تحفة فنية !

أ.د. حلمي محمد القاعود

[email protected]

يحرص كتاب الأمن في الصحف الخاصة والحزبية والحكومية على أداء واجبهم بامتياز ؛ إثباتا للولاء ، ودعما للرفاق ، وسعيا لمزيد من المكاسب والامتيازات ، ولم يكن المسلسل الأمني البائس الذي تناول حياة الإمام الشهيد حسن البنا ، إلا مناسبة ذهبية لهؤلاء الكتاب ، كي يتنادوا ، ويعبروا عن مهمتهم الرخيصة في التشهير بالإسلام ودعاته وتشريعاته ..

قال بعضهم إن المسلسل تحفة فنية ! وكما يعلم القارئ فالتحفة هي الأثر النادر  الذي يجمع من علامات الفن والندرة ما يجعلها شيئا متميزا يشار إليه في كل العصور والأوقات بوصفه غير مسبوق ولا ملحوق . والمسلسل الأمني الذي تناول حياة الإمام الشهيد ؛ ليس تحفة فنية بكل تأكيد ، فهو من أضعف أعمال مؤلفه ، وإذا قيس مثلا بفيلم " طيور الظلام " الذي شهر بالإسلام وربطه بالدم والبلاهة وتجارة العملة ، وكشف جانبا من فساد السلطة ومخازيها وأساليب كذبها وخداعها للعامة .. فإن كفة الفيلم ترجح كفة المسلسل ، لأن الفيلم استوفى عناصر الإقناع الفني – لا الفكري – ولم يأت مبتورا بالقوة كما جاء المسلسل ، ولم تحكمه الخطابة والصوت العالي للمؤلف كما جرى في المسلسل ( علي سبيل المثال خطب عزت العلايلي وأحمد راتب وخليل مرسي !) ، صحيح أنه كانت هنالك خطب موظفة جيدا ، مثل خطب عبد الله فرغلي –رحمه الله – وبعض خطب الإمام الشهيد على لسان إياد نصار في مراحله الأولى ، ولكن السياق العام كان يتجه نحو حضور المؤلف بصوته الزاعق ، وكأنه يكتب مقالا في روز اليوسف  الموالية للسلطة !

ثم إن المسلسل  الأمني لو كان تحفة فنية كما زعم الكتاب الأمنيون في مقالاتهم البائسة ، ما ظهر  المؤلف بهذه العصبية الزائدة في بعض القنوات والصحف ، ليرد على منتقديه ردودا عنيفة غير منطقية وغير مقنعة ؛ وصل بعضها إلى حد السباب مثل وصفه لمنتقديه بـ " الغجر " ، أو وصفه للمتحدث الإعلامي للإخوان بـ" الولد" ، وهو يعلم أنه أستاذ جامعي يحمل أعلى الدرجات العلمية ، ويتمتع بأخلاق عالية – ولا أزكيه على الله – بالإضافة إلى وصف من انتقدوا المسلسل الأمني بأنهم صغار الإخوان ، وهو يعلم أن كثيرا ممن انتقدوا الإخوان لا يشاركون الإخوان تنظيمهم ، ولا ينتسبون إليهم بصلة فكرية ، ولكن  هالهم حجم التشويه لسيرة الإمام الشهيد ، وتبييض وجه النظام الظالم المستبد !

ولا أدري لماذا ينزعج مؤلف المسلسل الأمني من انتقاد مسلسله وتشريحه فنيا وفكريا ، وهو يعلم جيدا أن من ألف قد استهدف ؟

كان يستطيع أن يدافع عن نفسه بالعقل والمنطق ، وأن يرد على ما يوجه إليه ؛ خاصة وأنه أتيح له مساحات ورقية وساعات فضائية تكلم فيها طويلا ، وهجا فيها كل خصومه وخصوم السلطة ،وقال فيهم ما قال مالك في الخمر ، ثم إنه اتهم أحد محاوريه في التلفزيون بأنه ينظر إلى حسن البنا على أنه نبي ، وقال له لا تغلط مثل الإخوان ، ومعلوماتي الموثقة عن الإخوان أنهم لا يقدسون غير الله ، ولا يؤمنون بالعصمة إلا للأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقد عرفت مرشدي الإخوان جميعا باستثناء الأول والثاني والأخير ، فما وجدت أحدا يقدسهم ، أو يضفي عليهم ثوب العصمة ، وكان الأستاذ عمر التلمساني - رحمه الله - يسمع من يخالفونه الرأي في الاجتماع الشهري لمجلة الدعوة ، وكنت أحضره ضيفا ، وكان الرجل لا يضيق برأي أحد ، بل يترك كل من لديه ملحوظة أو رأي  آخر أن يفضي بما لديه ، وفي النهاية يتم التصويت على هذه الآراء والأفكار المخالفة ، وما تقره الأغلبية يمضي ، فلا استبداد برأي ، ولا قمع للآراء المخالفة ، ولا أدري هل يفسر مؤلف المسلسل الأمني هذا السلوك تفسيرا ديمقراطيا أم تفسيرا ثوريا ؟

ولا أظن أن المرشد السابق الأستاذ محمد مهدي عاكف كان مرشدا مستبدا يقدم يده لزواره يقبلونها كما صوره المسلسل الأمني ، ويكفي أنه أول مرشد سابق ، أو مسئول عن أحد التنظيمات الكبرى في مصر يحمل لقب ( سابق ) ، فهل لدينا رئيس سابق ، أو حاكم سابق إلا إذا غيبه الموت أو طواه القبر ، ثم إن تقديم الإخوان لنموذج انتخاب القيادات العليا في انتخاب المرشد الحالي ؛ تحت ظروف المطاردة البوليسية ، كان تشجيعا لحزب الوفد أن يقوم بانتخاب رئيسه لأول مرة بطريقة ديمقراطية ، ويكون لديه رئيس سابق ، وهي خطوة أثني عليها المحبون للحرية والديمقراطية في كل مكان ، وكنت من أوائل من أثنوا على هذه الخطوة .

إن الأستاذ محمد مهدي عاكف لم أره يقدم يده لأحد كي يقبلها ، وقد رأيته قبل عقود رجلا رياضيا بسيطا بشوشا يتحدث بلغة أولاد البلد الحميمة مع من يعرفه ومن  لا يعرفه ، وهو الآن فيما أظن يسير في الشارع في بساطة متناهية ، ويحضر الندوات العامة والثقافية مثل أي باحث عن المعرفة  ، ويلتف حوله الناس حبا وتكريما ، وإذا كان بعض الناس يقبل جبينه أو يده ، فهذا نابع من الحب الحقيقي ، وقد رأى الناس من الوزراء من يقبل يد زوجات مسئولين أكبر ، دون أن يجدوا في ذلك غضاضة ، ومنطلق التقبيل هنا هو المصلحة وما تفرضه من تزلف ونفاق.. ولن أحدثك عن بعض الطوائف في مصرنا العزيزة التي يقوم أفرادها مهما علت مناصبهم ومستوياتهم بتقبيل أقدام رؤساء الطائفة ، وتظهر الصورة أسبوعيا على شاشة التلفزيون في المناسبة الدينية !

إن الديمقراطية أو الشورى كما يسميها أهل الإسلام مطلب مهم ، ولا أظن أحدا يعارض في ذلك ، وهي لا تحدث إلا إذا كانت هناك بالفعل على أرض الواقع سياسة وسياسيون ، ولكني أريد أن أسال المؤلف الأمني صاحب التحفة الفنية التي شوهت التاريخ والجغرافيا : هل في مصرنا العزيزة سياسة وسياسيون ؟ الإجابة للأسف كما يعرفها بالنفي . فالنظام ارتضي أن يسند للأجهزة الأمنية تسيير شئون البلد بالطريقة المستبدة الفاشية ، ولذلك لا يسمح لأحد أن يشاركه في الرأي أو العمل أو الاختيار .

إن الديمقراطية كما يعلم مؤلف المسلسل لأمني الذي أشرفت عليه وزارة الإعلام كما أشار إلى ذلك الكتاب الأمنيون صراحة ، لا تقوم إلا على التوافق ، واحترام كرامة الإنسان أيا كان هذا الإنسان في طبقته أو عرقه أو دينه أو مذهبه ، ويكون الرأي للأغلبية وفقا لدستور حقيقي ، وقوانين منظمة لهذا الدستور .. فهل لدينا توافق عام بين السلطة وبقية القوى التي يطلق عليها سياسية ؟ بالطبع لا . ولا أظن أحدا ممن يطالبون بدمج الإخوان في الواقع السياسي – وأنا معهم – يستطيع القول إن السلطة الحالية تريد توافقا حقيقيا بين جميع قوى الشعب . إنها تريد تنفيذ إرادتها هي ولو جاءت على حساب كل القيم ، ولذا يخطئ من يقول إن الأحزاب الورقية أو القوى السياسية في المجتمع المصري تمارس السياسة على أرض الواقع .. إنها قوى تثرثر في السياسة وتتكلم عنها ، ولا تستطيع أن تمارسها . ثم إني اسأل سؤالا بسيطا : هل يستطيع أي حزب رسمي باستثناء حزب السلطة أن يقيم سرادقا في أحد الشوارع ليلتقي بالجمهور ويعرض أفكاره ؟

أنتم تعرفون الإجابة !

إن الانحراف بالموضوع نحو القول إن الإخوان لا يحبون الديمقراطية ، ولا يمارسونها ، وإذا وصلوا إلى الحكم فسوف يحكمون نيابة عن الله ، ويرغمون الناس على القبول بسياستهم لأنها من عند الله ! أقول إن هذا الانحراف يحمل كثيرا من المغالطات ، لأن الإخوان وبقية المجتمع المصري فيما أزعم يحبذون دولة تقوم على المؤسسات الحقيقية التي تديرها وتحركها الكفاءات والعقول العلمية ، وليس المحاسيب والأنصار ، في ظل دستور يعبر عن هوية الأمة ويحفظ خصائصها واستقلالها .

ثم إن من يرفعون فزاعة التجارب الفاشلة في أرجاء العالم العربي والإسلامي ، ويحملونها للإخوان المسلمين في مصر مخطئون ، لأنهم أولا غير مسئولين عن هذه البلاد ، وثانيا لأن المغامرين الذين رفعوا الراية الإسلامية أحيانا لا يمثلون الإسلام ولا المسلمين ، واذكر أنني عارضت التجربة الفاشلة في السودان في أكثر من مناسبة ، بينما كان النظام في مصر يؤيدها ويدافع عنها ، حتى كانت حالة التحول الدرامي بسبب محاولة الاغتيال الفاشلة في أديس أبابا ، وترتب على هذا التحول للأسف أن صار انفصال جنوب السودان وشيكا ، وتقسيم بقية السودان أمرا يعمل من أجله خصوم الإسلام وأعداء المسلمين .

تمنيت لو أن المسلسل الأمني التحفة الفنية كما وصفه الكتاب الأمنيون عرض في سياق حلقاته لضرورة التوافق بين السلطة والشعب من أجل المستقبل ، لأن الديمقراطية لا تأتي أبدا في ظل الطوارئ ، ولا تحت حكم الحزب الواحد الذي ينضم إليه أصحاب المصالح غير المشروعة ، ويسرقون أموال الشعب وينهبون أراضيه بالقانون الذي يصممونه ويوافقون عليه .

بدلا من اتهام لإخوان بعدم الديمقراطية ، لأنهم يردون على المسلسل الأمني بمقالات محدودة على شبكة المعلومات ، ولا يتاح لهم الفضاء التلفزيوني وصفحات الصحف ، يجب أن ندعو إلى الديمقراطية عن طريق التوافق ، وإذا أفلحنا في ذلك فعلى جميع الناس أن يلتزموا بالدستور الحقيقي وبالقوانين المنظمة له . وساعتها سيكون للصوت الانتخابي غير المزور دوره في توصيل من شاء إلى سدة الحكم ، وإنزال من يشاء عن هذه السدة ، وقبل هذا وذاك يفرز النخب الصالحة لبناء الوطن وتقويته وإعزازه .