذا أمرا رائعا فمن الخطأ البالغ والحمق الشديد أن تتصرف السلطة في مصر بنفس الطريقة الحمقاء التي تصرف بها ابن علي وجوقة المنافقين والمنتفعين الذين دفعوه في البداية للمكابرة والعناد؛ فظل سادرا في غيه وغروره وعناده عدة أسابيع حتى انكسر في النهاية ورضخ لإرادة الشعب وفر هاربا مذعورا كالفأر، وأجبرته على الفرار والرحيل جموعُ التونسيين الأبية الباحثة عن كرامتها، الغاضبة لدينها وهويتها، وظلت طائرته تحلق في أجواء المنطقة باحثة عمن يؤويه، وينقذه من غضبة أبناء تونس الشرفاء!!
وهنا نقول بكل وضوح ليس من الذكاء في شيء أن تستنسخ السلطات المصرية نفس الطريقة المتعجرفة التي تعامل بها النظام التونسي البائد مع جماهير شعبه، وأمام فخامة الرئيس محمد حسني مبارك فرصة ذهبية ليحقق حلم مصر في التغيير السلمي بطريقة حضارية مشرِّفة ترفع بإذن الله ذكره في التاريخ كسياسي حكيم استجاب لشعبه وانضم لأغلبيته الساحقة وانحاز لمصالحه العليا، ورفض كل دعاوى الكذابين المضللين الذين يزينون له الباطل، ويخوفونه من الصوملة واللبننة والعرقنة والسودنة... وغيرها !!
فخامة الرئيس: أعداؤك وأعداء مصر ليسوا شعبك المسكين الذي انفجر غيظا في يوم الغضب، ليسوا هؤلاء الشباب المكافح الذي يسعى للعيش الكريم، ليسوا هؤلاء الموظفين البسطاء ولا العمال البؤساء الذين يعجزون عن تلبية حاجاتهم وحاجات أسرهم وأطفالهم الأساسية جدا من الطعام والكساء والدواء والمأوى... وإليك هذه القصة وأقسم بالله أنها قصة حقيقية ـ كقصص ملايين المصرين ـ فقبيل العام الدراسي بأسبوع منذ نحو عامين قابلت في المواصلات ـ وما أدراك ما المواصلات؟!! ـ رجلا في الخمسين من عمره لكنه كان يبدو في السبعين!! فإذا به يجهش بالبكاء فجأة؛ فتعاطفت معه أنا وكل من حوله وهدَّأنا من روعه، وعندما هدأ قلت له: هون عليك يا عم!! فقال لي: "يا بني الحمل ثقيل قوي، والمدارس جاية، ورمضان كمان وبعده العيد، هجيب منين لدا كله؟!! والله يا ابني مبناكل اللحمة طول السنة عشان نوفر الفلوس لإيجار الشقة وللدروس والمواصلات والدوا، ولولا ولاد الحلال إللي بيحنوا علينا في العيد ما كناش شوفنا اللحمة دي خالص، حتى العدس والفول والسكر والزيت كل حاجة بقت نار يا ابني... ياللا منهم لله، ربنا ينتقم منهم ... ربنا ينتقم منهم!! وطبعا فخامتك عارف على من يدعو هذا الإنسان المسكين المسحوق الذي يعمل كل ما في وسعه لإعالة أسرته، لكنه لا يستطيع مواجهة غول الأسعار، ولا يقدر على مواجهة هذه الحياة شديدة المادية، ويشعر بالقهر والظلم فبكى أمام الناس!! ووالله العظيم ساعتها أشفقت عليك أنت شخصياً يا فخامة الرئيس لقول الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "إياك ودعوة المظلوم فإنها تستجاب" (رواه الطبراني) وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة" (رواه مسلم) وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: "لتؤدَّن الحقوق إلى أهلها يوم القيامة حتى يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء" (رواه مسلم).
فخامة الرئيس: إن تقارير حكومتك الرسمية تعترف بأن نحو نسبة 40% من الشعب تحت خط الفقر، وهؤلاء البؤساء والجوعى ليسوا أعداءك ولا أعداء مصر، ولن يأتي الخطر من جهتهم، بل أعداؤك الحقيقيون وأعداء وطنك وشعبك هم الصهاينة والأمريكان الذين غرروا بصديقك القديم صدام حسين، ويعملون بكل جهدهم لتمزيق العراق والسودان، ولن يدخروا وسعا في سبيل تمزيق وطنك وخنق شعبك ومحاصرتهم من كل اتجاه!!
أعداؤك الحقيقيون فخامة الرئيس هم هؤلاء المحيطون بك الذين يقلبون لك الحقائق ويخيفونك من شعبك، ويزورون إرادته، ويسرقون الانتخابات، ويغتالون آمال الناس وطموحاتهم، ويصادرون أحلامهم في الحرية والكرامة والعدالة والمساواة!!
أعداؤك الحقيقيون فخامة الرئيس هم هؤلاء الذين يشِيعُون مناخ الفساد في البلد، ويسرقون خيراتها، وينهبون ثرواتها، ويكدسون أموالها في أيديهم، فدخولهم بالمليارات (ولا أدري لماذا؟ ولا أعرف ما سر عبقريتهم الفريدة هذه؟!!) ويتقلبون في نعيم مقيم، ويرمون فتات الفتات لهؤلاء البؤساء المساكين.
فخامة الرئيس: أغلبية شعبك الساحقة من المطحونين المسحوقين الذين يجدون قوت يومهم بالكاد، وشرائح متزايدة من أبنائك المواطنين أصبحت لا تجد هذا القوت الضروري الذي يسد رمقها ويسكت جوعها!! فلا تستمع لجوقة الكذابين الضالين المضلين الذين يتمرغون في خيرات البلد، ويعزلون أنفسهم في قصورهم المترفة وسياراتهم الفارهة وطائراتهم الخاصة ويُخُوتِهم العائمة، فهؤلاء قلة قليلة من الإقطاعيين الجدد الذين ماتت ضمائرهم ولا تعرف قلوبهم رحمة ولا شفقة!!
فخامة الرئيس: أنا لست ولله الحمد ممن "يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ" [النساء : 54] لكن ما يحدث ليست أعمالا مشروعة تدر أرباحا حلالا في ظل منافسة شريفة، إن ما جرى ولا يزال يجري في مصر من أبشع أنواع الفساد المالي والإداري، حيث تزاوجت السلطة والثروة وتركزتا معا في أيدي عصابة شرسة شريرة تنهب البلد وتسرق خيراتها بشكل تجاوز كل حدود التحمل!!
فخامة الرئيس: لقد بُحَّ صوتُ الشرفاء وهم يستجيرون بك ويصرخون ويستنجدون بأعلى صوتهم كي تصلح الأحوال، وتستجيب لمطالب شعبك الحقيقي الذي يحبك ـ أو الذي كان يحبك ـ وتضع الأمور في نصابها الحقيقي، وتكبح جماح شيطان الفساد الذي يستشري شره في كل أوصال المجتمع المصري، وينخر في جسد الوطن ويهدد أمنه القومي بشكل صريح واضح، لكنك فخامة الرئيس رفضت الاستجابة لهؤلاء الحكماء الناصحين وصممت أذنيك عن كلامهم، وأنكرت وجودهم واعتبرت قطاعا منهم أشد عداءً على مصر من بني صهيون!!
والآن فخامة الرئيس ما الحل والمخرج من هذا المستنقع الآسن؟!! لقد سبق السيف العذل ولم يعد في الإمكان إصلاح الماضي، لكن فخامة الرئيس أمامك فرصتك الأخيرة لترحل بهدوء من السلطة وهي زائلة لا محالة فهذه هي سنة الحياة، ولكل أجل كتاب، وليت فخامتك تتذكر ما قلتَه أنت بلسانك في بداية حكمك من أن الكفن بلا جيوب!! فهيا ارحل بهدوء واعصم دماء المواطنين، واحمِ وطنك من الفتن، واحفظْ شعبك من الفوضى العارمة التي تهدد أمنه ووحدته وسلامته واستقراره، هيا فخامة الرئيس بادر باتخاذ الخطوات العاجلة التالية فوراً:
إعلان التحامك بجماهير شعبك، وتخليك عن رئاسة الجمهورية طوعياً، وتسليم الحكم للجنة ثلاثية مؤقتة من كبار رجال الجيش المصري البواسل.
حل مجلس الشعب الباطل (وأنت ورجالك وحزبك تعلمون في قرارة أنفسكم أنه باطل باطل باطل) والإعلان عن انتخابات حقيقية برلمانية ورئاسية في غضون ستة أشهر.
تشكيل لجنة وطنية بكل معنى الكلمة لصياغة دستور جديد للبلاد.
تشكيل حكومة وحدة وطنية أو حكومة إنقاذ وطني تشرك فيها كل فصائل المعارضة وفي مقدمتها الإخوان المسلمين وكافة الاتجاهات والقوى السياسية.
حل الحزب الوطني وفك ارتباطاته بالدولة المصرية؛ فمصر ليست هي ذلك الحزب الظالم الفاسد المستبد!!
تحقيق العدالة الاجتماعية بأقصى سرعة ممكنة(فلا يعقل أن يكون راتب بعض الشباب عشرات الآلاف من الجنيهات وربما الملايين شهريا، وراتب الباحث وأستاذ الجامعة بالكاد يسد رمقه!! فضلا عن رواتب القطاعات الأخرى المطحونة من الناس).
فخامة الرئيس يكفيك ويكفي نظامك ثلاثون عاما من الفقر والبؤس والحرمان والقهر والبطش والإذلال لهذا الشعب المسكين!! فخامة الرئيس ألا تحب مصر؟! ألم تتغنَ بحبها كثيرا؟! إن كنت تحب مصر فخامة الرئيس فهيا ارحل بهدوء من أجل مصر!! هيا اترك شعبك يختار حاكمه بإرادته الحرة، ويقرر مصيره بنفسه، ووالله لو فعلت ذلك في حياتك، وعن طيب نفس منك قبل فوات الأوان، وقبل أن تواجه وجه الله تعالى ـ فثق أنك بإذن الله ستبقى ملكا متوجاً في قلوب المصريين جميعا، وسيضعون اسمك في سجل العظماء !!
* كاتب إسلامي مصري